الإحسان إلى الأرحام
صلة الرحم ، وقطيعة الرحم ككل تعرضت لهما الآيات الكريمة ، والأخبار بصورة مكثفة ، وكلها تحذر من القطيعة ، وعدم التودد إلى الإرحام .
وقد بينت الأخبار ، وكشفت عن العواقب الوخيمة التي تترتب على التفكك الذي يحصل بين الأقرباء مهما كان السبب في ذلك التقاطع ، والتباعد ، ولكنها ـ في الوقت نفسه ـ أهابت بأبناء الأسرة الواحدة أن يتقاربوا حول بعضهم وينشدوا ، ويكونوا كالجسم الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله .
يقول سبحانه :
( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ـ إلى قوله ـ أولئك لهم عقبى الدار ) (1) .
وفي آية أخرى :
( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ) (2) .
____________
(1 و 2) سورة الرعد | آية : 21 ، 22 ، 25 .
( 173 )
مقابلة دقيقة بين الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وبين الذين يقطعون ما أمر الله أن يوصل ، فلأولئك عقبى الدار ، ولهؤلاء سوء الدار .
والدار في الموضعين هي : الدار الآخرة . وعقبى الدار هي الجنة . وسوء الدار هي ، هي النار .
وما أمر الله به أن يوصل وإن كان في لسان الآية عاماً مشمولة للآيات والأخبار .
وهكذا الحال في قطيعة الرحم أيضاً فإنها تكون مشمولة إلا أن صلة الرحم من جملة ما أمر الله به أن يوصل فتكون على نحو ما هو الحال في صلة الرحم وبهذا الصدد تقول الآية الكريمة :
( واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا ) (1) .
وقد سأل أحد الرواة من الإمام ( عليه السلام ) عن قوله سبحانه :
« واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام » .
فأجاب ( عليه السلام ) بأنها أرحام الناس إن الله أمر بها أن توصل ، وعظمها ألا ترى أنه جعلها منه (2) .
والمراد من قوله ( عليه السلام ) جعلها منه أي قرنها باسمه في الأمر بالتقوى .
ويقول عز وجل في آية آخرى :
____________
(1) سورة النساء | آية : 1 .
(2) أصول الكافي : 2 | 150 .
( 174 )
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى ) (1) .
ومن خلال هذا الآية تظهر لنا أهمية الإحسان بالوالدين ، وبذي القربى حيث أوص الله بهم وقد قرن هذه الوصية بالأمر بعبادته ، وعدم الشرك به . ومن الواضح ما للأمر بعبادته من الأهمية بالنسبة إليه ، وهكذا عدم الشرك ، قد صرحت الآية الكريمة بذلك في قوله تعالى :
( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) (2) .
وقد استفاضت الأخبار بالإشادة بصلة الأرحام والحث على التودد إليهم يقول الإمام الرضا ( عليه السلام ) :
« يكون الرجل يصل رحمه ، فيكون قد بقى من عمره ثلاث سنين ، فيصرها الله ثلاثين سنة ، ويفعل الله ما يشاء » .
وعن الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) قوله :
« صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتيسر الحساب وتنسيء في الأجل » .
وفي خبر آخر :
« صلة الرحم تحسن الخلق ، وتسمح الكف ، وتطيب النفس ، وتزيد في الرزق ، وتنشيء في الآجل » جاء ذلك عن
____________
(1) سورة النساء | آية : 36 .
(1) سورة النساء | آية : 48 .
( 175 )
الإمام الصادق ( عليه السلام ) » (1) .
وليس المراد بصلة الرحم هو الأقتصار على الإمور المالية ومد يد المساعدة إليهم بل القصد من وراء ذلك إظهار العطف والود وعدم الإنقطاع عنهم .
وقد ضرب الإمام الصادق ( عليه السلام ) مثلاً لأدنى ما يمكن إظهار للأرحام فقال :
« صل رحمك ولو بشربة من الماء » (2) .
وقد جاء عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) ( قوله ) :
« أبغض الأعمال إلى الله الشرك بالله ثم قطيعة الرحم » (3) .
وقد طفحت كتب الحديث بالأخبار التي تحدثت عن الخلفيات التي تترتب على قطيعة الرحم .
هذه لمحة عن صلة الرحم ، وقطيعتها على نحو العموم .
أما في خصوص الإنفاق عليهم ، ومساعدتهم بالمال ، ونحوه فقد جاء ذلك مصرحاً في الأخبار التالية .
فعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) :
« الصدقة على مسكين صدقة ، وهي على ذي رحمٍ صدقة ، وصلة » (4) .
وعن الإمام الحسين ( عليه السلام ) أنه قال :
____________
(1 و 2 و 3) لاحظ لهذه الأخبار أصول الكافي : 2 . 150 ـ 151 ، وجامع السعادات : 2 | 259 .
(4) البحار : 96 ، 37 ، 147 ، 159 .
( 176 )
« سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول :
إبداً بمن تعول : أمك ، وأباك ، واختك ، وأخاك ، ثم أدناك ، فأدناك وقال : لا صدقة ، وذو رحمٍ محتاج » (1) .
سئل النبي ( صلى الله عليه وآله ) :
« عن أي الصدقة أفضل ؟ فقال : على ذي الرحم الكاشح » .
هذا إذا أخذ الإنفاق على الأرحام من الأخبار الشريفة . ومن إطارها الذي يعتبر الصورة الأخرى المعبرة عن الكتاب المجيد .
وأما الانفاق من الناحية الإجتماعية ، فنراه مطابقاً لما تقتضيه الأصول الإجتماعية . . . ذلك لأن الإعراض عنهم يكوم موجباً لزرع بذور الفتنة والقطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة بينما حرص الإسلام على لمّ شملها ، وجمعها .
على أن الكثير من الناس يتقبل من الرحم ، وتسمح نفسه أن يتقبل من الإقرباء هدية بينما لا يخضع لغيره . ولا تسمح نفسه للجوء إليه مهما كلف الثمن .
ولهذا رأينا الأخبار تؤكد على البدء بالعطاء ، والاحسان الى القرابة وفي مقدمتهم أهل المحسن كما جاء عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) في حديثه المتقدم .
آيات عامة في الإحسان :
لقد تعرض القرآن الكريم إلى ذكر الإحسان ، والتشويق له ، وحث الناس على عمل الخير بشكل عام من دون بيان لخصوصية
____________
(1) البحار : 96 ، 37 ، 147 ، 159 .
( 177 )
تلك الأعمال ، ونوعيتها ، وما يقدمه المحسن من النفع إلى الأخرين . . . بل تركت الباب مفتوحاً أمام المحسنين ليشمل الإحسان كل ما ينفع المجتمع ، وينهض بالإفراد ، ولتعم الفائدة ، وليتسابق الناس إلى تقديم كل شيء يكون إحساناً ، وإلى كل فرد يحتاج لذلك الإحسان .
على أن الآيات الكريمة في عرضها لصور التشويق إلى الإحسان قد تنوعت في العرض المذكور .
تقول الآية الأولى :
( والله يحب المحسنين ) (1) .
وجاء في الثانية :
( فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) (2) .
وفي الثالثة قال سبحانه :
( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (3) .
من مجموع هذا الآيات الثلاث نستفيد من النقاط التالية :
النقطة الأولى : آطباق الآيات الثلاث على الأخبار بأن الله يحب المحسنين ، ويمنحهم عطفه ووده .
النقطة الثانية : الفرق بين الثوابين الدنيوي ، والأخروي ، وأن
____________
(1) سورة آل عمران | آية : 134 .
(2) سورة آل عمران | آية : 148 .
(3) سورة البقرة | آية : 195 .
( 178 )
أحدهما غير الآخر ، وإلا فلو كانا شيئاً واحداً لما عطف ثواب الآخرة على ثواب الدنيا كما جاء ذلك في الآية الثانية حيث قال سبحانه :
( فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة ) (1) .
ولو أراد وحدة الثواب لأخبر بأن المحسن يجازي بالثواب من دون تفصيل ، ويبقى الثواب على إطلاقه ليشمل كلا الثوابين : الدنيوي والأخروي .
وقد يقال في بيان الفرق بين الثوابين : أن ثواب الدنيا ما يعود إلى الرزق ، وعدم الابتلاء بالحاجة إلى الغير ، وحسن السمعة بين الناس ، ومنح المحسن العمر الطويل ، وما شاكل من القضايا التي يكون النفع فيها واصلاً إلى المحسنين في هذه الحياة .
وأما ثواب الآخرة : فهو الجنة والنعيم الدائم .
النقطة الثالثة : الأمر بالإحسان مضافاً إلى محبة الله للمحسن وقد جاء ذلك في الآية الثالثة في قوله تعالى :
« وأحسنوا أن الله يحب المحسنين »
وكما جاء في آية أخرى قال فيه سبحانه :
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) (2) .
ولو لم نقل بأن الأمر في هذه الآية يدل على الوجوب الإلزامي بالعمل بالإحسان إلى الآخرين فلا أقل من القول بشدة مجبوبيته له سبحانه .
____________
(1) سورة آل عمران | آية : 148 .
(2) سورة النحل | آية : 90 .
( 179 )
النقطة الرابعة : أن الآية الثانية قد اشتملت على أمرين :
الآول : ان الله يمنح الثواب لمن أحسن في الدنيا قبل الآخرة :
الثاني : بيان أن الله يحب المحسن .
ومن هنا نقول : لسائل أن يطلب التوضيح عما يكتنف هذه الآية من غموض بالنسبة لمحبة الله للمحسن ، وما تأثيرها بعد أن ضمن الله له الثوابين ، وعلى الأخص بعد أن فسر ثواب الآخرة بالجنة ، فمن وعد بالجنة ما يصنع بثواب الدنيا ؟ .
والجواب عن ذلك : أن محبة الله لعبده نوع تكريم من الله لعبده فهو بهذا الانعطاف إليه يحيطه بهذه الرعاية الخاصة ، وهذا اللطف الآلهي ، فيجعل المحسن محبوباً إليه .
ان المحسن له الحق أن يفتخر بهذا الشرف الرفيع ، وإن كان قد منحه الله الجنة في الآخرة وهذا هو ثوابه في الدنيا ومحبة الله له .
ويتجلى هذا اللطف الكريم من خلال الآية التي رعت المحسن ، فمنحته شرف رعاية الله له بمعيته فقال سبحانه :
( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) (1) .
والإحسان في هذا الآيات ، وإن كان عاماً يشمل الإنفاق وغيره ، ولكن ـ كما قلنا ـ أن الإنفاق أحد مصاديق الإحسان ، ويكفي للمنفق أن يكون من جملة من يشمله اطلاق هذه الآيات الكريمة التي تشكل من حيث المجموع ترغيباً وتشويقاً للإنسان في الإنفاق باعتباره إحساناً إلى الغير .
____________
(1) سورة النحل | آية : 128 .
( 180 )
أدب العطاء عند أهل البيت ( عليهم السلام )
العطاء إلى المحتاجين على قسمين :
1 ـ عطاء بمقدار من المال يرفع به المنفق حاجة الفقير الوقتية ويدفع عنه بعض المصاعب التي يواجهها في حياته اليومية نتيحة فقد انه المال .
2 ـ وعطاء يتميز بالمال الكثير يقدمه المعطي هدية للفقير ليستعين به على تبديل حالته وتغيير مجاري حياته المالية من الفقر إلى الغنى .
ونحن أمام هذين العطاءين :
فالأول منهما : لا يحل مشكلة الفقير ، ولا يعالج قضية الفقير من الجذر إذ لا يريح المحتاج ، ويخلصه من ويلات الحرمان .
أما الثاني : فإنه يحقق هذه الغاية وينحو نحو هذا الهدف السامي لأنه يتناول المشكلة ، فيعالجها من الأساس بإقتلاع جذورها العميقة ، وبذلك تكون هدية المعطي من القسم الثاني ليس لإنعاش الفقير فقط بل خدمة يقدمها إلى مجتمعه بتبديل عناصر لها خطورتها بعناصر طيبة يرجى منها كل الخير .
( 181 )
لذلك لا عجب إذا رأينا أهل البيت ( عليهم السلام ) ينحون في عطائهم الى تحقيق هذه الغاية فنشاهد أغلب الوقائع التي كانوا يقدمون فيها العطاء إلى المحتاجين كان الإنفاق فيها من القسم اثاني فلم يكن عطاؤهم نزراً يقصدون به رفع حاجة الفقير الوقتية ولئلا يرجع السائل عن بابهم بخيبة أمل ، بل كان عطاؤهم وفيراً يقصدون فيه تبديل حالة السائل وتغيير عنوانه من فقير عاطل إلى غني عامل .
تقول مصادر التاريخ أن الإمام الحسن بن علي ( عليهما السلام ) اعطى سائلاً قصده خمسين ألف درهماً وخمسمائة دينارٍ ، وأعطى طيلسانه للحمال الذي جاء ينقل هذا المال وفي واقعة أخرى نراه ( صلوات الله عليه ) يعطي سائلاً قصده عشرين ألف درهم وعندما شاهد السائل هذه الأريحية ، وهذا الكرم قال والحيرة تأخذ عليه مسالك التفكير :
يا مولاي الا تركتني أبوح بحاجتي ، وأنشر مدحتي .
فأجابه الإمام : وهو يردد هذه الأبيات .
نـحـن أنـاس نـوالـنا خضل * يـرتـع فيـه الـرجـاء والأمـل
تـجود قبـل الـسؤال أنـفسنـا * خـوفاً على مـاء وجه من يسـل (1)
إن آل البيت الهاشمي عندما يعطون شعارهم في العطية ( إذا أعطيت فأغني ) .
وهذا معنى العطاء الجزل الذي حصل أغنى من وصل إليه .
ولنقف أمام هاتين الواقعتين من عطاء الإمام ( عليه السلام ) فبالامكان أن نستفيد من خلالهما الأمور التالية :
____________
(1) لاحظ لهاتين الواقعتين المجالس السنية : 5 | 350 .
( 182 )
الأمر الأول : أدب العطاء ويظهر ذلك من مبادرة الإمام بالعطاء قبل أن يبدأ السائل بالمسألة وبذلك حفظ له كرامته فلم يمهله ليعرض عليه حاجته وتبدو على وجهه إمارات الذل ، بل بادره بقضاء حاجته .
وقد حصل مثل ذلك لسائل آخر في مجلس الإمام الرضا ( عليه السلام ) فقد نقل لنا أحد الرواة أن سائلاً سأل الإمام أن يعطيه مقداراً من المال لأنه فقد نفقته فقال له :
« قد افتقدت نفقتي وما معي ما ابلغ به مرحلة فإن رأيت أن تنهضني الى بلدي » .
ويأتي الجواب من الإمام قائلاً : اجلس رحمك الله ، ثم دخل الحجرة ، وخرج ، وقد رد الباب وأخرج يده من أعلى الباب ، وقال اين الخراساني ؟ فقال : أنا ذا .
فقال : خذ المائتي دينار فاستعن بها في مؤنتك واخرج فلا أراك ولا تراني ثم خرج .
وهنا تكلم أحد الحاضرين قائلاً : جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت فلماذا سترت وجهك عنه ؟ فقال : مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضائي حاجته .
أما سمعت حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المتستر بالحسنة تعدل سبعين حجة والمذيع بالسيئة مخذول ، والمتستر بها مغفور له أما سمعت قول الأول :
متى آتـه يـوم أطـالب حـاجـة * رجـعت إلـى أهـلي ووجهي بـمائة (1)
____________
(1) وسائل الشيعة ـ 6 | 319 .
( 183 )
الأمر الثاني : اغناء السائل . إن الإمام عندما يعطي هذا المقدار من المال وبهذه الكثرة لا يخلوا الحال فيه :
فإما أن يكون من بيت مال المسلمين حيث يتصرف فيه بحسب ولايته الشرعية وهو أعرف بصرفه .
أو أنه من ماله الشخصي ويتصرف فيه تصرفاً شخصياً .
وفي كلتا الحالتين لا يتصرف جزافاً ولا يجوز لنا أن نقول : إنه بعمله هذا يبعثر المال .
ولعل الحكمة من ذلك هو إنعاش الفقير بإغنائه ليكون ما يقدمه له مساعدةً لتغيير حالته من الفقر إلى الغنى فيستعين بذلك المال على الكسب ، والتجارة وشق طريقه في هذه الحياة على نحو أفضل مما هو عليه ، فهو بعمله هذا ينقذ إنساناً شاءت الأقدار أن تسوقه إلى هذا المجرى من العيش الردىء .
شمولية العطاء
ولم يقتصر عطاء الإمام على السائل ، بل كان للحمال الذي جاء لنقل المال حصة من الإحسان حيث قدم له الإمام طيلسانه ، ولا بد أن نعرف أن طيلسان الإمام ليس شيئاً عادياً ، وإلا فلو كان شيئاً عادياً لما قدمه لهذا المسكين ولو كان حمالاً إن الإمام ( عليه السلام ) بهذه الهدية يريد ارضاء جميع الأطراف ، وعدم خروج فقير من الفقراء من مجلسه كسير النفس ، ولذلك أرضى حتى الواسطة في النقل فطابت نفس الحمال وهو يضع الطيلسان على كتفيه .
هذه لون من العطاء .
( 184 )
وهناك لون آخر نشاهد وقائعه تمر مع مسيرة الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) الحياتية فإن عطاءه كان يشتمل على نحوين من الإحسان .
عطاء الإمام من القسم الأول :
تقول مصادر التاريخ ان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كان يخرج في الليل وهو يحمل الطعام ، والكساء ، والدراهم ، والدنانير ، وربما حمل الحطب على كتقه ليوزع كل ذلك على الفقراء ، وهو متنكر لا يريد أن يعرفه الفقراء ، ولكنهم عرفوه بعد وفاته لأنهم افتقدوه بعد انقطاعه عنهم .
وليس هذا النوع من العطاء بعيداً عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) فقد تلقاه عن مسيرة جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وشاركه بهذه المسيرة أولاده ، وأحفاده من أئمة أهل البيت ( صلوات الله عليهم ) وكانوا يقولون لمن يعترض عليهم هذه الطريقة لما فيها من الانهاك ، والتعب ، ولربما بعض الشيء من النقص عندما تصدر من أحدهم وهو على جانب كبير من المهابة والأجلال : « صدقة الليل تطفيء غضب الرب » .
وكان كثير من الأئمة يسيرون على هذه الطريقة مع بعض أرحامهم وهم لا يعرفونه ولربما صدر من بعضهم الدعاء عليه لأنه لم يصله ، والإمام يغضي عن ذلك ولا يلتفت إليه لئلا يعرفه .
]
كل ذلك للحفاظ على كرامة المحتاجين والتستر على الحالة التي هم عليها .
( 185 )
عطاء الإمام ( ع ) من القسم الثاني :
عتق العبيد
لظروف وأسباب قد لا تكون خافية على من درس أوضاع الجزيرة العربية آنذاك وبقية الممالك ، والمدن التي كان سوق العبيد فيها رائجاً ، والتجارة بهم رابحة فإن الإسلام لم يواجه الأمة وهو في أول المسيرة بالغاء الرقيق إذ لم يكن بالإمكان منع ما جرى عليه العرف السائد في وقته .
وبما أن الإسلام حرص على غلق باب الرق ، وكان هذا من الأسس الأولية لبناء المجتمع الإسلامي لذلك عالج هذه المشكلة من طريقين :
الأول : غلق باب الرق ابتداءً إلا في حالة الحرب بين المسلمين والكفار جهاداً ، أو دفاعاً وبشروط يتعرض لها الفقهاء في بحوثهم الفقهية .
الثاني : تصريف ما كان موجوداً من الرقيق بفتح الباب لعتقهم حيث جعل من جملة ما يكفر به عند ارتكاب بعض الخطايا عتق الرقبة .
وهكذا فيمن ملك أحد العمودين جانب الإب ، أو الأم ، فإنه يعتق عليه قهراً .
ومثل ذلك موضوع الطواريء القهرية التي تحل بالإنسان من الأمراض وغيرها . فإنه يعتق قهراً عند حلول ذلك الطاريء القهري
( 186 )
كما لو قطعت يده ، أو رجله ، أو عمي وما شاكل .
وبعد كل هذا اخذ الإسلام يشوق الناس إلى التقرب إلى الله بعتق العبيد ، وجعل ثواباً عظيماً لمن يحرر نسمة ، ، ويخلصها من قيود العبودية . . . وبذلك فتح الروافد الكثيرة لتصريف ما كان موجباً من العبيد لينهي مشكلة تأصلت بين الناس في ذلك الوقت (1) .
وعلى هذا سار المحسنون فكانوا يتسابقون على شراء العبيد ، وعتقهم لوجه الله سبحانه وكان من جراء هذه الروافد تخفيف حدة العملية الرقية ، وكساد سوق الرقيق إلى أن وصل الأمر إلى تقلصها بل وانها قد انعدمت في أيامنا هذه .
ولكن الملاحظ من الواقع الذي يعيشه أهل البيت ( عليهم السلام ) اتجاه هذه المشكلة انهم لم يكتفوا بتصريف العبيد بشرائهم وعتقهم بل كانوا يقومون بأعمال أخرى تربوية واجتماعية مضافاً إلى عملية العتق والتحرير .
ولنبداً مع الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) من المراحل الأولى التي يشتري فيها العبد ويهيؤه للعتق :
المرحلة الأولى : وتبدأ بتعليم العبد ، وتثقيفه ثقافة إسلامية ، وتأديبية بالأداب التي يريدها الإسلام .
المرحلة الثانية : وبعد ذلك يعتقه لوجه الله لا على نحو الجزاء عن كفارة ليكون الغرض من العمل هو التقرب الصرف لله سبحانه ، ونيل مرضاته .
____________
(1) لقد تعرضنا لموضوع الرق ومعالجة الإسلام له وحل مشكلته بشكل موسع في كتابنا الحجر وأحكامه في الشريعة الإسلامية | 454 .
( 187 )
المرحلة الثالثة : تزويده بالمال ليساعده على الاستعانة به في الكسب والتجارة ليشق طريقة في هذه الحياة من جديد لا أن يكون كلاً على الناس كما كان كلاً على مولاه قبل عتقه .
وكان ( عليه السلام ) يتحين الفرص المناسبة لعتقهم ، ويكون ذلك في موسم الأعياد من شهر رمضان ، أو الأضحى ليضيف إلى فرحة العتق فرحة استقبال العيد بحرية كاملة .
أما معاملته معهم فكانت معاملة رقيقة تنسيهم ذل العبودية والرقية ـ وعلى سبيل المثال ـ فإن الإمام زين العابدين لم يكن يعاقب عبده لو صدر منه ما يوجب العقوبة بل كان يسجل عليه خطأه ، ويحصيه ، وينتظر إلى أحد العيدين رمضان ، أو الأضحى ، وعندها يجمعهم ، ويقرأ لهم ما ارتكبوه من الأخطاء كل ذلك يجريه معهم بلطف ، وأدب لا بزجز ، وخشونة . وبعد أن يأخذ منهم إعترافهم بما صدر منهم بعد تذكير كل منهم بوقت الخطأ ، ومكانة .
واذا ما تم كل ذلك أصدر حكمه عليهم بقوله :
قد عفوت عنكم .
ولم يكتف بذلك بل يقول لهم بعدها :
فهل تعفون عني ما كان مني إليكم ؟ .
فيقولون : قد عفونا عنك وما أسأت .
وهل يكتفي بهذا المقدار من الإعتذار ، والتنازل ؟ ويأتي الجواب : لا ، بل يوقفهم ويكلفهم بإصدار عفوهم عنه بمظهر الدعاء قائلاً لهم :
( 188 )
قولوا : اللهم اعفوا عن علي بن الحسين كما عفا عنا (1) .
وبعد أن يستجيبوا لما طلب منهم من العفو على هذا النحو من الدعاء يحررهم ، ويعتقهم لوجهه تعالى ، ويعطيهم بعض المال ليبدأوا بذلك مسيرتهم في حياتهم الجديدة .
ومن خلال هذه المسيرة مع الإمام ( عليه السلام ) في معاملة عبيده التي تتكرر كل عام مرة ، أو مرتين نتعرف على مدى ما يتحلى به الإمام ( عليه السلام ) من لطف ، وأدب ونفس رقيقة ، وروح تربوية عالية ، فهو لم يعاقب عبيده إذا أخطأوا ، بل يطلب منهم العفو ، وهو صاحب العفو ، ولا يتركهم يشعرون بالتقصير او التصاغر أمامه يطلب منهم العفو ، وهو من مصدر القوة .
ويكلمهم بهدوء ، واتزان ، وبلسان يقطر رقة قائلاً لهم :
فهل عفوتم عني ما كان مني إليكم ؟
ولنرى ما كان منه اليهم ؟ فمن كان يحمل مثل هذه النفسية الرفيعة ماذا يصدر منه طلية المدة التي يكونون ضيوفاً عليه في طريق تسريحهم إلى عالم الحرية .
ان الذي يصدر منه ما هو إلا الحنو ، والشفقة ، واللطف ، والرعاية بكل معانيها ، وقد عودهم أن يجالسهم ، ويأكل معهم ، ويلبسهم أحسن اللباس ، ولا يجور عليهم . كل ذلك ليعلمهم كيف يشقون طريقهم في حياتهم الجديدة بعد العتق .
معاملة طيبة ونتيجة حسنة .
____________
(1) المجالس السنية : 5 | 403 .
( 189 )
فمن العبودية إلى الحرية .
ومن الجهل الى العلم .
ومن الفقر إلى الغنى .
ولو فتشنا كتب التاريخ لرأينا هذه السيرة هي نفس السيرة التي جرى عليها بقية الائمة من أهل البيت ( عليم السلام ) مع العبيد بل مع الفقراء والمحتاجين لا بل ومع كل أحد من الناس بغض النظر عن العناوين التي تميز بعض الناس عن بعضهم الآخر .
سلام الله عليكم يا أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، والتنزيل .
وسلام الله عليكم يوم ولدتم ، ويوم متم ، ويوم تبعثون ، وإن كنتم أحياء عند ربكم ترزقون .