|
|||
(31)
وإنّما المراد انّ الحفاظ على سياق الآيات إذا كان رافعاً للإبهام وكاشفاً عن المراد لا محيص للمفسِّر من الرجوع إليه ، ومع ذلك فإنّ القرآن الكريم ليس كتاباً بشرياً ربما يطرح في ثنايا موضوع واحد موضوعاً آخر له صلة بالموضوع الأصلي ثمّ يرجع إلى الموضوع الأوّل ، وإليك شاهدين :
إنّ القرآن يبحث في سورة البقرة عن أحكام النساء ، مثل المحيض والعدّة والإيلاء وأقسام الطلاق من الآية 222 إلى 240 ، ومع ذلك فقد طرح موضوع الصلاة في ثنايا هذه الآيات ، يعني من آية 237 إلى 238 ، ثمّ أخذ بالبحث في الموضوع السابق ، وإليك صورة إجمالية ممّا ذكرنا ، يقول سبحانه : ( وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالمَعْرُوف ). (1) ويستمر في البحث في الموضوع بشقوقه المختلفة ويقول : ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَريضَة ... ). وقبل أن يُنهي الكلام في الموضوع شرع بالأمر بالصلاة والحفاظ عليها وبالخصوص الصلاة الوسطى ويقول : ( حافِظُوا عَلى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطى وَقُومُوا للّهِ قانِتين ). (2) ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللّهَ كَما علَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُون ). (3) ترى أنّه انتقل من الموضوع الأوّل إلى موضوع آخر ، وهو الحفاظ على الصلوات وتعليم كيفية صلاة الخوف ، ثمّ بعد ذلك نرى أنّه رجع إلى الموضوع الأوّل وقال : 1 ـ البقرة : 232. 2 ـ البقرة : 238. 3 ـ البقرة : 239. (32)
( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيةً لأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلى الحَوْل ... ).
وأمّا ما هو الحافز إلى بيان حكم الصلاة ، قبل إنهاء أحكام المرأة فهو موكول إلى علم التفسير. نموذج آخر أخذ الوحي في تبيين مكانة نساء النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والمهمات الثقيلة الملقاة على عاتقهن ، وابتدأ به في سورة الأحزاب من الآية 28 وختمها بالآية 35 ، ومع ذلك طرح في ثنايا هذا الموضوع موضوعاً آخر باسم طهارة أهل البيت من الرجس. يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنيا وَزِينَتها ... ). (1) ويقول : ( وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهِليةِ الأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللّهَ وَرَسُولَه ). (2) وقبل أن يُنهي البحث حول أزواج النبي حتى قبل أن يكمل تلك الآية ، أخذ بالبحث حول أهل البيت على نحو يكون صريحاً انّ المراد منهم غير أزواج النبي وقال : ( إِنَّما يُريدُ اللّهُ لِيُذهِبَ عَنْكُمُ الرِّجسَ أَهْلَ البَيتِ وَيُطهِّركُمْ تَطهِيراً ). ثمّ رجع إلى الموضوع الأوّل و قال : ( واذكُرْنَ ما يُتلى في بُيُوتِكُنَّ من آياتِ اللّهِ والْحِكْمَةِ ). وأمّا الدليل على أنّه لا صلة لآية التطهير بنساء النبي هو لفظ الآية ، أي 1 ـ الأحزاب : 28. 2 ـ الأحزاب : 33. (33)
تذكير ضمائرها « عنكم » ، « يطهركم » وغير ذلك من القرائن المتصلة والمنفصلة التي تقرأها على وجه التفصيل في موسوعتنا « مفاهيم القرآن » الجزء الخامس.
على أنّ لحن الآيات في نساء النبي هو لحن التنديد والتخويف بخلاف هذه الآية فانّ لحنها لحن التمجيد والثناء. فأين قوله سبحانه : ( يا نِساء النَّبيّ مَن يَأْتي مِنْكُنَّ بِفاحِشة مُبيّنة ) من قوله سبحانه : ( إِنّما يُريد اللّه لِيذهِبَ عَنْكُمُ الرِّجس أَهل البَيت ) ؟! وأمّا الصلة بين الموضوعين فإليك بيانه : إنّه سبحانه خاطب نساء النبي بالخطابات التالية ، وقال : 1. ( يا نِساءَ النَّبِىِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَة مُبَيِّنَة يُضاعَفْ لَها الْعَذابُ ضِعْفَيْن ). 2. ( يا نِساءَ النَّبِيّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ... ). 3. ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِليَةِ الأُولى ). فعند ذلك صحّ أن ينتقل إلى الكلام عن أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وذلك لوجهين : 1. تعريفهنّ على جماعة بلغوا في الورع والتقوى ، الذروةَ العليا ؛ وفي الطهارة عن الرذائل والمساوئ ، القمةَ. وبذلك استحقوا أن يكونوا أُسوة في الحياة وقدوة في مجال العمل ، فيلزم عليهن أن يقتدينّ بهم ويستضيئنّ بضوئهم. 2. التنبيه على أنّ حياتهنّ مقرونة بحياة أُمّة طاهرة من الرجس ومطهّرة من الدنس ، ولهنّ معهم لحمة القرابة ووصلة الحسب ، واللازم عليهنّ الحفاظ على شؤون هذه القرابة بالابتعاد عن المعاصي والمساوئ ، والتحلّـي بما يرضيه سبحانه ، ولأجل ذلك يقول سبحانه : ( يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ) ، وما هذا إلاّ (34)
لقرابتهنّ منه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وصلتهنّ بأهل بيته. وهي لا تنفك عن المسؤولية الخاصة ، فالانتساب للنبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولبيته الرفيع ، سبب المسؤولية ومنشؤها ، وفي ضوء هذين الوجهين صحّ أن يطرح طهارة أهل البيت في أثناء المحاورة مع نساء النبي والكلام حول شؤونهن.
ولقد قام محقّقو الإمامية ببيان مناسبة العدول في الآية ، نأتي ببعض تحقيقاتهم ، قال السيد القاضي التستري : لا يبعد أن يكون اختلاف آية التطهير مع ما قبلها على طريق الالتفات من الأزواج إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأهل بيته ( عليهم السَّلام ) على معنى أنّ تأديب الأزواج وترغيبهن إلى الصلاح والسداد ، من توابع إذهاب الرجس والدنس عن أهل البيت ( عليهم السَّلام ). (1) 5. الرجوع إلى الأحاديث الصحيحة وإجماع المسلمين إنّ كثيراً من الآيات المتعرّضة لأحكام الأفعال والموضوعات مجملة ورد تفسيرها في السنّة القطعية وإجماع المسلمين وأحاديث أئمّة أهل البيت كالصلاة والزكاة والحجّ وغير ذلك ممّا لا محيص للمفسِّر من الرجوع إليها في رفع الإجمال وتبيين المبهم ، وهو أمر واضح. وهناك سبب ثان للرجوع إليه ، وهو انّه ورد في القرآن مطلقات ولكن أُريد منها المقيد ، كما ورد عموم أُريد منه الخصوص ؛ وذلك وفقاً لتشريع القوانين في المجالس التشريعية ، فإنّهم يذكرون المطلقات والعموم في فصل كما يذكرون قيودها ومخصصاتها في فصل آخر باسم الملحق ، وقد حذا القرآن في تشريعه هذا الحذو فجاءت المطلقات والعموم في القرآن الكريم والمقيد والمخصص في نفس السنّة ، ولنأت بمثال : 1 ـ إحقاق الحق : 2 / 570. وسيوافيك مزيد بيان في فصل صيانة القرآن عن التحريف ، فانتظر. (35)
يقول سبحانه : ( وَأَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1) وجاء في السنّة مخصصها ، وانّه لا ربا بين الزوج والزوجة والولد والوالد ، فقد رخص الإسلام الربا هنا.
قال الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : قال أميرالمؤمنين ( عليه السَّلام ) : « ليس بين الرجل وولده رباء ، وليس بين السيد و عبده ربا ». (2) وروى زرارة عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) : « ليس بين الرجل وولده ، وبينه و بين عبده ، ولا بين أهله ربا ، إنّما الربا فيما بينك و بين ما لا تملك ». (3) ولعلّ قوله سبحانه : ( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (4) يوحي إلى هذا المعنى. غير انّ المهم صحّة الأحاديث الواردة في تفسير القرآن الكريم ، أمّا ما يرجع إلى السنن وتبيين الحلال والحرام بالتخصيص والتقييد فقد وردت فيه روايات صحاح وحسان ، إنّما الكلام فيما يرجع إلى المعارف والعقائد والقصص والتاريخ فالحديث الصحيح في ذلك المورد في كتب أهل السنّة قليل جداً ، يقول الميموني : سمعت أحمد بن حنبل يقول : ثلاث كتب ليس لها أُصول : المغازي ، والملاحم ، والتفسير. قال المحقّقون من أصحابه : مراده انّ الغالب انّها ليس لها أسانيد صحاح متصلة. (5) ومن عجيب الأمر انّه لم يرد عن طرق الصحابة والتابعين ما يرجع إلى تفسير ما ورد من الآيات حول العقائد والمعارف ، وكأنّهم اكتفوا بقراءتها والمرور عليها كما عليه جملة من السلفيين. 1 ـ البقرة : 275. 2 ـ الوسائل : 12 ، الباب 7 من أبواب الربا ، الحديث 1 و 3. وقد ذكر الإمام نكتة التشريع في كلامه. 3 ـ الوسائل : 12 ، الباب 7 من أبواب الربا ، الحديث 1 و 3. وقد ذكر الإمام نكتة التشريع في كلامه. 4 ـ الحشر : 7. 5 ـ البرهان في علوم القرآن : 2 / 156. (36)
إنّه من المعلوم انّ الإحاطة بمعاني الألفاظ والجمل لا يكفي في تفسير قوله سبحانه : ( وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكنَّ اللّهَ رَمى ) (1) ، حيث إنّه يثبت الرمي للرسول وفي الوقت نفسه ينفي عنه وهما متضادان.
كما أنّه لا يكفي الإحاطة بالأدب العربي ومعاني المفردات فهم قوله سبحانه : ( شَهِدَ اللّهُ أنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الْعَزيزُ الحَكيم ) (2) ، حيث اتّحد الشاهد والمشهود ومع ذلك كيف يشهد على وحدانيته ؟! ففي هذه الآيات لا محيص للمفسِّر من أن يرجع إلى أحد الثقلين ، أي بما أُثر عن أئمة أهل البيت ، أو إلى العقل الصريح ، وإلاّ تبقى الآية على إجمالها ، ويكون تفسيرها المرور عليها ، وبالتالي تصبح الآية ـ نعوذ باللّه ـ لقلقة في اللسان. النبيّ هو المفسّر الأوّل إنّ الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) حسب القرآن الكريم هو المفسِّر الأوّل ، وانّه لا تقتصر وظيفته في القراءة والتلاوة ، بل يتعيّـن عليه بعد القراءة تبيان ما أجمل وتفسير ما أُبهم يقول سبحانه : ( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون ) (3) ترى أنّه سبحانه يجعل غاية النزول بيان الرسول حقائق القرآن للناس مضافاً إلى أنّه سبحانه يشير في بعض الآيات إلى أنّ عليه وراء البيان ، القراءة والجمع ، يقول : ( لا تُحَرِّك بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنّ عَلَينا جَمْعَهُ وَقُرآنَهُ * فَإِذا 1 ـ الأنفال : 17. 2 ـ آل عمران : 18. 3 ـ النحل : 44. (37)
قَرَأْناهُ فَاتَّبِـع قُرآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَينا بَيانَهُ ) (1)
فالآية ترشد إلى الوظائف الثلاث : ( القراءة ، والجمع ، والبيان ) التي على عاتق النبي بأمر من اللّه سبحانه. أمّا التلاوة يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذي بَعَثَ فِي الأُمِيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ). (2) وأمّا الجمع فالحقّ انّه قد جمع القرآن في حياته ولم يترك القرآن متشتتاً هنا وهناك. وأمّا البيان فقد كان يبيّن آيات الذكر الحكيم بالتدريج ؛ قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدّثنا الذين كانوا يقرأون القرآن كعثمان بن عفان ، و عبد اللّه بن مسعود وغيرهما أنّهما كانوا إذا تعلّموا من النبي عشر آيات ، لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً ، ولهذا كانوا يبقون مدّة في حفظ السورة. (3) لكنَّ جميع ما ورد عن النبي من التفسير ـ غير ما ورد من أسباب النزول ـ لا يتجاوز المائتين وعشرين حديثاً تقريباً ، وقد أتعب جلال الدين السيوطي نفسه فجمعها من مطاوي الكتب في آخر كتابه « الإتقان » فرتّبها على ترتيب السور من الفاتحة إلى الناس. (4) ومن المعلوم أنّ هذا المقدار لا يفي بتفسير القرآن الكريم ولا يمكن لنا التقوّل بأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) تقاعس عن مهمته ، وليس الحل إلاّ أن نقول بأنّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أودع علم الكتاب في أحد الثقلين الذين طهرهم اللّه من الرجس تطهيراً ، فقاموا بتفسير 1 ـ القيامة : 16 ـ 19. 2 ـ الجمعة : 2. 3 ـ الإتقان : 4 / 175 ـ 176 ، ط مصر. 4 ـ الإتقان : 4 / 170 ، ط مصر. (38)
القرآن بالمأثور عن النبي المودَع في مجاميع كثيرة يقف عليها المتتبع في أحاديث الشيعة. (1)
وبما ذكرنا علم أنّ الاقتصار في التفسير بالمأثور على ما روي في كتب القوم لا يرفع الحاجة ، وليس للمفسِّر الواعي محيص من الرجوع إلى ما روي عن علي وأولاده المعصومين ( عليهم السَّلام ) في مجال التفسير وهي كثيرة. ولعلّه إليهم يشير قوله سبحانه : ( ثُمَّ أَورَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا ) (2) فالمصطفون من عباده هم الوارثون علم الكتاب. ولنذكر نموذجاً من تفسير النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لمّا نزل قوله سبحانه : ( كُلُوا وَاشرَبُوا حَتّى يَتَبيَّنَ لَكُمُ الخَيطُ الأَبيَضُ مِنَ الخَيطِ الأَسودِ منَ الفَجْر ) (3) قال عدي بن حاتم : إنّي وضعت خيطين من شعر أبيض وأسود ، فكنت أنظر فيهما ، فلا يتبيّن لي ، فضحك رسول اللّه حتى رؤيت نواجذه ، ثمّ قال : « ذلك بياض النهار ، وسواد الليل ». (4) 6. معرفة أسباب النزول إنّ لمعرفة أسباب النزول دوراً هاماً في رفع الإبهام عن الآيات التي وردت في شأن خاص ؛ لأنّ القرآن الكريم نزل نجوماً عبر ثلاثة وعشرين عاماً إجابة لسؤال ، أو تنديداً لحادثة ، أو تمجيداً لعمل جماعة ، إلى غير ذلك من الأسباب التي دعت إلى نزول الآيات ؛ فالوقوف على تلك الأسباب لها دور في فهم الآية بحدها ورفع الإبهام عنها ، فلنأت بأمثلة ثلاثة يكون لسبب النزول فيها دور فعال بالنسبة إلى رفع إبهام الآية. 1 ـ كتفسير البرهان للسيد البحراني ؛ نور الثقلين للحويزي ، وقبلهما تفسير علي بن إبراهيم وغيرها. 2 ـ فاطر : 32. 3 ـ البقرة : 187. 4 ـ مجمع البيان : 1 / 281 ، ط صيدا. (39)
1.إنّه سبحانه يندّد بأشخاص ثلاثة تخلّفوا عن الجهاد في سبيل اللّه حتّى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وظن هؤلاء بأنّه لا محيص من اللجوء إلى اللّه سبحانه ، فتابوا فقبلت توبتهم ، لأنّه سبحانه تواب رحيم ، يقول :
( وَعَلى الثَّلاثَة الّذِينَ خُلِّفُوا حتّى إِذا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلجأ مِنَ اللّهِ إِلاّ إِليهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللّه هُوَ التَّوّابُ الرَّحيم ). (1) فلا شكّ انّ في الآية عدّة إبهامات : أ : مَن هؤلاء الثلاثة الذين تخلّفوا ؟ ب : ما هي الدواعي التي حدت بهم إلى التخلّف ؟ ج : كيف ضاقت عليهم الأرض ؟ د : كيف ضاقت عليهم أنفسهم ؟ هـ : بأي دليل أدركوا بأنّه لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه ؟ و : ما هو المراد من قوله : ( ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ ) ؟ إنّ الاجابة على هذه الأسئلة تكمن في الوقوف على أسباب النزول ، فمن رجع إليها يسهل له الإجابة. (2) 2. يقول سبحانه : ( إِنّ الصَّفا وَالْمَرْوَة مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعتَمَرَ فَلا جُناجَ عَليهِ أَنْ يَطَوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيراً فَإِنّ اللّهَ شاكِرٌ عَليم ). (3) فظهور الآية يوحي إلى عدم وجوب السعي بين الصفا والمروة وإنّما هو جائز بشهادة قوله : « لا جناح » ، وأمّا إذا رجع إلى سبب النزول ، يعرف أنّ قوله « لا حرج » 1 ـ التوبة : 118. 2 ـ مجمع البيان : 3 / 78. ومرّ الإيعاز إليه في ص 13. 3 ـ البقرة : 158. (40)
لا يزاحم كونه واجباً.
قال الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) : كان المسلمون يرون انّ الصفا والمروة ممّا ابتدع أهل الجاهلية فأنزل اللّه هذه الآية وإنّما قال : ( فَلا جُناحَ عَليه أَنْ يَطَوَّفَ بِهِما ) وهو واجب أو طاعة على الخلاف فيه ، لأنّه كان على الصفا صنم يقال له : إساف وعلى المروة صنم يقال له نائلة وكان المشركون إذا طافوا بهما مسحوهما ، فتحرّج المسلمون عن الطواف بهما لأجل الصنمين ، فأنزل اللّه هذه الآية. (1) وبالوقوف على ذلك يعلم أنّ قوله : « لا جناح » لا ينافي كون السعي فريضة ، لأنّ نفي الجناح نسبي متوجه إلى ما زعمه بعض المسلمين مانعاً من السعي ، فقال سبحانه لا يضر هذا وعليكم السعي بين الصفا والمروة وإحياء شعائر اللّه. 3. قال سبحانه : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّة قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ وَلَيْسَ البِرّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ البِرّ مَنِ اتّقى وَآتُوا البُيُوت مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللّه لَعَلَّكُمْ تَعْلَمُون ). (2) فالإنسان في بدو الأمر يتعجّب من قوله سبحانه : ( وَلَيْسَ البِرّ بِأَنْ تَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ البِرّ مَنِ اتّقى وَآتُوا البُيُوت مِنْ أَبْوابِها ) ولكن بعد ما يقف على سبب النزول يزول تعجبه. كان المحرِم عند بعض الطوائف لا يدخل بيته في بابه بل كان ينقب في ظهر بيته نقباً يدخل ويخرج منه فنزلت الآية بالنهي عن التديّن بذلك. وفي الختام نضيف : انّه لا يمكن الاعتماد على كلّ ما ورد في الكتب باسم أسباب النزول ، بل لابدّ من التحقيق حول سنده والكتاب الذي ورد فيه ، فإنّ 1 ـ مجمع البيان : 1 / 240. 2 ـ مجمع البيان : 1 / 284. (41)
أكثر المفسّرين في القرون الأُولى أخذوا علم التفسير من مستسلمة أهل الكتاب ، خصوصاً فيما يرجع إلى قصص الأنبياء وسيرة أقوامهم ، فلا يمكن الاعتماد على كلام هؤلاء.
يقول المحقّق الشيخ محمد جواد البلاغي : وأمّا الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء وضحاك كما ملئت كتب التفسير بأقوالهم المرسلة ، فهو ممّا لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه فيما بينه وبين اللّه ولا تقوم به الحجّة ، لأنّ تلك الأقوال إن كانت روايات فهي مراسيل مقطوعة ، ولا يكون حجّة من المسانيد إلاّ ما ابتنى على قواعد العلم الديني الرصينة ، ولو لم يكن من الصوارف عنهم إلاّ ما ذكر في كتب الرجال لأهل السنّة لكفى. (1) ثمّ ذكر ( قدَّس سرَّه ) ما ذكره علماء الرجال في كتبهم في حقّ عكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك وقتادة ومقاتل الذين هم المراجع في نقل كثير من الإسرائيليات والمسيحيات في تفسير الآيات. 7. الإحاطة بتاريخ صدر الإسلام بعث النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من بين أُمّة أُميّة لها ثقافتها الخاصة وتقاليدها وعاداتها ، فالقرآن الكريم يشير في كثير من الآيات إلى تلك العادات الجاهلية المتوارثة ، إنّ الاطّلاع على تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده يوضح مفاد كثير من الآيات ويكشف النقاب عنها ، فلنذكر نماذج لذلك : أ : انّه سبحانه يذكر في سورة الأنعام تقاليد العرب وعاداتهم ويقول : 1 ـ آلاء الرحمن : 45. (42)
( وَجعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرأ مِنَ الحَرْثِ والأَنعامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُركائِنا فَماكانَ لِشُركائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلى اللّهِ وما كانَ للّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُون * وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثير مِنَ المُشْرِكينَ قَتْلَ أَولادِهِمْ شُركاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عََلَيْهِمْ دينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ * وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتراءً عَليهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ ). (1)
إنّ هذه الآيات يسودها كثير من الغموض والإبهام ، ولكن إذا رجعنا إلى ما رواه المؤرّخون في ذلك المضمار من تقاليدهم حينها يزاح الغموض الذي يكتنفها. ولا يقتصر المفسِّر على هذا المقدار من التاريخ ، فانّ الآيات النازلة في الغزوات والحروب ، وفي بعث السرايا لها دور في رفع الإبهام وانكشاف الحقيقة على ما هي عليه. وفي وسع المفسِّـر أن يرجع إلى الكتب المعدّة لبيان تاريخ الإسلام ، وأخص بالذكر « السيرة النبوية » لابن هشام ( المتوفّى عام 218 هـ ) وتاريخ اليعقوبي ( المتوفّى 290 هـ ) وتاريخ الطبري ( المتوفّى 310 هـ ) وتفسيره ، و « مروج الذهب » للمسعودي ( المتوفّى 345 هـ ) و « الإمتاع » للمقريزي ( المتوفّى 845 هـ ) إلى غير ذلك من الكتب المعدّة. قال الشيخ عبده : أنا لا أعقل كيف يعقل لأحد أن يفسر قوله تعالى : ( كانَ الناسُ أُمّةً واحدة فَبَعَثَ اللّهُ النّبيينَ مُبشِّرينَ ومُنذِرين ) (2) الآية ، وهو لا يعرف أحوال البشر ، وكيف اتّحدوا ؟ وكيف تفرّقوا ؟ وما معنى تلك الوحدة التي كانوا 1 ـ الأنعام : 136 ـ 138. 2 ـ البقرة : 213. (43)
عليها ؟ وهل كانت نافعة أو ضارة ؟ وماذا كان من آثار بعثة الأنبياء فيهم ؟ (1)
والحقّ انّ تفسير الآيات الواردة في الأُمم الغابرة ابتداءً من آدم وانتهاءً إلى نبيّنا خاتم الأنبياء والرسل رهن الوقوف على تاريخهم وسيرتهم وأعرافهم. 8. تمييز الآيات المكّية عن المدنية عرف المكي بما نزل قبل الهجرة ، والمدني بما نزل بعدها ، سواء نزل بمكة أم بالمدينة ، عام الفتح أو عام حجّة الوداع أو بسفر من الأسفار. (2) ثمّ إنّ الوقوف على الآيات المدنية وتمييزها عن المكية يحصل من خلال أُسلوبين : الأوّل : الأخذ بأقوال المفسِّرين ومؤلّفي علوم القرآن ، فقد ميّزوا السور المكية عن السور المدنية ، كما ميّزوا الآيات المدنية التي جعلت في ثنايا السور المكية وبالعكس. الثاني : دراسة مضمون الآية وانّها هل كانت تناسب البيئة المكية أو المدنية ؟ حيث إنّ الطابعَ السائد على أكثر الآيات المكية هو مكافحة الشرك والوثنية ، ونقد العادات والتقاليد الجاهلية ، والدعوة إلى الإيمان بالمعاد ، والتنديد بالكافرين والمشركين ؛ في حين انّ الطابَع السائد على أكثر الآيات المدنية هو تشريع الأحكام في مختلف المجالات ، والجدال مع أهل الكتاب في إخفاء الحقائق ، والتنديد بالمنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ، إلى غير ذلك من العلائم والملامح التي يمكن أن يتميّز بها المكي عن المدني. 1 ـ تفسير المنار : البقرة : تفسير الآية 213. 2 ـ الإتقان : 1 / 26. (44)
وقد ذكر السيوطي بسند خاص عن ابن عباس أسماء السور المدنيّة بعدما أنهى ذكر السور المكّية ، وإليك أسماء السور المدنية ، وبالوقوف عليها تعلم السور المكّية :
سورة البقرة ، ثمّ الأنفال ، ثمّ آل عمران ، ثمّ الأحزاب ، ثمّ الممتحنة ، ثمّ النساء ، ثمّ إذا زلزلت ، ثمّ الحديد ، ثمّ القتال ، ثمّ الرعد ، ثمّ الإنسان ، ثمّ الطلاق ، ثمّ لم يكن ، ثمّ الحشر ، ثمّ إذا جاء نصر اللّه ، ثمّ النور ، ثمّ الحج ، ثمّ المنافقون ، ثمّ المجادلة ، ثمّ الحجرات ، ثمّ التحريم ، ثمّ الجمعة ، ثمّ التغابن ، ثمّ الصف ، ثمّ الفتح ، ثمّ المائدة ، ثمّ براءة. (1) وأمّا الحاجة لتمييز المكي عن المدني فلأنّه يرفع الإبهام العالق ببعض الآيات ، مثلاً : انّ سورة الشورى التي ورد فيها قوله سبحانه : ( قُلْ لا أَسأَلُكُمْ عَليه أَجراً إِلاّ المَوَدَّة فِي القُربى ) (2) سورة مكية مع أنّ هذه الآية حسب المأثور المتواتر نزلت في أهل بيت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أعني : علياً و فاطمة والحسن والحسين ( عليهم السَّلام ) فربما يستبعد نزولها في حقّ أهل البيت بحجة انّ السورة مكية ولم يكن يومذاك في مكة الحسن والحسين ، ولكنّه لو وقف على أنّ مكية السورة لا تلازم مكية عامة آياتها ، لما استبعد نزولها في حقّهم ، فكم من سورة مكية وقعت في ثناياها آيات مدنية وبالعكس ، وهذه السورة من القسم الأوّل وإن كانت مكية لكن بعض آياتها مدنية ومنها هذه الآية ، وقد صرح به علماء التفسير في كتبهم (3) ، حتى أنّك تجد في المصاحف المصرية المطبوعة تحت إشراف مشيخة الأزهر ، التصريح بأنّ سورة الشورى مكية إلاّ الآيات 23 ، 24 ، 25 ، 27 فمدنية. 1 ـ الإتقان : 1 / 31. 2 ـ الشورى : 23. 3 ـ لاحظ كتاب « نظم الدرر و تناسق الآيات والسور » : تأليف إبراهيم بن عمر البقاعي الشافعي من علماء القرن التاسع ، وقد ذكر في كتابه انّ الآية مدنية. (45)
9. الوقوف على الآراء المطروحة حول الآية
إنّ الآراء الموروثة من الصحابة والتابعين ثمّ علماء التفسير إلى يومنا هذا ثروة علمية ورثناها من الأقدمين ، وهم قد بذلوا في تفسير الذكر الحكيم جهوداً كبيرة ، فألّفوا مختصرات ومفصّلات وموسوعات حول القرآن الكريم ، فالإحاطة بآرائهم والإمعان فيها وترجيح بعضها على بعض بالدليل والبرهان من أُصول التفسير شريطة أن يبحث فيها بحثاً موضوعياً بعيداً عن كلّ رأي مسبق. 10. الاجتناب عن التفسير بالرأي (1) المراد من التفسير بالرأي هو انّ المفسِّر يتخذ رأياً خاصاً في موضوع بسبب من الأسباب ثمّ يعود فيرجع إلى القرآن حتى يجد له دليلاً من الذكر الحكيم يعضده ، فهو في هذا المقام ليس بصدد فهم الآية وإنّما هو بصدد إخضاع الآية لرأيه وفكره ، وبذلك يبتعد عن التفسير الصحيح للقرآن. وقد حذّر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كافة المسلمين من التفسير بالرأي أو التفسير بغير علم ، فقال : « من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ». (2) وقال : « من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ». (3) وليس النهي عن التفسير بالرأي منحصراً بالأحاديث النبوية ، بل القرآن الكريم يندّد بالتقوّل على اللّه بما لا يعلم ويقول : ( وَأَن تَقُولُوا عَلى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُون ) (4). 1 ـ وفي الحقيقة ، التفسير بالرأي من موانع التفسير الصحيح لا من شرائطه. 2 ـ أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس كما في البرهان في علوم القرآن : 2 / 161. 3 ـ أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي على ما في البرهان. 4 ـ البقرة : 169. |
|||
|