|
|||
(16)
الملأ العام بقلب المدينة. فسأله الشاه عباس عن الغرض من ذلك. فقال الآخوند : سأجيبك على هذا بعد مضي مدة من الزمان.
لذا فان الشاه عباس امتثل هذا الامر ولبى له هذا الطلب. فركب الآخوند التوني ومشى الشاه عباس بين يديه مسافة في وسط المدينة بمرآى من الملأ العام ، ثم ودعه الآخوند وانصرف. وبعد مرور مدة من الزمان قام السلطان الشاه عباس ثانية بزيارة الآخوند الملأ عبدالله في مدرسته المذكورة فرآها حاشدة بالتلاميذ. فاستفسر عن امتلائها بذلك العدد الكبير وعن خلوها قبل ذلك فأجابه الآخوند بان السبب في خلوها من الطلاب فيما سبق بعود إلى ما كانوا عليه من الجهل بفضيلة العلم ومنزلة العالم ، لذا لم يتوجه أحد إلى مدرستي لطلب العلم ، وبعد أن رأوا منك ذلك الاحترام والتقدير للعلماء حين مشيت بين يدي وأنا راكب في الملأ العام عرفوا ذلك فانثالوا على المدرسة لنيل شرف العلم ، وهذا هو الذي دعاني أن اطلبك منك ذلك ، وهذه هي غايتي منه ، فلما أن فعلت ذلك علموا أن للعلم منزلة كبيرة في الدنيا حتى أن السلطان يترجل بين يدي العالم. لذا فانهم جاؤوا طلبا للعزة الدنيوية والمكانة الاجتماعية ، ولكنهم بعد أن سيطوون بعض مراحل العلم وسيتضيئون بنوره ، ستخلص نواياهم لله تعالى ، وتحصل لهم نية القربة له ، التي هي الغاية الاخيرة للعلم ولجيمع العبادات ، كما ورد في الخبر : « اطلبوا العلم ولو لغير الله فإنه يجر إلى لله » ، ويكونون مصداقا لمقولة : « المجاز قنطرة الحقيقة ». مكانته العلمية واطراء العلماء إياه : نعته الشيخ الحرّ العاملي بقوله : « عالم ، فاضل ، ماهر ، فقيه ». ووصفه الفقيه المتبحر ، المحدّث الشيخ يوسف البحراني ( صاحب الحدائق ) عند التعرض لبعض آرائه في كتابه ( الدرر النجفية ) في درة (17)
الاستصحاب ص 34 بعنوان « بعض أصحابنا المحققين من متأخري المتأخرين ».
ويذكره مجدد علم الاصول الشيخ الانصاري ـ الذي لم نعهد منه السخاء في الاطراء واطلاق السمات العلمية إلا على آحاد العلماء ـ بعنوان ( الفاضل التوني ) عند نقل آرائه في موارد مختلفة من فرائده ، كما سيأتي. وبهذا اللقلب يذكره أساتذة الحوزات العلمية في مجالس تدريسهم وفي تقريرات أبحاثهم. وسيأتي مزيد من الحديث عن مكانته العلمية. مصنفاته : 1 ـ شرح الارشاد ، في الفقه. ذكره له الشيخ الحرّ العاملي. قال السيد الخونساري : « ولم يتيسر لنا إلى الآن الوقوف على شرح ارشاده ». وأصل الكتاب : ( ارشاد الأذهان ) للعلامة الحلي. 2 ـ رسالة في الاصول. ذكرها له أيضا ، الشيخ الحرّ العاملي. قال السيد الخونساري : « وأما رسالته الاصولية فهي كتابه الموسوم بالوافية في اصول الفقه ، ونسخه متداولة بين الطلاب ». ولكن السيد الأمين عد الرسالة كتابا آخر غير الوافية. وهو كتابنا هذا وهو الاثر الوحيد الباقي له ، وسيأتي الكلام عنه. 3 ـ رسالة في الجمعة. ذكرها له الشيخ الحرّ العاملي أيضا. قال الميرزا الافندى : « هذا المولى أحد القائلين بالمنع من صلاة الجمعة في زمن الغيبة ، ورسالته المذكورة مؤلفة في هذا المعنى ». ومثله ذكر السيد الخونساري. 4 ـ حاشية على معالم الاصول. (18)
ذكرها له الميرزا الافندى ، ووصفها بأنها : « حسنة ».
وقال السيد الخونساري عنها بأنها : « جيدة جدا ». والاصل : معالم الدين وملاذ المجتهدين. المحتوي في مقدمته على أبحاث علم الاصول ، وتعرف ب ( اصول المعالم ) وب : ( معالم الاصول ) ، للمحقق الشيخ حسن الجبعي العاملي نجل الشهيد الثاني. 5 ـ تعليقات على المدارك. ذكرها له الميرزا الافندي ، والسيد الخونساري ، ووصفها الاخير بأنها كحاشيته على المعالم في الجودة. والاصل : مدارك الاحكام. للسيد محمد بن علي الموسوي العاملي ، في شرح شرائع الاسلام للمحقق الحلي. 6 ـ حاشية علي إرشاد العلامة. ذكرها له الميرزا الافندي ، ثم قال : « والظاهر أنها بعينها شرحه المذكور » المتقدم برقم (1). وتابعه في ذلك السيد الخونساري. 7 ـ فهرست لتهذيب الاحكام لشيخ الطائفة الطوسي. ذكره هو لنفسه في الوافية ـ كتابنا هذا ـ في آخر البحث الثاني من المقصد الثاني من الباب الثاني ، وهو مبحث جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن مخصصه ، حيث قال : « وينبغي في فحص مخصص العام المتعلق بشيء من مسائل الطهارة ملاحظة كل واحد من أبوابها في التهذيب ، وكذا الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها ، سيما باب الزيادات والنوادر في كل منها ، والاحسن ملاحظة الابواب المناسبة في الكتب الاخر أيضا ـ إلى أن قال : ـ وقد تكفل بجميع ذلك وغيره ، الفهرست الذي جعلته على التهذيب ، وهو من أهم الاشياء لمن يريد الفقه والترجيح ، ولم يسبقني إليه أحد ، والحمد لله » فلاحظ كل كلامه. وعلق على هذا السيد الخونساري بقوله : « وهو كما قال ، وفوق ما نقول ». (19)
ابتكاراته العلمية :
الملفت للنظر في شخصية المؤلف هو روح الابتكار لديه ، وهي صفة حرية بالتقدير والدراسة ، فإن الكثير من اهل العلم والمعرفة يخوض غمار المسائل التي طرحت قبله من دون أن يستطيع الخروج من الدائرة التي رسمها من تقدم عليه ويبقى نطاق تفكيره وأفق ابحاثه محصورا في نفس تلك الخطوط العريضة المقررة عليه. ويبقى عدد المبتكرين والنوابغ نزرا. ونعتقد أن المصنف رحمه الله من اولئك الآحاد ، وإنما خفي ذكره ولم يشتهر أمره لعدّة عوامل أحدها ضياع جل مؤلفاته ، لاسباب لا نعرفها ، وقد تكون عامة ، وهي التي أودت بالكثير من تراث المذهب الامامي الضخم على ما نقرأه في تراجم اعلامنا ، فما من علم من الاعلام إلا وقد ضاع له أكثر من كتاب. هذا أحد العوامل ، ونطوي كشحا عن سائرها. ومما يحدو بنا إلى هذا الاعتقاد هو صنعته الفهرس على التهذيب ، فهو عمل جديد من نوعه بالقياس إلى المرحلة الزمنية ، والثقافية التي عاشها ، فقد وجدنا الكثير من المصنفين والمؤلفين على مرور أدوار علوم الفقه والاصول والحديث وغيرها ، ولكن يأتي هذا المصنف أو ذاك ويصنف على غرار من قبله حتى ليضع عناوين الابواب والفصول ، بل حتى نص المسألة ، وكأنه ينسخها ممن تقدم عليه نسخا. في هذا الجو ، وفي هذه الروح التقليدية نطالع اسم الفاضل التوني وهو يقوم بوضع ( الفهرس ) على التهذيب ويجمع شوارده ، ليرجعها إلى مقرها المناسب ، وهو بذلك يقوم بعمل جديد من نوعه ، فهو عمل تكميلي واصلاحي للموسوعة الحديثية البارعة لشيخ الطائفة وعمادها الشيخ الطوسي قدس سره. ولهذا الفهرس دلالة اخرى ، فهو يعكس سعة باعه في كل من الفقه والحديث ، إذ من الواضح لأهل هذا الفن ما يتطلبه هذا العمل من مؤهلات. والمؤشر الآخر على عقليته الابتكارية هي المنهجية الجديدة التي مشى عليها (20)
في كتابه ( الوافية ) حيث وضع للمباحث الاصولية تبويبا لم نعهده عند المتقدمين عليه ، كما سيمر عليك.
وانفرد بعدة آراء لم يسبقه اليها أحد. وقد اشار السيد الخونساري إلى ذلك حيث قال : « وله في الاستصحاب ومباحث التعادل والتراجيح تفريعات وفوائد نادرة وتصرفات كثيرة لم يسبقه اليها أحد من الاصوليين ». وسنذكر طرفا آخر من ابداعاته في الكفر الاصولي عند حديثنا عن كتابه ( الوافية ). اهتمام المتأخرين بآرائه : ليس لدي الآن الفرصة الكافية لاعطاء هذا البحث حقه ، وإنما ادون ههنا ما استحضره ، وما سبق لي أن اعددته : ينحصر طريق تقييم الفاضل التوني بكتابه الوافية بعد أن كانت بقية مصنفاته في قائمة الكتب المفقودة. مع أنه ليس بالاثر القليل رغم حجمه القليل. فلقد افرغ في كتابه هذا ثقلا علميا كبيرا ، وخصه بامتيازات هامة. حتى أصبحت آراؤه المطروحة فيه مدارا للبحث والمناقشة لدى الرعيل الاول من علماء الاصول إلى وقتنا الحاضر. فقد اهتم الشيخ الانصاري بافكاره وتحقيقاته متعرضا لآرائه بالمناقشة والبحث ، ناقلا نص عبارته في بعض الموارد ، وإليك التفصيل : 1 ـ تعرض إلى ما استظهره من مذهب المتقدمين في حجية خبر الواحد ، فقد نقل عبارته في الوافية ، ثم علق عليها بالتعجب. قال قدس سره في الفرائد : 109 : « بل في الوافية أنه : لم يجد القول بالحجية صريحا ممن تقدم على العلامة ، وهو عجيب ». 2 ـ حكى استدلاله بالدليل العقلي على حجية خبر الواحد ، وجعله الوجه (21)
الثاني من الوجوه العقلية المقررة لاثبات حجية الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة ، ونقل عبارته في ذلك ، ثم تناول هذا الدليل بالبحث والمناقشة.
انظر فرائد الاصول : 171 ـ 172.
3 ـ تعرض رحمه الله إلى ما أفاده من اشتراطه لجريان اصالة البراءة شرطين آخرين ـ علاوة على الشروط التي ذكرها الاصوليون ـ الاول : أن لا يكون إعمال الاصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى مثل أن يقال في أحد الانائين المشتبهين : الاصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فانه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر ، أو عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرا ، أو عدم تقدم الكرية حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة ، فان اعمال الاصول يوجب الاجتناب عن الاناء الآخر أو الملاقي أو الماء. الثاني : أن لا يتضرر باعمالها مسلم ، كما لو فتح انسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو امسك رجلا فهربت دابته ، فإن اعمال البراءة فيها يوجب تضرر المالك ، فيحتمل اندراجه في قاعدة الاتلاف ، وعموم قوله : « لا ضرر ولا ضرار » إلى آخر كلامه. فقد حكى الشيخ الانصاري نص كلامه وأشبعه تدقيقا وتحليلا ومناقشة إذ قد عقد تذنيبا خاصا بهذا الرأي.
انظر فرائد الاصول : 529 ـ 532.
وبمناسبة استدلال الفاضل التوني بقاعدة نفي الضرر ، دخل الشيخ في هذه المسألة ليخوض غمارها ويحقق القول فيها ، فجاء هذا البحث وكأنه رسالة مستقلة قاده إلى وضعها ما ذكره التوني في الشرط الثاني بل أخذ جميع الاصوليين بالبحث عنها في هذا المورد.
ونشير إلى ان للفاضل التوني رأيه الخاص بمفاد هذه القاعدة ، كما سنذكر ذلك بعد قليل. 4 ـ ناقش رحمه الله مذهبه بتخصيص مجرى أصل البراءة بما اذا لم يكن جزء عبادة. انظر فرائد الاصول : 532.
5 ـ تعرض لما استظهره صاحب الوافية من عبارة شارح المختصر ( العضدي )
(22)
في تعريف الاستصحاب وموافقته له.
فرائد الاصول : 542.
6 ـ تعرض لاستدلاله بصحيحة زرارة الواردة في باب الشك في عدد ركعات الصلاة والمصطلح عليها بصحيحة زرارة الثالثة ـ على حجية الاستصحاب. ثم تأمل في ذلك وناقش فيه.
فرائد الاصول : 567.
7 ـ تعرض رحمه الله للتفصيل الذي ابتكره وانفرد به في باب حجية الاستصحاب ، وهو رأي نال إهتمام كل الاصوليين إلى يومنا الحاضر ، فقد ذهب إلى التفصيل بين الاحكام الوضعية يعني نفس الاسباب والشروط والموانع ، والاحكام التكليفية التابعة لها ، وبين غيرها من الاحكام الشرعية ، فيجري في الاول دون الثاني (1). فقد فصل الشيخ الانصاري القول في هذا الرأي واستعرض استدلال الفاضل التوني عليه ، ناقلا نص عبارته بطولها ، ثم انهال عليه بالمناقشة فقرة فقرة مما اضطره إلى عقد بحث عن الحكم الوضعي وبسط الكلام فيه وتحقيق ما اذا كان مستقلا بالجعل ، او انه تابع بالجعل للحكم التكليفي.
فرائد الاصول : 598 ـ 612.
وبهذا ألجأ الفاضل التوني الاصوليين إلى بسط الكلام عن الحكم الوضعي ، وتفصيل القول فيه من بيان حقيقته وكيفية تعلق الجعل به وتحديد مصاديقه
1 ـ أفاد بعض اساتذة العصر في مجلس درسه عند استعراض هذا الرأي للفاضل التوني وتوضيحه : أن اطلاقه ( الاحكام الوضعية ) على الاسباب والشروط والموانع ، مسامحة منه ، فان ( الاحكام الوضعية ) باصطلاح القوم هي الشرطية والسببية والمانعية. وحاصل مسلكه هو : أن الاستصحاب حجة في موضوعات الاحكام الوضعية ، والاحكام التكليفية المسببة عنها. وبعبارة أخرى : ان الاستصحاب يجرى في الاسباب والشروط والموانع ، وفي الحكم الشرعي المترتب عليها ، دون السببية والشرطية والمانعية. أما غير هذه الموارد من الاحكام التكليفية ومطلق الاحكام الوضعية فالاستصحاب غير جار فيها. (23)
وصغرياته ، بما لم نعهده منهم قبل إحداث هذا التفصيل في الاستصحاب. ولذا ترى الاصوليين يخوضون هذا البحث في فصل الاستصحاب.
8 ـ أيد الشيخ الانصاري رحمه الله دعواه اشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، بكلام الفاضل التوني الذي اورده لرد تمسك المشهور في نجاسة الجلد المطروح باستصحاب عدم التذكية. فرائد الاصول : 641.
9 ـ دعم رحمه الله دعواه عدم جواز اثبات عمرو باستصحاب الضاحك المحقق في ضمن زيد. ثم ناقشه في قياسه ( عدم المذبوحية ) على المثال المذكور.
فرائد الاصول : 643.
10 ـ استشهد رحمه الله على دعواه عدم جريان الاصل في المسبب وتقدم الاصل في السبب عليه وعدم امكان جريانهما معا. بكلام الفاضل التوني ونقل نص عبارته الصريحة في ذلك.
فرائد الاصول : 742.
وكذا وقعت آراؤه موقع الاهتمام والمناقشة لدى الآخوند الخراساني ، فقد تطرق في الكفاية إلى مناقشة آرائه التالية :
1 ـ اضافته الشرطين المتقدمين لجريان أصل البراءة. وفعل الآخوند ما فعله الشيخ الانصاري قبله. كفاية الاصول : 379
2 ـ تفسيره الضرر المنفي بقوله صلى الله عليه وآله « لا ضرر ولا ضرار » ب : الضرر غير المتدارك.
كفاية الاصول : 381.
3 ـ الدليل العقلي الذي أفاده لاثبات حجية خبر الواحد الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة.
كفاية الاصول : 305.
4 ـ بسط الآخوند الكلام في تحقيق حال الاحكام الوضعية تبعا للشيخ
(24)
الانصاري ، توطئة للقول بجريان الاستصحاب فيها ردا على التفصيل المتقدم الذي أفاده الفاضل التوني في ذلك.
كفاية الاصول : 399 ـ 404
وما زالت آراؤه محل اعتناء الاصوليين في تصنيفاتهم ، واساتذة الدروس العالية في مجالس تدريسهم.
وإن دل ذلك على شيء فانما يدل على أنه أحد اعلام هذا العلم ، وأحد المبتكرين للنظريات الاصولية. (25)
(26)
(27)
أهميته وامتيازاته :
الوافية : من خيرة المتون الاصولية التي خلفها لنا فطاحل علماء الامامية فلقد ترك لنا أولئك مصنفات في مختلف علوم الشريعة ، من الكلام والتفسير والفقه والاصول والحديث والرجال ، يمثل كل منها المرحلة التي وصل اليها ذلك العلم في تلك البرهة. وفيما يخص علم الاصول : ان كانت ( الذريعة ) معبرة عن قمة ما وصل اليه هذا العلم في عصر السيد المرتضى ، و( العدة ) في عصر شيخ الطائفة الطوسي ، و( المعارج ) في عصر المحقق الحلّي ، و( النهاية ) و( التهذيب ) و( المبادئ ) في عصر العلامة الحلّي ، ومقدمة ( المعالم ) في عصر المحقق الشيخ حسن ، فإن ( الوافية ) تمثل القمة في التطور الاصولي الذي ارتقى اليه في القرن الحادي عشر الهجري لدى الاصوليين من الامامية. فقد حباها مؤلفها الذي يصفه الشيخ الحرّ العاملي بالفقيه العالم الفاضل ( الماهر ) ، حباها بمزايا افردتها عما صنف قبلها. فإن مقارنة شريعة بينها وبين ما تقدمها ليكشف عن ذلك بوضوح. فمن ينتقل من مراجعة ( المعالم ) إلى ( الوافية ) يشعر بتحول وتطور ، ويلاحظ نقلة في المستوى والافق الذي يدفع بالقلم لرسم تلك السطور ، وليس مجرد تبدل في الرأي ، أو تغيير في المبنى ، وبكلمة مختصرة : يلاحظ المقارن بين الكتابين اختلافا في المنهجية ، وفي نمط التفكير ، وصياغة المطالب ، والدخول إلى البحث من مسلك لم يعهد من قبل ، واعتمادا على معايير لم يلتفت إليها من سالف. وترى المصنف في ( الوافية ) قوي الحجة ، بعيد النظر ، يختار الرأي الصائب في المسألة ، دون ان يتقيد بما ذكروه دليلا عليه بل قد لا يكتفي بما اورده الاصوليون على (28)
المدعى من الادلة إن رآها سليمة بل يبتكر دليلا خاصا ، كما فعل في حجية خبر الواحد ، وقد يوافق الآخرين في الرأي ولكن لا يرتضي ما اقاموه حجة عليه ، فيردها ، ويسوق لذلك الرأي برهانا آخر.
وبهذا يخرج عن طور التبعية والتقليد ، ويسلك مسلك التحقيق والتأسيس. ونراه الحاذق في المناقشة ، فهو يجيد تشخيص نقاط الضعف في ادلة خصمه ، فيسدد اليها الرمية ، وينقض عليها بالنقض والحل لتعود واهية سقيمة. وتراه يحسن الاخذ بزمام المسائل الاصولية بعد ان ينتزعه من يد خصمه انتزاعا فنيا ويردها إلى بابها كما فعل مع المحقق والعلامة وصاحب المعالم ، في مسألة دلالة النهي على الفساد في المعاملات ، فقد عرض بهم في استدلالهم على عدم الدلالة بالدليل اللفظي ، منبها على محور النزاع ، وان المتنازع فيه هو حكم العقل بالفساد أو عدمه ، لااستفادة الفساد وعدمها من الدليل النقلي بإحدى الدلالات اللفظية الثلاث. ونجده يعرض الافكار المستحدثة ، والتحقيقات المبتكرة ، فتراه يعترض على حصر سقوط التكليف بالاطاعة والعصيان ، ويقول بوجود مسقط ثالث وهو حصول غرض المولى ، موضحا فكرته هذه بالمثال المقنع وها هو يستعرض فكرة الترتب عرضا واضحا على دقتها واستعصائها. ومن التفاتاته وتدقيقاته القيمة توضيحه وابانته لمعنى بعض المصطلحات التي ادى الخلط فيها إلى وقوع المخاصمات والمشاجرات الفارغة لدى كثير من السطحيين ، وهو بهذا يفرق بدقة ويميز بجدارة بين النزاعات اللفظية والمشاحات الاصطلاحية وبين المناقشات العلمية ، فلاحظ ذلك في توضيحه لمصطلح ( الاجتهاد ) وازالة الملابسات التي احيطت به ، وتحديد المعنى المقصود به لدى القدماء والمأخرين. ليجلي بذلك عن وجه الحقيقة وينفض الغبار عنها. لتصبح المسألة مسلمة واضحة لدى الطرفين. وتراه يؤسس الرأي وينفرد به كما فعل ذلك في تفصيله في حجية الاستصحاب. واشتراطه جريان البراءة بشروط مبتكرة ومن خلال استعراض الكتاب يبدو للقارئ تسلط المصنف وإلمامه بالمعقول وهو ما يتطلبه الخوض في غمار (29)
المسائل الاصولية وكشف المغالطات عنها ، وابداء الرأي الصائب فيها. فلاحظ ما سبرته يراعته في بحث اجتماع الامر والنهي من هذا الكتاب.
ومع كل هذا الثقل العلمي الذي افرغه في كتابه هذا ، جاء هذا الكتاب حسن الاسلوب سلس العبارة ، تقرؤه ويراودك الشعور بالارتياح لحسن العبارة وجزالة الالفاظ ، وطراوة البيان. مما يجذب القارئ اليه ويملكه بما لا يدع له خيار مباعدة الكتاب. وقد اتصف هذا الكتاب ـ علاوة على هذا كله ـ بالمزايا والخصائص التالية : 1 ـ قسمة العلم. أولى المصنف إهتماما كبيرا بالقسمة ، وهي أحد الرؤوس الثمانية ، المذكورة في علم المنطق ، التي يستعملها المؤلفون ، ليكون الداخل إلى العلم على بصيرة من أمره. فقد قسم المصنف ـ عمليا ـ مسائل الاصول إلى : لفظية ، وعقلية ، واستعمل هذا التعبير بكثرة ، خاصة فيما يرتبط بالاصول العملية ، وهذا هو المتداول فيما انتهت اليه تحقيقات هذا العلم. واظهر المصنف ذلك بصراحة عندما تعرض لبحث ( مقدمة الواجب ) و( مسألة الضد ) موضحا ضرورة إيرادهما في البحوث العقلية ، إذ أنهما ليسا من باب دلالة اللفظ ، مشيرا إلى عدم استقامة ما هو المألوف عند الاصوليين من ايرادهما في مباحث الالفاظ ، بعد أن كان واقع البحث فيهما إنما هو عن ( الملازمة ) وهي عقلية ، وقد اشرنا إلى هذا فيما تقدم. وكذلك فعل المصنف في مباحث المفاهيم حيث أوردها في فصل التلازم بين الحكمين. واستعمل المصنف مصطلح الحكم الواقعي وما يقابله ، وهو مبتن على هذه القسمة كما لا يخفى. اضف إلى كل هذا ، استناده إلى الادلة العقلية في مناقشاته واستدلالاته بما (30)
يدل على قدرة فائقة وتسلط على فن المعقول.
2 ـ الموضوعية في البحث. لقد اتسم كتاب ( الوافية ) بالموضوعية التامة في علم الاصول ، إذ قلما يلاحظ فيه الشرود إلى مسائل وأبحاث من علوم اخرى. وقد أدى حق التمييز بين المسائل الاصولية وما يقع في دائرة البحث في الكتاب منها ، وبين غيرها ، بدقة فائقة في بداية الكتاب ، بنحو يحدد مسار البحث فيه ، فلاحظ ما ذكره في نهاية المقصد الاول من الباب الاول ، وما ذكره في آخر البحث الثالث من المقصد الثاني من الباب الاول. ومن حيث المصادر التي اعتمدها : فإنا نفاجأ في هذا الكتاب بسعة مراجعته لكل مصنفات الاصول حتى شملت كتب الاصول للمذاهب المختلفة ، فهو ينقل أحيانا عنها جملا ونصوصا مما يدل على مراجعته لها مباشرة ، فقد حكى عن ( التمهيد ) و( الكوكب الدرّي ) للاسنوي ، و( المحصول ) للفخر الرازي ، و( شرح مختصر ابن الحاجب ) لعضد الدين ، و( الاحكام ) للآمدي ، و( شرح جمع الجوامع ) للفاضل الزركشي ، وغيرها. وهذا إنما يدل على سعة افق تفكيره ، وحرية الرأي عنده ، وحسن اختياره ، فإن تأليفا مثل الوافية ـ جامعا مانعا ـ لا يتكون إلا بمثل هذا الاقدام الجرئ. مضافا إلى دلالته على الموضوعية العلمية في البحث ، حيث ان هذا العلم يقع في عداد العلوم الآلية ، فهو منطق الفقه ، فكما ان المنطق يعتبر ميزانا لاصل التفكير ، يحدد مسار الاستدلال ويقومه ، فكذلك علم الاصول بالنسبة إلى الفقه ، لانه يحدد العناصر المؤثرة في صحة الاستدلال الفقهي. ولذا فإن التصنيفات الاصولية لا تتفاوت في العرض والاستدلال والمنهج من مذهب لآخر ، إلا بمقدار الاختلاف بين اللغات من حضارة إلى اخرى ، وهذا لا يؤثر في اصل الهدف المرسوم لعلم الاصول. |
|||
|