|
|||
(46)
العمل ما لم يسيّر نفسه ، ويموّنه بما يدرّ عليه هذا العمل من ربح مادي ، وما لم يستحصل على ربح مادي تستخدمه في تسيير مرافق البلاد عامة.
ومما تقدم يتبين شكل المشاريع الحكومية التجارية والإنتاجية في المجتمع الإسلامي. فالدولة تدخل « أولاً » في العمل كما يدخل أي فرد آخر ، وينشئ مع الآخرين علاقات وروابط تجارية ، كما يرتبط الآخرون بغيرهم بسلسلة من العلاقات والروابط التجارية. ولا يحق لها أن تتحكم بما تملك من قوة تنفيذية في أوضاع الأسواق ، كما لا يحق لها أن تلجئ الشركات الأهلية إلى الانسحاب عن السوق بشكل من الأشكال. وتطلب الدولة « ثانياً » من وراء نشاطها الانتاجي والتجاري ربحاً مادياً عادلاً ، لتغطية نفقاتها العامة ، ولتسيير الجهاز ذاته. وأي فرد آخر أو شركة أهلية يستطيع أن يعارض الجهاز الحكومي فيما دون هذا المستوى من الربح أو في المستوى نفسه؟ والفائدة التي تجنيها الأُمة من مداخلة الحكومة في الانتاج والتجارة هي تحديد الأسعار في مستوى عادل ، وتكييف أوضاع السوق إلى صورة عادلة ، بعيدة عن الأثرة والاحتكار والتحكم في الأسواق. (47)
وكل من خطر له على بال أن يستغل حاجة السوق ليرفع من أسعار البضائع ، أو خطر له أن يحتكر البضاعة لحين آخر. فالأجهزة الحكومية تقف له بالمرصاد وتتحداه وتنافسه منافسة لا هوادة فيها.
فهي في الوقت الذي تدر على الحكومة دخلا مالياً كبيراً ، تعتبر أداة لتلطيف أجواء الانتاج والتجارة في البلاد. (48)
وكثيراً ما تقوم الدول بإنشاء مشاريع زراعية وثقافية وصحية وعسكرية كبيرة. كإنشاء السدود والجسور والبنايات ، وإحداث الطرق والشوارع المبلطة ، والمدن والقرى النموذجية.
وإنشاء هذه المشاريع يتطلب رصيداً مالياً كبيراً يخرج عن عهدة الحكومة ، ولا تفي الضرائب والموارد التي ترد الحكومة عن طريق العقارات وغيرها بتمويلها. في مثل هذه الأحوال ، لا تفقد الدولة الإسلامية مبررات شرعية لتمويل هذه المشاريع عن طريق عقد قروض طويلة الأجل ، تدفعها الحكومة بشكل أقساط يمتد اداؤها إلى الأجيال اللاحقة. وقد ترجع الدولة في عقد قروض طويلة الأجل إلى أفراد الأُمة مباشرة ، وقد ترجع إلى البنوك الأجنبية ، كما قد ترجع إلى الدول الأُخرى. ولا يجوز للدولة ـ من جهة شرعية ـ أن تدفع إزاء هذه القروض أرباحاً نقدية وغير نقدية ، إلاّ إذا كانت تضطر إلى ذلك لحاجة ضرورية. فتصطنع في ذلك بعض المبررات الشرعية التي يذكرها الفقهاء في باب « الربا » من الفقه. وهنا يبدو للباحث الفقيه اعتراضان على هذا النحو من (49)
القروض ، نحاول أن نجيب عليهما بصورة سريعة.
فقد يثار التساؤل عن جواز تحميل خزانة الدولة تبعات أداء هذه القروض ، ولا سيما إذا كانت خزانة الدولة قاصرة على أداء نفقات هذه المشاريع. وقد يتساءل ثانياً عن مشروعية تحميل الأجيال التالية تبعات أداء هذه القروض التي عقدتها الأجيال السابقة ولم تشترك هي في شأن من شؤونها. ويظهر الجواب عن التساؤل الأول إذا علمنا أن النظام المالي للمجتمع الإسلامي قرر سهماً خاصاً من سهام الزكاة لأداء ديون الغارمين ، إذا كانت هذه الديون لأغراض مشروعة. والدولة الإسلامية ـ كشخصية حقوقية يمثلها الحاكم الأعلى ـ تتمتع بكافة الحقوق الشرعية التي يتمتع بها سائر الأشخاص في الدولة؛ ولذلك فمن حقها أن تستغل هذا الحق الشرعي لأداء ديونها بشكل أقساط ، وحسب إمكانيات الخزينة. وفيما يخص التساؤل الثاني : ينبغي أن نشير إلى أن الاستفادة من هذه المشاريع لا تخص الجيل الحاضر؛ بل يتاح للأجيال القابلة أن تستفيد من هذه المشاريع بصورة أوسع. وأكثر من ذلك ، نجد أن هذه القروض قد تستخدم لتوسيع مشاريع الانتاج الصناعي والزراعي وإنتاج المكائن والأدوات الثقيلة. (50)
والجيل الحاضر لا يستطيع أن يستفيد من هذه المشاريع في توسعة نشاطها الانتاجي وواردها المالي كما تستفيد منها الأجيال اللاحقة.
فمن وجهة شرعية ، نجد أن هذه القروض تقع لصالح الأحيال اللاحقة أكثر من أن تقع لصالح الجيل الحاضر. والدولة ـ كشخصية معنوية ـ لا تفنى بموت شخص الإمام أو الرئيس. ولذلك ، فليس هناك ما يمنع من تحمل الدولة لأعباء هذه القروض في الأجيال اللاحقة ، بعد صحة وقوع العقد. نظراً لاستمرارية شخصية الدولة ، ووجود المصلحة المبررة؛ ونظراً لاستغلال الأجيال المقبلة لهذه المشاريع. وبهذه الصورة ، نجد أن الدولة الإسلامية تستطيع أن توفر لنفسها مورداً مالياً للقيام بأعمال عمرانية وفلاحية وتصنيعية عن طريق عقد القروض الطويلة الأجل. (51)
1 ـ الفيء :
وهو ما يرجع إلى المسلمين من المشركين ، مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ... وما يتركه الكفار للمسلمين من غير أن يقاتل عليه المسلمون. ويشمل الأموال المنقولة ـ كالنقود والأثاث ـ وغير المنقولة ـ كالعقارات. ويملكها رئيس الدولة الإسلامية ليصرفها في شؤون الدولة العامة والمصالح الاجتماعية. والأصل التشريعي لذلك قوله تعالى : ( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ، فَما اَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلِ وَلا رِكابٍ ، وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٍ ) (1). 2 ـ إرث من لا وارث له : بما أن الإمامة هي الولاية الشرعية على المسلمين. يعتبر الإمام وارثاً لمن لا وارث له من أقارب وموالي. والذي يموت عن غير وارث من الأقارب والموالي ، تضبط أمواله فوراً لتنقل إلى خزينة الدولة. 1 ـ سورة الحشر : 6. راجع في ذلك تفسير مجمع البيان : 9 / 259 ، 260. (52)
وبعد ...
ذلك إجمال من تفصيل عن موارد الدولة المالية في المجتمع الإسلامي. ولابد أن الباحث قد لمس بنفسه ـ خلال هذا البحث ـ ملامح العدالة الاجتماعية في تخطيط هذه الموارد ، وتوزيع الضرائب منها بصورة خاصة على طبقات الأُمة بشكل عادل ، كما لاحظ مرونة الموارد المالية للدولة الإسلامية وسعتها ، بشكل لا تضيق من مواكبة تطور نفقات الدولة وحاجاتها. وهذه من أهم خصائص التخطيط المالي في الفقه الإسلامي. (53)
(54)
(55)
تمهيد :
بعد أن استعرضنا الملامح العامة لموارد الدولة الإسلامية بصورة موجزة .. يأتي دور البحث عن النفقات العامة للدولة. والنفقات العامة ـ عادة ـ هي التي تحدد موارد الدولة من حيث السعة والضيق. وقد رأينا ـ فيما تقدم من هذا الحديث ـ أن الموارد المالية للدولة الإسلامية تتصف بصلاحية واسعة لتغطية النفقات العامة للدولة مهما توسعت هذه النفقات وازدادت. تعريف النفقات : ونعني ـ عادة ـ من هذه الكلمة : صرف مبالغ مالية لتقديم خدمات عامة لأفراد الأمة وتسيير المرافق العامة في البلاد وإعاشة الفقراء. ومما ينبغي ملاحظته أن التشريع الإسلامي يلاحظ في ( الانفاق ) أموراً ثلاثة : 1 ـ أن الحكومة لا تستنفذ الخدمات العامة عن أفراد الأمة (56)
لمصلحتها من غير أجر ، وبدون تقديم جزاء عادل .. بعكس كثير من الحكومات التي كانت تسبق الإسلام أو التي لحقت الإسلام.
فقد كانت أساليب العنف والسخرة شائعة في كثير من الحكومات القائمة قبل الإسلام في استنفاذ الخدمات المختلفة من الناس. وليس غريباً عنا أساليب السخرة التي كانت رائجة لدى الحكومات القيصرية في تشغيل العمال بسحب العربات الثقيلة والقيام بالأعمال الشاقة (1) من غير أجر أو جزاء .. اللهم إلاّ مما يقوّم أجسامهم من الخبز والماء. وجاء الإسلام بأصل تشريعي هام يقضي باحترام عمل المؤمن واحترام شخصيته. فلا تجوز أعمال السخرة وتسخير الفرد لمصلحة الحكومة أو الأُمة ، ولا يجوز استخدام فرد في عمل. ما لم يرتفع عنصر الإجبار عن العمل أولاً ، ويدفع للعامل جزاء عمله ثانياً بشكل عادل. فقد جاء قوم من بعض الأقاليم إلى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام 1 ـ ولا نقدم في العصر الحاضر أمثلة لقانون السخرة. فقد طبقت بعض الدول الشيوعية هذا النظام في معسكرات السخرة ، في عصر العلم والنور كجمهورية كوبا. وجمهوريات الاتحاد السوفيتي عقيب ثورة اكتوبر ، وطبقته في الآونة الأخيرة الحكومة العراقية في قانون خاص صادر عن مجلس قيادة الثورة ، تقضي بالخدمة الإجبارية على المواطن في آي عمل وأية مهمة تفرضه الحكومة على الفرد. (57)
ليقولوا له : إن في بلادهم نهراً قد طمرت الأيام مجراه فعفا ، وإن في حفره من جديد خيراً لهم .. ورجوه بعد ذلك أن يأمر عامله على اقليمهم بأن يسخرهم في احتفار النهر.
فما كان من علي عليه السلام إلاّ أن قبل فكرة احتفار النهر .. غير أنه أبى عليهم ما أرادوه من السخرة فكتب إلى عامله ـ واسمه قرضة بن كعب ـ يقول : « أما بعد : فإن قوماً من أهل عملك أتوني فذكروا أن لهم نهراً قد عفا ودرس ، وانهم إن حفروه عمرت بلادهم وقووا على كل خراجهم ، وزاد فيء المسلمين قبلهم. وسألوني الكتاب اليك لتأخذهم بعمله وتجمعهم لحفره والإنفاق عليه. ولست أرى أن اجبر أحداً على عمل يكرهه .. فادعهم إليك فإن كان الأمر في النهر على ما وصفوا ، فمن أحب أن يعمل فمره بالعمل. والنهر لمن عمل دون من كرهه ولئن يعمروا ويقووا أحب إليَّ من أن يضعفوا. والسلام » (1). فالعامل في حقل الخدمات الاجتماعية في الدولة الإسلامية يعمل بملء حريته واختياره ، ولا يحق لأحد مهما كانت مكانته أن يرغم أحداً على ممارسة الخدمات الاجتماعية. وفي نفس الوقت تقدم السلطة إلى العامل جزاءاً عادلاً عن 1 ـ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية : 132. (58)
عمله ، ولا يجوز منع حقه عنه (1).
2 ـ يجب على الحكومة ـ بصفتها صاحبة السلطة الشرعية ـ أو الإمام بصفته رئيساً للحكومة ـ القيام بهذه النفقات. وتهيئة الميزانية الكافية لها وذلك بعد البحث ودراسة ملابسات الحياة الاجتماعية ، وحدود ميزانية الدولة واستشارة ذوي الخبرة في الموضوع. فالسلطة الحاكمة تعتبر مسؤولة عن وفاء كل الحاجات الاجتماعية ، وإدارة مرافق الدولة ، في حدود إمكاناتها وقدراتها ، وهذه المسؤولية هي المسؤولية التي يعبر عنها عادة في الفقه ب ( الحسبة ). 3 ـ توزيع هذه الخدمات بصورة عادلة على أبناء الأمة ، من غير لحاظ جانب شخصي أو نفوذ اجتماعي. وقد رأينا أن الحكومة الإسلامية كانت تفرض الضرائب المالية على الأفراد في حدود إمكانياتهم المالية بصورة عادلة ، من غير ملاحظة أية جهة شخصية. وهذه التسوية في فرض الضرائب تقتضي التسوية في توزيع الخدمات وتقديم النفقات للفئات الاجتماعية. وأي تمييز في توزيع هذه الخدمات على أبناء الأُمة يعتبر خروجاً عن حدود التشريع. 1 ـ وفيما لو كان العمل ضرورياً يدخل في حقل الواجبات الكفائية. ولا يكون الجزاء بعنوان الاجرة ، وإنما يسترزق من بيت المال ، كما يأتي الحديث عنه فيما يأتي إن شاء الله. (59)
عرض لنفقات الدولة
وفيما يلي نحاول أن نستعرض وجوه النفقات في الفقه الإسلامي ، بالشكل الذي يعرضه القرآن الكريم.
وقد نظم الفقه الإسلامي وجوه النفقة التي يجب على السلطة القيام بها بشكل يفي بكل الحاجات الاجتماعية والعسكرية والاقتصادية والعمرانية ، وما يتجدد من حاجة في البلاد. ولكي نستعرض هذه النفقات بشكلها التشريعي نحاول أن ندرس هذا الجانب من البحث في ضوء آيتين من القرآن الكريم ، هما آيتا الزكاة والخمس. آية الزكاة
قال الله ـ تعالى ـ : ( إنَّماَ الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمسَاكِينَ ، وَالْعامِلينَ عَليْها ، وَالْمُؤلَّفةِ قُلُوبُهُم ، وَفيِ الرِّقابِ ، وَالْغارِمِينَ ، وَفيِ سَبِيلِ اللهِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ ... ) (1).
ويلمح الباحث من سياق الآية الكريمة نحوين من المصارف يختص الأول منهما بتملك هذه النفقات. ويختص الثاني بصرفها عليه. 1 ـ سورة التوبة : 60. (60)
ويشعر بذلك موضع « اللام » و « في » في الآية الكريمة.
فقد أضافت الآية الكريمة الصدقات إلى الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ب « اللام » مما يشعر بأنهم أشخاص حقيقيون يملكون هذه الصدقات. وأضافت « الصدقات » إلى « الرقاب » و « الغارمين » و « سبيل الله » و « ابن السبيل » بكلمة « في » أو بالعطف عليها مما يشعر بأنها مرافق عامة وجهات اجتماعية تختص بهذه المصارف وليست أشخاصاً تملك ذلك. فالنفقات المالية للدولة الإسلامية على نحوين : 1 ـ نفقات عامة تبذل على أشخاص حقيقيين يملكونها ( التمليك ). 2 ـ نفقات عامة تصرف على جهات ومرافق اجتماعية تختص بها من دون أن تملكها ( الصرف والاختصاص ). وعلى ضوء من هذا النهج نحاول أن نستعرض آية الزكاة بالبحث الفقهي .. ونتناول هذه المصارف واحداً بعد آخر. ( أ ) النفقات الشخصية
وهي النفقات التي تبذل لأشخاص من الفئات التالية :
1 ـ الفقراء ، 2 ـ المساكين ، 3 ـ العاملون عليها ، 4 ـ المؤلفة قلوبهم. |
|||
|