|
|||
(511)
وثانياً : وجود الفرق بين المقام والأقل والأكثر الارتباطيين ، وذلك لأنّ الأقل في الارتباطي واجب بالوجوب النفسي لما سيوافيك أنّ الأجزاء واجبة بالوجوب النفسي غير أنّ الشكّ يدور بين كون وجوبه قصيراً لقلة أجزائه أو طويلاً لكثرة أجزائه ، وعلى كلّ تقدير فقد أحرز وجوب الأقل نفسياً.
وهذا بخلاف الوضوء في المقام فانّه إمّا واجب نفسي أو واجب غيري ، وعلى فرض كونه قيداً للصلاة يصبح وجوبه غيرياً لا نفسياً لكونه خارجاً عن ماهيّة الصلاة ، ويعُد من المقدّمات الخارجة عنها. الثالثة : إذا تردد أمر الوضوء بين كونه نفسيّاً أو غيرياً لواجب يعلم قطعاً بعدم وجوبه ، كما هو الحال في الحائض إذا دار حكم الوضوء بين كونه واجباً نفسيّاً أو غيرياً للصلاة التي تعلم أنّها غير واجبة في حقّها ، فلا شكّ أنّه لا يجب عليها التوضّؤ بل هو مجرى للبراءة لكون الشكّ في وجوبه بدوي ، فتلخص انّ المرجع في الفرع الأوّل هو الاحتياط ، وقد عرفت أنّ معناه تقديم الوضوء على الصلاة وفي الأخيرين هو البراءة. وينبغي التنبيه على أُمور : الأوّل : في ترتّب الثواب على امتثال الواجب الغيري لا شكّ في ترتّب الثواب على امتثال الواجب النفسي إذا قصد به القربة ، كما أنّه لا شكّ في ترتّب العقاب على ترك الواجب النفسي ، لأنّه يعدّ تمرّداً على المولى وخروجاً عن رسم العبودية وزيّ الرقية. هذا كلّه في الواجب النفسي ، وأمّا الواجب الغيري فلا شكّ أنّ تركه بما هو هو لا يوجب العقاب ، نعم لما كان تركه منتهياً إلى ترك الواجب النفسي (512)
فالعقاب على ترك ذيه لا على نفسه.
هذا كلّه لاكلام فيه وإنّما الكلام في أمر رابع وهو ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدم ترتبه ، وقبل الخوض في صلب الموضوع نشير إلى مسألة كلامية وهي هل الثواب في مطلق الواجبات من باب الاستحقاق أو من باب التفضّل ؟ ذهب المحقّق الطوسي في « التجريد » وتبعه شارحه العلاّمة في « كشف المراد » إلى أنّ ترتّب الثواب على امتثال الواجبات من باب الاستحقاق ، وذهب الشيخ المفيد إلى أنّه من باب التفضّل ، فلندرس أدلّة القولين : أدلّة القائلين بالاستحقاق استدلّ القائل بالاستحقاق بوجهين : الأوّل : انّ التكليف مشقّة ، وكلّ مشقة بلا عوض ظلم ، فينتج أنّ التكليف بلا عوض ظلم. (1) ويظهر من المحقّق الخراساني ارتضاؤه حيث قال : لا ريب في استحقاق الثواب على امتثال الأمر النفسي وموافقته ، واستحقاق العقاب على عصيانه ومخالفته عقلاً. (2) يلاحظ عليه : أنّ الصغرى والكبرى مخدوشتان. أمّا الصغرى ، وهو انّ التكليف مشقة فلا يخلو من ضعف ، فانّ التكاليف الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد ، ومعها كيف يمكن وصف التكليف بالمشقة ، 1 ـ كشف المراد : 262 ، المقصد السادس في المعاد ، المسألة الخامسة ، في الوعد والوعيد. 2 ـ كفاية الأُصول : 1/175. (513)
فانّ التكاليف الشاقة وإن كان بظاهرها شاقة لكن وراء التكاليف مصالح لازمة التحصيل ، أو مفاسد واجبة التحرّز ، ومثل التكاليف الشاقة كشرب الدواء المر أو تحمّل الكي بالنار ، فانّ الجميع بظاهرها شاق ولكنّها في الباطن تعدّ من أسباب السعادة والسلامة.
وأمّا الكبرى ، فنمنع كلّيتها فانّه إنّما يُعد قبيحاً إذا لم يكن الغير مملوكاً للآمر والمفروض أنّه مملوك له. وبذلك تبيّن أنّ القول بالتفضّل أوضح من القول بالاستحقاق ، وذلك لأنّ كلّ ما يملكه العبد من حول وقوّة وما يصرفه في طريق الطاعة كلّه ملك للّه سبحانه وليس للعبد دور سوى صرف نعمه سبحانه في موارد يرتضيها ، وعندئذ كيف يكون مستحقاً للأجر مع أنّه لم يبذل في طريق الطاعة شيئاً إلاّ ما أعطاه المولى ، يقـول سبحانـه : ( يأَيُّهَا النّـاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَميد ). (1) قال العلاّمة الطباطبائي : وما يعطيه تعالى من الثواب للعبد تفضّل منه من غير استحقاق من العبد ، فإنّ العبد وما يأتيه من عمل ، ملك طلق له سبحانه ملكاً لا يقبل النقل والانتقال ، غير أنّه اعتبر اعتباراً تشريعيّاً ، العبدَ مالكاً وملّكه عمله ، وهو المالك لما ملّكه وهو تفضّل آخر ثمّ اختار ما أحبّه من عمله فوعده ثواباً على عمله وسمّاه أجراً وجزاء وهو تفضّل آخر ، ولا ينتفع به في الدنيا والآخرة إلاّ العبد. قال تعالى : ( للّذينَ أَحسنُوا مِنهُم واتّقَوا أجرٌ عَظِيم ) (2) ، وقال : ( إِنَّ الّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون ) (3) ، وقال بعد وصف الجنّة 1 ـ فاطر : 15. 2 ـ آل عمران : 172. 3 ـ فصّلت : 8. (514)
ونعيمها : ( إِنّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكوراً ) (1) ، وما وعده من الشكر وعدم المنّ عند إيتاء الثواب تمام التفضّل. (2)
فالقول بالتفضّل أوضح برهاناً وأوفق بالقرآن الكريم كما سيوافيك. الدليل الثاني : ما تكرر في الذكر الحكيم من التعبير عن الثواب ، بالأجر للعمل وهو آية الاستحقاق ، كاستحقاق العامل لراتبه في آخر الشهر ، قال سبحانه : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرةٌ وأَجرٌ كَبير ). (3) وقال تعالى : ( وَاصْبر فَإِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنين ) (4) إلى غير ذلك ممّا يعدّ الثواب أجراً وهو تعبير آخر عن الاستحقاق. يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ التعبير بالأجر فيها كالتعبير بالاستقراض في قوله سبحانه : ( منْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللّهَ قَرضاً حَسناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيم ) (5) فانّ التعبير بالاستقراض لغاية الحثّ على ما ندب إليه القرآن من الإنفاق حتّى شبّه إنفاقه بأنّه قرض يقرضه اللّه سبحانه وعليه ان يردّه ، ونظيره التعبير بما يتفضّل بالأجر ، فانّه لإيجاد الرغبة إلى الإنفاق وانّه لايذهب سدى ، بل يقابل بالأجر الكريم على اللّه العزيز الذي لا يبخس أحداً. وثانياً : أنّ هنا آيات تدلّ على أنّ الثواب إنّما هو بالوعد والمواضعة كقوله : ( وَكُلاً وعدَ اللّهُ الحُسْنى ) (6) وقوله سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالحات لَهُمْ مَغْفِرةٌ وَأَجْرٌ عَظِيم ) (7) فلو كان هناك استحاق في الثواب ، لما كان هناك حاجة بالجعل ، وهذا كاشف عن الثواب ليس إلاّ تفضّلاً منه سبحانه. 1 ـ الإنسان : 22. 2 ـ الميزان : 19/176. 3 ـ فاطر : 7. 4 ـ هود : 115. 5 ـ الحديد : 11. 6 ـ النساء : 95. 7 ـ المائدة : 9. (515)
نعم لا يصحّ له أن يتخلّف بعدما وعد ، لاستلزامه الكذب لو أخبر عن الثواب ، أو لاستلزامه تخلّف الوعد ، لو أنشأه ، وكلا الأمرين قبيح.
الثواب والعقاب من لوازم الأعمال التكوينية قد عرفت اختلاف المتكلّمين في أنّ ترتّب الثواب على العمل من باب الاستحقاق أو من باب التفضّل ، وعلى كلا الأمرين فالثواب فعله سبحانه وعطاء منه بالنسبة إلى المطيعين من عباده استحقاقاً أو تفضّلاً ، و هناك من يقول بأنّ الثواب والعقاب من لوازم الأعمال بوجوه ثلاثة : 1. الصلة بين العمل والثواب توليدية إنّ الصلة بين العمل والثواب صلة توليدية ، وانّ العمل الدنيوي يزرع في الدنيا ويحصد نتائجه في الآخرة ، فالعمل علّة ، والثواب والعقاب ثمار العمل يترتّب عليه ترتّب الفرع على الأصل ، وربما يستظهر من قوله ( عليه السَّلام ) : « العمل الصالح حرث الآخرة ». (1) 2. الثواب تمثّل العمل بوجوده الأُخروي إنّ صاحب القول الأوّل كان يتبنّى الاثنينية ، وانّ هناك عملاً وثواباً ، والعمل بذر ينمو ويتبدّل إلى الثمر سواء أكان حلواً أو مرّاً ، لكن صاحب هذا القول ينكر الاثنينية ويقول : إنّ الثواب هو نفس العمل ، غير أنّ للعمل ظهورين : ظهوراً دنيوياً وهو ما نراه من العمل الحسن والسيء ، وظهوراً أُخرويّاً وهو الثواب 1 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 22 ، ط عبده. (516)
والعقاب ، وهذا هو القول المعروف بتجسّم الأعمال وتمثّلها ، ويستظهر ذلك المعنى من بعض الآيات :
1. قوله سبحانه : ( يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُون ). (1) فقوله سبحانه : ( هذا ما كنزتم ) يشير إلى الجزاء الذي يُواجَه به الإنسان في الآخرة ، وأنّ هذا الجزاء ليس شيئاً سوى نفس العمل الدنيوي ولذلك وصفه بقوله : ( هذا ما كنزتم لأنفسكم ) ، فالكنز له وجودان : وجود دنيوي وهو الدنانير الصفراء التي تسرّ الناظرين ، ولكنه في الآخرة نفس الدينار المحمّر الذي بها تكوى الجباه والجنوب وغير ذلك. 2. قوله سبحانه : ( ووَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ولا يظْلِمُ ربُّكَ أحَداً ) (2) فما يحضر في الآخرة هو نفس ما عمله في الدنيا. 3. قوله سبحانه : ( يَومَ تَجِدُ كُلُّ نفس ما عَمِلتْ مِنْ خَير مُحْضَراً ). (3) إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على أنّ الجزاء هو التمثّل الملكوتي وانّ رابطة الثواب والعقاب مع العمل ليست رابطة توليدية كما في القول الأوّل بل من قبيل ظهور الشيء في كلّ ظرف بثوبه المناسب. 3. الثواب فعل النفس إنّ كلا من القولين الأوّلين يتبنّى للعمل أصالة ، فتارة يُتصوّر أنّ الصلة بين الفعل والثواب من مقولة التوليد والانتاج ، وأُخرى أنّ الصلة بينهما صلة ظهور 1 ـ التوبة : 35. 2 ـ الكهف : 49. 3 ـ آل عمران : 30. (517)
الشيء بوجودين حسب اختلاف ظروف العمل ، إلاّ أنّ هذا القول يتبنّى أنّ الثواب والعقاب من أفعال النفس فهي بما اكتسبت من العقائد الصحيحة أو الفاسدة وما أتت من الأعمال الحسنة والقبيحة تكتسب استعداداً وملكة خاصة تقدر معها على إنشاء صور مناسبة لتلك الملكة فهي إمّا تتنعّم بالصور أو تتأذّى بها.
وبالجملة : الإنسان في ظل العقائد الصحيحة والفاسدة والأعمال الحسنة والسيئة يكتسب ملكة خاصّة تكون مع الإنسان ، خلاّقة للصور التي تناسبها ، وهذا ليس أمراً بعيداً ، فمن يتملّك ملكة العدالة في هذه النشأة لم يزل يتصوّر أُموراً تناسبها ، ومن يمتلك ملكة الفسق والجور لم يزل يتصوّر صوراً تناسبها ، فنفس هذه الملكة فعّالة في يوم القيامة فتخلق الصور البهية أو الصور الموحشة ، ويعبّر عن الأوّل بالجنة وعن الثاني بالجحيم. وهذه الآراء الثلاثة لعرفاء الإسلام ، والتسليم بها رهن دراستها صحّة وفساداً في محلّها ، غير أنّ القول الثالث إذا كان بصدد حصر الجنة والجحيم بالصور المخلوقة للنفس فتعارضها الآيات والأخبار القطعية على أنّ الجنة أمر منفصل عن النفس وكذلك الجحيم. ولو لم يكن بصدد الحصر فلا مانع من القول بالجنتين المتصلة بالنفس والمنفصلة عنها ، وإن كان الظاهر من القائل هو الحصر. (1) إلى هنا تمّت الآراء في كيفية ترتّب الثواب والعقاب. فلندخل في صلب الموضوع وهو : 1 ـ الأسفار الأربعة : 9/131 ، فصل « في الشقاوة التي بازاء السعادة ». (518)
ترتّب الثواب على الواجب الغيري
هل يترتب الثواب على امتثال الواجب الغيري أو لا ؟ فيه أقوال : 1. يترتّب الثواب على النفسي دون الغيري ، وهو خيرة المحقّق الخراساني والسيد الإمام الخميني ـ قدّس سرّهماـ. 2. يترتّب الثواب على الغيري كالنفسي ، لكن إذا كان واجباً أصلياً لا تبعياً أي مدلولاً لخطاب مستقل ، لا ما إذا فهم وجوبه على نحو التبعية بإحدى الدلالات : الالتزامية الإيماء والاقتضاء ، وهو خيرة المحقّق القمي. 3. يترتّب الثواب على الواجب الغيري بشرط قصد التوصّل به إلى ذيها ، وهو خيرة المحقّق النائيني وتبعه صاحب المحاضرات. 4. يترتّب عليه الثواب ـ مضافاً إلى قصد التوصّل ـ كون المقدّمة موصلة بأن تنتهي إلى الإتيان بذيها. وهذه الأقوال مبنيّة على القول بأنّ الثواب من باب الاستحقاق فيبحث عن حدود الاستحقاق ، وانّها هل تعمّ الغيري أو تنحصر بالنفسي ؟ وأمّا على القول المختار من أنّ الثواب في الواجب النفسي من باب التفضّل ، فعندئذ يجب أن تتفحّص في الكتاب والسنّة هل هناك ما يدلّ على ترتّب الثواب على الواجب الغيري أو لا ؟ إذ ليس عندئذ لكشف الثواب طريق وراء النقل. إذا عرفت ذلك فلندرس أدلّة الأقوال الأربعة ، وإن كان الأساس مرفوضاً. الاستدلال على القول الأوّل استدلّ للقول الأوّل بوجهين : (519)
الأوّل : ما استدلّ به المحقّق الخراساني على عدم ترتّب الثواب على الواجب الغيري باستقلال العقل بعدم الاستحقاق إلاّ لعقاب واحد أو لثواب كذلك فيما خالف الواجب ولم يأت بواحدة من مقدّماته على كثرتها ، أو وافقه و أتى به بماله من المقدمات. (1)
يلاحظ عليه : كيف يستقلّ العقل بوحدة الثواب مع أنّ الموضوع لترتّب الثواب هو إطاعة المولى والمفروض وجود ذلك الملاك في امتثال الواجب الغيري أيضاً ولا يقاس الثواب بالعقاب ، لأنّ الثواب على الطاعة والمفروض انّها متعدّدة حيث إنّه أطاع أمر المولى في مورد الغيري ثمّ أطاع أمره في مورد النفسي ، فالطاعتان مختلفتان ويتبع تعدّدَ الطاعة ، تعدّدُ الثواب ، وأمّا العقاب فهو مترتب على التمرّد والخروج عن رسم العبودية وزيّ الرقية. وليس في ترك الواجب إلاّ تمرّد واحد حسب العقل. فإن قلت : إنّ الثواب فرع كون العمل مقرِّباً من المولى ، وهو فرع كون المتعلّق محبوباً وحسناً بالذات ، والمفروض أنّ الواجب الغيري ليس محبوباً بالذات ، بل محبوب بالعرض فكيف يترتب عليه الثواب ؟ قلت : إنّ الثواب يترتّب على إطاعة أمر المولى سواء أكان المتعلّق محبوباً بالذات أو محبوباً بالعرض. وإن شئت قلت : إنّ الثواب يترتّب على كون حركة العبد حركة إلهية وعملاً يُتطلب به امتثالُ أمر المولى سواء أكان المتعلّق محبوباً بالذات أو لا ، وعلى ضوء ذلك يكفي في ترتّب الثواب انصباغ العمل بصبغة إلهية ، وعندئذ يستقل العقل بترتّب الثواب عليها على القول بالاستحقاق. 1 ـ كفاية الأُصول : 1/174. (520)
الثاني : ما استدلّ به السيد الأُستاذ ، فقال : إنّ الاستحقاق إنّما هو على الطاعة ، ولا يعقل ذلك في الأوامر الغيرية ، لأنّها بمعزل عن الباعثية ، لأنّ المكلّف إمّا أن يكون قاصداً لامتثال الأمر النفسي أو لا. فعلى الأوّل فالأمر النفسي داع وباعث إلى الإتيان بالمقدّمة من دون حاجة إلى باعثية الأمر الغيري ، وعلى الثاني فلا يكون الأمر الغيري باعثاً لأنّ المفروض أنّه راغب عن ذي المقدّمة ، فكيف يكون الأمر الغيري باعثاً ؟
والحاصل : انّ ملاك الاستحقاق هو الطاعة ، وهي فرع كون أمره داعياً وباعثاً والمفروض انّه ليس بباعث في حالة من الحالات. (1) يلاحظ عليه : أنّ الأمر النفسي والغيري في الباعثية وعدمها سيّان ، فإن أُريد بها الباعثية التكوينية فليس واحد منهما باعثاً تكوينياً ، بل الباعث إلى الطاعة هو رجاء الثواب والخوف من العقاب. وإن أُريد الباعثية الإنشائية فكلّ من الأمرين صالح لذلك. وما ذكره من الاستدلال إنّما يتمُّ إذا أُريد من الباعثية ، القسم التكويني منها ، وقد عرفت انتفاءها فيهما معاً. إلى هنا تبيّن أنّ القول الأّوّل ـ على القول بالاستحقاق ـ غير تام برهاناً. وأمّا القول الثاني (2) : وهو التفصيل بين امتثال الأمر الغيري الأصلي وامتثال الأمر الغيري التبعي ، فليس له دليل صالح بعد قيام الدليل على حجية خطابات المولى ، أصلياً كان الخطاب أو تبعياً ، وسيمرّ في باب المفاهيم أنّ دلالة الاقتضاء والإيماء من الدلالات الصالحة للاحتجاج. 1 ـ تهذيب الأُصول : 1/249. 2 ـ مرّ القول الأوّل ، ص 518. (521)
وأمّا القول الثالث : فهو قول متقن ، وإن كان القول الرابع أتقن منه ، والجامع بين القولين هو أن يكون الباعث لامتثال الأمر الغيري هو قصد التوصّل بالواجب النفسي لكن بشرط أن يكون الامتثال موصلاً لامتثال الأمر النفسي على القول الرابع ، وأمّا إذا خلا عن هذين الأمرين كما إذا امتثل الأمر الغيري لغاية الهوى والهوس لا لقصد التوصّل أو لم يكن في الواقع موصلاً إلى ذيها للانصراف عن الامتثال عمداً فلا يعدّ ممتثلاً حتى يترتّب عليه الثواب ، وهذا أشبه بمن يقوم بتناول الغذاء في السحر دون أن يصوم.
هذه الأقوال كلّها مبنية على القول بالاستحقاق ومع رفض المبنى لايبقى للبناء قيمة ، والحقّ ما اخترناه من أنّ ترتّب الثواب على العمل الصالح من باب التفضّل ، وعند ذلك لا طريق لترتّبه وعدمه إلاّ الرجوع إلى النقل من القرآن الكريم ، والسنّة المطهرة. ومن حسن الحظ أنّ المصدرين صريحان في ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري إذا كان بقصد التوصّل لذيها ، وإليك بعض ما يدلّ على ذلك في المصدرين. قال سبحانه : ( مَا كانَ لأهْلِ الْمَدينَةِ وَمَنْ حَولَهُمْ مِنَ الأعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يرغَبُوا بِأَنفسهِمْ عَنْ نَفْسهِ ذلكَ بانَّهُمْ لا يُصيبُهُمْ ظَمأٌ ولا نَصبٌ وَلا مَخْصَمة في سَبيلِ اللّهِ وَلا يَطَئُونَ مُوطِئاً يَغِيظُ الكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوّ نيلاً إلاّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِين ). (1) والآية المباركة تخبر عن أنّه سبحانه يكتب للمجاهدين في مقابل كلّ 1 ـ التوبة : 120. (522)
خطوة يخطونها إلى الجهاد وما يقابلون من ظمأ وعطش ، ونصب وتعب ، ومخمصة وجوع ، عملاً صالحاً لا ينفك عن الأجر كما يقول سبحانه : ( كُتِبَ لَهُمْ بهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنّ اللّهَ لا يُضيعُ أَجرَ الْمُحسِنين ) ومن المعلوم أنّ ما وصف كلّها واجب غيري مقدمي.
ونظير الآية ما تضافر من ترتّب الثواب على كلّ خطوة يخطوها زائر الإمام الحسين بن علي عليهما السَّلام. (1) وعلى ضوء ما ذكرنا يمكن الحدس بأنّ امتثال الأمر الغيري كامتثال الأمر النفسي إذا كان في سبيل التوصّل إلى امتثال الأمر النفسي يعد طاعة ويثاب الفاعل. محاولة المحقّق الخراساني لتفسير ما دلّ على ترتّب الثواب ثمّ إنّ المحقّق الخراساني لمّا أنكر ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري وواجهه ما ورد في الشرع من ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري حاول توجيه الآيات والروايات بوجهين : الأوّل : لا بأس بزيادة المثوبة على الموافقة فيما لو أتى بالمقدّمات بما هي مقدّمات له من باب أنّه يصير حينئذ من باب أفضل الأعمال ، حيث صار أشقّها وعليه ينزل ما ورد من الثواب على المقدّمات. وحاصله : انّ كثرة المقدّمات تجعل العمل من الأعمال الشاقة ويكون الثواب المترتّب على ذيها أكثر من غير المشتمل عليها ، وعلى هذا يكون الإتيان 1 ـ كامل الزيارات : 133. (523)
بالمقدّمة للّه علّة لترتب الثواب الكثير على ذيها.
يلاحظ عليه : بأنّ التأويل يخالف ظاهر الآية والرواية ، فالآية ظاهرة في ترتّب الثواب على نفس طي الأرض والسفر إلى أرض المعركة وما يقابل في طريقه من الظمأ والنصب والمخمصة ، يقول سبحانه : ( كتب لهم به عمل صالح ) لا على الجهاد ، من جانب المقدّمة. الثاني : انّ امتثال الأمر الغيري بما أنّه يُعد شروعاً في امتثال الأمر النفسي يترتّب عليه الثواب المترتب على الأمر النفسي. يلاحظ عليه : أنّه لا يصحّ إلاّ في المقدّمات الداخلية التي قد عرفت خروجها عن حريم النزاع ، لا في مثل الشرائط والمعدّات. إذ كيف يعد الوضوء شروعاً في الصلاة مع أنّ الثواب مترتّب على الإتيان بالواجب لا على الشروع فيه ؟! وهذا البحث الضافي حول ترتّب الثواب على الأمر الغيري وعدمه يرجع إلى القولين : الاستحقاق أو التفضّل ، وأمّا على القول بأنّ الثواب نتيجة العمل أو تمثّل ملكوتي له أو غيره فلا يصحّ لنا إبداء النظر فيه لعدم العلم بحدوده وخصوصياته فهل الثواب نتيجة كلّ واجب أو خصوص الواجب النفسي ؟ ومثله نظرية التمثّل ، فهل يعمّ كلّ الأعمال والواجبات أو يختصّ بالواجبات النفسية ؟ فالأولى على هذا المذهب هو السكوت. (524)
التنبيه الثاني
إشكالات الطهارات الثلاث
قد وقعت الطهارات الثلاث مورداً للإشكال من جهات ثلاثة :
الأوّل : اتّفقت كلمة الفقهاء على أنّ الآتي بها يثاب ، مع أنّ الأمر الغيري لا يترتّب عليه ثواب. الثاني : اتّفق الفقهاء ـ غير أبي حنيفة ـ على أنّ الطهارات الثلاث أخذت مقدّمة للصلاة بما هي عبادة يتقرّب بها إلى اللّه تعالى ، مع أنّ الأوامر المتعلّقة بها أوامر غيرية وهي توصلية دائماً لا تُصحّح عبادية متعلّقاتها ، إذ ليست المقدّمة محبوبة للمولى إذ لو أمكنه الأمر بذيها بدون التوصّل بها ، لأمر ، فالأمر بها من باب اللابدية ومثل هذا لا يصلح للمقربية. وإن شئت قلت : إنّ الأوامر الغيرية أوامر توصلية ، وهي لا تكون منشأ لعبادية المتعلّق. الثالث : انّ الطهارات الثلاث ، إنّما أخذت مقدّمة للصلاة بما انّها عبادة ، وليس حالُـها حالَ بقيّة المقدّمات في كون مطلق وجودها في الخارج مقدّمة ، سواء أتي بها عبادة أم لا ، فحينئذ لا إشكال في توقّف الأمر الغيري على عباديتها ، فلو توقفت عباديتها على الأمر الغيري ، لزم الدور. وبعبارة أُخرى : انّ الأمر الغيري يتعلّق بما يتوقّف عليه الواجب ، والمفروض (525)
أنّ الطهارات الثلاث بعنوان كونها عبادة ، مقدّمة ، وعليه فالأمر الغيري المتعلّق بها بطبيعة الحال ، يتعلّق بها بعنوان انّها عبادة ، ومعه كيف يعقل أن يكون الأمر الغيري منشأ لعباديتها ؟
وإليك دراسة الإشكالات واحداً بعد الآخر. دراسة الإشكال الأوّل إنّ الإشكال الأوّل ليس بمهم ، لأنّه إن قلنا بأنّ الثواب بالاستحقاق فقد تقدّم انّه يترتّب على إطاعة أمر المولى من غير فرق بين كونه نفسياً أو غيرياً ، غاية الأمر يشترط في امتثال قصد الأمر الغيري كون الامتثال بقصد التوصّل إلى ذيه. وأمّا لو قلنا بأنّ الثواب بالتفضّل ولا طريق إلى تحقيق الحال إلاّ بالرجوع إلى الكتاب والسنّة ، فلو دلّ الدليل على ترتّب الثواب على امتثال الأمر الغيري بالطهارات الثلاث فيؤخذ به. إنّما المهم الإشكال الثاني والثالث حيث كان الثاني يركّز على أنّ الطهارات الثلاث أخذت مقدّمة للواجب ، وليس المقدّمة إلاّ العبادة منها ، فحينئذ يُسأل عن ملاك العبادة فهل هو وجود الملاك فيها ؟ فهو مردود بأنّ المقدّمة غير مطلوبة بالذات فكيف يكون فيها الملاك ، أو قصد الأمر الغيري وهو أمر توصلي لا يصحّح العبادة. كما أنّ الإشكال الثالث يركّز على الدور ، لأنّ الأمر الغيري تعلّق بالوضوء العبادي ، فيجب أن يوصف بالعبادة قبل تعلّق الأمر ، فلو كانت عبادية الوضوء رهن قصد الأمر الغيري ، فيدور. |
|||
|