|
|||
(376)
الاختياري.
وأمّا البدار فلا ، لأنّ الفرد الاضطراري مفوِّت لمصلحة الواقع التي لا يمكن تداركها ، فلا يسوغ البدار إلاّ لمصلحة فيه كالإتيان بالصلاة في أوّله. 3. وأمّا الصورة الثالثة : فلا شكّ أنّه لا يجزي ، بل لابدّ من الإعادة أو القضاء ، لأنّ المفروض عدم وفاء الفرد الاضطراري بمصلحة الفرد الاختياري وكان استيفاء المصلحة الباقية ممكنة وواجبة وأمّا البدار فيجوز بشرط أن يأتي بالفرد الاختياري أيضاً بعد زوال العذر ، وعلى ذلك فهو مخيّر بين البدار بإتيان الفرد الاضطراري أوّلاً والاختياري بعد رفع الاضطرار ، أو الصير إلى أن يأتي بالفرد الاختياري وحده. 4. وأمّا الصورة الرابعة : فلا شكّ أنّ الفرد الاضطراري يجزي لكون الفائتة مستحبّة التدارك. وأمّا البدار فالظاهر من الكفاية المطبوعة مع حاشية المشكيني أنّه يتعيّن عليه البدار. هذا كلامه في مقام الثبوت ، وسيوافيك كلامه في مقام الإثبات. أقول : يلاحظ عليه أوّلاً : انّ التقسيم حسب الثبوت انّما يفيد إذا كان عندنا دليل في مقام الإثبات ما يمكن به الاهتداء إلى كلّ واحد من هذه الصور مع أنّه ليس في الأدلّة ما يشير إلى أكثرها. وثانياً : لم يعلم وجه تعين البدار في رابع الأقسام ، فانّه إذا كان الباقي ممكن الاستيفاء بعد ارتفاع العذر وإن لم يكن واجبه فلا وجه لتعيّن البدار المفوت للمصلحة الفائتة غير الملزمة. غاية ما يمكن أن يقال : انّه يستحب البدار إذا كان لأوّل الوقت فضيلة (377)
رابية على سائر الأوقات.
ثمّ إنّه أورد صاحب المحاضرات على المحقّق الخراساني بأنّ التخيير في الصورة الثالثة غير معقول ، لأنّ الشارع إذا لم يكتف بالعمل الناقص في أوّل الوقت ، وأوجب على المكلّف الإتيان بالعمل التام الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار والعذر ، سواء أتى المكلّف بالعمل الاضطراري الناقص في أوّل الوقت ، أم لم يأت به ، فبطبيعة الحال لا معنى لإيجابه العمل الاضطراري الناقص وإلزام المكلّف بإتيانه ولو على نحو التخيير ، فانّه بلا ملاك يقتضيه حيث إنّه لا يترتب على وجوبه أثر. (1) يلاحظ عليه : بأنّ تسويغ البدار بالناقص مع لزوم الإتيان بالكامل في آخر الوقت بعد ارتفاع العذر ، لأجل ترتّب رجحان ما عليه غير واف بمصلحة الفرد التام ، فيصحّ تسويغه والحكم بجواز الإتيان به مع لزوم الإتيان بالفرد التام في آخر الوقت ، أشبه ببدل الحيلولة إذا لم يتمكّن الإنسان من أداء العين عاجلاً ، فيلجأ إلى الناقص إلى أن يتمكّن من الكامل. والفرد الناقص وإن لم يشتمل على تمام المصلحة لكنّه مشتمل على مصلحة تامّة راجحة. هذا كلّه حول ما ذكر في مقام الثبوت. وأمّا مقام الإثبات فيقع الكلام تارة في العذر غير المستوعب ، وأُخرى في المستوعب منه ، وإليك الكلام فيهما فنقول : المقام الأوّل : في العذر غير المستوعب فقد ذكر المحقّق الخراساني في المقام أمرين : 1 ـ انظر المحاضرات : 2/233. (378)
1. أن يكون لدليل البدل إطلاق بمعنى ، فلو قال : « التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين » وفرضنا شموله للعذر غير المستوعب ولم يذكر شيئاً من الإعادة والقضاء ، فالظاهر هو الإجزاء.
2. إذا لم يكن لدليل البدل إطلاق ، فالمرجع هو البراءة ، لكونه شكّاً في أصل التكليف ، من غير فرق بين الإعادة والقضاء. أقول : إنّ هنا صوراً ثلاثاً : الأوّل : أن يكون لدليل البدل إطلاق دون دليل المبدل. الثانية : أن يكون لدليل المبدل إطلاق دون دليل البدل. الثالثة : أن يكون كلّ من دليلي البدل والمبدل مهملين. أمّا الصورة الأُولى : فالظاهر هو الإجزاء كما مرّ في كلامه ، لأنّ المفروض أنّ دليل البدل يعم العذر غير المستوعب ، وهو بصدد بيان ما هي الوظيفة فلو وجبت الإعادة والقضاء وراء الإتيان بالبدل لأشار إليه في نفس الدليل. كما أنّ مقتضى الإطلاق هو البدار ، إذ لو كان الانتظار لازماً وكان الشرط هو العذر المستوعب لصرّح به. ثمّ إنّ المحقّق الخوئي أنكر وجود الإطلاق في أدلّة التيمم وقال : إنّه لا إطلاق لأدلّة مشروعية التيمم بالقياس إلى من يتمكّن من الإتيان بالعمل الاختياري في الوقت ، بداهة أنّ وجوب التيمم وظيفة المضطر ، ولا يكون مثله مضطراً لفرض تمكّنه من الصلاة مع الطهارة المائية في الوقت ، ومجرّد عدم تمكّنه منها في جزء منه لا يوجب كونه مكلفاً بالتكليف الاضطراري ما لم يستوعب تمام الوقت. (1) 1 ـ المحاضرات : 2/235 ـ 236. (379)
يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ حكم الوضوء والتيمم جاءا في آية واحدة وهي الآية السادسة من سورة المائدة والفقهاء يحتجون بإطلاق الآية في مورد الوضوء ، فكيف يمكن أن يقال أنّها في مورد التيمم ليست في مقام البيان ؟
وثانياً : أنّ الموضوع في التيمم هو غير الواجد لا المضطر ، والفاقد وإن كان مضطراً لكنّه عنوان ملازم وليس بموضوع للحكم ، فإذا كان الموضوع هو الفاقد للطهارة المائية يتحقق الموضوع في المقام ، ويحكم بإيجاب التيمم وعدم لزوم الإعادة والقضاء بحكم أنّ الآية في مقام البيان. نعم انّه قدَّس سرَّه سلّم جواز البدار عند التقية لدليل خاص وقال : قد ثبت جواز البدار في بعض الموارد لكن بدليل خاص مع فرض تمكن المكلف من الفعل الاختياري التام في الوقت : منها موارد التقيّة حيث يجوز البدار فيها واقعاً وإن علم المكلّف بارتفاعها في أثناء الوقت وتمكّنه من العمل بلا تقية. (1) وأمّا الصورة الثانية : أعني ما إذا كان لدليل المبدل إطلاق دون دليل البدل ، بمعنى أنّ ما دلّ على شرطية الطهارة المائية شاملة لهذه الصورة ، وانّ الشارع لم يرفع اليد عن الشرط في هذه الصورة ، فعدم الإجزاء واضح فيحتاج إلى الإعادة في الوقت والقضاء خارجه. وأمّا الصورة الثالثة : أعني ما إذا كان الدليلان مهملين ، فالمتّبع هو الأصل ، وهو عند المحقّق الخراساني ـ في المقام ـ هو البراءة عن إيجاب الإعادة والقضاء ، لأنّه شكّ في التكليف. توضيحه : أنّ التكليف بالأمر الواقعي لم يكن فعلياً في زمن الاضطرار وإنّما الفعلي هو التكليف الظاهري ، والمفروض انّه امتثله ، وبعد ارتفاع العذر يشكّ في 1 ـ المحاضرات : 2/235 ـ 236. (380)
فعلية الحكم الواقعي وعدمها ، ومعه يكون الشكّ في حدوث تكليف آخر بالإعادة أو القضاء وهو مدفوع بالأصل مع احتمال كون الأمر الظاهري وافياً بمصلحة الأمر الواقعي.
يلاحظ عليه : بأنّ محط البحث عدم وجود إطلاق في ناحية البدل ، ومعه لا علم بفعلية التكليف الظاهري أيضاً إذ يحتمل أن يكون الشرط المسوّغ للتيمّم هو استيعاب العذر والمفروض خلافه ، وعند ذلك يكون مرجع الشكّ في المقام إلى دوران الأمر بين الواجب التخييري أو التعييني ، إذ لو كان العذر في بعض الوقت كافياً في إقامة الصلاة مع الطهارة الترابية يكون المكلّف مخيراً بين إتيانها في أوّل الوقت بالطهارة الترابية أو الصبر إلى ارتفاع العذر والإتيان بها مع الطهارة المائية ، و هو مخيّر بين هذا و بين الصبر إلى ارتفاع الضرر والتمكّن من الطهارة المائية ، ومن المعلوم أنّ في دوران الأمر بين الواجب التخييري والواجب التعييني هو الأخذ بالثاني. لأنّ في العمل بما يحتمل التعيين علم بالبراءة القطعية بخلاف الأخذ بأحد طرفي الواجب التخييري المحتمل ففيه احتمال البراءة. ثمّ إنّ السيّد الأُستاذ وافق القائل في كون المرجع هو البراءة ولكن خالفه في التقرير. فانّ الأوّل اعتمد على أنّ التكليف الظاهري الفعلي قد امتثل ، والتكليف الواقعي غير الممتثل مشكوك حدوث وجوبه. وأمّا السيّد الأُستاذ فقد دعمه بوجه آخر ، وقال : بأنّه في حال العذر المؤقت قاطع بعدم الأمر بالإتيان بالصلاة (381)
مع الطهارة المائية ، ولكن يحتمل أن يكون مأموراً بالأمر الاضطراري فقط ، فيأتي به رجاء امتثاله على فرض الأمر به ، فإذا أتى به رجاءً يشكّ في حدوث الأمر الآخر بالصلاة مع الطهارة المائية ، فيرجع الشكّ إلى حدوث التكليف لا إلى سقوطه بعد العلم به. (1)
يلاحظ عليه : بأنّه إنّما يصحّ بعد الإتيان بالأمر الاضطراري المحتمل ، فيقال : الأوّل قطعي الارتفاع والثاني مشكوك الحدوث ، وأمّا إذا لوحظ التكليف أوّل الوقت قبل الإتيان بالفرد الاضطراري فانّه عندئذ يعلم بتوجه أحد الأمرين : 1. التخيير بين امتثال الأمر الظاهري أو الأمر الواقعي. 2. تعيّن امتثال الأمر الواقعي فقط. ومن المعلوم أنّ المرجع في مثله ، هو الأمر التعييني المحتمل ، لأنّ فيه البراءة القطعية من التكليف دون الأوّل. المقام الثاني : في العذر المستوعب والصور المتصوّرة فيه اثنتان : 1. أن يكون لدليل البدل إطلاق. 2. أن يكون كلّ من دليلي البدل والمبدل مهملين. ولا يتصور هناك عكس الصورة الأُولى بأن يكون لدليل المبدل إطلاق دون البدل ، لأنّ لازم شرطية الطهارة المائية في الصلاة في العذر المستوعب هو جواز ترك الصلاة بتاتاً ، وهو غير جائز لعدم جواز ترك الصلاة على كلّ حال. أمّا الصورة الأُولى فلا شكّ في الإجزاء ، لأنّ المفروض انّ لدليل البدل إطلاقاً يعمُّ العذر المستوعب ، ولم يرد فيه الأمر بالقضاء خارج الوقت ، من غير فرق بين القول بوحدة الأمر كما هو واضح ، و بين تعدده كما عليه القوم. 1 ـ تهذيب الأُصول : 1/188. (382)
أمّا الأوّل فلأنّ الواجب هو الجامع المتحقّق بالفرد الاضطراري ، ومن المعلوم أنّه يسقط التكليف عندئذ لفرض تحقّق الطبيعة في فرد واحد.
وأمّا على القول بتعدد الأمر فالأصل أيضاً هو البراءة ، لأنّ البحث على أساس أنّ القضاء بأمر جديد مستفاد من قوله ( عليه السَّلام ) : « من فاتته فريضة يقضي ما فاته كما فاته ». (1) فإيجاب القضاء يحتاج إلى صدق عنوان الفوت وهو مردّد بين العناوين التالية : 1. فوت الواجب بالأمر الظاهري ، والمفروض أنّه لم يفت. 2. فوت الفريضة الواقعية الفعلية ، وهو خلاف المفروض ، إذ لا فعلية لأمر الصلاة بالطهارة المائية حتى يصدق على المورد فوت الفريضة الواقعية الفعلية. 3. فوت الملاك الواقعي ، وهو مشكوك ، لاحتمال قيام الطهارة الترابية مكان الطهارة المائية في هذه الحالة ، فلا علم بفوت الملاك. فتلخّص من ذلك أنّه لا محيص من القول بالبراءة في العذر المستوعب على كلا المبنيين ، سواء كان هناك أمر واحد أو أمران. أمّا الأمر الواحد فقد امتثله ، وأمّا الأمران فالثاني منهما مشكوك الحدوث لأنّ حدوثه فرع صدق الفوت وهو دائر بين فوت الفريضة الظاهرية الفعلية أو فوت الفريضة الواقعية الفعلية أو فوت الملاك. أمّا الأوّل فقد امتثله ، وأمّا الثاني والثالث فهما مشكوكا الحدوث. 1 ـ الوسائل : 5 ، الباب 6 من أبواب قضاء الصلوات ، الحديث 1. (383)
الموضع الثالث
إجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي
وقبل الخوض في المقصود نقدّم أمراً :
إنّ العمل بالأمارات والأُصول تارة يكون لأجل استكشاف أصل التكليف ؛ كما إذا قامت الأمارة على أنّ الواجب هو صلاة الجمعة ، وتبين أنّ الواجب هو الظهر ، فلا معنى للبحث في الإجزاء ، أي إجزاء امتثال أمر موهوم عن امتثال أمر واقعي ، فلأجل ذلك نضرب الصفح عنه في كلا الموردين : الأمارات والأُصول. وأُخرى يكون لغاية استكشاف خصوصيات المكلّف به من كون شيء جزءاً أو شرطاً أو مانعاً أو عدم كونه كذلك ، فالنزاع منصبّ على هذا القسم. إذا علمت ذلك فاعلم أنّ الكلام يقع في موردين : الأوّل : العمل بالأمارة لاستكشاف كيفية التكليف إذا عمل بالأمارة لاستكشاف خصوصيات المكلّف به ، مثلاً : إذا صلّى إنسان أو توضأ أو اغتسل أو حجّ على وفق ما أخبر به الثقة اعتماداً على قول الشارع بحجّية خبره ثمّ بان الخلاف ، فهل يكون مجزياً أو لا ؟ ذهب المتأخرون من الأُصوليين ، منهم : المحقّق الخراساني والسيد الأُستاذ ، إلى عدم الإجزاء عند ظهور الخلاف ، سواء انكشف الخلاف بعلم وجداني أو (384)
بأمارة شرعية ، وذلك :
لأنّ لسان الأمارات لسان ما هو الشرط واقعاً ، فانّ دليل حجّيتها حيث كان بلسان أنّه واجد لما هو شرطه الواقعي فبارتفاع الجهل ينكشف أنّه لم يكن كذلك بل كان شرطه فاقداً. (1) وبعبارة أُخرى : انّ لسان دليل التعبد بالأمارات هو التعبّد بها بما انّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه وانّ الواقع متحقّق هنا ، فإذا تعبّدنا الشارع بالعمل بالأمارة لأجل هذه الحيثية ثمّ تبيّن الخلاف وانّه لم يكن طريقاً ولا كاشفاً ولا الواقع متحقّقاً ، يتبين أنّه لم يكن هنا تعبد بالعمل بها في هذا المورد ، ومعه كيف يمكن القول بالإجزاء ؟ وبعبارة ثالثة : انّ العمل بالأمارات لأجل الكشف عن الواقع دون تصرّف فيه ولا انقلاب الواقع عنه إلى مدلول الأمارة ، فعندئذ فالذي تعلق به الأمر لم يحصل ، لتخلّف الأمارة ، والذي حصل لم يتعلق به الأمر. (2) هذا هو الظاهر من كلّ من قال بعدم الإجزاء في العمل بالأمارات والبيّنات. يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ المعيار في حجيّة الأمارة وإن كان هو الكشف عن الواقع غير أنّ المراد من الكشف هو الكشف النوعي الغالبي لا الكشف الدائمي ، وذلك واضح لمن لاحظ الأمارة ، فانّ الثقة ليس بمعصوم وإنّما يُصيب قوله الواقع في أكثر الموارد لا جميعها ، فمن اعتبره حجّة فإنّما اعتبره بهذا الملاك أي كونه كاشفاً عن الواقع في غالب الموارد ، فإذا كان هذا هو الملاك فهو موجود في عامّة الموارد حتّى فيما خالف الواقع. 1 ـ الكفاية : 1/133. 2 ـ تهذيب الأُصول : 1/147. (385)
ثانياً : أنّ بين الأمر بالعمل بالأمارة ـ حتّى على القول بالطريقية ـ والاكتفاء بمدلول الأمارة في مقام الامتثال ملازمة واضحة ، وتعد هذه الملازمة من المداليل العرفية التي هي حجّة عندهم وتكون حجّة على العبد ، ونوضح الملازمة بالمثالين التاليين :
أ. إذا أمر المولى عبده بأن يهيئ له دواء ليتداوى به ، وأمره بأن يسأل صيدلياً بالخصوص عن نوعية اجزائه وكميته وكيفية تركيبه ، فاتّبع العبد إرشادات الصيدليّ الذي جعل قوله حجّة في هذا الباب ، ثمّ ظهر أنّ الصيدلي كان قد أخطأ في مورد أو موردين ، فانّ العرف يعدّون العبد ممتثلاً لأمر مولاه ، ويرون عمله مسقطاً للتكليف ، من دون إيجابه بالقيام مجدّداً بتهيئة الدواء ، اللّهمّ إلاّ أن يأمره المولى مجدداً. ب : إذا أمر عبده ببناء بيت ، وأمره أن يرجع في كلّ ما يتعلّق بالبناء إلى مهندس متخصص ومعمار ماهر ، واتبع العبد أوامره فبنى البيت ، لكن تبيّن خطأ المهندس أو المعمار ، فانّ العبد معذور ، والعمل مجز ، اللّهمّ إلاّ أن يأمره بالإعادة. والإنسان المتشرع إذا خوطب بهذه الارتكازات ، بوجوب العمل بقول الثقة ينتقل منه إلى أنّ الشارع قد اكتفى في تحصيل مقاصده بما تؤدي إليه الأمارة تسهيلاً للأمر على العباد ، فانّ الشارع واقف على أنّ إلزام المكلّف بتحصيل العلم يوجب العسر والحرج ورغبة الناس عن الدين. هذا من جانب ، ومن جانب آخر وقف على أنّ العمل بالأمارة يؤدّي إلى تحصيل مصلحة المولى بنسبة عالية أي تسعين بالمائة ، ولذلك أمر بالعمل بها مكتفياً في تحصيل مقاصده ومصالحه بهذا المقدار لما أنّ في الأمر بتحصيل العلم عسراً وحرجاً. وهذا البيان يقتضي كون العمل بالأمارة موجباً للاجزاء عند كشف الخلاف (386)
مطلقاً ، سواء انكشف بدليل قطعي أو بأمارة.
فإن قلت : إنّ لسان دليل حجّية الأمارة هو الطريقية ، لأنّ الشارع تعبّدنا بالأمارة بحيثية خاصة وهي كونها طريقاً إلى الواقع كاشفة عنه ، وتحقّق الواقع في موردها ، والمفروض عدم تحقّق هذه الحيثية فينتج عدم وجود التعبّد في ذلك الموضع وإنّما تخيلنا التعبد. قلت : إنّ الملاك للتعبّد هو الكشف النوعي ، والملاك بهذا المعنى متحقّق في العمل بالأمارات. والمستدل تصوّر أنّ الملاك هو كونه كاشفاً في عامّة الموارد ، وهو كما ترى ! لأنّ الأمارات توافق الواقع غالباً لا دائماً فالخلط بين كون التعبّد بملاك الكشف الدائم أو الكشف الغالب صار سبباً لاختيار القول بعدم الإجزاء. والأوّل وإن كان غير موجود لكنّه ليس بملاك ، والثاني موجود وهو الملاك. أسئلة وأجوبة إن قلت : إنّ الملازمة بين الأمر بالعمل بالأمارة ، والإجزاء غير مختصة بالعمل بها لأجل استكشاف الأجزاء والشرائط ، بل يعمّ ما إذا عمل بها عند استكشاف أصل التكليف وعلى ضوء ذلك يلزم القول بالإجزاء في كلتا الصورتين. قلت : فرق واضح بين عدم امتثال أمر المولى أصلاً ، وبين امتثاله على وجه غير تام ، ففي مجال استكشاف أصل التكليف ـ إذا تخلفت الأمارة عن الواقع ـ لم يُمتثل أمر المولى ، أصلاً ، فكيف يحكم بالإجزاء ؟! بخلاف التخلف في استكشاف الأجزاء والشرائط فقد قصد الأمر المتوجّه إلى صلاة الظهر ، مثلاً ، غاية الأمر أتى بالمأمور به ناقصاً فبانسحاب الأمر عن الأجزاء العشرة إلى الأجزاء التسعة ، كما هو (387)
مقتضى جريان البراءة عند الشكّ في الجزئية والشرطية ، يكون المأتي به متعلّقاً للأمر الواقعي لأجل انسحاب الأمر عن الجزء المجهول واستقراره على ما سواه.
فإن قلت : إنّ القول بالإجزاء يستلزم التصويب ، لأنّ رفع اليد عن جزئية السورة في حقّ من قامت عنده الأمارة على عدم الجزئية يوجب اختصاص الحكم بالعالم دون الجاهل وهكذا سائر الموارد. قلت : إنّ التصويب عبارة عن إنكار الحكم المشترك الإنشائي بين العالم والجاهل ، وهو موجود ، وانّ المرتفع هو فعلية الحكم أو تنجزه ، وهو ليس بمحذور ، وليس للقائل بعدم الاجزاء أيضاً القول بفعلية الحكم أو تنجزه في حقّ الجاهل. فإن قلت : إنّ لازم إيجاب العمل على وفق الأمارة بما أنّها كاشفة هو عدم الإجزاء ، لأنّ لازم الكشف كون الواقع هو الميزان دون مؤدّى الأمارة وهو يناقض القول بالإجزاء الذي مقتضاه كون المحور مؤدى الأمارة. (1) قلت : هذا ما استند إليه السيّد الأُستاذ في القول بعدم الإجزاء ، ولكنّه غير تام ، لأنّ إيجاب العمل على وفق الأمارة بما أنّها كاشفة غالباً لا دائماً ، ومثل هذا لا يستلزم أن يكون الملاك هو الواقع ، بل يستلزم كون الملاك هو الواقع الغالب وهو متحقّق ، فلا يلزم من القول بالكاشفية والإجزاء الجمع بين النقيضين. وحصيلة الكلام : انّ الأمارات حجّة من باب الكاشفية النوعية ، والتعبّد بها لأجل هذا الملاك ، وهذا الملاك موجود في عامة الموارد هذا من جانب ، ومن جانب آخر وجود الملازمة العرفية بين الأمر بالعمل على وفق الأمارة وبين اجتزاء المولى بما أدّت إليه الأمارة وإن خالفت في بعض الموارد. ولذلك قوّى شيخنا الأُستاذ ـ دام ظلّه ـ في كافة دوراته الأُصولية كون 1 ـ تهذيب الأُصول : 1/191. (388)
العمل بالأمارات في إثبات الجزئية والشرطية والمانعية أو نفيها موجباً للإجزاء وإن خالف الواقع. وليس هذا القول ملازماً للقول بالتصويب لثبوت الحكم المشترك بين العالم والجاهل ، كما ليس القول بالإجزاء مضاداً للقول باعتبار الأمارة من باب الكاشفية ، لأنّ الكاشفية الغالبية لاتزاحم القول بالاجزاء ، وانّما تزاحمه إذا كان الملاك هو الكاشفية الدائمية.
الاستدلال على الإجزاء بوجه آخر ثمّ إنّ سيد مشايخنا المحقّق البروجردي قدَّس سرَّه ممّن تفرّد بين معاصريه في القول بالإجزاء عند تخلّف الأمارة ، واستدلّ على ما رامه بما هذا حاصله : انّ دليل حجّية الأمارة حاكم على دليل الشرائط والاجزاء والموانع ـ فيما إذا كانت الشبهة موضوعية ـ فإذا قال الشارع : صلّ في طاهر ، كان المتبادر من لفظ « طاهر » هو الطهارة الواقعية ، وكان الشرط ـ لولا الدليل الحاكم ـ لصحّة الصلاة هو الطهارة الواقعية ، ولكن لما جعل الشارع قول الثقة حجّة وأخبر هو عن طهارة الثوب المعيّن تصير نتيجة الجمع بين الدليلين هو توسعة المأمور به ـ الصلاة في الثوب الطاهر ـ وانّه تجوز الصلاة في ثوب طاهر واقعاً أو محكوم بالطهارة ظاهراً ، فلو صلّى مع ثوب هذا شأنه ، فقد حازت صلاته شرط الصلاة واقعاً ، لأنّ الشرط واقعاً أعمّ من الواقعي والظاهري ، وتخلّف الأمارة يوجب ارتفاع الشرط من حين التخلّف. (1) يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح في أدلة الأُصول العملية كقاعدتي الطهارة والحلية اللتين للشارع دور تأسيسي في حجيّتهما. 1 ـ نهاية الأُصول : 1/129. (389)
فإذا قال الشارع صلّ في طاهر ، ثمّ قال : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » ، فاقتران الثاني بالأوّل يوجب حكومته عليه ، بمعنى أنّ الشرط للصلاة واقعاً هو الطهارة الأعم من الواقعية والظاهرية ، وأمّا أدلّة حجّية الأمارات فليس للشارع هناك دور لا تأسيساً ولا إمضاءً ، بل غاية الأمر هو عدم الردع ، ومن المعلوم أنّ الحكومة تقوم باللفظ ، والمفروض سكوت الشارع في مقابل عمل العقلاء بقول الثقة ، وكون سكوته كاشفاً عن الرضا ، فما هذا حاله كيف يكون حاكماً على دليل الشرائط والاجزاء ؟! مع أنّه لم يرد منه في مورد حجّيتها دليل لفظي ، وسيوافيك عند البحث في حجّية خبر الواحد أنّ ما استدل به القوم على الحجّية ناظر إلى بيان الصغرى لا إلى الكبرى ، وكأنّ الكبرى كانت عندهم أمراً مسلماً وإنّما حاولوا إحراز الصغرى وانّ فلاناً هل هو ثقة أو لا ، وفي مثل هذا المورد الذي ليس هناك دليل لفظي حول الحجّية كيف يمكن استظهار الحكومة التي هي قائمة باللفظ ؟
والأولى التمسّك بما ذكرنا من الملازمة في دائرة المولوية والعبودية بين صحّة العمل بقول الثقة والاكتفاء في مجال الطاعة على ما أدّت إليه الأمارة. تفصيل بين الانكشاف الوجداني وغيره وربّما يفصل بين ما إذا انكشف الخلاف بعلم وجداني فلا يجزي ، أو بحجّة معتبرة فيجزي ، لأنّ الحجّة اللاحقة كالسابقة ، فكما يحتمل أن تكون الحجّة اللاحقة مطابقة للواقع كذلك يحتمل أن تكون الحجّة السابقة مطابقة للواقع وإن كان الواجب على من قامت عنده الحجّة الثانية العمل على مفادها. يلاحظ عليه : أنّه لو أغمضنا النظر عن الملازمة العرفية ، فالحقّ هو عدم الإجزاء في كلتا الصورتين ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، والمفروض (390)
في كلتا الصورتين عدم تحصيل البراءة اليقينية فيهما ، فالعلم السابق بالتكليف كاف في عدم الإجزاء حتى يعلم الخروج عنه ، إمّا بعلم قطعي أو بحجّة شرعية ، فالعلم غير موجود والحجّة الشرعية الأُولى متعارضة مع الحجّة الشرعية الثانية.
التفصيل بين الطريقية والسببية وقد فصّل صاحب المحاضرات بين الطريقية والسببية ، وأنّ الحقّ على الأولى هو عدم الإجزاء ، لأنّ ما أُتي به ليس بمأمور به ، والمأمور به ليس بمأتي به. والمفروض أنّ الصحّة إنّما تنتزع من مطابقة المأتي به للمأمور به في الخارج ، الموجبة لسقوط الإعادة في الوقت ، والقضاء في خارجه ، كما أنّ الفساد ينتزع من عدم مطابقة المأتي به للمأمور به. (1) يلاحظ عليه : بمنع عدم مطابقة المأتي به للمأمور به ، فانّ الملازمة العرفية تكشف عن انسحاب الوجوب عن الجزء أو الشرط الذي قام الدليل الاجتهادي على عدم وجوبه فعلاً ، فيكون الواجب الفعلي في حقّه ما أتى به ، فيكون المأتي به مأموراً به. بقي الكلام في الإجزاء على القول بحجّيتها من باب السببية فقبل الخوض في المقصود نذكر أقسام السببية. أقسام السببية إنّ للسببية تفاسير ثلاثة : الأوّل : ما ينسب إلى الأشاعرة ، وهو إنكار الحكم المشترك بين العالم والجاهل ، وانّ أحكامه سبحانه تابعة لآراء المجتهدين أو الأمارات والأُصول 1 ـ المحاضرات : 2/260. |
|||
|