|
|||
(91)
والحاصل : انّ ركن الاستعمال الذي يقوم على أركان ثلاثة موجود ، فانّ المخاطب ينتقل من الصورة الذهنية إلى مراد المتكلّم ، أعني : الصنف أو النوع وهو أمر ثالث.
وبما انّ هذه المقدّمة لا تمتّ إلى الأُصول بصلة وإنّما هي بحث أدبي ، اكتفينا بهذا المقدار. فتحصّل ممّا ذكرنا : انّ القسم الأوّل ليس استعمالاً كما أنّه ليس من قبيل إلقاء نفس الموضوع ، بل إلقاء صورة الموضوع في ذهن المخاطب ، وأمّا الأقسام الثلاثة فهي من قبيل الاستعمال ، لأنّ المخاطب ينتقل بعد سماع اللفظ إلى الصورة الذهنية ومنها إلى الفرد المماثل أو الصنف أو النوع. (92)
الأمر الخامس
في وضع الألفاظ لمعانيها الواقعية
وقبل الخوض في المقصود ، نذكر أمرين :
الأوّل : ما هو السبب لطرح المسألة ؟ عرّف المحقّق الطوسي في « منطق التجريد » ، الدلالةَ المطابقية : أنّها دلالة اللفظ على تمام المسمّى. والتضمنية : انّها دلالة اللفظ على جزئه. وذكر العلاّمة في شرحه على « منطق التجريد » انّه أورد على المحقّق الطوسي الإشكال التالي وهو : انّ هذا التعريف غير مانع فيما إذا كان اللفظ مشتركاً بين الكلّ والجزء ، كما إذا كان لفظ الإنسان موضوعاً للحيوان الناطق تارة ولخصوص الناطق أُخرى فأطلق الإنسان وأراد الناطق ، فيصدق عليه انّه مطابقي ، لأنّه تمام الموضوع بالنسبة إلى الوضع الثاني ، وتضمني ، لأنّه جزء الموضوع بالنسبة إلى الوضع الأوّل. ثمّ نقل العلاّمة عن المحقّق الطوسي أنّه أجاب عن الإشكال و قال : إنّ اللفظ لا يدلّ بذاته على معناه ، بل باعتبار الإرادة والقصد واللفظ ، فحينما يراد منه المعنى المطابقي لا يراد منه المعنى التضمني فهو يدلّ على معنى واحد لا غير. ثمّ قال العلاّمة : وفيه نظر. (1) 1 ـ الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد : 4. (93)
توضيح جواب المحقّق الطوسي هو : انّ المتكلّم إذا أطلق الإنسان و أراد الناطق فإن أراده بما انّه تمام المعنى فلا يصدق انّه معنى تضمني ، وإن أراد أنّه جزء المعنى فلا يصدق عليه انّه معنى مطابقي.
و قد أجاب المحقّق الطوسي بنفس هذا الجواب عن إشكال أُورد على تعريف المفرد حيث عُرّف المفرد بأنّه الذي ليس لجزئه دلالة أصلاً ، واعترض عليه بعض المتأخرين بلفظ « عبد اللّه » إذا جعل علماً لشخص فانّه مفرد مع أنّ لجزئه دلالة ما. فأجاب عنه المحقّق الطوسي بأنّ دلالة اللفظ لما كانت وضعية كانت متعلّقة بإرادة المتلفّظ الجارية على قانون الوضع ، فما يتلفّظ به ويراد به معنى ما ويفهم عنه ذلك المعنى ، يقال له انّه دال على ذلك المعنى ؛ وما سوى ذلك المعنى ممّا لا تتعلّق به إرادة المتلفّظ ، لا يقال إنّه دالّ عليه ، وإن كان ذلك اللفظ أو جزء منه ، بحسب تلك اللغة أو لغة أُخرى أو بإرادة أُخرى ، يصلح لأن يدل به عليه. وإذا ثبت هذا فنقول ، اللفظ الذي لا يراد بجزئه الدلالة على جزء معناه ، لا يخلو من أن يراد بجزئه ، الدلالة على شيء آخر أو لا يراد ، وعلى التقدير الأوّل لا تكون دلالة ذلك الجزء متعلّقة بكونه جزءاً من اللفظ الأوّل ، بل قد يكون ذلك الجزء بذلك الاعتبار لفظاً برأسه دالاً على معنى آخر بإرادة أُخرى ، وليس كلامنا فيه ، فإذن لا يكون لجزء اللفظ الدال من حيث هو جزء دلالة أصلاً وذلك هو التقدير الثاني بعينه ، فحصل من ذلك انّ اللفظ الذي لا يراد بجزئه دلالة على جزء معناه لا يدل جزؤه على شيء أصلاً. (1) والحاصل : انّه إذا تلفّظ بلفظ عبد اللّه ، فإمّا يتلفّظ به بما انّ جزء لفظه يدل 1 ـ شرح الإشارات : 1/31 ـ 32. (94)
على جزء معناه أو لا يدل ؛ فعلى الأوّل مركب خارج عن التعريف ، وعلى الثاني مفرد لا ينتقض به التعريف.
وعلى كلّ تقدير فالمحقّق الطوسي ممّن ذهب إلى أنّ دلالة اللفظ على المعنى موقوفة على إرادة المتلفّظ ذلك المعنى إرادة جارية على قانون الوضع ، إذ الغرض من الوضع تعدية ما في الضمير وذلك يتوقّف على إرادة اللافظ فما لم يرد المعنى من اللفظ لم تجد له دلالة عليه. (1) الثاني : أشكال أخذ الإرادة جزءاً للمعنى إنّ وضع اللفظ للمعنى المراد يتصوّر على وجوه : 1. أخذ الإرادة بالحمل الأوّلي ( مفهوم الإرادة ) جزءاً للمعنى. 2. أخذ الإرادة بالحمل الشائع الصناعي ( مصداق الإرادة ) جزءاً للمعلوم بالذات. 3. أخذ الإرادة بالحمل الشائع جزءاً للمعلوم بالعرض. 4. أخذ الارادة بالحمل الشائع الصناعي بنحو القضية الحينية فـي الموضـوع له. 5. أخذ الإرادة بالحمل الشائع الصناعي قيداً للوضع. هذه هي الوجوه المتصوّرة. إذا عرفت هذين الأمرين ، فلنذكر حكم كلّ واحد من هذه الوجوه : أمّا الوجه الأوّل ، فهو بديهي البطلان ، ولم يذهب إليه أحد. وأمّا الثاني أي كون اللفظ موضوعاً للمعلوم بالذات ( الصورة الذهنية ) التي 1 ـ المحاكمات لقطب الدين الرازي في ذيل الإشارات : 1/32. (95)
تعلّقت بها الإرادة بالحمل الشائع ، فيلزم أن تكون القضايا إخباراً عن الأُمور الذهنية لا إخباراً عن الخارج ، لأنّ المعلوم بالذات الذي هو متعلّق الإرادة قائم بالذهن ، فالقيد والمقيد كلّها أُمور ذهنية وبالتالي لا ينطبق على الخارج.
وأمّا الثالث ، أي كون اللفظ موضوعاً للمعلوم بالعرض الذي تعلّقت به الإرادة عن طريق الصورة الذهنية (1) ، فهذا أيضاً يستلزم عدم إمكان حمل قائم على زيد الخارجي ، لأنّ الموضوع في « قائم » مركب من أمر خارجي ( المعلوم بالعرض ) وأمر ذهني ( تعلّق الإرادة به ) فلا يصحّ أن يقال : « زيد قائم » إلاّ بالتجريد ، فانّ القيام وإن كان موجوداً في الخارج إلاّ أنّ الإرادة التي وصف بها القيام عن طريق الصورة الذهنية أمر ذهني. وأمّا الرابع ، أي كون الموضوع له المعلوم بالعرض حين تعلّقت به الإرادة على نحو لا يصدق اللفظ إلاّ على المعنى المراد و في الوقت نفسه ليس كونه مراداً جزءاً للمعنى ، و هذا هو مفاد القضية الحينية. توضيحه : انّ القضايا على أقسام ثلاثة : أ : المشروطة ، مثل قولك : كلّ كاتب متحرك الأصابع مادام كاتباً ، فحركة اليد ثابتة للكاتب بشرط كونه كاتباً. ب : المطلقة ، مثل قولك : كلّ كاتب متحرك الأصابع بالفعل ، أي في أحد الأزمنة الثلاثة ، فحركة اليد للكاتب على وجه الإطلاق. ج : والحينية ، وهي نحو قولك : كلّ كاتب متحرك الأصابع حين هو كاتب ، فحركة اليد ثابتة للكاتب لا على وجه الإطلاق حتى يعم المحمول ( الحركة ) حالة 1 ـ وإنّما يوصف الخارج بكونه معلوماً بالعرض ، لأنّ الإنسان يصل إليه عن طريق الصورة الذهنية ، فتكون الأخيرة معلومة بالذات وما قبلها معلوماً بالعرض. (96)
عدم الكتابة و لا على وجه التقييد حتى يؤخذ في الموضوع مادام كونه كاتباً ، ولكنه في الوقت نفسه لا ينطبق إلاّ على حال الكتابة ، فالمحمول في الحينية وإن كان مطلقاً غير مشروط لكنّه على نحو لا ينطبق إلاّ على المشروطة ؛ وهذا كما إذا رأيت زيداً معمّماً ، فالتعمّم ليس قيداً للمرئيّ ولا للرؤية ، ولكنّه لا ينطبق إلاّ على المعمّم وأنت ما رأيت إلاّ زيداً المعمّم ، و في المقام ، اللفظ وضع لذات المعنى لكن حين كونها مراداً للمتكلّم واللافظ. وعلى ضوء ذلك لا يرد عليه ما أوردنا من انقلاب القضية الخارجية إلى الذهنية كما في الثاني ، ولا عدم انطباق القضية على الخارج كما في الثالث ، والحينية مع كونها نزيهة عما أورد على القسمين ولكنّها لا تنطبق إلاّ على المضيق وهو المعنى المراد.
يلاحظ عليه : بأنّ القضية الحينية وإن كانت رائجة بين المنطقيّين ولكن لم نتصور لها معنى محصلاً ، فانّ الكتابة في قوله : « حين هو كاتب » إمّا قيد للمحمول ( متحرك الأصابع ) فيكون من قبيل المشروط ، أو ليس قيداً له و للمحمول إطلاق ، فيكون من قبيل المطلقة العامة ، فما معنى هذا التذبذب بين المشروطة والمطلقة ، وإن نطق به المنطقيون ؟ وبعبارة أُخرى : انّ القول بأنّ المحمول هو المتحرك المقترن بالكتابة لا بقيدها لا يخلو من إبهام ، لأنّ المحمول إمّا مقيد بالاقتران بالكتابة أو لا ، وعلى الأوّل تعود الحينية إلى المشروطة ، وعلى الثاني يكون المحمول مطلقاً صادقاً في كلتا الحالتين : حالة وجود الكتابة وعدمها. وبذلك يظهر انّ قوله إنّ الموضوع له هي المعاني حالة كونها مرادة لا مقيداً بها لا يخلو إمّا أن تكون القضية مطلقة فتعم المرادة و غير المرادة ، أو مقيدة فيرجع إلى المشروطة. (97)
وبعبارة أُخرى : انّ تمييز الحصة التوأمة بالإرادة عن الحصة غير التوأمة يحتاج إلى قيد حتى يوضع لاحدى الحصتين دون الأُخرى. ومعه يرجع إلى المشروطة.
وأمّا الخامس : فهو خيرة المحقّق الإصفهاني فقال : العلقة الوضعية متقيدة بصورة الإرادة الاستعمالية وفي غيرها لا وضع ، وما يرى من الانتقال إلى المعنى بمجرّد سماع اللفظ من لافظ غير شاعر فمن جهة أُنس الذهن بالانتقال من سماعه إلى إرادة معناه. (1) توضيح ما ذكره : هو أنّ الوضع فعل اختياري للواضع ، وكلّ فعل اختياري لابدّ له من غاية ، فالعلّة الغائية تضيق جانب الفعل وتحدده وتخصه بصورة وجوده الغاية وهو الإفادة والاستفادة أو إبراز ما في الضمير. يلاحظ عليه : أنّ الغرض من الوضع وإيجاد العلقة الاعتبارية بين اللفظ والمعنى ، هي بيان الحقائق الواقعية بما هي هي لا ما وقعت في أُفق الإرادة ، فإذا قال القائل : « الماء جسم رطب سيال » ، فانّه يريد بيان الحقيقة الخارجية وانّ ذلك العنصر بما هو هو لا بما انّه واقع في ذهن القائل ، فإذا كانت الغاية محددة للفعل فالغاية هي بيان الحقائق وهو يوجب إطلاق العلقة الوضعية وعدم تقيّدها بإرادة المتكلّم. بقي هنا أُمور : الأوّل : انّ الدلالة تنقسم إلى : تصورية ، وتفهيمية ، وتصديقية. أمّا الأُولى : فهي عبارة عن دلالة اللفظ على معناه عند سماعه ، وربّما يعبّر عنها بالدلالة الوضعية ، وهي لا تتوقف على شيء ما عدا العلم بالوضع ، ولأجل 1 ـ نهاية الدراية : 1/23. (98)
ذلك ينتقل الذهن إلى المعنى بمجرّد السماع ولو من لافظ غير شاعر.
وأمّا الثانية : أعني الدلالة التفهيمية ، فهي عبارة عن دلالة اللفظ على أنّ المتكلّم أراد تفهيم المعنى للغير ، وهذه الدلالة تتوقّف وراء العلم بالوضع على أنّ المتكلّم في مقام التفهيم ، لا في مقام تمرين الخطابة وأمثالها أو تعلم اللغة. وأمّا الثالثة : أي الدلالة التصديقية ، فهي عبارة عن دلالة اللفظ على أنّ الإرادة الاستعمالية مطابقة للإرادة الجديّة ، وهي تتوقف وراء الأمرين على أمر ثالث وهو أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية. وهذا الأصل وما قبله أي كونه بصدد التفهيم من الأُصول العقلائية إذا لم يقم دليل على خلافه. الثاني : انّ المحقّق الخراساني لما قال بوضع الألفاظ للمعاني الواقعية حاول تأويل الكلام المنقول عن العلمين الطوسي والحلي ، بأنّ مرادهما من تبعية الدلالة للإرادة ، هو الدلالة التصديقية ولذلك لا يصحّ لنا أن نُسند مضمون الكلام إلى شخص ما لم يُحرز أنّه أراد ذلك المعنى ، وعليه لو تكلّم مورّياً أو تقيّة أو لغير ذلك لا يصحّ أن يسند مضمونه إليه. أقول : ما ذكر من تبعية الدلالة التصديقية لإرادة المتكلّم وإن كان صحيحاً لكنّه ليس نظرية خاصّة للعلمين ، بل هي ممّا لم يختلف فيه اثنان ، فاشتمال كلامهما على التبعية ناظر إلى معنى آخر وهو تبعية الدلالة التصورية أو الوضعية للإرادة. وعذر المحقّق الخراساني في هذه النسبة ، عدم مراجعته لكلامهما في محلّه. الثالث : انّ كلّ من فسّر الوضع بالتعهد والالتزام وقال إنّه عبارة عن التعهد بأنّ كلّما أطلق اللفظ أراد منه المعنى الخاص لا مناص له عن القول باختصاص الدلالة الوضعية بصورة قصد التفهيم وإرادة المعنى من اللفظ. لأنّ الالتزام أو التعهد الذي هو مقوّم الوضع إنّما يتعلّق بالأمر الاختياري ، (99)
وما هو تحت اختيار الواضع هو ذاك ( كلّما أطلق اللفظ أراد منه المعنى ) ، وأمّا الالتزام بكون اللفظ دالاً على معناه و لو صدر منه عن غير شعور أو اختيار ، فلا يعقل أن يكون طرفاً للالتزام والاختيار.
وبالجملة : إنّما يتعلّق الالتزام بفعل الإنسان لا بفعل غيره. وفي أفعال النفس يتعلّق بالاختياري منها لا بالخارج عنه ، كالنطق نائماً أو ساهياً. (100)
الأمر السادس
في وضع المركّبات
ربّما نسب إلى بعض الأُدباء القول بوضع خاص للمركّبات وراء المفردات.
توضيحه : انّ قولنا « زيد إنسان » حاو لأوضاع ثلاثة ، فللموضوع وضع ، وللمحمول وضع آخر ، وللهيئة وضع ثالث ، فنسب إلى بعض الأُدباء انّه يقول : إنّ هنا وضعاً رابعاً وهو وضع مجموع المادة والهيئة ، وربّما يتجاوز عدد الأوضاع عن الأربعة إلى الخمسة ومن خمسة إلى ستة ، مثلاً : قولنا : « زيد قائم » للمحمول وضعان : وضع للمادة ، ووضع للهيئة مضافاً إلى وضع المبتدأ والهيئة ، فيكون وضع المجموع وضعاً خامساً. ولو كان لكلّ من الموضوع والمحمول وضع ، كقولنا : « الضارب متعجب » ينتهي عدد الوضع إلى ستة وهكذا يزداد عدد الأوضاع. فسواء أصحت النسبة إلى بعض الأُدباء ( كما يظهر من شرح المفصّل لابن مالك انّ لهذا القول قائلاً ) أم لم تصح فالقول بوضع المجموع ساقط ، وذلك للوجوه التالية : 1. انّوضع المجموع أمر لغو ، لأنّ وضع المفردات والهيئة الاسمية كافيتان في إفادة المراد من دون حاجة إلى وضع المجموع من حيث المجموع. 2. ما ذكره ابن مالك في شرحه على المفصل ، وقال : إنّه لو كان للمجموع (101)
وضع لما كان لنا أن نتكلّم بكلام لم يسبق إليه ، إذ المركب الذي أحدثناه لم يسبق إليه أحد.
توضيحه : انّه لو كان للمجموع وراء المفردات والهيئة وضع للزم أن تكون صحة الاستعمال متوقفة على الوضع المذكور ، وعلى ذلك فلو كانت الجملة مما سبق استعمالها وتعلق بها وضع الواضع يصحّ لنا الاستعمال ، وأمّا إذا كانت من الجمل المحدثة التي لم يسبق استعمالها ولم يتعلق بها الوضع لزم عدم صحّة استعمالها ، لأنّها ليست على موازين الوضع كقولنا : « ارمسترونغ أوّل رائد فضائي ». وربّما يورد على تلك النظرية بأنّه : لو صحّ لزم الانتقال إلى المعنى مرتين في آن واحد ، لفرض وضع المفردات مرّة ، والمجموع من حيث المجموع مرّة أُخرى ، وهذا يكون نظير ما إذا أتى الإنسان أوّلاً بأسماء كلّ عضو من أعضاء الإنسان ، ثمّ أتى بلفظ الإنسان الجامع للأعضاء كلّها مرة ثانية. يلاحظ عليه : أنّ الانتقال معلول للأُنس الحاصل من الاستعمال المعلول للوضع ، وتعدّد الوضع لا يوجب تعدّد الانس فلا يلزم الانتقال. إكمال المعروف انّوضع المواد شخصي ووضع الهيئات نوعي ، ويراد منه أنّ المصدر بوحدته الشخصية كالضرب والقتل موضوع لمعناه ، بخلاف الهيئات فانّها موضوعة بجامعها العنواني فيقال هيئة فاعل وضعت لمن قام بالفعل. وقد أورد عليه بأنّه إن أُريد من نوعية الوضع في الهيئات عدم اختصاصها بمادة معينة فانّ المادة أيضاً غير مختصة بهيئة معينة ، فانّ المصدر له صيغ مختلفة كالضارب والمضروب التي هي كالهيئة بالنسبة إلى المصدر. (102)
وإن أُريد من شخصية الوضع في المواد امتياز كلّ مادة عن الأُخرى ، فكل هيئة أيضاً تتميز عن الأُخرى إذ هيئة الفاعل غير هيئة المفعول.
والظاهر انّ مراد القائل بنوعية الوضع في الهيئات وشخصيته في المواد هو انّ الهيئة غير قابلة للحاظها مستقلّة بل تلاحظ في ضمن مادة لكن وضعها كذلك كالضارب يوجب عدم اطّرادها في مادة أُخرى ، فيجب أن توضع بشكل لا يكون للمادة ( الضرب ) فيها أي مدخلية كأن يقال : هيئة ضارب وما يشبهها ، وهذا معنى نوعية الوضع في الهيئة ، فليس الوضع متعلّقاً لهيئة شخصية قائمة بمادة معلومة ، بل لها ولما يشبهها. وأمّا المادة فهي قابلة للحاظها استقلالاً فلا تكون مقيدة بالهيئة ولو استخدمنا الهيئة فإنّما هي لإمكان النطق بها لا للحاظها مستقلاً. فإن قلت : فعلى ذلك يكون المصدر هو مادة المشتقات مع أنّ المادة يجب أن تكون موجودة بعامة خصوصياتها في المشتقات ، ومن المعلوم انّ المصدر وإن كان موجوداً بمادته في سائر المشتقات ولكن هيئته غير موجودة ، لأنّها تمنع طروء الصيغ المختلفة عليه. قلت : إنّ هيئة المصدر ليست جزءاً ، وإنّما استخدمنا الهيئة لإمكان النطق بها. فالموضوع هو ( ض ، ر ، ب ) والهيئة آلة لإمكان النطق بها. وعليه تكون المادة متوفرة في جميع الصيغ. (103)
الأمر السابع
في علائم الوضع
قد ذكروا لتمييز الموضوع له عن غيره أو تمييز الحقيقة عن المجاز علائم أربع ، نذكرها واحدةً بعد الأُخرى.
أو تمييز الحقيقة عن المجاز العلامة الأُولى : التبادر
التبادر عبارة عن سبق المعنى من اللفظ عند الإطلاق بنفسه من غير قرينة.
وبعبارة أُخرى : انسباق المعنى إلى الذهن من حاقِّ اللفظ لا عن القرينة بحيث كان السبق مستنداً إلى اللفظ نفسِه لا إلى القرينة فيكون دليلاً على أنّه موضوع له ، إذ ليس لحضور المعنى منشأ إلاّ أحد أمرين : إمّا القرينة أو الوضع فإذا انتفى الأوّل ثبت الثاني. ثمّ التبادر إنّما يكون كاشفاً عن الوضع إذا كان سبق المعنى من اللفظ أمراً (104)
مرتكزاً في النفس كما هو الحال في أهل اللغة حيث إنّ الإنسان إذا نشأ وترعرع بين أهل اللغة يرتكز معنى اللفظ في ذهنه فإذا تبادر بلا قرينة يكون دليلاً على الوضع.
فإن قلت : إنّ سبق المعنى إنّما يكون دليلاً على الحقيقة إذا فُسّـر المجاز باستعماله في غير ما وضع له ، وأمّا على القول المختار من أنّ المجاز هو اللفظ المستعمل في الموضوع له ـ كالحقيقة ـ لكن بادّعاء انّ المنطبق عليه من مصاديق اللفظ ، فلا يكون دليلاً على الحقيقة لاشتراكهما في أنّ المستعمل فيه هو الموضوع له. قلت : إنّ المستعمل فيه في الحقيقة والمجاز و إن كان واحداً لكن يفترقان بانسباق نفس المعنى الحقيقي من اللفظ مجرداً عن الادّعاء بخلاف المجاز فانّ الانسباق فيه على أساس الادّعاء. مشكلة الدور في التبادر وقد أورد على كون التبادر علامة الوضع لاستلزامه الدور ، فانّه يُستخدم للعلم بالوضع ، وعلى ذلك فالعلم بالوضع متوقّف على التبادر ، وهو متوقّف على العلم بالوضع ، إذ لولا العلم به لما تبادر. يلاحظ عليه : بأنّ المستعلِم ( بالكسر ) إمّا من أهل اللسان أو من غيره ، فإن كان من أهل اللسان فالعلم التفصيلي بالوضع ، موقوف على تبادره ولكن تبادره موقوف على العلم الارتكازي بالوضع الذي ربّما يعبّر عنه بالعلم الإجمالي ، وهذا النوع من العلم الارتكازي يحصل للإنسان الناشئ بين أهل اللغة منذ نعومة أظفاره. وإن كان المستعلم من غيرهم فعلمه تفصيلاً بالوضع موقوف على تبادر (105)
المعنى من اللفظ عند أهل اللسان وتبادرهم موقوف على علمهم بالوضع من طرق شتّى.
ثمّ إنّ هناك كلاماً للمحقّق العراقي في رفع الدور حيث قال : إنّ العلم المستفاد بالتبادر غير العلم الذي يتوقف عليه التبادر حتى لو قلنا بتوقفه على العلم التفصيلي ، لأنّه يكفي في ارتفاع الدور تغاير الموقوف والموقوف عليه بالشخص لا بالنوع ولا بالصنف ، ولا شبهة في مغايرة العلم الشخصي الحاصل بالتبادر للعلم الشخصي الذي يتوقف عليه التبادر. (1) يلاحظ عليه : أنّه إذا كان العلم التفصيلي الثاني موجوداً في لوح النفس قبل التبادر ، فلا معنى لتحصيل مثله كما لا يخفى. بقيت هنا أُمور : الأوّل : ربما يقال إذا كان الموضوع للاحتجاج هو ظهور الكلام سواء أكان حقيقة أم مجازاً فلا فائدة في معرفة الموضوع له ، وتمييز المعنى المجازي عن المعنى الحقيقي والذي يعتبره العقلاء هو ظـهور الكلام سواء كان الموضوع له أو لا. (2) يلاحظ عليه : أنّه إذا كان الكلام ظاهراً في معنى ، كان لما ذكره وجه ، وأمّا إذا كان الكلام مجملاً فانعقاد الظهور موقوف على العلم بالوضع ، وهو يُعرف بالتبادر فيكون لمعرفة الموضوع له أثر وفائدة. الثاني : انّ تبادر المعنى من اللفظ في زماننا لا يثبت كونه المعنى الحقيقي في عصر الرسول والأئمّة ( عليهم السَّلام ) حتى يحمل اللفظ الوارد من الكتاب والسنّة عليه إلاّ أن يعضد بأصالة عدم النقل ، وقلنا بأنّ مثبتاتها حجّة ، ولعلّه على هذا جرت سيرة 1 ـ المحقّق العراقي : بدائع الأفكار : 1/97. 2 ـ المحقّق العراقي : المقالات : 31 ، والتعبير منّا. |
|||
|