|
|||
(211)
الحدث فيما سبق ، والمضارع على تحقّقه فيما يأتي أو الحال ، وصيغة الأمر تدلّ على الطلب في زمان الحال حتى أنّ ابن الحاجب عرّف الفعل بقوله : ما دلّ على معنى في نفسه مقترناً بأحد الأزمنة الثلاثة. (1)
ولكن المشهور بين الأُصوليين المتأخّرين عدم دلالته على الزمان ، واستدلّوا عليه بوجوه غير تامّة ، وإليك سردها : الأوّل : انّ المادة في الأفعال تدلُّ على نفس الحدث ، والهيئة على نسبة الحدث إلى الفاعل ، فما هو الدال على الزمان ؟ يلاحظ عليه : بأنّ الدالّ عليه ـ عند القائل بدلالة الفعل على الزمان ـ هي الهيئة التي تدلّ على نسبة الحدث إلى الفاعل في زمان خاص كما سيوافيك بيانه. الثاني : النقض بصيغة الأمر والنهي ، فانّ مدلولهما إنشاء طلب الفعل أو الترك ، غاية الأمر أنّ نفس الإنشاء بهما متحقّق في الحال وهو غير القول بدلالتهما عليه. يلاحظ عليه : بوجود الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، فانّ الأفعال من قبيل الإخبار الملازم للزمان لكونه ينبئُ عن فعل محقّق أو سيتحقق في المستقبل ، بخلاف الأمر والنهي فانّهما من مقولة الإنشاء ، ولا يلازم مدلولُ الإنشاء الزمانَ. أضف إلى ذلك انّ القائل بالفورية في كلتا الصيغتين يقول بدلالة الأمر والنهي على الزمان الحاضر. الثالث : لو دلّ على الزمان لما صحّ اسناده إلى نفس الزمان ، كما في قوله « مضى الزمان » وإلاّ لزم أن يكون للزمان زمان. ولما صحّ اسناده إلى المجرّد من دون فرق بين أن يكون المجرّد فاعلاً كما في قولك : « علم اللّه » ، فانّ فعله فوق 1 ـ شرح الكافية : للرضي : 1/11. (212)
الزمان ، أو مفعولاً كما في قولك « خلق اللّه الأرواح ».
يلاحظ عليه : أنّ ذلك إثبات اللغة بالبرهان ، مع أنّ الوضع لا يقتضي أن يكون على وفقه ، فالبرهان العقلي شيء والوضع شيء آخر ، فانّ الواضع لم يكن فيلسوفاً حتى يلتفت إلى هذه المحاذير ويضع الفعل للحدث المنتسب إلى الفاعل المجرّد عن الزمان حتى يصحّ اسناده إلى المجردات فاعلاً ومفعولاً ، والمحذور المتوهم في المثال الأوّل ممّا يلتزم به العرف بشهادة أنّه يعتقد أنّ للزمان زماناً ويقول : « كان يوم ، ولم يكن مع اللّه سبحانه شيء ، ثمّ خلق السماوات والأرض والأيّام والليالي » حتى أنّ هذا الزعم سرى إلى بعض المتكلّمين الذين أثبتوا لمجموع العالم حدوثاً زمانياً ، فقالوا : كان زمان ولم يكن شيء سوى اللّه ثمّ خلق ما خلق. ومن هنا يعلم الحال في المثال الثاني ، فإنّ قولنا « علم اللّه » يدلّ على الزمان و إن كان البرهان يقتضي كون فعله فوق الزمان بمعنى أنّ علمه سابق على الزمان أو أنّ فعله غير مقيّد به. وأمّا قوله : « خلق اللّه الأرواح » فمعنى تجرّد الأرواح كونها غير متقيدة بالزمان وإن كانت غير خارجة عنه. والحاصل : انّ إثبات اللغة بالبراهين الفلسفية ليس طريقاً صائباً ، فاللازم تحليل مسائل كلّ علم حسب الأُسلوب الخاص به. الرابع : المضارع عندهم مشترك في الحال والاستقبال وليس بمشترك لفظي ، وإلاّ لزم استعماله فيهما استعمالاً في أكثر من معنى واحد كما في قولنا : « يضرب زيد اليوم وغداً » ، ولا معنوي لعدم الجامع بين الحال والاستقبال لتباين أجزاء الزمان. يلاحظ عليه : بأنّ الجامع بين الحال والاستقبال أمر انتزاعي ، وهو « ما لم (213)
يمض من الزمان » ، و هو كاف في الوضع إذ يمكن به الإشارة إلى الموضوع له.
الخامس : انّ الماضي عندهم ربّما يستعمل فيما هو مستقبل حقيقة ، وبالعكس ، مثل قولك : « يجيئني زيد بعد عام ، وقد ضرب قبله بأيّام » و قولك : « جاء زيد في شهر كذا ، وهو يضرب في ذلك الوقت » أو « فيما بعده » أو « فيما مضى ». يلاحظ عليه : أنّ الملاك في كون الشيء ماضياً أو مضارعاً ، إمّا حال التكلّم أو الحدث الذي قورن به الكلام ، والمثالان من قبيل الثاني لا الأوّل ، فانّ الملاك هو المجيء و « ضرب زيد » ماض بالنسبة إليه ، كما أنّ « ضربه » مضارع بالنسبة إليه فلا تعارض. فهذه الأدلّة التي ذكر أكثرها المحقّق الخراساني في الكفاية لا تسمن ولا تغني من جوع. والحقّ أن يقال : أنّ الأفعال ماضيها ومستقبلها تدلّ على الزمان الماضي أو المستقبل بالدلالة الالتزامية ، لا بالدلالة المطابقية ولا التضمنية. ويعلم ذلك بملاحظة أمرين : أ. لا يمكن لأحد أن يُنكر وجود الفرق بين قولنا : ضرب و يضرب ، فانّ الأوّل يقارب من قولنا ضرب في الماضي مثلاً ، والثاني من قولنا يضرب في المستقبل. هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ الزمان ماضيه ومستقبله من المفاهيم الاسمية ولا معنى لأخذها في مداليل الهيئة التي هي من المفاهيم الحرفية. فالأمر الأوّل يجرّنا إلى القول بدلالته على الزمان ، والأمر الثاني يصدّنا عن القول به ، فالذي يمكن أن يقال : انّ المتبادر من الهيئة معنى ينبئُ عن صدور الحدث من الفاعل كما في الأفعال المتعدية ، أو قيامه به كما في الأفعال اللازمة ، أو (214)
ترقّب الصدور عن الفاعل أو ما يقرب من ذلك في الفعل المضارع ، ومن الواضح أنّ الإخبار عن التحقّق أو الترقّب يلازم دلالة الفعل على الماضي والحال والمستقبل ، فالقول بالدلالة صحيح إذا أُريد منه ما ذكرنا.
وإن شئت قلت : إنّ الهيئة موضوعة لسبق الحدث ، أو لترقّب وقوعه ، والسبق والترقّب يلازمان الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال. نعم ليس المراد من وضع الهيئة على مفهوم التحقّق والسبق أو مفهوم الترقّب واللحوق بصورة المعنى الاسمي حتى يقال : انّ الهيئة من الأدوات الحرفية فكيف تدل على المعنى الاسمي ؟! بل المراد واقع السبق وحقيقته أو مصداقه ، وهذا نظير ما يقال انّ لفظة « من » موضوعة للابتداء و انّ « إلى » موضوعة للانتهاء ، فليس المراد انّهما موضوعان لمفهومهما الاسمي بل لواقعهما ومصداقهما وما يعد ابتداءً وانتهاء في الخارج. وما ذكرناه هو خلاصة ما أفاده المحقّق الاصفهاني في تعليقته والسيّد الأُستاذ في درسه. قال الأوّل : إنّ هيئة الماضي موضوعة للنسبة المتقيّدة بالسبق الزماني بنحو يكون القيد خارجاً والتقيّد داخلاً ، وهيئة المضارع موضوعة للنسبة المتقيّدة بعدم السبق الزماني ، لا أنّ الزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال أو غير الماضي بهذه العناوين الاسمية ، مأخوذة في الهيئة كي يقال انّ الزمان عموماً وخصوصاً من المعاني المستقلة بالمفهومية فلا يعقل أخذها في النسبة التي هي من المفاهيم الأدوية. (1) والحاصل : انّ هنا دلالة واحدة وهي الدلالة على سبق الحدث أو ترقّب 1 ـ نهاية الدراية : 1/75 ، ط عبد الرحيم ، طهران. (215)
حصوله ، لكن العقل يحلّله إلى دلالات كثيرة ، وهو أنّ هنا حدثاً ونسبة وفاعلاً وصدوراً سابقاً أو لاحقاً. كما هو الحال في قولنا باللغة الفارسية « زد » أو « مىزند ».
الأمر السادس : ما هي مادة المشتقات ؟ لا شكّ انّ العارف باللغة يُحسّ أنّ هناك معنى سارياً في عامّة المشتقات بحيث إنّ المفاهيم المختلفة تطرأ على ذلك المعنى ، ويصوّره بصور مختلفة ، وهذا ما يسمّى بمادة المشتقات ، فالهيئات تفيد معاني مختلفة لكن الجميع ينصبُّ على معنى واحد ، فتارة يلاحظه صادراً عن الفاعل ، وأُخرى واقعاً عليه ، وثالثة متحقّقاً في زمان ومكان ، إلى غير ذلك من المعاني الطارئة ، وهذا يدلّنا على أنّ في المشتقات مادة سيّالة متضمّنة معنى سارياً في عامّة الصحيح في جميع الصور. ويؤيد ذلك أنّه كثيراً ما يعلم الإنسان مفهوم الهيئة ولكن يجهل بمفاد المادة ، وهذا آية تعدد الوضع وانّ هناك شيئا موضوعاً لمعنى ، و الهيئة موضوعة لمعنى آخر ، وقد اختلفت كلمتهم في تعيين ما هي المادة السارية لهذه المشتقات الكثيرة إلى مذاهب : الأوّل : انّ المصدر أصل ، والفعل والوصف مشتقان منه ، وهذا خيرة البصريين. الثاني : انّ الفعل أصل ، والمصدر مشتق منه ، وهذا مذهب الكوفيين ، وإلى المذهبين يشير ابن مالك في ألفيته ، يقول :
(216)
الرابع : انّ كلاً من المصدر والفعل أصل برأسه. (1)
وهناك مذهب خامس سيوافيك بيانه وهو خيرة السيّد الأُستاذ قدَّس سرَّه. وهم وإزاحة إنّ بعض المتأخّرين من الأُصوليين نفوا كون المصدر أصلاً ومادة للمشتقات قائلين بأنّ الأصل يجب أن يكون محفوظاً في فروعه بمادته وهيئته مع أنّ هيئة المصدر مانعة من كونه أصلاً لسائر المشتقات ، لعدم إمكان حفظ الهيئة فيها. وبالجملة : انّ نسبة مادة المشتقات إليها كالمقسم بالنسبة إلى سائر الأقسام ، فكما أنّه يشترط وجود المقسم في عامة الأقسام ، فيجب وجود المصدر بهيئته ومادته في جميع المشتقات ، ولكنّه أمر غير ممكن ، لأنّ هيئة المصدر آبية عن انضوائها في هيئة أُخرى ، فلابد من إزالة الهيئة السابقة وهي لا تجتمع مع مبدئيتها للمشتقات. يلاحظ عليه : بأنّه نشأ من قياس المبدأ في عالم الألفاظ بما هو المبدأ في عالم التكوين والحقائق العينية ، فانّ الهيولى الأُولى مادة الكون وهي عارية عن كلّ الفعليات حتى تصلح لئن تتعاقب عليها صور كثيرة ، وأمّا المبدأ في عالم الألفاظ فلا دليل على لزوم كونه عارياً عن كلّ الخصوصيات ، بل يكفي وجود سريان حروفه مع ترتيبها في عامة المشتقات. فالمصدر أشبه بالمبدأ في التراكيب الصناعية ، فانّ القطن يُعد مبدأ لكثير من الألبسة حيث إنّه مادة للخيط والثياب ، والنفط مادة للصناعات البلاستيكية 1 ـ لاحظ شرح ابن عقيل : 1/473 ـ 474. (217)
مع أنّهما غير مأخوذتين بعامة الخصوصيات في فروعهما.
فإذا كان الحال كذلك في التراكيب الصناعية ، فليكن كذلك في عالم الألفاظ فانّ المصدر لما كان أقل وأبسط من حيث المعنى عن سائر المشتقات ، أخذ مبدأ لها ، وأمّا لزوم حفظ عامّة خصوصيات المبدأ في الفروع فهو أشبه بلزوم ما لا يلزم. فإن قلت : إنّ المصدر يشتمل على نسبة ناقصة ، فهي تمتنع عن كون المصدر مادة المشتقات. قلت : إنّ اشتما ل المصدر على النسبة الناقصة لا يضرّ بالمقصود ، لأنّها نسبة مبهمة قابلة لتوارد النسب المختلفة عليه. نعم لو اشتمل على نسبة تامّة كالفاعلية أو المفعولية فهي تمنع عن التلوّن بألوان النسب. فإن قلت : فعلى هذا فاسم المصدر أولى بأن يكون مادة المشتقات ، لأنّه فاقد حتى نفس هذه النسبة الناقصة ، وإنّما يدل على مجرّد الحدث. قلت : إنّ اسم المصدر نادر الوجود فلا يكن اتخاذه مبدأ ومصدراً. فإن قلت : لو كان للمادة وضع مستقل وراء وضع الهيئات ، للزم تعدد الدلالة ، وهو يستلزم تعدد المداليل ، وهو لا يناسب بساطة المشتق الذي اتّفقت عليه كلمتهم في هذه الأعصار ، على أنّ تعدد المداليل خلاف المتبادر في عامّة الصيغ. قلت : إنّ وجود المادة لما كان مندكّاً في الهيئة ومتحصلاً بتحصلها ، ومتحداً معها بنحو من الاتحاد ، اندكت دلالتها في دلالة الهيئة ، فصار اللفظ بهيئته و مادّته مفيداً لمعنى واحد. ثمّ إنّ هيئة المصدر لما كانت مانعة عن كون المصدر مادة للمشتقات عند (218)
السيّد الأُستاذ قدَّس سرَّه ذهب إلى أنّ المبدأ عبارة عن الحروف المترتبة مجرّدة عن كلّ هيئة ، كحروف « ض ، ر ، ب » فهي موضوعة لنفس المعنى مجردة عن كلّ خصوصية ونسبة فاعلية أو مفعولية.
فإن قلت : إنّ اللفظ الموضوع لابدّ وأن يكون قابلاً للتنطّق والتلفظ ، والمادة العارية عن كلّ صورة غير قابلة له. قلت : إنّ وضع المادة لما كان وضعاً تهيئياً لأن تتلبس بالهيئات الكثيرة من الماضي والمضارع ، فلا يلزم أن تكون قابلة للتنطق. (1) يلاحظ عليه : أنّ العرف العام لا يضع لفظاً لمعنى ما لم ينطق به فهو بالنطق به يضع اللفظ غالباً ، وقد مرّ أنّ وضع غالب الألفاظ وضع تعيني لا تعييني ، ووضع المادة بلا هيئة يحتاج إلى قدرة فكرية خارج عن إطار قدرة الواضع الساذج. ولذلك استقرّ نظره أخيراً على أنّ المصدر مادة المشتقات ، لكن الهيئة غير دخيلة في المبدئيّة بل دخيلة في إمكان النطق به ، ولو أمكن النطق به بلا هيئة لوضعها بلا هيئة ، و على ذلك يصبح النزاع أشبه باللفظيّ. الأمر السابع : التفصيل في بعض المشتقات ونقده ربّما يفصل بين المشتقات فيتوهم أنّ بعضها حقيقة في المتلبّس والبعض الآخر في الأعم ، وذلك فيما لو كان المبدأ فيه حرفة أو قوّة أو ملكة فانّ المشتق يصدق مع عدم التلبّس بالمبدأ وذلك كالكاتب والمثمر والمجتهد. وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بما حاصله : أنّ اختلاف المشتقات في المبادئ وكون المبدأ في بعضها حرفة وصناعة ، وفي بعضها قوّة وملكة ، وفي بعضها 1 ـ تهذيب الأُصول : 1/105 ـ 106. (219)
فعلية ، لا يوجب تفصيلاً في المسألة ، بل يوجب طول التلبّس وقصره حسب اختلاف المبادئ ، فلو كانت المادة فعلية يكون المتلبّس أقل مدّة مما إذا كانت المادة حرفة أو ملكة أو قوّة.
توضيح ذلك : أنّ المبدأ تارة يؤخذ على نحو الفعلية كقولنا قائم ، وأُخرى على نحو الحرفة كقولنا تاجر ، وثالثة على نحو الصناعة كقولنا : حدّاد ونسّاج ، ورابعة على نحو القوّة كالشجر المثمر ، وخامسة على نحو الملكة كالطبيب والمجتهد ، وسادسة على نحو الانتساب إلى الأعيان الخارجية كقولنا لابن وتامر. فعند ذلك يختلف واقع التلبّس حسب اختلاف المبادئ ، ففي القسم الأوّل : يشترط كونه واجداً للمبدأ فعلاً ولذلك لا يصدق القائم على القاعد. وفي الثاني والثالث : يكفي اتخاذه حرفة وصنعة مادام لم يعرض عنهما وإن لم يكن يمارس فعلاً. وفي الرابع : يكفي كونه واجداً لقوة الإثمار في مقابل فقدانها وإن لم يثمر الآن ، فالشجرة الواجدة لتلك القوّة شجرة مثمرة حتى في أيام الشتاء. نعم لو زالت قوّة الاثمار لخرجت عن كونها مثمرة. وهكذا الأمر في الخامس والسادس ، فمادام الطبيب والمجتهد يملكان ملكة الطبابة والاجتهاد يصدق عليهما أنّهما طبيب ومجتهد إلاّ إذا زالت الملكة. وإلى ذلك يرجع قول بعضهم من أنّ تلبّس كلّ شيء بمادة حسب اختلاف المادة. وعند ذلك يقع النزاع في أنّ هيئة المشتق هل رخصت للمتلبّس الذي تقتضيه مادته أو للأعم منه وممّن انقضى عنه المبدأ ؟ وبذلك يعلم أنّ اختلاف كيفية التلبّس لا يوجب اختلافاً فيما هو الملاك غير أنّ الظاهر من المحقّق الخراساني أنّ الاختلاف في كيفية التلبّس ينشأ من (220)
جانب المادة كما هو الغالب فيما مضى ، ولكنّه ربّما ينشأ من الهيئة وذلك كما في المفتاح والمسجد ، فانّ المادة فيهما أعني الفتح والسجود من قبيل الفعليات لكن الهيئة وُصفت لما يصلح للفتح أو يكون معداً للسجود وإن لم يفتح به أو لم يسجد فيه.
بل ربّما ينشأ الاختلاف من كيفية الجري ، فإذا قلت : هذا المائع سم قاتل ، يستفاد منه أنّ المبدأ أخذ بالقوّة ، وأمّا إذا قلت ، زيد قاتل ، فيراد منه أنّه قاتل بالفعل. الأمر الثامن : ما هو المراد من الحال في عنوان البحث ؟ المذكور في عنوان المسألة في الكتب هو أنّ المشتق حقيقة في المتلبّس في الحال أو الأعم منه وممّن انقضى عنه المبدأ ، فاختلفت كلمتهم في تفسير الحال إلى أقوال : الأوّل : أنّ المراد هو زمان النطق بالمشتق. وهذا الاحتمال مردود بوجوه : أ. عدم دلالة المشتق على الزمان. ب. اتّفاقهم على أنّ قولنا : كان زيد ضارباً أمس ، أو سيكون ضارباً غداً ، حقيقة إذا كان متلبّساً بالمبدأ في ظرف النسبة ، وهذا يدل على أنّ المشتق لم يوضع للمتلبّس في زمان النطق. ج. أنّ هذا الاحتمال يوجب كون المشتق مجازاً في أغلب الموارد ، لأنّ التلبّس في زمان النطق أقلّ مصداقاً من غيره. الثاني : انّ المراد زمان التلبّس. (221)
وهذا الاحتمال لا ينسجم مع عنوان البحث لاستلزام أن يكون اللفظ « في الحال » أمراً زائداً حيث إنّهم عنونوا البحث بالشكل التالي وقالوا : « هل المشتق حقيقة في خصوص ما تلبّس بالمبدأ في الحال أو فيما يعمّه » ولا معنى لقولنا : « تلبّس بالمبدأ في حال التلبس » لأنّ المتلبّس بالمبدأ يتلبّس في حال التلبّس.
الثالث : انّ المراد زمان الجري والنسبة. وهذا هو الذي اختاره المحقّق الخراساني وغيره ، وحاصله : أنّه موضوع للمتلبّس بالمبدأ في ظرف النسبة ، فلو كان ظرف التلبس موافقاً لظرف النسبة فهو حقيقة وإلاّ فهو مجاز ، فإذا قلت : زيد ضارب غداً ، فلو أردت أنّ المتلبّس بالضرب غداً ، ضارب غداً يكون حقيقة ، ولو أُريد انّ المتلبّس بالضرب غداً ، ضارب فعلاً فهو مجاز. (1) يلاحظ عليه بأُمور : الأوّل : انّ مدلول المشتق بسيط ووضعه للمتلبّس في حال الجري وزمان النسبة يستلزم كونه مركّباً ودالاً على الزمان تضمناً ، وهو لا يجتمع مع كونه بسيطاً. الثاني : انّ ما ذكره إنّما يتمشّى في الجمل الإخبارية ، وأمّا الجمل الإنشائية مثل قولك : « أكرم العالم » لأنّ الجمل الإنشائية لا تدلّ على الزمان حتى يقال : إذا طابق زمان التلبّس مع زمان النسبة فهو حقيقة وإلاّ فهو مجاز. الثالث : وهو بيت القصيد في المقام أنّ النزاع في مفاهيم المفردات و معاني الكلمات وانّ لفظ المشتق بما هو هو ـ مع قطع النظر عن كونه مبتدأ أو فاعلاً أو مفعولاً ـ هل هو موضوع للمتلبّس أو موضوع للأعم ؟ والنسبة والجري وتطابق زمان التلبّس مع زمان الجري يوجب أن يكون 1 ـ كفاية الأُصول : 1/66. (222)
البحث في الجمل والمركبات ، والمفاهيم التصديقية مع أنّ البحث إنّما هو في المفاهيم التصورية ، وبذلك يعلم أنّ هذه الاحتمالات كلّها ضعيفة وانّه لابدّ من تفسير الحال بمعنى آخر.
ما هو المختار في تفسير الحال ؟ والحقّ أن يقال أنّ المراد من الحال في عنوان البحث هو فعلية اتصاف الذات بالمبدأ ، ويرجع النزاع إلى سعة المفاهيم وضيقها. فعلى القول بالأخصّ يكون الموضوع له هو الذات المتزامنة مع المبدأ ، وعلى القول الآخر يكون الموضوع له الأعم من المتلبّس ومن انقضى عنه المبدأ. وبذلك ظهر أنّ المراد من الحال هو فعلية التلبّس ومقارنة الذات بالمبدأ. وإن شئت قلت : إنّ العقل يرى جامعاً حقيقياً بين الأفراد المتلبّسة بالمبدأ ولا يرى ذلك الجامع بين المتلبّس وما انقضى عنه المبدأ ، ولو كان هناك جامع ، فالجامع ـ كما سيوافيك ـ جامع انتزاعي فالنزاع في أنّ الموضوع له هو الجامع الحقيقي أو الجامع الانتزاعي فالنزاع حقيقة في تحديد معاني المفردات لا فيما هو المراد من الجمل ، فانّ الثاني يتبع الأوّل. فلو كان المشتق موضوعاً لحكم إنشائي كقولنا : « أكرم العالم » و « صل خلف العادل » فعلى القول بالتلبّس يختص الحكم بالموضوع المتّصف بالمبدأ ، فلا يجب إكرام من نسي علمه كما لا يجوز الصلاة خلف من كان عادلاً وأُزيلت عدالته ، بخلافه على القول بالأعم. هذا في القضايا الإنشائية ، وأمّا القضايا الخبرية كقولنا : إنّ زيداً ضارب ، فعلى القول بكونه موضوعاً للمتلبّس بالفعل فهو ينطبق على التلبّس في زمان الجري والنسبة ، بخلافه على القول الآخر ، فهو ينطبق على كلا الظرفين ، ظرف (223)
الجري والنسبة وظرف الانقضاء.
وبعبارة أُخرى : على القول بوضعه للمتلبّس ، فلو قلنا زيد ضارب ، و أردنا منه أنّه ضارب أمس ، فهو حقيقة في ذلك الظرف دون الآخر ؛ وأمّا إذا قلنا بالقول الآخر ، فهو حقيقة في ذلك الظرف وغيره. والقول بأنّ الموضوع له هو المتلبّس بالفعل غير القول بأنّه موضوع للمتلبّس في ظرف النسبة والجري ، نعم ، ينطبق المتلبّس بالفعل عندما ورد في الجملة الخبرية على المتلبّس في ظرف النسبة في الجمل الخبرية ، لكن الانطباق غير كونه موضوعاً له ، وبذلك ظهر الفرق بين المختار و ما ذهب إليه المحقّق الخراساني. الأمر التاسع : ما هو الأصل في المسألة ؟ المراد من الأصل ما ينتهي إليه المجتهد بعد اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي ، فلو ثبت بالدليل الاجتهادي بأنّ المشتق موضوع للمتلبّس أو للأعم فالمستنبط في غنى عن هذا الأصل ، وإنّما يحتاج إليه إذا لم يتبين له ما هو الواقع حسب الدليل الاجتهادي ، فكون الأصل مرجعاً فرع اليأس عن الظفر بالدليل الاجتهادي. ثمّ إنّ الأصل في المقام إمّا لفظي أو عملي ، والعملي إمّا موضوعي أو حكمي. أمّا الأوّل : فالمراد منه هل الأصل تقديم المجاز على الاشتراك المعنوي ، أو الأصل العكس ؟ فعلى القول بكونه موضوعاً للمتلبّس يكون استعماله في ما انقضى عنه المبدأ من باب المجاز ، وأمّا على القول الآخر يكون اللفظ موضوعاً لمعنى جامع بين المصداقين ، ويكون مشتركاً معنوياً ، وبما أنّه لا ترجيح عندنا (224)
لتقديم أحد الأصلين على الآخر ـ كما أوضحنا حاله فيما سبق ـ فليس هنا أصل لفظي ، وانحصر البحث في الأصل العملي وهو إمّا موضوعي جار في تنقيح الموضوع وإمّا حكمي.
أمّا الأوّل : فكقولنا : الأصل عدم الوضع للأخص ، أو الأصل عدم وضعه للأعم ، فهذا الأصل ساقط في المقام لوجوه : أ. تعارض الأصلين في كلّ من الجانبين. ب. انّ هذا الأصل مثبت ، فانّ عدم الوضع للجامع بين أفراد المتلبّس لا يثبت كونه موضوعاً للجامع الوسيع الشامل للمتلبّس وغير المتلبّس ، لأنّه من اللوازم العقلية. ج. انّ هذا النوع من الأصل غير معتبر عند العقلاء ، فانّ الغاية من إجراء الأصل عندهم هو كشف المراد لا تحديد المعنى اللغوي كما هو المفروض في المقام. وأمّا الأصل الحكمي الشرعي في موارد الشكّ ، فهو يختلف حسب اختلاف الموارد. قال المحقّق الخراساني : فلو كان الانقضاء قبل انشاء الحكم وشككنا في سعة الحكم وضيقه لأجل الشكّ في معنى المشتق ، تكون أصالة البراءة محكّمة ، كما إذا قال : « أكرم العلماء » وقد انقضى المبدأ قبل إنشاء الحكم عن بعض الأفراد ، وأمّا إذا كان الانقضاء بعد إنشاء الحكم فاستصحاب الوجوب محكَّم. (1) وحاصله : انّه إن كان الشكّ في الحدوث تجري أصالة البراءة ، وإذا كان الشكّ في البقاء تجري قاعدة الاشتغال ، فلو كان الانقضاء قبل إنشاء الحكم يرجع 1 ـ كفاية الأُصول : 1/68. (225)
الشكّ إلى سعة الحكم وضيقه فتجري فيه البراءة ، وأمّا إذا كان الانقضاء بعد انشاء الحكم يرجع الشكّ إلى بقاء الوجوب والأصل بقاؤه.
هذا فيما إذا كان الواجب عامّاً استغراقياً ، وأمّا إذا كان الواجب عامّاً بدلياً كما إذا قال : « أكرم عالماً » ، فالثمرة أيضاً مترتبة فلا يسقط التكليف إلاّ بإكرام المتلبّس في الصورة الأُولى ، ولا يسقط بإكرام المنقضي عنه المبدأ للشكّ في شمول الحكم له حتى يسقط بامتثاله ، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بالأعم ، فيجوز الاقتصار بإكرام من انقضى عنه المبدأ لشمول الحكم له على ذلك الفرض. فاتضح بذلك ظهور الثمرة في كلا المقامين : إذا كان الواجب استغراقياً ، وإذا كان الواجب عامّاً بدلياً. ثمّ إنّ صاحب المحاضرات اختار أنّ الأصل على كلا القولين هو البراءة فيما إذا كان الواجب عامّاً استغراقياً ؛ أمّا إذا كان إنشاء الحكم بعد الانقضاء ، فواضح لكون الشكّ في الحدوث ؛ وأمّا إذا كان الانقضاء بعد الإنشاء ، فلا يجري سواء قلنا بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية وعدمها ، أمّا على الثاني ، أعني : عدم جريانه في الأحكام الكلية فواضح ، وأمّا على القول بجريانه فوجه عدم الجريان في المقام لأجل نكتة خاصة وهي عدم إحراز بقاء الموضوع ، فانّ الشبهة فيه مفهومية ، لأنّ الموضوع له مردد بين خصوص المتلبّس أو الأعمّ منه ومن المنقضي ، فالاستصحاب لا يجري في الحكم لعدم إحراز وحدة القضية المتيقنة مع المشكوكة ، مثلاً : العالم بما له من المعنى موضوع للحكم ، فالتمسّك باستصحاب بقاء الحكم غير ممكن للشكّ في بقاء الموضوع. (1) أقول : وتحقيق المقام يتوقّف على البحث في موضعين : 1 ـ المحاضرات : 1/257 ـ 258. |
|||
|