|
|||
(256)
وأوضحه المحقّق الاصفهاني بأنّ ملاك المغايرة في الحمل الأوّلي ، هو المغايرة بالاعتبار الموافق للواقع ، وفي الحمل الشائع هو المغايرة بالمفهوم. (1)
يلاحظ عليه : أنّ ما ذكروه وإن كان صحيحاً لكنّه ليس ملاكاً ومصححاً للحمل وذلك أنّ مناط الحمل هو الوحدة والهوهوية لا التغاير والاثنينية ، فاشتراط وجود التغاير بين الموضوع والمحمول في صحّة الحمل أمر غير صحيح. نعم يشترط في كون الحمل مفيداً وخارجاً عن اللغو والعبث أن يكون بينهما تغاير إمّا اعتباراً أو إجمالاً وتفصيلاً ، أو مفهوماً. والحاصل : انّ ملاك الحمل هو تناسي التغاير حتى يجوز الحمل بأنّه هو والتوجه إلى التغاير يعوق الإنسان عن الحمل. نعم الحمل المفيد رهن وجود التغاير بينهما ، وإلاّيصير أمراً لغواً ، فهؤلاء خلطوا بين ملاك الحمل وكونه مفيداً. ثمّ إنّه يظهر من صاحب الفصول الاكتفاء بهذا الملاك في مورد يكون التغاير اعتبارياً والوحدة حقيقة ، كما في قولك : « هذا زيد » أو « الناطق إنسان » وأمّا إذا انعكس بأن كان التغاير حقيقياً والاتحاد اعتبارياً كقولك : الإنسان جسم ، فيحتاج وراء ذلك إلى أمرين آخرين : الأوّل : أخذ الأجزاء لابشرط كما في المثالين ، ولأجل ذلك لا يصحّ حمل البدن والنفس على الإنسان ، ولا يصحّ أن يقال : الإنسان بدن ( مكان الجسم ) ، أو نفس ، مكان الناطق. الثاني : تنزيل الأشياء المتغايرة منزلة شيء واحد وملاحظتها من حيث المجموع والجملة ، فتلحقه بذلك الاعتبار وحدة اعتبارية ، فيصحّ حمل كلّ جزء من 1 ـ نهاية الدراية : 1/97. (257)
الأجزاء لابشرط ، عليه. وحمل كلّ واحد منها على الآخر بالقياس إليه نظراً إلى اتحادهما فيه. (1)
يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ملاحظة التركيب يعطي للمحمول وصف الجزء من الكل ، وعندئذ يمتنع حمله عليه كامتناع حمل كلّ جزء على الكلّ ، مثل زيد يد أو رجل ، اللّهمّ إلاّ بالعناية والمجاز ، وإلى هذا الإشكال يشير المحقّق الخراساني بقوله : « بل يكون ذلك مخلاً لاستلزام المغايرة بالجزئية والكلية أي كون الموضوع كلاً والمحمول جزءاً. وثانياً : انّه خلط بين الأجزاء الحدية والأجزاء الحملية ، فلو لوحظ كلّ من الجنس والفصل جزءاً للنوع وتركبه منهما فعندئذ يصير كلّ من الحيوان والناطق من الأجزاء الحدية ولا يصحّ حمل واحد منهما على النوع ، وهذا بخلاف ما لو لوحظا على نحو الإبهام على نحو يكون كلّ عين الآخر ، وعندئذ يصبحان من الأجزاء الحملية ، فيصحّ أن يقال « الإنسان حيوان » فما ذكره من حديث الجزئية والكلية من آثار الأجزاء الحدية لا الأجزاء الحملية. المسألة الرابعة : مغايرة المبدأ للذات قد مرّ سابقاً أنّه يشترط في صحّة الحمل أو كونه مفيداً ـ على ما عرفت ـ مغايرة المحمول مع الموضوع ، فعند ذلك ربّما يشتبه الأمر على بعضهم من أنّه إذا كان ملاك الحمل هو المغايرة ، فكيف تحمل صفاته سبحانه مثل « العالم » و « القادر » عليه سبحانه مع أنّه صفاته تعالى عين ذاته لا تغاير بينهما ؟ وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني من أنّ المراد من المغايرة هو التغاير 1 ـ الفصول : 62. (258)
الاعتباري أو الإجمالي والتفصيلي أو التغاير المفهومي ، وكلّ منها لا ينافي الاتّحاد العيني والخارجي ، فمفهوم العالم والقادر وإن كان غير مفهوم الموضوع ولكنّهما عينه خارجاً ، وعلى هذا لا نحتاج في إجراء الصفات إلى التأوّل بالنقل أو التجوز.
أقول : لو كان محور البحث وروح الإشكال هو ما ذكره المحقّق الخراساني في وجود توهّم التضاد بين شرطية التغاير في صحّة الحمل وعينية صفاته مع ذاته لكان لما أجابه مجال ، وذلك لأنّه يشترط في التناقض الوحدات الثمانية وهي هنا منتفية ، وذلك لأنّ مصب التغاير هو المفاهيم ، ومصب الوحدة هو العينية الخارجية ، فلا تصادم بين الكلامين. وأمّا لو كان محور البحث أمراً آخر وهو أنّ المتبادر من المشتق هو زيادة العنوان على الذات ، وعندئذ يصبح جواب المحقّق الخراساني أجنبياً عن البحث ، وإليك التفصيل : إنّ مذهب الحقّ أنّ صفاته تعالى قديمة لا حادثة خلافاً للكرامية. وانّها عين ذاته لا زائدة عليها خلافاً للأشاعرة. فالإمامية والأشاعرة يتفقان في كون الصفات قديمة لا حادثة ، ولكنّها عند الأشاعرة زائدة على الذات تمسّكاً بظواهر بعض الآيات مثل قوله سبحانه : ( أنزله بعلمه ) (1) الظاهر في أنّ علمه غير ذاته ، ولكن الإمامية قائلة بعينية الصفات ، وإلاّ يلزم القدماء الثمانية عدد الذات والصفات السبعة الجمالية. هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ المتبادر من المشتق هو المعنون ، لا المبدأ فقط كما عليه الشريف ، ولا الذات والنسبة والمبدأ على نحو التفصيل ، بل المفهوم الوحداني المنحل عند التعمل إلى ذات وعنوان. 1 ـ النساء : 166. (259)
فإذا كان المتبادر من الصفات كالعالم والقادر هو المعنون بما هو معنون يلزم عدم صحّة إجراء الصفات الثبوتية عليه تعالى ، لأنّ مقتضى المحمول في قولنا : « اللّه عالم » هو زيادة العنوان على المعنون مع أنّ العقيدة على خلافها.
فلو كان محور البحث هو هذا لأصبح كلام المحقّق الخراساني في « أنّ صفاته وإن كانت عين ذاته خارجاً لكنّه غيرها مفهوماً » أمراً لا صلة له بالإشكال. نعم يكون كلام صاحب الفصول من الالتزام بالنقل والتجوّز في ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى كلاماً مرتبطاً وإن كان غير صحيح ، وذلك لانّا نجري تلك الصفات على اللّه سبحانه كجريها على غيره من دون تجوّز ولا نقل. فعلى ذلك يجب حلّ المسألة من طريق آخر. ويمكن حل الإشكال بوجهين : الأوّل : ما أجاب به سيدنا الأُستاذ بأنّه لا يفهم من لفظ العالم إلاّ المعنون من حيث هو كذلك ، وأمّا زيادة العنوان على المعنون وقيامه به فهو خارج عن مفهومه ، فالمشتق يدل على المعنون ، والعينية والزيادة من خصوصيات المصاديق. (1) يلاحظ عليه : بأنّ دلالة الهيئة على مغايرة المبدأ لما يحمل عليه ليس أمراً خفياً لقضاء التبادر بذلك. الثاني : أنّ المتبادر من المشتق هو المعنون ، والذات المتلبّسة بالمبدأ ، وظاهره زيادة العنوان على الذات ، ونحن نجري أوصافه سبحانه عليه بهذا المعنى ، ونستعملها في المعنى المتبادر عرفاً بالإرادة الاستعمالية غير انّ البرهان قام على 1 ـ تهذيب الأُصول : 1/228. (260)
عينية صفاته مع ذاته ، فترفع اليد عن هذا الظهور بالدليل العقلي ، فالمراد الجدي عند من قام الدليل عنده على العينية ، غير المراد الاستعمالي الذي يشترك فيه العالم والجاهل والفيلسوف والمتكلّم.
وقيام البرهان على الوحدة لا يكون سبباً لتغيير اللغة والمتبادر العرفي ، غاية الأمر أنّ الأكثرية الساحقة من الناس لا يتوجهون إلى هذه الدقائق ، فيستعملون اللفظ فيه سبحانه على النحو الذي يستعملونه في غيره ولا يرون الزيادة مخلّة بالتوحيد. والحاصل أنّ هنا مقامين : الأوّل : اللغة ، الظهور ، والتبادر. الثاني : العقيدة والبرهان والاستدلال. وليس من شأن العقيدة تفسير اللغة والمتبادر العرفي ، كما أنّه ليس للظواهر أنْ تصادم البراهين العقلية ، فلكلّ طريقه ومجراه. المسألة الخامسة : في قيام المبدأ بالذات هل يشترط في صحّة الحمل قيام المبدأ بالموضوع أو لا ؟ وجوه وآراء. الأوّل : يشترط قيام المبدأ بالذات قياماً حلولياً ، وهذا ما عليه الشيخ الأشعري حيث فسّر كونه سبحانه متكلّماً بأنّ التكلّم من صفات الذات القائم بها قياماً حلولياً ، وكلامه هو الكلام النفسي لا الكلام اللفظي ، ولا ما هو المفهوم من اللفظ. الثاني : عدم اعتبار قيامه بالذات ، بشهادة أنّه يصدق على الفاعل أنّه ضارب ومؤلم مع أنّ الضرب غير قائم بهما بل بالمولم والمضروب. (261)
الثالث : ما اختاره صاحب الفصول من أنّه يعتبر قيام المبدأ بالذات قياماً أعم من الحلول كما في قولنا « زيد عالم » أو بالصدور كما في « زيد ضارب ومولم » أو بغير هذا النحو من القيام بالوقوع عليه كما في المفعول به أو الوقوع فيه كما في أسماء الزمان والمكان كالمضرب.
نعم لا يشترط على مختاره قيام المبدأ بالذات إذا كان المبدأ ذاتاً لا وصفاً كصفاته سبحانه بالنسبة إلى ذاته ، أو كان كمثل اللابن والتامر إذ ليس المبدأ ـ أعني : التمر واللبن ـ قائماً ببائعهما. الرابع : ما اختاره صاحب الكفاية من لزوم قيام المبدأ بالذات وتلبّسها به ، غير أن تلبّس كلّ شيء بحسبه ، ففي صفاته الجارية عليه تعالى ، يكون المبدأ مغايراً له تعالى مفهوماً ، وقائماً به عيناً بنحو من القيام لا أن يكون هناك اثنينية أو كان ما بحذائه غير ما بحذاء الذات. وعدم اطّلاع العرف على مثل هذا التلبّس من الأُمور الخفية لا يضر بصدقها عليه تعالى على نحو الحقيقة إذا كان لها مفهوم صادق عليه تعالى حقيقة ولو بنحو من التأمل والتعمل من العقل. فإن قلت : إنّ مثل هذا التلبّس لا يعد عرفاً من مصاديق القيام وتلبّس الذات به. قلت : إنّ العرف مرجع في تعيين المفاهيم لا في تطبيقها على مصاديقها. يلاحظ عليه أوّلاً : إنّ المتبادر في القيام والتلبّس ، التعدّد والاثنينية ، فإذا كان المبدأ عين الذات في عامّة المراحل ، كيف يمكن أن نتصوّر قيام شيء بشيء أو تلبّسه به ؟ وما ذكره من التعابير المتكررة نوع تلاعب بالألفاظ وليس له من الحقيقة نصيب. وثانياً : أنّ ما ذكره من أنّ العرف مرجع لتحديد المفاهيم لا لتعيين المصاديق (262)
أمر غير تام ، بل العرف مرجع في كلا الموردين ، ولذلك لا يعدّ لون الدم دماً واجب الاجتناب ، وذلك لأنّ لون الدم غير الدم عرفاً وإن كان حسب التحليل الطبي أو العقلي مرتبة من اللون.
والحقّ أن يقال : انّ العقيدة لا تمسّ اللغة ولا تغيّـرها ، فنحن نجري صفاته تعالى عليه بما له من المعنى من دون أي نقل وتجوّز ، وظاهره زيادة العنوان على المعنون ، أو تلبّس الذات بشيء ورائها ، أو قيامه بها ، لكن دلّ البرهان على أنّ هذا الظهور غير معتبر عقيدة ، لدلالة العقل على أنّ صفاته سبحانه عين ذاته. قال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « شهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه. (1) وقوله ( عليه السَّلام ) : « لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف » إشارة إلى ما ذكرناه من المتفاهم العرفي من الصفات ، ولكن الإمام نفى الاثنينية بالبرهان ، لا بالتصرّف في معاني المشتقات ، ولا إشكال في أنّه يستعمله العامي والحكيم في معنى واحد في حقّه سبحانه إرادة استعمالية غير أنّ المراد الجدي لدى الحكيم يغاير الاستعمالي. وأظن أنّ القوم لو فتحوا باباً خاصّاً للألفاظ ومعانيها ، وباباً آخر للعقائد ، بحيث لا يكون ظهور اللفظ مبدأً للعقيدة ، ولا العقيدة صادمة لظهور اللفظ ، لكان أحسن. والحاصل : نحن نشاطر المحقّق الخراساني الرأي في أنّ الصفات الكمالية ، تطلق على الممكن والواجب بمعنى واحد من دون أن يكون في الإطلاق الثاني 1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة الأُولى. (263)
تجوّز أو نقل لكن نختلف معه في أنّه يدّعي انّ مفهوم المشتق الذي هو التلبس والقيام صادق على الممكن والواجب ولا يتنافيان مع عينية صفاته لذاته لأن تلبّس كلّ شيء بحسبه ولا يتوقفان على أن يكون ما بحذاء أحدهما عين الآخر.
ولكنا نجري الصفات عليه تعالى بنفس المفهوم العرفي ولكن نعتقد انّ البرهان لا يوافق هذا الظهور فيكون الظهور مراداً استعمالياً ولكنّ المراد الجدي لمن التفت إلى ذلك ، غيره. المسألة السادسة : في عدم اعتبار التلبّس الحقيقي ربما يقال بأنّ تلبّس الذات بالمبدأ ليس شرطاً في صحّة الحمل فربّما يكون هناك حمل بلا تلبّس كما في « الميزاب جار » والجريان قائم بالماء مع أنّه حمل على الميزاب. والجواب : انّ الجريان قائم بالماء حقيقة وبالميزاب ادّعاءً وتنزيلاً ، فلا يشترط في القيام والتلبّس ، القيام والتلبس الحقيقيّان ، بل يكفي التنزيليان منهما ، وهذا هو الحال في عامّة المجازات في الاسناد ، فلفظ الجاري مستعمل في معناه اللغوي غير أنّ اسناده إلى الميزاب اسناد مجازي لا حقيقي ولا يشترط التلبّس الحقيقي وهذا من الوضوح بمكان. تمّ الكلام في الأُمور الأربعة عشر التي جعلها
المحقّق الخراساني كالمقدمة الواحدة لمقاصد الكتاب. (264)
(265)
المقصد الأوّل
في الأوامر
وفيها فصول :
الفصل الأوّل : في مادّة الأمر وفيه جهات من البحث الفصل الثاني : فيما يتعلّق بصيغة الأمر وفيه مباحث الفصل الثالث : في أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الاجزاء الفصل الرابع : في مقدّمة الواجب الفصل الخامس : في أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه وفيه أُمور الفصل السادس : في جواز أمر الأمر مع العلم بانتفاء شرطه الفصل السابع : في تعلّق الأوامر بالطبائع أو الافراد الفصل الثامن : إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز ؟ الفصل التاسع : في الواجب التخييري وحلّ مشاكله الفصل العاشر : في الواجب الكفائي الفصل الحادي عشر : في المطلق والمؤقت ، والموسع والمضيّق الفصل الثاني عشر : في الأمر بالأمر بفعل ، هل هو أمر بالفعل ؟ الفصل الثالث عشر : الأمر بالشيء بعد الأمر به ، ظاهر في التأكيد أو التأسيس (266)
(267)
الفصل الأوّل
مادة الأمر
وفيه جهات من البحث :
الجهة الأُولى : معنى لفظ الأمر لغة قد ذكروا للفظ الأمر معان متعددة : أ. الطلب ، كما يقال أمره بكذا. ب. الشأن ، كما يقال شغله أمر كذا. ج. الفعل كما في قوله : ( وَما أَمْرُ فِرعَونَ بِرَشيد ). (1) هـ. الفعل العجيب كما في قوله : ( وَلَمّا جاءَأَمْرُنا ). (2) و. الغرض كما يقال : جاء زيد لأمر كذا. ز. الحادثة كما يقال : وقع الأمر. ولا شكّ أنّ ما ذكروه من التفاصيل من باب خلط المصداق بالمفهوم كما هو الحال في أكثر المعاجم اللغوية حيث ذكروا للفظة « القضاء » معاني عشرة مع أنّه ليس له إلاّ معنى واحد وهو إتقان الفعل ، وما ذكر من المعاني مصاديق له : كقوله سبحانه : ( وَقَضى رَبُّكَ أَلاّ تعبُدُوا إِلاّّ إِيّاه ) (3). فانّ التشريع الإلهي بما أنّه يتمتّع 1 ـ هود : 97. 2 ـ هود : 58. 3 ـ الإسراء : 23. (268)
بالإتقان استعمل في حقّه القضاء أي الحكم المتقن. ومثله المقام فانّ قسماً من هذه المعاني من المصاديق وبعضها من الوضوح بمكان ، فانّ الغرض في قوله : « جاء زيد لأمر كذا » مستفاد من اللام فالمدخول مصداق الغرض لا مفهومه ، وهكذا في قوله سبحانه : ( فَلَمّا جاءَ أَمْرنا ) فالمدخول مصداق للتعجب لا مستعمل في مفهومه.
بقي الكلام في تحديد معنى الأمر ، فهناك آراء نشير إلى بعضها. انّه موضوع لمعنيين : الطلب والشأن وهو خيرة صاحب الفصول الطلب والشيء وهو خيرة المحقّق الخراساني الطلب والفعل وهو المختار عندنا أمّا الأوّل : فقد استند صاحب الفصول في كون الشأن من معاني الأمر إلى قول القائل : « شغلني أمر كذا » مع أنّه من المحتمل أن يكون المراد هو الفعل أي شغلنا فعل كذا ، كما اعتمد المحقّق الخراساني في استعماله في الشيء على قول القائل : رأيت اليوم أمراً عجيباً ، مع أنّه من المحتمل أن يكون الأمر بمعنى الفعل. أضف إلى ذلك انّه لو كان الأمر بمعنى الشيء يلزم صحّة استعمال أحد المترادفين مكان الآخر ، فكما يقال : « اللّه شيء » و « العقل شيء » ، يجب أن يصحّ القول بأنّ اللّه أمر ، والعقل أمر ، كلّ ذلك يعرب عن عدم كون الأمر بمعنى الشيء. هذا كلّه حول القولين ، وأمّا القول الثالث أي كون المعنى الثاني للأمر هو الفعل ، فيكفي في ذلك قولـه سبحانـه : ( إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للّهِ يُخْفُـونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا (269)
لا يُبْدُونَ ). (1)
أي كلّما يجري في الكون من السنن التي هي من أفعاله سبحانه بيد اللّه ، وقوله : ( قُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُور ). (2) وقوله : ( وشاوِرْهُمْ فِي الأَمر ) (3) أي شاور هؤلاء في أُمورك وأفعالك وما تفعل وما تترك. ثمّ إنّ الأمر بمعنى الطلب بالقول المخصوص يجمع على أوامر ، كما أنّه بمعنى الفعل يجمع على أُمور. نعم لو قلنا بأنّ الأمر هو نفس الأمر المخصوص فلا يصحّ منه الاشتقاق لكونه معنى جامداً غير قابل للسيلان ، بخلاف ما إذا قلنا إنّه حقيقة في الطلب بالقول المخصوص. ثمّ إنّ الثمرة تظهر فيما لو ورد لفظ الأمر في الكتاب والسنّة ولم يعلم المقصود منه ، فعندئذ تصل النوبة إلى الأُصول العملية ، فلو كان للحكم حالة سابقة يستصحب ، وإلاّ فلو كان الشكّ في التكليف ، يقع مجرى للبراءة وإلاّ ، يقع مجرى الاشتغال. الجهة الثانية : في اعتبار العلو والاستعلاء هل يعتبر العلو والاستعلاء في صدق مفهوم الأمر ، أو لا يعتبران أو فيه تفصيل ؟ فيه أقوال وآراء : الأوّل : اعتبار العلو دون الاستعلاء. الثاني : اعتبار أحدهما. 1 ـ آل عمران : 154. 2 ـ البقرة : 210. 3 ـ آل عمران : 159. (270)
الثالث : اعتبار كليهما وهذا هو المختار.
الرابع : عدم اعتبار واحد منهما. وإليك دراسة الكلّ واحداً تلو الآخر. أمّا القول الأوّل : فهو خيرة المحقّق الخراساني ، فذهب إلى اعتبار العلو في معنى الأمر فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمراً ، ولو أطلق عليه الأمر ، كان بنحو من العناية. كما أنّ الظاهر عدم اعتبار الاستعلاء ، فيكون الطلب من العالي أمراً ولو كان مستخفضاً بجناحه. أقول : ما ذكره قدَّس سرَّه من اعتبار العلو لا غبار عليه ، والدليل عليه هو التبادر ، فانّ في لغة العرب ألفاظاً ثلاثة لكلّ مورده : 1. الأمر ، ويرادفه في اللغة الفارسية « فرمان ». 2. الالتماس ، وهو طلب المساوي من المساوي. 3. السؤال ، وهو طلب السافل من العالي. فالأوّل هو الطلب الصادر من العالي ، والثاني هو الطلب الصادر من المساوي ، والثالث هو الطلب الصادر من السافل. وهذا يُثبت دخول العلو في مادة الأمر وأمّا عدم اعتبار الاستعلاء فلم يذكر عليه دليلاً وسيوافيك اعتباره أيضاً. وأمّا القول الثاني : فقد نقله في « الكفاية » وضعّفه ، وحاصل استدلاله أنّه يكفي أحدهما ، أمّا العلو فلما مرّ ، وأمّا كفاية الاستعلاء فلأجل تقبيح العقلاء ، الطالب السافل من العالي المستعلي عليه ، وتوبيخه لأجل أنّه يصدق عليه الأمر. وردّه بقوله : إنّ التوبيخ ليس على الأمر ، بل على استعلائه حقيقة ، ولو أطلق |
|||
|