|
||||||||||||||||||||||
(136)
قليلاً ، وكأنّها لا تعطي إلاّ شيئاً قليلاً وهو بالعسر.
وتصريف الآيات عبارة عن تكررها. ذكر سبحانه في الآية الاُولى بأنّه يرسل الرياح مبشرةً برحمته ، فإذا حملت سحاباً ثقالاً بالماء ساقه سبحانه إلى بلد ميت فتحيا به الأرض وتؤتي ثمراتها. وعاد سبحانه في الآية الثانية إلى القول بأنّ هطول المطر وسقي الأرض جزء مما يتوقف عليه خروج النبات ، وهناك شرط آخر وهو أن تكون الأرض خصبةصالحة للزراعة دونما إذا كانت خبيثة ، هذا هو حال المشبه به. وأمّا المشبه فهو انّه سبحانه يُشبِّهُ المؤمن بأرض طيبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ويكثر ريعها ، كما تشبه قلب الكافر بالأرض السبخة لا تنبت شيئاً ، فقلب المؤمن كالأرض الطيبة وقلب الكافر كالأرض السبخة. (137)
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الغَاوِين * وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْركْهُ يَلْهَث ذلِكَ مَثَلُ الْقَومِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * ساءَ مَثَلاً الْقَومُ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُون ). (1) تفسير الآيات النبأ : الخبر عن الأمر العظيم ومنه اشتقاق النبوة ، أخلد إلى الأرض أي سكن إليها. السلخ : النزع ، وقوله : ( أخْلد إلى الأرض ) لصق بها ، واللهث أن يدلع الكلب لسانه من العطش ، واللهاث حرّ العطش. هذا هو تفسير مفردات الآية ، وأمّا المضمون فالآية تمثيل يتضمن مشبهاً ومشبهاً به ، أمّا الثاني فقد اختلفت كلمة المفسرين في المراد منه ، فالأكثر على أنّ المراد هو بلعم بن باعوراء الذي كان عالماً من علماء بني إسرائيل ، وقيل من 1 ـ الأعراف : 175 ـ 177. (138)
الكنعانيين أوتي علم بعض كتاب الله ، ولكنّه كفر به ونبذه وراء ظهره ، فلحقه الشيطان وصار قريناً له وكان من الغاوين الضالين الكافرين.
والإمعان في الآية يعرب عن بلوغ الرجل مقاماً شامخاً في العلم والدراية ، وعلى الرغم من ذلك فقد سقط في الهاوية ، وإليك ما يدل على ذلك في الآية : أ : لفظ ( نبأ ) حاك عن أنّه كان خبراً عظيماً لا خبراً حقيراً. ب : قوله : ( الذي آتَيْناهُ آياتنا ) حاك عن إحاطته بالحجج والبيّنات وعلم الكتب السماوية. ج : قوله : ( فانسلخ منها ) يدل على أنّ الآيات والعلوم الإلهية كانت تحيط به إحاطة الجلد بالبدن إلاّ انّه خرج منها. ويؤيد ذلك انّه سبحانه يعبر عن التقوى باللباس ، ويقول : ( وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيرٌ ). (1) د : قوله : ( فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطان ) يدل على أنّ الشيطان كان آيساً من كفره وقد انقطعت صلته به ، لكنّه لما انسلخ من الآيات لحقه الشيطان واتبعه فأخذ يوسوس له كلّ يوم إلى أن جعله من الضالين. إلى هنا تم تفسير الآية الاُولى ، وأمّا الآية الثانية فهي تتضمن حقيقة قرآنية ، وهي انّه سبحانه تبارك وتعالى كان قادراً على رفعه وتنزيهه وتقريبه إليه ، ولكنّه لم يشأ ، لأنّ مشيئته سبحانه لا تتعلق بهداية من أعرض عنه واتّبع هواه ، إذ كيف يمكن تعلق مشيئته بهداية من أعرض عن الله وكذب آياته ، ولذلك يقول : ( وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها ) أي لرفعناه بتلك الآيات « ولكن ما شئنا » وليس 1 ـ الأعراف : 26. (139)
ذلك للبخل منه سبحانه ، بل لفقدان الأرضية الصالحة ، لأنّه أخلد إلى الأرض ولصق بها ، وكأنّها كناية عن الميل والنزوع إلى التمتع بالملاذ الدنيوية ، ومعه كيف تشمله العناية الربانية.
ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى وجه آخر لعدم تعلّق مشيئته بهدايته ، وهو انّ هذا الإنسان بلغ في الضلالة والغواية مرحلة صارت سجية وطبيعة له ، ومزج بها روحه ونفسه وفطرته ، فلا يصدر منه إلاّ التكذيب والإدبار عن آياته ، فلذلك لا يؤثر فيه نصيحة ناصح ولا وعظ واعظ ، ولتقريب هذا الأمر نأتي بتمثيل في ضمن تمثيل ، ونقول : ( فَمَثَلهُ كَمَثل الكَلْب انْ تَحْمل عَلَيه يَلْهَث أَوْ تَتْركهُ يَلهَث ) ، وذلك لأنّ اللهث أثر طبيعي لسجيته فلا يمكن أن يخلّص نفسه منها. هذا هو المشبه به ، وهو يعرب عن أنّ الهداية والضلالة بيد الله تبارك وتعالى ، وقد تعلّقت مشيئته بهداية الناس بشرط أن تتوفر فيه أرضية خصبة تؤهله لتعلّق مشيئته تعالى به ، فمن أخلد إلى الأرض ولصق بها ، أي أخلد إلى المادة والماديات ، فلا تشمله الهداية الإلهية بل هو محكوم بالضلال لكن ضلالاً اختيارياً مكتسباً. هذا هو حال المشبه به ، وقد عرفت أنّ التمثيل يتضمن تمثيلاً آخر. وأمّا المشبه فقد اختلفت كلمة المفسرين فيه ، فربما يقال : إنّ المراد أُمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر ، وكانت قصته انّه قرأ الكتب وعلم أنّ الله سبحانه يرسل رسولاً في ذلك الوقت ، ورجا أن يكون هو ذلك الرسول ، فلمّـا بعث سبحانه محمداً حسده ومرّ على قتلى بدر فسأل عنهم ، فقيل : قتلوا في حربهم مع النبي ، فقال : لو كان نبياً لما قتل أقرباءه ، وقد ذهب إلى الطائف ومات بها ، فأتت أُخته (140)
الفارعة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فسألها عن وفاته ، فذكرت له انّه أنشد عند موته :
(141)
وقيل : إنّه أبو عامر بن النعمان بن صيفى الراهب الذي سمّاه النبي الفاسق ، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، فقدم المدينة ، فقال للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ما هذا الذي جئت به ، قال : « جئت بالحنيفية دين إبراهيم » ، قال : فأنا عليها ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لست عليها ولكنّك أدخلت فيها ما ليس منها ». فقال أبو عامر : أمات الله الكاذب منّا طريداً وحيداً ، فخرج إلى أهل الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدّوا السلاح ، ثمّ أتى قيصر وأتى بجند ليخرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المدينة ، فمات بالشام طريداً وحيداً. والظاهر انّ المشبه ليس خصوص هذين الرجلين ، بل كما قال الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « الأصل في ذلك بلعم ، ثم ضربه الله مثلاً لكل موَثر هواه على هدى الله من أهل القبلة ». (2) وفي الآية دلالة واضحة على أنّ العبرة في معرفة عاقبة الإنسان هي أُخريات حياته ، فربما يكون موَمناً في شبابه ويرتد عن الدين في شيخوخته وهرمه ، فليس 1 ـ مجمع البيان : 2 / 499 ـ 500. 2 ـ مجمع البيان : 2 / 500. (142)
صلاح الإنسان وفلاحه في عنفوان شبابه دليلاً على صلاحه ونجاته في آخر عمره.
وبذلك يعلم أنّ ترضّي القرآن عن المهاجرين والأنصار في قوله سبحانه : ( لَقَدْ رَضِي اللهُ عَنِ الْمُؤمِنينَ إذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ). (1) ويؤيد ما ذكرناه انّه سبحانه حدّد ظرف الرضا بقوله : ( إِذ يُبايعونك ) ولا يكون دليلاً على رضاه طيلة حياتهم ، فلو دلّ دليل على زلّة واحد منهم ، فيؤخذ بالثاني جمعاً بين الدليلين. وقد يظهر مفاد قوله سبحانه : ( والسَّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْري تَحْتَهَا الأنهَارُ خالِدينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ ). (2) فانّ الآية دليل على شمول رضى الله لهم ، فيؤخذ بالآية مالم يدل دليل قطعي على خلافها ، فلو ثبت بدليل متواتر أو خبر محفوف بالقرينة ارتداد واحد منهم أو صدور معصية كبيرة أو صغيرة ، فيؤخذ بالثاني ، وليس بين الدليلين أي خلاف ، إذ ليس مقام صحابي أو تابعي أعلى من مقام ما جاء في هذه الآية ، أعني من آتاه الله سبحانه آياته وصار من العلماء الربانيين ولكن اتبع هواه فانسلخ عنها. فما ربما يتراءى من إجماع غير واحدمن المفسرين بهذه الآيات كلى عدالة كافة الصحابة فكأنّها غفلة عن مفادها وإغماض عما صدر عن غير واحد من الصحابة من الموبقات والمعاصي والله العالم. 1 ـ الفتح : 18. 2 ـ التوبة : 100. (143)
( وَالذّين اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤمِنينَ وإِرْصاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إلاّ الحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَومٍ أَحقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهّرين * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدي القَومَ الظّالِمين ). (1) تفسير الآيات « الضرار » : هو إيجاد الضرر عن عناد. « الإرصاد » بمعنى الاِعداد. « البنيان » مصدر بنى. و « التقوى » خصلة من الطاعة يحترز بها عن العقوبة ، والواو فيه مبدلة من الياء لأنّها من وقيت. « شفا » : شفا البئر وغيره ، جُرفَه ، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك. 1 ـ التوبة : 107 ـ 109. (144)
« الجرف » جرف الوادي جانبه الذي يتحفر أصله بالماء ، وتجرفه السيول فيبقى واهياً.
قال الراغب : يقال للمكان الذي يأكله السيل فيجرفه ، أي يذهب به ، جرف هار البناء وتهوّر : إذا سقط ، نحو : إنهار. ذكر المفسرون انّ بني عمرو بن عوف اتخذوا مسجد قباء ، وبعثوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يأتيهم ، فأتاهم وصلى فيه ، فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غُنْم بن عوف ، فقالوا : نبني مسجداً فنصلي فيه ولا نحضر جماعة محمد وكانوا اثني عشر رجلاً ، وقيل خمسة عشر رجلاً ، منهم : ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، ونبتل بن الحرث ، فبنوا مسجداً إلى جنب مسجد قباء ، فلمّا فرغوا منه ، أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يتجهّز إلى تبوك. فقالوا : يا رسول الله إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه لنا وتدعو بالبركة. فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّي على جناح سفر ، ولو قدمنا أتيناكم إن شاء الله فصلّينا لكم فيه » ، فلمّـا انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى تبوك نزلت عليه الآية في شأن المسجد. إنّ الآية تشير إلى الفرق الشاسع بين من بنى بنياناً على أساس محكم ، ومن بناه على شفا جرف ، فالأوّل يبقى عبر العصور ويحتفظ بكيانه في الحوادث المدمرة ، بخلاف الثاني فانّه سوف ينهار لا محالة بأدنى ضربة. فالمؤمن هو الذي يعقد إيمانه على قاعدة محكمة وهو الحقّ الذي هو تقوى الله ورضوانه ، بخلاف المنافق فانّه يبني إيمانه على أضعف القواعد وأرخاها وأقلّها (145)
بناءً وهو الباطل ، فإيمان المؤمن ودينه من مصاديق قوله : ( أَفَمَنْ أسَّس بُنيانه على تقوى من الله ورضوان ) ولكن دين المنافق كمن ( أسّس بنيانه على شفا جرف هار ) فلا محالة ينهار به في نار جهنم.
(146)
( إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ مِمّا يَأكُلُ النَّاسُ والأنْعَامُ حَتّى إذا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا وَ ازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْهَا أَتاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأن لَمْ تَغْنَ بالاَمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُون * واللهُ يَدعُو إلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ). (1) تفسير الآيات قوله : ( فاخَتلَطَ بهِ نَبات الأرض ) فلو قلنا بأنّ الباء للمصاحبة ، يكون معناه أي اختلط مع ذلك الماء نبات الأرض ، لأنّ المطر ينفد في خلل النبات ، وإن كانت الباء للسببية يكون المراد انّه اختلط بسبب الماء بعض النبات ببعض حيث إنّ الماء صار سبباً لرشده والتفاف بعضه ببعض. قوله : ( ازّيّنت ) أصله تزينت ، فادغمت التاء بالزاى وسكِّنت الزاي فاجلبت لها ألف الوصل. فقوله : ( أخذت الأرْضُ زُخرفها وازَّيّنت ) تعبير رائع حيث جعلت 1 ـ يونس : 24 ـ 25. (147)
الاَرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كلّ لون فاكتستها وتزينّت بغيرها من ألوان الزين.
قوله : ( قادرون عليها ) ، أي متمكنون من استثمارها والانتفاع بثبوتها. قوله : ( أتاها أمرنا ) كناية عن نزول بعض الآفات على الجنات والمزارع حيث يجعلها « حصيداً » شبيهاً بما يحصد من الزرع في استأصاله. قوله : ( كأن لم تغن ) بمنزلة قوله : كأن لم ينبت زرعها. قوله : ( دار السلام ) فهو من أوصاف الجنة ، لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه ، بخلاف المقام فانّها دار البلاء. هذا ما يرجع إلى تفسير مفردات الآية. وأمّا تفسيرها الجملي ، فنقول : نفترض أرضاً خصبة رابية صالحة لغرس الأشجار وزرع النبات وقد قام صاحبها باستثمارها من خلال غرس كلّ ما ينبت فيها ، فلم يزل يتعاهدها بمياه الأمطار والسواقي ، فغدت روضة غنّاء مكتظة بأشجار ونباتات متنوعة ، وصارت الأرض كأنّها عروس تزيّنت وتبرجت ، وأهلها مزهوّون بها يظنّون انّها بجهدهم ازدهرت ، وبإرادتهم تزيّنت وانّهم أصحاب الأمر لا ينازعهم فيها منازع. فيعقدون عليها آمالاً طويلة ، ولكن في خضم هذه المراودات يباغتهم أمره سبحانه ليلاً أو نهاراً فيجعل الطري يابساً ، كأنّه لم يكن هناك أي جنة ولا روضة. هذا هو المشبه به والله سبحانه يمثل الدنيا بهذا المثل ، وهو انّ الإنسان ربما يغتر بالدنيا ويعوّل الكثير من الآمال عليها مع سرعة زوالها وفنائها ، وعدم ثباتها واستقرارها. (148)
يقول موَيد الدين الاصفهاني المعروف بالطغرائي في لاميته المعروفة بلامية العجم :
ثمّ إنّه يبدو من كلام الطبرسي انّ هذا التمثيل من قبيل التمثيل المفرد ، فذكر أقوالاً : أحدها : انّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع. وثانيها : إنّه شبهها بالنبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزوال عن الجبائي وأبي مسلم. وثالثها : إنّه تعالى شبَّه الحياة الدنيا بحياة مقدَّرة على هذه الاَوصاف. (1) والحقّ أنّه من قبيل الاستعارة التمثيلية حيث يعبر عن عدم الاعتماد والاطمئنان بالدنيا بما جاء في المثل ، وإنّما اللائق بالاعتماد هو دار السلام الذي هو سلام على الإطلاق وليس فيها أي مكروه. وقد قيّد سبحانه في الآية دار السلام ، بقوله : ( عند ربّهم ) للدلالة على قرب الحضور وعدم غفلتهم عنه سبحانه هناك. ويأتي قريب من هذا المثل في سورة الكهف ، أعني : قوله : 1 ـ مجمع البيان : 3 / 102. (149)
( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ على كُلّ شَيْءٍ مُقْتَدراً ). (1) وسيوافيك بيانها في محلها.
ويقرب من هذا ما في سورة الحديد ، قال سبحانه : ( اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ ولَهْو وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ في الأمْوالِ وَالأولادِ كَمَثلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهيج فَتَراهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الحَياةُ الدُّنيا إلاّ مَتاعُ الغُرُور ). (2) 1 ـ الكهف : 45. 2 ـ الحديد : 20. (150)
( إِنَّ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحات وَأَخْبتُوا إِلى رَبّهِمْ أُولئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُون * مَثَلُ الفَريقَين كَالأعْمى وَالأصَمّ وَالبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُون ). (1) تفسير الآيات يصوّر سبحانه الكافر كالأعمى والاَصم ، والمؤمن بالبصيروالسميع ، ثمّ ينفي التسوية بينهما ـ كما هو معلوم ـ غير انّ هذا التمثيل يستقي مما وصف به سبحانه كلا الفريقين بأوصاف خاصة. فقال في حقّ الكافر : ( ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُون ). (2) والمراد كان لهم أسماعاً وأبصاراً ولكنّهم لم يكونوا يستخدمونها في سماع الآيات ورؤية الحقائق ، فنفي الاستطاعة كناية عن عدم استخدام الأسماع ، كما أنّ نفي الأبصار كناية عنه. ثمّ إنّه سبحانه وصف المؤمن في الآية التالية بأوصاف ثلاثة : 1 ـ هود : 23 ـ 24. 2 ـ هود : 20. |
||||||||||||||||||||||
|