الطرق التي سلكها القرآن الكريم
للحث على الإنفاق
وكما قلنا إن الأساليب التي اتخذها القرآن الكريم لحث الفرد على هذه العملية الإنسانية كثيرة وبالامكان بيان ابرز صورها وهي :
1 ـ الترغيب والتشويق إلى الإنفاق .
2 ـ التنأيب على عدم الإنفاق .
3 ـ الترهيب والتخويف على عدم الإنفاق .
1 ـ التشويق إلى الإنفاق والبذل والحث عليه :
ولم يقتصر هذا النوع من التشويق على صورة واحدة بل سلك القرآن في هذا المجال مسالك عديدة وصور لتحبيب الإنفاق صوراً مختلفة :
( 45 )
الصورة الأولى من التشويق :
الضمان بالجزاء
لقد نوخت الآيات التي تعرضت إلى الإنفاق والتشويق له أن تطمئن المنفق بأن عمله لم يذهب سدى ، ولم يقتصر فيه على كونه عملية تكافلية إنسانية لا ينال الباذل من ورائها من الله شيئاً ، بل على العكس سيجد المنفق أن الله هو الذي يتعهد له بالجزاء على عمله في الدنيا وفي الآخرة .
أما بالنسبة الى الجزاء وبيان ما يحصله الباذل ازاء هذا العمل فإن الآيات الكريمة تتناول الموضوع على نحوين :
الأول : وقد تعرضت إلى بيان أن المنفق سيحازيه الله على عمله ويوغفه حقه أما ما هو الحزاء ونوعيته فإنها لم تتعرض لذلك ، بل أوكلته إلى النحو الثاني الذي شرح نوعية الجزاء وما يناله المنفق في الدنيا والآخرة .
1 ـ الآيات التي اقتصرت على ذكر الجزاء فقط :
يقول تعالى :
( وما تنفقوا من خير يوفّ إليكم وانتم لا تظلمون ) (1) .
وفي آية أخرى قال سبحانه :
____________
(1) سورة البقرة | آية : 272 .
( 46 )
( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوّف إليكم وأنتم تظلمون ) (1) .
ويظهر لنا من مجموع الآيتين أنهما تعرضتا لأمرين :
الأول : اخبار المنفق واعلامه بأن ما ينفقه يوقى إليه ، وكلمة ( وفى ) في اللغة تحمل معنيين :
أحدهما : انه يؤدي الحق تاماً .
ثانيهما : انه يؤدي بأكثر .
وقوله سبحانه : « يُوَفَ إليكُم » تشتمل بإطلاقها المعنيين أي يعطى جزاءه تاماً بل بأكثر مما يتصوره ويستحقه والمنفق .
الثاني : تطمين المنفق بأنه لا يظلم إذا أقدم على هذه العملية الإنسانية وهذا تأكيد منه سبحانه لعبده وكفى بالله ضامناً ومتعهداً في الدارين ويستفاد ذلك من تكرار الآية الكريمة وبنفس التعبير في الأخبار بالوفاء ، وعدم الظلم وحاشا له وهو الغفور الرحيم أن يظلم عبداً أنفق لوجهه ، وبذل تقرباً إليه .
هذا النوع من الإطمئنان للمنفق بأنه لا يظلم بل يؤدى إليه حقه كاملاً بل بأكثر .
وفي آية أخرى نرى التطمين من الله عز وجل يكون على شكل آخر فيه نوع من الحساب الدقيق مع المنفقين .
( الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سراً وعلانية فلهم
____________
(1) سورة الانفال | آية : 60 .
( 47 )
أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) (1) .
ولم يتعرض سبحانه لنوعية الجزاء من الأجر بل أخفاه ليواجههم به يوم القيامة فتزيد بذلك فرحتهم .
« ولا خوف عليهم » من فقرٍ ، أو ملامة لأن الله عز وجل هو الذي يضمن لهم ، ثم ممن الخوف ؟
من اعتراض المعترضين ؟ ، وقد جاء في الحديث ( صانع وجهاً يكفيفك الوجوه ) ، أم من الفقر ، ونفاد المال ؟ وقد صرحت الآيات العديدة بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقسم بين الناس معايشهم كما ذكرنا ذلك في الآيات السابقة .
« ولا هم يحزنون » .
وقد ورد في تفسير هذه الآية أنها نزلت في الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « كانت عنده أربع دراهم فانفق بالليل درهماً ، وفي النهار درهماً وسراً درهماً وعلانيةً درهماً » (2) .
وتتفاوت النفوس في الإيمان والثبات فلربما خشي البعض من العطاء فكان في نفسه مثل ما يلقاه المتردد في الاقدام على الشيء .
لذلك نرى القرآن الكريم يحاسب هؤلاء ويدفع بهم إلى الإقدام على الانفاق وعدم التوقف فيقول سبحانه :
( قل إنّ ربّي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما
____________
(1) سورة البقرة | آية : 247 .
(2) الدر المنثور : في تفسيره لهذه الآية .
( 48 )
أنفقتم من شيءٍ فهو يخلفه وهو خير الرازقين ) (1) .
ومع الآية الكريمة فإنها تضمنت مقاطع ثلاثة :
1 ـ قوله : « قل أن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له » .
2 ـ قوله : « وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه » .
3 ـ قوله : « وهو خير الرازقين » .
أولاً :
« قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء » .
ولا بد للعبد أن يعلم أن الرازق هو الله وأن بيده جميع المقاييس والضوابط فالبسط منه والتقتير منه أيضاً وفي كلتا الحالتين تتدخل المصالح لتأخذ مجراها في هاتين العمليتين ، وليس في البين أي حيف وميل بل رحمة وعطف على الغني بغناه ، وعلى الفقير بفقره فكلهم عبيده وعباده وحاشا أن يرفع البعض على اكتاف الآخرين .
أما ما هي المصالح ؟ .
فأن علمها عند الله وليس الخفاء فيها يوجب القول بعدم وجودها .
وفي الحديث عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) إن الله سبحانه يقول :
____________
(1) سورة سبأ | آية : 39 .
( 49 )
« عبدي أطعني بما أمرتك ولا تعلمني ما يصلحك » .
ثانياً :
« وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه » .
فعن جابر عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قوله :
« كل معروف صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو صدقة ، وما انفق المؤمن من نفقة فعلى الله خلفها ضامناً » (1) .
ثالثاً :
« وهو خير الرازقين » .
أما أنه خير الرازقين فلأن عطاءه يتميز عن عطاء البشر .
عطاؤه يأتي بلا منة .
وعطاء البشر مقرون بمنة .
وعطاؤه من دون تحديد نابع عن ذاته المقدسة الرحيمة الودودة التي هي على العبد كالأم الرؤوم بل وأكثر من ذلك ، وعطاء البشر محدود .
وكذب من قال انه محدود العطاء :
( بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) (2) .
وقد جاء عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) :
____________
(1) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية .
(2) سورة المائدة | آية : 64 .
( 50 )
« ان يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سخاء بالليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه » (1) .
وقد جاء الوعد بالجزاء فقط في آيات أخرى فقد قال سبحانه :
( وما تنفقوا من خير فأنّ الله به عليم ) (2) .
( وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فأن الله يعلمه ) (3) .
( وما تنفقوا من شيء فأن الله به عليم ) (4) .
وقد فسر قوله « عليم » أو « يعلمه » بالجزاء لأنه عالم فدل ذكر العلم على تحقيق الجزاء .
وفي تفسير آخر للآيات الكريمة أن معنى عليم أو يعلمه في هذه الآيات أي يجازيكم به قل أو كثر لأنه عليم لا يخفى عليه شيء من كل ما فعلتموه وقدمتموه لوجهه ولمرضاته عز وجل .
2 ـ الآيات التي تطرقت لنوعية الجزاء :
يختلف لسان الآيات بالنسبة لبيان نوعية الجزاء فهي تارة : تذكر الجزاء ولا ذكر فيه للجنة .
وأخرى : تذكر الجنة وتبشر المنفق بأنها جزاؤه .
وما ذكر فيه الجنة أيضاً جاء على قسمين :
____________
(1) الدر المنثور في تفسيره لهذه الآية .
(2) سورة البقرة | آية : 273 .
(3) سورة البقرة | آية : 270 .
(4) سورة آل عمران | آية : 92 .
( 51 )
فمرة : نرى الآية تقتصر على ذكر الجنة جزاء .
وثانية : تحبب إلى المنفق عمله فتذكر الجنة وما فيها من مظاهر تشتاق لها النفس كالانهار والاشجار وما شاكل .
ومن الأجمال الى التفصيل :
يقول سبحانه :
( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ) (1) .
« إنما المؤمنون » إنما أداة حصر تفيد أن ما بعدها هم المؤمنون هؤلاء الذين عددت الآية الكريمة صفاتهم وهم الذين جمعوا هذه الصفات .
وكانت صفة الانفاق من جملة مميزات المؤمنين وصفاتهم التي بها نالوا هذا التأكيد من الله سبحانه بقوله :
( أولئك هم المؤمنون حقاً ) (2) .
أما ما أعد لهم من جزاء فهو :
« درجات عند ربهم » وهي الحسنات التي استحقوا بها تلك المراتب العالية .
____________
(1) سورة الانفال | آية : 2 ـ 4 .
(2) سورة الانفال | آية : 4 و 74 .
( 52 )
« ومغفرة » لذنوبهم من غير حساب على ما فعلوه في هذه الدنيا من مخالفات .
« ورزق كريم » : وهو رزق لا يصيبه ضرر ولايخاف من نقصانه لأنه من الله جلت عظمته ، وما كان من الله ينمو وتكون فيه البركة فهو رزق طيب ومن كريم .
وفي آية كريمة أخرى يقول عز وجل :
( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات ـ إلى قوله تعالى ـ أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ) (1) .
« والمتصدقين والمتصدقات »
هؤلاء من جملة من أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم جزاء على هذه الصفة وهذا الشعور التعاطفي بالنحو على الضعيف .
وأما الأيات التي ذكرت الجنة جزاء للمنفق فمنها قوله تعالى :
( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقب الدار * جنات عدن يدخلونها ) (2) .
____________
(1) سورة الأحزاب | آية : 35 .
(2) سورة الرعد | آية : 19 ـ 23 .
( 53 )
يقف الإنسان عند هذه الآيات وهو يرتلها بخشوع ليلحظ من خلالها إنها فرقت بين صنفين من الناس كافر ، ومؤمن ، وقد وصفت الكافر أنه « أعمى » لا يتذكر ولا ينفع معه شيء .
أما المؤمن ، وهو من يتذكر فأنه ينظر بعين البصيرة ، وقد شرعت ببيان أوصاف هؤلاء المؤمنين ، ومن جملة صفاتهم أنهم الذين ينفقون مما رزقناهم سراً وعلانيةً .
في السر : فأنما هي لرعاية الفقير وحفظ كرامته لئلا يظهر علية ذل السؤال .
ويحدثنا التاريخ عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) إنهم كانوا إذا أرادوا العطاء أعطوا من وراء ستار حفاظاً منهم على عزة السائل وكرامته ، وتنزيهاً للنفس لئلا يأخذ العجب والزهو فتمن على السائل بهذا العطاء فيذهب الأجر .
أما في العلانية : فإنما هو لتشجيع الأخرين على التسابق على الخير والاحسان أو لدفع التهمة عن النفس لئلا يرمى المنفق بالبخل والامتناع عن هذا النوع من التعاطف الإنساني .
أما جزاؤهم : فهو العاقبة الحسنة ، وأن لهم الجنة جزاء قيامهم بهذه الأعمال وتفقدهم لهؤلاء الضعفاء في جميع الحالات سراً وعلانيةً .
وفي آيات أخرى نرى القرآن لا يقتصر على ذكر الجنة فقط كجزاء للمنفق بل يتطرق لبيان ما فيها وما هي ليكون ذلك مشوقاً للمنفق في أن يقوم بهذه الأعمال الخيرة لينال جزاءه في الآخرة .
( 54 )
قال تعالى :
( وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةِ عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) (1) .
وقال جلت عظمته :
( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنا إننا آمنا فأغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ) (2) .
وقد تضمنت الآيات نحوين من الجزاء :
الأول : جزاء حسي .
الثاني : جزاء روحي .
أما الجزاء الحسي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :
« جنة عرضها السماوات والأرض » .
وفي الآية الثانية فيتمثل بقوله تعالى :
« جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة » .
وتأتي هذه الصفات أو المشوقات للجنة من كونها بهذا الحجم الواسع عرضاً فكيف بالطول لأن العرض غالباً يكون أقل من الطول ،
____________
(1) سورة آل عمران | آية : 133 ـ 134 .
(2) سورة آل عمران | آية : 15 ـ 16 ـ 17 .
( 55 )
ومن أن فيها الأشجار ، ومن تحت تلك الأشجار الأنهار الجارية وفيها أزواج ، وتلك الأزواج مطهرة من دم الحيض والنفاس ، ومن كل الأقذار والقبائح وبقية الصفات الذميمة .
تأتي كل هذه الصفات مطابقة لما تشتهيه النفس ، وما اعتادت على تذوقه في الدنيا من مناظر الأشجار والأنهار والنساء وأن ذلك غير زائل بل هو باقٍ وكل هذه الأمور محببة للنفس وقد استحقها المنفق جزاء تعاطفه وإنفاقه في سبيل الله ونيل مرضاته جلت عظمته .
أما الجزاء الروحي : فيتمثل بقوله تعالى في الآية الأولى :
« والله يحب المحسنين ) .
« ورضوان من الله » .
رضا الله ومحبته له والتفاته وعطفه كل هذه غاية يتوخاها الإنسان يبذل بأزائها كل غالٍ ونفيس ، وما أسعد الإنسان وهو يرى نفسه محبوباً لله سبحانه راضياً عنه .
على أن في الأخبار بالرضا والمحبة في آيتين تدرجاً ظاهراً وواضحاً فإن المحبة أمر أعمق من مجرد الرضا وواقع في النفس من ذلك .
وصحيح ان الانسان يسعى جاهداً ويقوم بكل عبادة ليحصل على رضا الله ، ولكن محبة الله له هي معنى له تأثيره الخاص في النفس .
ان عباد الله المؤمنين يشعرون بهذه اللذة وهذه الراحة النفسية عندما يجد الفرد منهم أنه مورد عناية الله في توجهه إليه .
( 56 )
الصورة الثانية من التشويق :
جعل المنفقين من المتقين أو المؤمنين
ويتحول القرآن الكريم إلى إعطاء صورة أخرى من صور التشويق للانفاق والبذل والعطاء فنراه يرفع من مكانة هؤلاء المحسنين ، ويجعلهم بمصاف النماذج الرفيعة من الذين اختارهم وهداهم إلى الطريق المستقيم .
ففي آية يعدّهم من أفراد المتقين ، وفي أخرى من المؤمنين ، وفي ثالثة يقرنهم بمقيم الصلاة ، والمواظبين عليها ، وهو تعبير يحمل بين جنباته بأن هؤلاء من المطيعين لله والمواظبين على امتثال أوامره يقول سبحانه عز وجل :
( ذلك الكتاب لاريب فيه هداً للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) (1) .
ومن خلال هذه الآية نلمح صفة الإنفاق وما لها من الأهمية بحيث كانت إحدى الركائز الثلاثة التي توجب إطلاق صفة المتقي على الفرد .
____________
(1) سورة البقرة | آية : 2 ـ 3 .
( 57 )
فمن هم المتقون ؟ .
ويأتينا الجواب عبر الآية الكريمة بأنهم :
« الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون » .
« يؤمنون بالغيب » :
يؤمنون بما جاء من عند الله من أحكامه وتشريعاته وما يخبر به من المشاهد الآتية من القيامة والحساب والكتاب والجنة والنار وما يتعلق بذلك من مغيبات يؤمنون بها ، ولا يطلبون لمثل هذا الايمان مدركاً يرجع إلى الحس والنظر والمشاهدة بل تكفيهم هذه الثقة بالله وبما يعود له .
« ويقيمون الصلاة » :
فمنهم في مقام اداء فرائضهم مواظبون ولا يتأخرون ويتوجهون بعملهم إلى الله يطلبون رضاه ، ولا يتجهون إلى غيره ، يعبدونه ولا يشركون معه أحداً ، وأداء الصلاة هو مثال الخضوع والعبودية بجميع الأفعال ، والأقوال . يقف الفرد في صلاته خاشعاً بين يدي الله ويركع ويسجد له ، ويضع أهم عضو في البدن وهو الجبهة على الأرض ليكون ذلك دليلاً على منتهى الاِطاعة والخضوع ، ويرتل القرآن ليمجده ويحمده ويسبحه ويهلله فهي إذاً مجموعة أفعال وأقوال يرمز إلى الاذعان لعظمته ، والخضوع لقدرته وبذلك تشكل عبادة فريدة من نوعها لا تشبهها بقية العبادات .
« ومما رزقناهم ينفقون » :
كل ذلك من الجوانب الروحية ، وأما من الجوانب المالية ،
( 58 )
فإن المال لا يقف في طريق وصولهم إلى الهدف الذي يقصدونه من الاتصال بالله فهم ينفقون مما رزقناهم غير آبهين به ولا يخافون لومة لائم في السر والعلن ، وفي الليل والنهار كما حدّث القرآن الكريم في آيات أخرى مماثلة .
هؤلاء هم المنفقون الذين كات الاِنفاق من جماة مميزاتهم ، وقد مدحهم الله جلت قدرته بقوله :
( أولئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون ) (1) .
« هدىً من ربهم » :
بلى : هدى وبصيرة فلا يضلون ولا يعمهون في كل ما يعود إلى دينهم ودنياهم . « وأولئك هم المفلحون » :
بكل شيء مفلحون في الدينا بما ينالهم من عزٍ ورفعة لأنهم خرجوا من ذل معصية الله إلى عز طاعته تماماً كما يقول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
« إذا أردت عز بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعته » (2) .
ومفلحون في الآخرة التي وعدهم بها كما جاء ذلك في آيات عديدة من كتابه الكريم .
ولم يقتصر الكتاب على هذه الآية في عد الانفاق من جملة صفات المتقين بل درج مع الذين ينفقون من المتقين حيث قال سبحانه :
____________
(1) سورة البقرة | آية : 5 .
(2) من كلماته ( عليه السلام ) في نهج البلاغة .
( 59 )
( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات و الأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) (1) .
ومن خلال هذه الآية نرى الأهمية للإنفاق تبرز بتقديم المنفقين على غيرهم من الأصناف الذين ذكرتهم الآية والذين أعدت لهم الجنة من الكاظمين والعافين .
هؤلاء المنفقون الذين لا يفترون عن القيام بواجبهم الإجتماعي في حالتي اليسر والعسر في السراء والضراء يطلبون بذلك وجه الله والتقرب إلى ساحته المقدسة .
وعندما نراجع الآية الكريمة في قوله تعالى :
( آلم * تلك آيات الكتاب الحكيم * هدىً ورحمة للمحسنين * الذبن يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالأخرة هم يوقنون * أولئك على هداً من ربهم وأولئك هم المفلحون ) (2) .
نرى نفس الموضوع تكرره الآية هنا ، ولكن في الآية السابقة قالت عن المنفق بأنه من المتقين ، وهنا من المحسنين .
وفي الآية السابقة الانفاق بكل ما ينفق وهنا عن الانفاق بالزكاة ، فالنتيجة لا تختلف كثيراً ، والصورة هي الصورة نفسها إنفاق من العبد ، وتشويق من الله ، ومدح له بنفس ما مدح المتقي سابقاً .
____________
(1) سورة آل عمران | آية : 133 ـ 134 .
(2) سورة لقمان | آية : 1 ـ 5 .
( 60 )
والحديث في الآيتين عن المتقين والمحسنين ، ومن جملة صفاتهم الإنفاق وأداء ما عليهم من الواجب الإجتماعي المتمثل في الإنفاق التبرعي ، أو الإلزامي ، وقد قال عنهم في نهاية المطاف بنفس ما مدح به المتقين في الآية السابقة .
( أولئك على هداً من ربهم وأولئك هم المفلحون ) (1) .
وفي وصف جديد في آية كريمة أخرى يصفهم الله بأنهم من المخبتين .
( وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) (2) .
« والمخبتون » هم المتواضعون لله المطمئنون إليه .
وعندما شرعت الآية بتعدادهم قالت عنهم :
« الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم » .
انها النفوس المطمئنة التي إذا ذكر الله ، ـ وذكر الله هنا التخويف من عقابه وقدرته وسطوته ـ وجلت قلوبهم أي دخلها الخوف ولكنه خوف مشوب برجاء عطفه ورحمته .
ولا يأس معه من روح الله لأنه :
( لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون (3) .
____________
(1) سورة لقمان | آية : 5 .
(2) سورة الحج | آية : 34 ، 35 .
(3) سورة يوسف | آية : 87 .