صفات ممدوحة في المنفق
1 ـ صدقة السر :
من شروط الأنفاق : ينتقل القرآن الكريم إلى أدب العطاء ، فنجد فيما يخص الموضوع آية واحدة توجه المنفق إلى كيفية العطاء بما يضمن له ثواباً أكثر فيما لو كانت عطيته على النحو الذي بينته الآية الكريمة في قوله تعالى :
( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير ) (1) .
وطبيعي أن يكون العطاء الى المحتاج سراً أفضل من الاعلان به . . . وذلك لأن صدقة السر تحقق أهدافاً ثلاثة بينما صدقة العلن لا تحقق إلا هذفاً وحداً .
أما الأهداف التي تحققها صدقة السر فهي :
أولاً : عطاء من المنفق إلى الفقير وإصَّال خيرٍ له ، به يُسدُّ حاجته .
____________
(1) سورة البقرة | آية : 271 .
( 153 )
ثانياً : ان صدقة السر بعيدة عن الرياء إذ الرياء إنما يتحقق مع الإظهار والإعلان بالشيء ، أما مع الإخفاء فلا معنى للرياء لعدم إطلاع أحد على العطاء غير الفقير ، وبذلك تسلم عملية الإنفاق من الشوائب غير المحبوبة .
ثالثاً : إن صدقة السر تحفظ الفقير كرامته ، ولا تجرح شعوره إذ الكثير من الناس لا يقبلون أن تهدر كرامتهم ولو كان ذلك من طريق الإحسان إليهم ، فلا يريدون أن يعرف عنهم أنهم بحاجة وعَوَز ولذلك قالت عنهم الآية الكريمة :
( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ) (1) .
كل هذه المميزات لا نجدها متوفرة في صدقة العلن لأحتمال أن يصاحبها الرياء ـ وفي الوقت نفسه ـ قد يتضايق منها الفقير فيما لو كان غير راغبٍ بأن يفهم الناس عنه بأنه محتاج وفقير ـ كما قلنا ـ .
هذا هو الفارق بين الصدقتين : صدقةِ السر ، وصدقةِ العلن .
مضافاً إلى أنه قد وردت أخبار كثيرة في فضل صدقة السر ، وأنها تحقق أهدافاً عديدةً :
منها : أنها تطفىء غضب الرب ، وتطفيء الخطيئة ، وتنفي الفقر وتزيد في العمر ، وتدفع سبعين ميتةَ سوء ، وتدفع سبعين باباً من البلاء .
وقد جاء عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قوله :
« سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله ـ إلى أن قال ـ :
____________
(1) سورة البقرة | آية : 273 .
( 154 )
ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لم تعلم يمينه ما تنفق شماله » (1) .
وهذا الرجل بهذه النفسية الطيبة يخفي عطاءه حتى لا يعلم به أحد ، وهو واحد من السبعة الذين يظلهم الله يومن القيامة ، وعطاؤه يطفيء غضب الرب ـ وفي الوقت نفسه ـ محبوب لله .
هذا الرجل لماذا نال هذه الدرجات ؟
ويأتي الجواب واضحاً بأنه حصل على كل ذلك لأنه ستر أخاه المؤمن ، وحفظ له كرامته ، ولم يجرح عواطفه .
ومن الواضح أن الله يحب الساترين ، ويمنحهم الثواب ويجزل لهم العطاء .
وقد سار أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) على هذا النهج ، فكانوا يخفون عطاءهم فإذا ضرب الليل باجنحته ، ولف المدينة بظلامه الدامس قاموا ليتفقدوا البؤساء ، والمحتاجين يطرقون أبواب الفقراء ليوصلوا لهم الطعام ، والكساء ، والنقود .
وسنتطرق إلى هذا الموضوع بشكل أوسع في فصل قادم .
« وقد اختلفوا في الصدقة التي يكون إخفاؤها أفضل فهل هي الصدقة الواجبة أم المستحبة ؟
فقيل : صدقة التطوع إخفاءها أفضل لأن إخفاءها يبعدها عن الرياء ، وأما المفروضة فلا يدخلها الرياء ، بل على العكس لوأخفاها الإنسان للحقته تهمة منع الحق المفروض فإظهارها أفضل من
____________
(1) وسائل الشيعة ـ 6 : 275 ـ 276 .
( 155 )
التستر بها » .
يقول الإمام أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) موضحاً هذا المعنى :
« الزكاة المفروضة تخرج علانية ، وتدفع علانية ، وغير الزكاة إن دفعه سراً أفضل ، وقيل الأخفاء في كل صدقة من زكاة ، وغيرها أفضل » (1) .
أما إذا رجعنا إلى القرآن الكريم فإن الآية الكريمة مطلقة لا تفصل بين الصدقتين الواجبة والتطوعية بل تقول :
« وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم » .
ونظراً لإطلاق هذه الآية والتفصيلات في الأخبار كما عرفت فقد خرج الفقهاء بالنتيجة التالية :
وهي أن مطلق الصدقة زكاة كانت أو غيرها من الصدقات المستحبة إخفاؤها أفضل من اعلانها لما بيناه من وجود الفائدة في الإخفاء .
ولكن إذا كان الإخفاء موجباً لاتهام الإنسان بعدم إخراج الزكاة ، أو برمية بالبخل والشح ، أو كان المنفق يقصد من وراء إظهار الصدقة تشجيع الآخرين ، وتعويدهم على فعل الخير وإنعاش هؤلاء الضعفاء المحرومين ففي مثل هذه الموارد لا بد من الاعلان للأسباب المذكورة ، أما إذا لم يحصل شيء من ذلك فإن الأخفاء أفضل نظراً لما يحققه من الأهداف السامية ـ كما بينا ذلك ـ .
____________
(1) لاحظ مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية .
( 156 )
2 ـ الإيثار على النفس :
من الصفات الممدوحة التي يرغب الله أن يتحلى بها المنفق هي ما ذكرته الآية الكريمة في قوله سبحانه :
( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) (1) .
نفوس خيرة مؤمنة تتوجه إلى خالقها في كل صغيرة ، وكبيرة لتكسب رضاه ، ولتوطد العلاقة معه .
نفوس آمنت بربها فتسابقت إلى العمل بما يرضيه فقالت عنهم الآية الكريمة :
« ويؤثرون على أنفسهم » .
والإيثار : هو احتساب الشيء ،وتقديمه علىماسواه في الوقت الذي تكون حالة مثل هؤلاء الأشخاص كما عبرت عنهم الآية :
« ولو كان بهم خصاصة » .
والخصاصة : هي الحاجة ، والاملاق فإذا كان الإيثار على النفس مع الحاجة الشديدة الملحة فإن ذلك غاية ما يتصور في تحلي الواحد من هؤلاء بالخلق الرفيع .
ومن هم هؤلاء الذين ذكرهم القرآن ، وأهاب بنفوسهم الرفيعة ؟
يقول المفسرون : هؤلاء قوم اكلهم الفقر ، فكانوا بأشد الحاجة إلى المال ولكنهم مع ذلك حفظوا أنفسهم ، وقدموا ما
____________
(1) سورة الحشر | آية : 9 .
( 157 )
عندهم من المال إلى السائل ؛ والمسكين يبتغون بذلك رضا الله ، والتقرب إليه ، فوصفهم سبحانه بأنهم « المفلحون » فقال في نهاية الآية المذكورة :
« فأولئك هم المفلحون » .
وهم الفائزون بما وعدهم به من الثواب الجزيل .
وقد قيل في سبب نزول هذه الآية « أن رجلاً جاء الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : أطعمني فإني جائع ، فبعث النبي إلى أهله فلم يكم عندهم شيء فقال : من يضيفه هذا الليلة ؟ فأضافه رجل من الأنصار ، وأتى به إلى منزله ولم يكن عنده شيء إلا قوت صبية له ، فأتوا بذلك إليه ، وأطافؤا السراج ، وقامت المرأة إلى الصبية ، فعللتهم حتى ناموا ، وجعلا يمضغان لسانيهما لضيف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف ، وباتا طاويين فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله فنظر إليهم ، وتبسم ، وتلا عليهم هذه الآية :
وقد عقب الشيخ الطبرسي في تفسيره على هذه الآية بقوله :
« وأما الذين رويناه بإسناد صحيح عن أبي هريرة إن الذي أضافه وأنام الصبية وأطفأ السراج هو علي بن أبي طالب وفاطمة ( عليهما السلام ) (1) .
لقد أضاف الإيثار المذكور ثواباً آخر إلى ثواب الإنفاق نفسه ، وبذلك حصل المنفق الذي آثر غيره عليه على ثوابين :
ثواب على عطائه وإنفاقه لوجه الله سبحانه .
وثواب على إيثاره غيره على نفسه .
____________
(1) مجمع البيان : الموضع السابق .
( 158 )
الذين يسخرون من المتصدقين :
كما توجد نفوس مؤمنة خيرة تتجه إلى خالقها للتقرب إليه كذلك توجد نفوس شريرة همّها النفاق ، والبعد عن ساحة الله ، ورضوانه .
وهذا القسم الثاني عندما نلاحظ أعمالهم في المجتمع نجدهم لا هم لهم إلا العبث ، والشغب ، وإيذاء المنفقين بالسخرية منهم على إنفاقهم وهؤلاء هم المنافقون الذين يعيبون على المنفقين إنفاقهم ، ويطعنون في عملهم ويؤولون ذلك على حسب ما تشتهيه نفوسهم القذرة .
في هؤلاء يقول سبحانه :
( الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ) (1) .
وفي سبيل نزول هذه الآية « قيل أن عبد الرحمن بن عوف جاء الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) بصرةٍ من دراهم تملأ الكف ، وأتاه عتبة بن زيد الحارثي بصاع من تمر وقال : يا رسول الله : عملت في النخل بصاعين فصاعٌ تركته لأهلي ، وصاع أقرضته ربي .
فقال : معتب بن قشير ، وعبد الله بن بنثل إن عبد الرحمن بن عوف رجل يحب الرياء ، ويبتغي الذكر بذلك ، وإن الله غني عن الصاع من التمر ، فعابوا المكثر بالرياء ، والمقل بالاملاق (2) .
____________
(1) سورة التوبة : آية | 79 .
(2) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية .
( 159 )
أن الحقد الدفين يظهر من خلال هذا العيب فلا المكثر في الصدقة مقبول في نظرهم ، ولا المقل بل هم في دوامة من السرخية لمن تطوع بالصدقة . . . لذلك رد الله سخريتهم بقوله سبحانه :
« سخر الله منهم » .
وطبيعي أن سخر الله هي : أن كتب لهم نار جهنم خالدين فيها ولهم عذاب اليم .
3 ـ عدم رد السائل :
هذه صفة ممدوحة من صفات المنفق وهي : قبول السائل وعدم رده .
يقول الخبر عن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) :
« إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما منع سائلاً قط إن كان عنده أعطى وإلا قال : يأتي الله به » (1) .
وجاء فيما ناجى الله به موسى بن عمران ( عليه السلام ) أنه قال :
« يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو بردٍ جميل » (2) .
كل ذلك لئلا يخرج السائل كسير القلب مردوداً من قبل المعطي .
ثم من يدري فلعل عملية السؤال تكون امتحاناً من الله للمنفق ليراه الله ويكشف عما تجيش به نفسه من حبه للخير للجميع بغض
____________
(1 و 2) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية .
( 160 )
النظر عن الفقير ، أو من كانت نفسه غيره طيبة ، ويتحلى بضعف بحيث يرضى لنفسه أن ينزل إلى مثل هذا المستوى الضحل من الذل والإنكسار وقد جاء عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قوله :
« ردوا السائل ببذل يسير وبِليْنٍ ورحمة فأنه يأتيكم حتى يقف على بابكم من ليس بإنس ولا جان ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله » (1) .
وفي حديث آخر عنه ( صلى الله عليه وآله ) ان السائل قد يصرح ويقول :
« انني رسول من الله لأبلوك فوجدتك شاكراً فجزاك خيراً » (2) .
مشكلة التسول :
سبق لنا أن بينا في مقدمة الكتاب أن موضوع بحثنا هو الفقير العاجز لا الفقير المتسول الذي يتخذ من التكفف وملاحقة الناس مكسباً له فإن إعطاء مثل هذا المتحرف تشجيع على البطالة ، والاحتيال على جيوب الناس ومضايقتهم في أغلب الأوقات ومثل هذا الشخص يبغضه الله ـ وسنتعرض فيما سيأتي ـ إلى ذكر بعض الأحاديث التي صرحت بأن السائل لو لم يكن فقيراً ، ومد يده يتكفف ، فكأنما يتناول الخمر ، أو أن جزاءه النار ، أو يأتي يوم القيامة مخموش الوجه .
وقد يرد السؤال عن التوفيق بين هذه الأخبار التي يظهر منها بغض الله سبحانه للسائل ، وبين الأخبار المتقدمة التي تقول : إن
____________
(1 و 2) لاحظ لهذه الأخبار وسائل الشيعة 6 | 292 .
( 161 )
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ما منع سائلاً قط ، أو ما جاء في مناجاة لله لموسى بن عمران من قوله تعالى :
« يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو ببردٍ جميل » .
لأن الأخذ بظاهر هذه الأخبار إكرام السائل بإعطائه أو برده رداً جميلاً لو لم يكن المعطي يرغب في إعطائه ، ومعنى ذلك تشجيع السائل على التسول لأنه يجد فيه مرتعاً خصباً ، ومكسباً يدر عليه المال ، فهو اينما يتوجه يجد فيه مرتعاً خصباً ، ومكسباً يدر عليه المال ، فهو اينما يتوجه يجد من يكرمه ولا يرد له طلباً .
والجواب عن ذلك : أن الأخبار لم تأمرنا باعطاء المال على كل حال بل خيرت المعطي بين الإعطاء والرد وحينئذٍ فإن عرف حال السائل ، وأنه متسول رد رداً جميلاً أما لو كان محتاجاً ، وفقيراً ، أكرم ، وأعطى .
على أن هذه الأخبار ، وإن أطلق فيها لفظ السائل الشامل لكليهما المتوسل المحترف والمحتاج الحقيقي إلا أن الأخبار المصرحة : بأن النار جزاء المتسول تقيد إطلاق تلك الأخبار فتكون النتيجة : عدم رد السائل الواقعي ، ورد السائل المحترف طبقاً لأخبار التقيد ، وبذلك تنحل مشكلة التسول .
4 ـ التماس الدعاء من السائل :
بذلك صرحت بعض الأخبار تبين بأن دعوة السائل في حق المنفق تستجاب لذلك نرى الأئمة ( عليهم السلام ) يحثون المنفق أن يطلبوا ممن يسألهم حاجة أو شيئاً من المال أن يدعو لهم .
وبهذا الصدد نرى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يقول :
( 162 )
« إذا ناولتم السائل شيئاً فاسألوه أن يدعو لكم » (1) .
وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) أن علي بن الحسين ( عليه السلام ) قال :
« ما من رجل تصدق على مسكين مستضعف ، فدعا له المسكين بشيء تلك الساعة إلا استجيب له » (2) .
ويقول الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في حديث له :
« دعوة السائل الفقير لا ترد » (3) .
وقد تكرر هذا الارشاد منهم ( صلوات الله عليهم ) في حق المعطين ، وان يطلبوا من السائل الدعاء لأنهم يستجاب في حقهم حيث نبه على هذا المعنى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) في حديث آخر له فقال :
« إذا اعطيتموهم فلقنوهم الدعاء فإنه يستجاب بهم فيكم ولا يستجاب لهم في أنفسهم » (4) .
5 ـ عدم الرجوع في الصدقة :
ومن أدب العطاء أن لا يرد المعطي الصدقة إذا أخرجها ليعطيها إلى الفقير فليس من المستحسن أن يردها من غير فرق في السبب بين أن يكون السائل قد رفضها ، أو لم يجد سائلاً ، أو ما شاكل ذلك من الأسباب .
يقول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
____________
(1 و 2 و 3) وسائل الشيعة ـ 6 | 294 ـ وما بعد .
(4) وسائل الشيعة 6 | 296 | 294 | 295 .
( 163 )
« من تصدق بصدقة فردت عليه ، فلا يجوز له أكلها ولا يجوز له إلا انفاقها إنما منزلتها بمنزلة العتق لله ، فلو أن رجلاً أعتق عبداً لله ، فرد ذلك العبد لم يرجع في الأمر الذي جعله لله فكذلك لا يرجع في الصدقة » (1) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) عندما سئل عن رجل يخرج بالصدقة ليعطيها السائل فيجده قد ذهب فقال :
« فليعطها غيره ، ولا يردها في ماله » (2) .
إن الأمر بعدم ارجاع الصدقة يجسد لنا الحرص الشديد على أن يبقى الثواب الذي حصل عليه المعطي مجرداً له فلا يفوت ما حصل عليه بإرجاع الصدقة ، بل يبقيها لينال ثوابه .
____________
(1 و 2) وسائل الشيعة 6 | 296 | 294 | 295 .
( 164 )
صفات ممدوحة في الفقير
1 ـ أغنياء من التعفف :
« للفقراء الذي أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم » (1) .
مع الآية في مقاطعها :
« للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله » .
الحصر : هنا بمعنى المنع ، ويقول المفسرون : أن الآية الكريمة تحدثت عن مجموعة من الفقراء كانوا في المدينة ، وهم من أهل الصفة ، وأهل الصفة فقراء يتواجدون حول المسجد النبوي ، أو أمامه في رحبته خارج المسجد حسبوا أنفسهم عن العمل للمعاش .
وقد اختلفوا في سبب هذا الحبس .
فقيل : أنهم فعلوا ذلك لأنهم هيأوا أنفسهم للجهاد خوفاً من الكفار .
____________
(1) سورة البقرة | آية : 273 .
( 165 )
وقيل : إن بعضهم منعه المرض من الكسب ، والتجارة .
وقيل : إنهم انصرفوا للعبادة .
وقيل : غير هذا ، وذاك من الأسباب .
إلا أن الذي لا خلاف فيه هو أن هؤلاء لم يستطيعوا العمل ، والكسب ، وهو المقصود بقوله تعالى :
« لا يستطيعون ضرباً في الأرض » .
هؤلاء الفقراء لشدة تحملهم ، وظهورهم بالمظهر اللائق الذي يحفظ لهم كرامتهم ، وعزتهم ، وعدم مد يد الذل الى الغير هو الذي جعلهم أغنياء في نظر الناس ممن يجهل حالهم ، وإنما عرفوا مما بدأ عليهم ، وظهر من آثار الجوع ، أو رداءة الملبس وإلا فانهم يحملون بين جوانبهم قلوباً ملؤها الإيمان بالله ، ونفوسا أبية تأبى أن تلوي جيداً لغير الله سبحانه .
« لا يسألون الناس إلحافاً » .
أي وعلى فرض طلبهم وسؤالهم من الناس لو الحت الحاجة بشكل اضطرهم الى السؤال فإنهم يسألون بهدوء ، وبرفق يتناسب مع ما هم عليه من التعفف وما يتحلون به من رفعة ، وإباء .
وليأخذ الفقراء من هذه الآية درساً قيماً يكيفون به أوضاعهم على نحو ما ترسمه من التحدث عنهم ، وليثقوا بأن الله هو الرازق ، وهو المقدر ، وأنه لا يضيع من يتكل عليه .
2 ـ دعاء السائل للمنفق وحمده لله :
صحيح أن المعطي يعطي لوجه الله ، والتقرب إليه ، ولكن لا
( 166 )
ينافي ذلك أن يجد المنفق من السائل تجاوباً على عطيته ، فيقابله بالشكر لله ، والدعاء له وبذلك يقوم برد بعض الجميل له ، ولعل ذلك يكون تشجيعاً للمعطي فيكرر العطاء له ، أو لغيره من المحتاجين .
نستفيد كل ذلك من الحديث الذي يحدثنا به أحد الرواة قائلا :
« كنا عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) بمنى ، وبين أيدينا عنب نأكله ، فجاء سائل فسأله فامر له بعنقود فأعطاه فقال السائل : لا حاجة لي في هذا إن كان درهم فقال : يسع الله عليك ، ولم يعطه شيئاً فذهب ، ثم رجع فقال : ردوا العنقود فقال : يسع الله عليك ، ولم يعطه شيئاً ، ثم جاء سائل آخر فأخذ أبو عبد الله ( عليه السلام ) ثلاث حبات عنب ، فناولها إياها فأخذها السائل من يده ثم قال : الحمد لله رب العالمين الذي رزقني .
فقال أبو عبد الله : مكانك فحثا ملأ كفيه عنباً ، فناولها إياه ، فأخذها السائل من يده ثم قال : الحمد لله رب العالمين . فقال أبو عبد الله : مكانك يا غلام أي شيء معك من الدراهم ؟ فإذا معه نحو من عشرين درهماً أو نحوها فناولها إياه ، فأخذها ثم قال : الحمد لله ، هذا منك وحدك لا شريك لك فقال أبو عبد الله : مكانك ، فخلع قميصاً كان عليه فقال : ألبس هذا ، فلبس ، ثم قال : الحمد لله الذي كساني ، وسترني يا أبا عبد الله . أو قال : جزاك الله خيراً ثم إنصرف وذهب » (1) .
لنقف مع هذه الرواية وندفع عنها ما يرد عليها من إشكال مفاده :
____________
(1) وسائل الشيعة ـ 6 | 272 .
( 167 )
ما يقال : من أن الإمام كيف يرد السائل الأول لمجرد أنه لم يرغب في أخذ عنقود من العنب بل أراد درهماً ، وما يدرينا ، فلعل السائل كان محتاجاً الى المال لا للعنب فما معنى رد الإمام له ، ولا أقل أن نطلب من الإمام ( عليه السلام ) أن يسأل عن سبب رد السائل العنب ، وطلبه الدرهم ؟
والجواب عن هذا الأشكال : بأن الإمام الصادق ( عليه السلام ) ربما كان يقصد من هذا الرد للسائل أن يعطي درساً لمن حضر ، ولمن يصله الخبر في أدب السؤال ، وذلك بتنبيه السائل بأن أدب السؤال يقتضي عدم رد العنب لأن رده تحقير للمنفق على عطائه ، بل كان أدب السؤال يقضي بقول الهدية ، ثم المطالبة بالمال واظهار الحاجة له أما هذه المقابلة بالرد فإنها غير مستساغة .
وعلى العكس من السائل الأول نرى السائل الثاني بقبوله لحبات العنب الثالثة وحمده لله على الرزق حفز الإمام على الزيادة بالعطاء ، وكرر السائل الحمد فكرر الإمام العطية ، وعاد السائل يحمد الله سبحانه فعاد الإمام بالمال ، وحمد السائل مجدداً فخلع الإمام قميصه عليه فانصرف السائل وقد حصل على العنب ، والدراهم ، والقميص وكان ذلك نتيجة حسن تصرف السائل في قبوله العطاء بينما حرم السائل الأول من كل ذلك نتيجة سوء تصرفه وأسلوبه المعوج في تقبله العطاء .
3 ـ أن لا يسأل إلا مع الحاجة :
السؤال والتكفف ليس حرفة وليس هو ـ في نفس الوقت ـ هواية ليقصد الإنسان من وراء ذلك جمع المال ، والعيش على حساب الآخرين . . . بل لا بد من أن يكون السؤال نابعاً عن حاجة السائل
( 168 )
وعوزه وفي غير هذه الصورة فإن الشارع المقدس يمقت هذا النوع من التكفف ، ومد اليد إلى الآخرين وبالتالي يتوعد السائل لو تكفف من غير حاجة ، ولا احتياج .
يقول الأمام أبو عبد الله ( عليه السلام ) :
« ما من عبد سأل من غير حاجة ، فيموت حتى يحوجه الله إليها ، ويثبت الله له بها النار » (1) .
وفي حديث آخر نراه يقول :
« من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الخمر » (2) .
وقبل أن ننتقل إلى موضوع آخر من بحثنا لابد من الإجابة على السؤال عن هذا التشديد على السائل لو سأل من غير حاجة ، فإن مثل هذا السائل أقصى ما يقال في حقه : أنه نزل الى المستوي الواطيء فرضي بالعيش ذليلاً يطلب من هذا ، ويسأل من ذاك وهذا أمر يخصه ، وعليه ينطبق عليه قول الشاعر :
« ومن لم يكرم نفسه لم يكرم » .
فلو ارتضى الشخص لنفسه أن لا يكرم فهل يكون جزاءه النار كما في الخبر الأول ، أو انه كمن اكل الخمر ؟ والمراد بالأكل هو شربها .
سؤال ينتظر الإجابة ؟
والجواب عن ذلك : ان الإسلام لا يرضى للفرد أن يكون كلاً على الآخرين ، بل يحبذ للإنسان الاعتماد على النفس ، والجد في
____________
(1) وسائل الشيعة ـ 6 | 305 .
(2) وسائل الشيعة ـ 6 | 306 .
( 169 )
هذه الحياة ليأكل قوته من ثمرة جهوده التي يبذلها في الكسب ، والتجارة ، والعمل ، وقد جاء عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في موارد كثيرة نهيه عن السؤال ، وإرشاد السائل بترك التكفف ، والدخول إلى معترك الحياة من الطريق الذي يحبذه الله لعباده وهو الطريق الذي سار عليه الأنبياء ، والأوصياء ، والصالحون كما حدثنا التاريخ عنهم ، وأنهم كانوا يعيشون من أعمالهم اليدوية ، أو البدنية .
يقول الإمام أبو عبد الله الصادق :
« لو أن رجلاً أخذ حبلاً فيأتي بحزمة حطبٍ على ظهره فيبيعها فيكف بها خير له من أن يسأل » (1) .
وعنه أيضاً عن النبي ( ص ) أنه قال :
« الأيدي ثلاثة : يد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد المعطى أسفل الأيدي فاستعفوا عن السؤال ما استطعتم . إن الأرزاق دونها حجب ، فمن شاء قنى حيائه ، وأخذ رزقه ومن شاء هتك الحجاب ، وأخذ رزقه ، والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبلاً ، ثم يدخل عرض هذا الوادي ، فيحتطب حتى لا يلتقي طرفاه ، ثم يدخل السوق ، فيبيعه بمدٍ من تمر فيأخذ ثلثه . ويتصدق بثلثيه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو حرموه » .
رزق حلال حصيلة جهد ، وعمل ، وربح ، وتجارة مع الناس ، ومع الله .
مع الناس : فيما حصله من ثمن ما احتطبه من ثلث المال .
____________
(1) وسائل الشيعة ـ 6 | 310 .
( 170 )
ومع الله : فيما أنفقه من ثلثي الحطب ، أو قيمته إلى الفقراء ، وبذلك يسد حاجته ، وحاجة غيره .
كل ذلك خير له من مد يد الذلة إلى الناس ينتظر ما تدر به عواطفهم نحوه .
على أن السائل بمد يده إنما يقصد إنساناً مثله فهو بهذه العملية يعرض عن التوجه إلى الله سبحانه ويبعد عن ساحته المقدسة ولو كانت ثقته بالله متينة ورصينة لما أعرض إلى غيره .
يقول لقمان الحكيم لولده :
« يا بني ذقت الصبر ، وأكلت لحا الشجر ، فلم أجد شيئاً امر من الفقر ، فأن بُليت به يوماً ، فلا تظهر الناس عليه ، فسيهينوك ، ولا ينفعوك بشيء إرجع الذي ابتلاك به فهو اقدر على فرجك ، واسأله فمن ذا الذي سأله فلم يعطه ، أو وثق به فلم ينجه ؟ » (1) .
« فمن ذا الذي سأله فلم يعطه ، أو وثق به فلم ينجه » ؟
استفهام إنكاري يحمل بين طياته دروساً قيمةً ، فالسائل هذا الإنسان العبد المخلوق والمسؤول هو الله سبحانه .
الله : الذي كرر في آيات عديدة من كتابه الكريم ضمانه للأجابة لو دعاه العبد .
الله : الذي تطوف ملائكته في أناء الليل ، وهم ينادون :
هل من داعٍ فيستجاب له ؟
هل من طالب حاجة لتقضى له ؟
____________
(1) وسائل الشيعة ـ 6 | 307 ـ 311 .
( 171 )
هل من تائب ليقبل الله توبته ؟
لقد نام الملوك ، وغلقوا أبواب قصورهم ، وطاف عليها حراسها ، وبابه مفتوح لمن قصده .
الله : الذي تكفل بأرزاق العباد فقال في كتابه الكريم :
« وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها » .
بغض النظر عن مساويء العباد .
الله : يخاطب عباده في حديث قدسي قائلاً :
« عبدي أوجدت صدراً أوسع مني فشكوتني إليه » .
هذا الله العظيم هل يرد سائلاً مد يده إليه ؟
أو يوصد باب رحمته بوجه من طرق ذلك الباب ؟
أو يمنع رزقه عمن اتكل عليه ؟
إذاً لماذا يتجه السائل إلى إنسان مثله فقير إلى ربه ؟