|
|||
(136)
حاق به الضرر..؟ فمن صدقك بهذا القول كذب القرآن واستغنى عن الاستعانة بالله » (1).
7 ـ الغناء : وهو ما يتعارف في مجالس اللهو ، من ترجيعة الصوت بشكل يبعث على الطرب واللهو. وقد منع الإسلام من تعاطي الغناء واستخدام المغنين والاستماع إليه .. نظراً لما يترتب على الغناة من مفاسد فردية واجتماعية. وقد أكد الفقه الإسلامي في تحريم الغناء والموسيقى على جانب اللهو فيهما خاصة. ويعني باللهو : الانشغال عن واقع الحياة وفقدان الشعور بالمسؤولية ، وهو من أهم خصائص الغناء والموسيقى .. كما أنه من أسباب إقبال الناس عليهما. والإسلام ينهج نهج الجدّ في الحياة ، ويطلب من المسلم أن يواجه مسائل الحياة بجدّية وصرامة وقوة ولذلك فالتربية الإسلامية تعنى بجانب القوة والجدية والصرامة في شخصية الإنسان المسلم ، وتعوّد المسلم على أن يأخذ مسائل الحياة مأخذ الجد ، وأن يتجنب التميع والضعف. 1 ـ المكاسب : 1 / 25. (137)
فالحياة في نظر الإسلام عقيدة وجهاد ، تتطلب الصمود والتضحية ، بصورة مستمرة دائمة. ونظرة إلى الحياة من هذا القبيل ... تتطلب من معتنقيها تربية صارمة جادّة تضع شخصية المسلم بهذا المستوى من الجدية والقوة.
والموسيقى والغناء ، وكل لهو من هذا القبيل يفقد الإنسان هذه القوّة والجدية ، ويبعث في نفس الإنسان التحلل والتميع والرخاوة. وينشئ الإنسان نشأة رخوة متميعة ، ويخدّر النفس ، ويسلب الإنسان الشعور بالمسؤولية. وهو عامل هام في ذوبان الشخصية وتمييعها. والذين يعتادون الاستماع الى البرامج الموسيقية والغنائية ، يفقدون ـ في الغالب ـ صلابة الشخصية ، وقوة الإرداة ، والسيطرة على النفس ، فتهتز أعطافهم مع أمواج الموسيقى الصارخة ، التي تمغطس نفوسهم ، وتفعل فيهم فعل السحر. وطبيعي أن منهجاً جاداً في الحياة كالإسلام ، يقع على طرف النقيض من هذا اللهو ، ولا يرضى لمعتنقيه مثل هذا الإسفاف والتحلل بحال من الأحوال. والذين يجدون في الغناء ترويحاً للنفس ، وتلطيفاً لأجواء الحياة المتعبة المزدحمة بالمتاعب ، وإنعاشاً للشعور والحس ، ومتعة (138)
تخلد إليها النفس ... يخطأون كثيراً ، ويضعون الأشياء في غير نصابها.
فكم من فرق بين أن يستريح الإنسان إلى شيء وينعم به ، وينعش به حاسة الجمال والتذوق الفني في نفسه ، وبين أن يخلد إلى لهو من اللهو لينسيه نفسه ، ويغفله عن واقعه ، ويبعث في نفسه التحلل والتميع. وقد ذكرنا قريباً أن الإسلام يطلب من ( الفن ) ، السلامة في الغاية والطريق معاً ، ولا يكفي أن يكون الفن سليماً في أهدافه وغاياته فقط. (139)
بعد ما انتهينا عن « التداول الفردي » ننتقل إلى « الشركات ». والشركة : هو الإشتراك في الملك وخلط السهام.
وقد يكون سببه « الإرث » .. كما إذا ورثا معاً شيئاً. وقد يكون سببه « العقد » .. كما إذا اشتريا بعقد واحد داراً. وقد يكون سببه « الحيازة » .. كما إذا حازا معاً أرضاً وأصلحاه. وقد يكون سببه غير ذلك ... والشركة قد تتعلق ب « الأعيان » .. كما إذا اشتركا في شراء بضاعة. وقد تتعلق ب « المنافع » .. كما إذا اشتركا في إيجار دار. وقد يتعلق ب « الحقوق » .. كحق الخيار والشفعة وغيرهما. شرعية الشركة : أقر الإسلام الشركة وأجازها. وقد روي : ان البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين (140)
فاشتريا بنقد ونسيئة. فبلغ ذلك رسول الله (ص) فأمرهما بقوله : « إن ما كان نقداً فأجيزوه ، وما كان نسيئة فردوه ».
أقسام الشركة : والمشروع من الشركة قسمان : 1 ـ شركة العنان. 2 ـ شركة المقارضة ( المضاربة ). 1 ـ شركة العنان : وهي شركة الأموال ، نسبة إلى « العنان » ، وهو اللجام الذي تمسك به الدابة ، لاستواء الشريكين في ولاية الفسخ والتصرف (1). ويساهم المشتركون فيها بالعمل وتجهيز الشركة بالرأسمال الذي يقوم بتسييرها ، وليس لأحد أن يتصرف في المال من غير إذن الشركاء الآخرين. ويتساويان في الربح وتحمل الخسارة مع تساوي المال ، أو يقتسمان الربح والخسارة على ما اتفقا عليه. 2 ـ شركة المضاربة : وهو أن يدفع مالاً إلى غيره ليعمل فيه بحصة معينة من 1 ـ شرح اللمعة : 1 / 336. (141)
الربح (1).
أي يشترك اثنان أو أكثر .. بأن يقدم جانب منهما رأس المال ، ويقوم الجانب الآخر بالعمل ، ويقتسمان الربح بينهما حسبما يتفقان ، وتقع الخسارة كلها على جانب رأس المال ، ولا يتحمل العامل شيئاً من الخسارة. والعامل أمين لا يضمن. ذلك هو الشكل المشروع للشركة في الفقه الإسلامي ، وأما ما عدا ذلك من شركات المفاوضة والوجوه والأبدان ، فلا يجوز. 1 ـ شرح اللمعة : 1 / 339. (142)
مما تقدم من شرح عن التخطيط الإسلامي لنظام التداول ، يجد الباحث أن هذا التخطيط ، تخطيط هادف يؤدي إلى تحقيق غايات ونتائج كبيرة في حقل الانتاج والتوزيع والاستهلاك والقضايا الإنسانية الأُخرى.
ولا يتسع هذا البحث لاستعراض هذه النتائج بصورة موسعة وبشكل واف ، إلاّ إننا نحاول أن نلمح إلى أهم هذه النتائج بصورة موجزة ، في حدود ما يسمح به حجم هذا البحث. 1 ـ سرعة التداول : لا ريب أن « السرعة في التداول » مما يطلبه الإسلام في الثروات على نحو الإجمال ، ويمنع من تجميد الثروة وحبسها عن التداول والحركة في الاسواق ، في البضاعة والنقد على نحو سواء. فالثروة ، في النظرية الإسلامية ، لابد أن تتصف بصفة الحركة والسيولة الدائمة في الأسواق حتى تؤدي دورها في تنشيط الحركة الاقتصادية ، وإشباع حاجات المستهلكين ، ومتى تتوقف الثروة عن الحركة والتداول في السوق ، وتفقد صفة السيولة (143)
لا تستطيع أن تفي بدورها في تنشيط الأسواق وإشباع الحاجات الاستهلاكية المختلفة القائمة بأنواع الثروات المختلفة.
فحين يتداول الناس ثروة في الأسواق وتنتقل في الأيدي ، وتتضافر عليها الجهود ، تؤدي هذه الحركة إلى نمو عام في ثروة البلاد وواردها ، ونشاط وحركة قوية في الأسواق ، وإشباع الحاجات المختلفة. وبالعكس تماماً تضمير ثروة البلاد عندما تركد ، وتتوقف عن الحركة والتقلب في الأسواق في وجوه النشاط المالي ، كما تضطرب حياة الناس وتختل عندما لا تستطيع الأسواق أن تفي بحاجات الناس الاستهلاكية المختلفة. ولذلك فقد أكد الإسلام على سرعة تداول الثروة في الأسواق بشكل عام. فمنع من كنز النقدين ـ الذهب والفضة ـ وحبسهما من الحركة والجري في الأسواق ، وأمر بتوظيفهما في مجاري النشاط المالي وإنفاقهما في سبيل الله. فقال تعالى : « والذين يكنزون الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم » (1). وبذلك فقد أكد الإسلام على ضرورة توفير عنصر السيولة 1 ـ سورة التوبة : 34. (144)
والحركة في النقدين ، وشجع على توظيفهما في الأسواق وإنفاقهما في سبيل الله.
هذا في النقد ، وأما في البضاعة ... فقد حرم الإسلام احتكار البضاعة التي يحتاج إليها المسلمون في معاشهم ومأكلهم. فعن رسول الله (ص) : « ولئن يلقى الله العبد سارقاً أحب إليّ من أن يلقاه قد احتكر طعاماً أربعين يوماً » (1). ومما يجدر الانتباه اليه هذه المقارنة في الرواية بين السرقة والاحتكار ، فان الاحتكار لون من السرقة لأرزاق الناس ومعاشهم ، ويزيد المحتكر على السارق أنه يغتصب أرزاق المجتمع ومعاشه ، بينما السارق لا يزيد على اغتصاب مال فرد أو أفراد معدودين. فالثروة المحتكرة ، وإن كانت ملكاً لصاحبها ، ولكن من وجه آخر ملك للمجتمع أو حق له بحيث لا يجوز لصاحبه أن يمنع المجتمع من ابتياع هذه الثروة وصرفها في مصارفها ، فاذا شاء صاحبها أن يمنع المجتمع من هذه الثروة ويحبسها عن السوق فهو « سارق » يحرم المجتمع حقه في هذه الثروة. ومن هنا كان الاحتكار أشد في نظر الإسلام من السرقة. وقال ... (ص) : « أيّما رجل اشترى طعاماً فكبسه 1 ـ سفينة البحار : 1 / 291. ـ وسائل الشيعة : 6 / 314. (145)
أربعين صباحاً ، يريد به غلاء المسلمين ، ثمّ باعه فتصدق بثمنه ... لم يكن كفارة لما صنع به » (1).
وكأنه تصدق بمال مسروق ، ومن الطبيعي أن الصدقة لا تكون كفارة للسرقة. وقال ... (ص) : « المحتكر ملعون » (2). وعهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى واليه على مصر مالك الأشتر ـ رحمه الله ـ من أن « امنع الاحتكار ، فان رسول الله (ص) منع منه ، فمن قارف حكرة بعد نهيك اياه ، فنكل به (ص) وعاقبه في غير إسراف » (3). وكذلك يجد الباحث من دراسة مجموعة النصوص الإسلامية في هذه المسألة ، أن الإسلام يطلب سرعة تداول الثروة ، ويمنع من تجميد الثروة وحبسها عن التحرك في السوق ، بضاعة كانت الثروة أو نقداً ، ويعتبر السيولة والتحرك شيئاً من طبيعة الثروة ، وحبس الثروة عن الحركة يعتبر تحريفاً للثروة عن أداء دورها الذي خلقها الله تعالى له. 2 ـ تحديد الثروة الفردية : ومما يلاحظ في نظام التداول في الإسلام ، أن الفقه الإسلامي 1 ـ سفينة البحار : 1 / 291 ووسائل الشيعة 6 / 314. 2 ـ سفينة البحار : 1 / 291 ووسائل الشيعة 6 / 315. 3 ـ نفس المصدر. (146)
يحول دون تورم الثروة الفردية بصورة غير طبيعية.
وسلك في ذلك مسلكين؛ يندرج أحدهما في إطار « نظام التداول » ، الذي هو موضع حديثنا ، ويندرج الآخر في اطار « نظام المال » الذي سبق الحديث عنه في هذه الرسالة. أحدهما يحول دون تورم الثروة من داخل أعمال الانتاج والتداول ، ويحول الآخر دون تورم الثروة من الخارج. ففي المسلك الأول يلغي الإسلام شرعية المعاملات والأساليب الانتاجية التي تؤدي الى التضخم المالي في حقل الملكية الفردية ، ويعتبرها أساليب غير مشروعة في الانتاج والتداول كالربا والغش والمقامرة والرشوة. ( وأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ، وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1). ( وَلا تَأكُلوا أَمْوالَكُم بَيْنَكُمْ بِالباطِلِ ، وَتُدْلوا بِها إلىَ الْحُكّامِ ، لِتأكُلوا فَرِيقاً مِن أَمْوالِ النّاسِ بِالاِثمِ ، وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) (2). في هذه المرحلة يضع الفقه الإسلامي قيوداً وحدوداً على أعمال الانتاج والتداول ، تؤدي إلى تقليص الوارد الفردي ـ إلى حد ما ـ والحيلولة دون تورم الملكية الفردية. فان تورم الملكية الفردية ينشأ غالباً عن عدم تخطيط تشريعي 1 ـ سورة البقرة : 275. 2 ـ سورة البقرة : 188. (147)
صحيح لعملية الانتاج والتداول في مرحلة انتاج الثروة. وبهذه العملية يحول الفقه الإسلامي دون تضخم الثروة الفردية في هذه المرحلة.
وفي المسلك الثاني ، يحيط الفقه الإسلامي الثروة الفردية بسلسلة من التشريعات من الخارج ، بعد إنتهاء مرحلة الانتاج ، لتحديد الثروة الفردية ، وإعادة الفائض منها إلى الفئات الفقيرة والحاجات والمرافق الاجتماعية. وهذه التشريعات ، هي الضرائب المالية التي يفرضها الفقه الإسلامي على الثروة بعد إنجاز إنتاجها. وقد سبق أن استعرضنا هذه الضرائب بتفصيل في البحث عن النظام المالي ، في القسم الاول من هذه الرسالة. ووجدنا هناك أن الغاية من التشريعات الضريبية في الفقه الإسلامي ، هي تقليص الوارد الفردي عن الحد المعقول في المجتمع وصرف الفائض منها في حاجات المجتمع ، وتعديل توزيع الثروة : ( كَيْ لا تَكُونَ دَوُلةً بَيْنَ الأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) (1). فالفقه الإسلامي اذن ، كي يحول دون تورم الثروة ، يحيط الثروة بسلسلة من التخطيطات والتشريعات الدقيقة في مرحلتين : في مرحلة الانتاج ، ومرحلة التوزيع ، وفي كل من حقل 1 ـ سورة الحشر : 8. (148)
تداول الثروة » و « نظام المال ».
كل ذلك دون أن يمس الفقه الإسلامي أصل الملكية الفردية ، فهي في نظر الفقه الإسلامي ، حاجة أصيلة ذات جذور بعيدة في حياة الفرد والمجتمع ، لا يجوز الغاؤها بحال من الأحوال ، وانما يجب تحديدها بصورة دقيقة ، لا تؤدي الى تعطيل الأجهزة الاقتصادية العامة في المجتع من القطاع الخاص. 3 ـ رعاية المصالح الإنسانية : وهذه غاية أخرى من الغايات التي ينطوي عليها التخطيط الإسلامي في تداول الثروة. فان الفقه الإسلامي ، لا يخطط لنظام التداول في المجتمع الإسلامي بمعزل عن ملاحظة المصالح الإنسانية المرتبطة بجهاز الانتاج والتداول ، وانما يعتبر هذه الاجهزة والمصالح مرتبطة بعضها ببعض ، ومتشابكة ، ولا بد من لحاظها جميعاً في التشريع كلاً لا يتجزأ. ومن هذا المنطلق ، نجد أن الفقه الإسلامي يعالج مسألة التداول بشكل مرتبط بالمصالح الإنسانية ، فيلغي من المعاملات وأساليب التداول والانتاج ما يضر بهذه المصالح والشؤون الإنسانية ، فيحرم إنتاج آلات اللهو واخراج الافلام الخليعة ، وتصدير الكتب الضالة والمجلات الضارة ، وبيع الاسلحة للعدو وانتاج وتداول البضائع التي تسبب اضراراً للمجتمع كالخمر وآلات (149)
القمار وما يتصل بذلك.
وهذا التماسك التشريعي ، يلحظ في كل جوانب الفقه الإسلامي ويجد الباحث أن هذا الفقه في كل مسائله وأبوابه وحدة مترابطة لا يمكن تجزيئه وتفكيكه. وهذا التماسك والترابط والتوازن في التخطيط والتشريع من خصائص « التشريع الإلهي ». « والقانون الوضعي » مهما كان ، لا يمكن أن ينطوي على هذه الوحدة الكلية في التخطيط ، فان العقل والعلم البشري لا يمكن أن يتسعا لمثل هذه الكلية الإنسانية ، التي تحتضن كل المسائل الإنسانية بشكل مترابط متماسك (1). وبعد ، فهذا عرض موجز للتخطيط الإسلامي لتداول الثروة ، حاولنا فيه تبسيط التخطيط الفقهي وعرضه بصورة واضحة ومختصرة. ولله الحمد وله الشكر ... محمد مهدي الآصفي
1 ـ للتوسع يراجع في هذه المسألة كتاب « المدخل الى التشريع الإسلامي » للمؤلف. |
|||
|