|
|||
(511)
المخصص المنفصل حكماً ابتدائياً من دون سبق العام لما كان حجّة إلا في القدر المتيقّن دون المشكوك فكيف مع ظهور العام ؟
وذلك لأنّه لا ملازمة بين عدم الحجّية وبين عدم المانعية عن الاحتجاج بالعام ، فالأوّل مسلم إذ ليس المخصص حجّة في المشكوك ولكن الثاني غير معلوم ، فانّ المنفصل المجمل يصير كالقرينة الحافة بالكلام التي توجب إجمال الكلام. وما ذكرنا هو الوجه في التوقّف في العمل بالعام ، وقد أشار إلى بعض ما ذكرناه شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري وإن عدل عنه في هامش كتابه ، قال : إذا صارت عادة المتكلم جارية على ذكر المخصص منفصلاً عن كلامه ، فحال المنفصل في كلامه ، حال المتصل في كلام غيره ، فيحتاج في العمل بالعام إلى أحد أمرين : 1. القطع ببقائه تحت العام. 2. الأصل. أمّا الأوّل فغير موجود ، وأمّا الثاني فجريانه مخصوص بمورد لم يوجد فيه ما يصلح لأن يكون مخصصاً. (1) ثمّ إنّه ( قدس سره ) عدل عمّا ذكر في الهامش ، وحاصله : انّه لو صحّ ما ذكر لما جاز تمسّك أصحاب الأئمّة بكلام إمام زمانهم ، لأنّه كالتمسّك بصدر كلام متكلم قبل مجيء ذيله ، مع أنّ ديدنهم جرى على التمسّك. يلاحظ عليه : أنّه لم يثبت انّهم كانوا يتمسّكون بعموم العام ، مع احتمال 1. درر الفوائد : 1/215 ، ط جماعة المدرسين. (512)
مجيء مخصص في كلام الإمام اللاحق ، فانّ أكثر الروايات المتضمنة للأحكام صدر عن الصادقين ، ولم يثبت انّ نظائر زرارة ومحمد بن مسلم وأضرابهما من أصحاب الإمامين كانوا يتمسّكون مع احتمال صدور مخصص في كلام الأئمّة الباقين ، ولأجل ذلك كان الأصل حاكماً.
إلى هنا تمّ بيان أحكام القسمين في المخصّص المتصل والمنفصل من أقسام دوران المخصّص بين الأقل والأكثر وبقي الكلام في أحكامهما من أقسام دوران الأمر بين المتبائنين. 3. المخصص اللفظي المتصل الدائر أمره بين المتبائنين إذا دار أمر المخصص اللفظي المتصل بين المتبائنين ، كما إذا قال : أكرم العلماء إلا زيداً وتردد المستثنى بين شخصين أحدهما زيد بن عمر والآخر زيد بن بكر ، يسقط الاحتجاج بالعام في مورد كلّ من الشخصين ، لما عرفت في المخصص المتصّل الدائر أمره بين الأقل والأكثر من أنّ اتصال المخصّص يمنع عن انعقاد الظهور للعام في العموم ، بل ينعقد ظهوره في الخصوص من أوّل الأمر ، أي في العنوان المركب من العلماء وغير الفسّاق ، فكما يجب إحراز كون المورد عالماً يجب إحراز كونه غير فاسق ، وفي المقام أيضاً كذلك فكون المورد عالماً وإن كان محرزاً لكن لم يحرز الجزء الآخر لأجل الجهل بالمفهوم. 4. المخصّص اللفظي المنفصل المجمل الدائر أمره بين المتبائنين إذا كان المخصص اللفظي المنفصل ، مجملاً مفهوماً مردداً بين المتبائنين ، كما إذا قال : أكرم العلماء ولا تكرم زيداً العالم ودار أمره بين زيد بن عمرو وزيد (513)
بن بكر العالمين ، فهل يسري أو لا ؟ الحقّ أنّه يسري حكماً ، بمعنى أنّه لايكون العام حجّة في حقّ هذين الشخصين ، للعلم التفصيلي بسقوط العام عن الحجّية في حقّ أحدهما ، ومعه كيف يمكن أن يكون العام حجّة في مورد أحدهما أو كليهما ؟! وعلى ذلك يجب إعمال قواعد العلم الإجمالي ، فلو كان لسان المخصص رفع الوجوب يجب إكرام كلا الرجلين حتّى تحصل البراءة ، وإن كان لسانه تحريم الإكرام يدور الأمر بين المحذورين فيعمل بحكمه من التخيير أو القرعة.
إلى هنا تمّ الكلام في المخصص اللفظي المجمل مفهوماً وأمّا الكلام في المخصص اللبي المجمل مفهوماً فلم يبحث عنه المحقّق الخراساني ، وإنّما بحث فيه في الشبهة المصداقية لا في الشبهة المفهومية. فخرجنا بالنتيجة التالية : انّ إجمال المخصّص اللفظي يسري إلى الأقسام في عامة الصور متصلاً كان أو منفصلاً ، دار أمر الإجمال بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين. إذا علمت ذلك فلندخل في الإجمال المصداقي الذي يعبر عنه بالشبهة المصداقية للمخصّص ، ولنعقد له فصلاً مستقلاً كما عقدناه للمجمل مفهوماً. (514)
الفصل الخامس
المخصّص اللفظي المجمل مصداقاً
إذا كان المخصص مجملاً من حيث المصداق لا من حيث المفهوم ، كما إذا قال : أكرم العلماء ثمّ قال : لا تكرم فسّاق العلماء ، وكان المخصص معلوماً مفهوماً وإنّما تعلّق الشكّ بالمصداق وانّ زيداً العالم مثلاً هل هو فاسق أو لا ؟ وهذا هو المسمّى بالشبهة المصداقية للمخصص وموردها ما إذا كان عنوان العام محرزاً وعنوان الخاص مشكوكاً كما عرفت ، وأمّا إذا كان نفس عنوان العام مشكوكاً وأنّ زيداً مثلاً عالم أو لا ، فهذا ما يسمّى بالشبهة المصداقية للعام ، وهذا خارج عن محط البحث ، ومن المعلوم أنّ العام ليس بحجّة فيه.
وكان اللازم على المحقّق الخراساني أن يقسّم المخصّص اللفظي ـ في الشبهة المصداقية ـ إلى مخصص متصّل ، ومخصص منفصل ، ثمّ إنّ الشبهة في كلّ من المتّصل والمنفصل تارة تدور بين الأقلّ والأكثر ، وأُخرى بين المتبائنين فتصير الأقسام أربعة كالشبهة المفهومية ، لكنّه ( قدس سره ) سلّم عدم جواز التمسّك في المتصل مطلقاً ، وفي المنفصل صورة دوران الأمر بين المتبائنين خص البحث بصورة واحدة وهي صورة انفصال المخصص ، ودوران الإجمال بين الأقل والأكثر ، ونحن أيضاً نقتفيه. ثمّ إنّ المشهور بين القدماء هو جواز التمسّك كما سيوافيك كلامهم عند (515)
التطبيقات ووافقهم من المتأخرين المحقّق النهاوندي ( المتوفّى 1317 ) في كتاب « تشريح الأُصول » والمعروف بين المتأخرين هو عدم الجواز ، ولنذكر أدلة المجوزين ، حيث استدلّوا بوجوه :
الأوّل : مزاحمة الحجّة بغير الحجّة انّ الخاص إنّما يزاحم العام فيما كان فعلاً حجّة ( ما علم أنّه مصداق له كمعلوم الفسق ) ، ولا يكون حجّة فيما اشتبه انّه من أفراده فخطاب : « لا تكرم فسّاق العلماء » لا يكون دليلاً على حرمة إكرام من شكّ في فسقه من العلماء ، فلا يزاحم مثل أكرم العلماء ولا يعارضه ، فانّه من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة. (1) حاصله : انّ الحجّة عبارة عن ضم الكبرى إلى صغرى محرزة فيقال هذا خمر ، وكلّ خمر حرام ، وأمّا المقام فالكبرى ( لا تكرم فسّاق العلماء ) وإن كانت محرزة لكن الصغرى ( كون زيد فاسقاً ) غير محرز ، فلا يحتجّ بالخاص فيه ، وهذا بخلاف جانب العام ، فانّ الحجّة بكلا جزئيها محرزة حيث نعلم أنّه عالم ، وكلّ عالم يجب إكرامه ، فرفع اليد عن الثاني من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة. ثمّ إنّ المحقّق الخراساني أجاب عن الاستدلال بقوله : « إنّ الخاص وإن لم يكن دليلاً في الفرد المشتبه فعلاً ، إلا أنّه يوجب اختصاص حجّية العام في غير عنوانه ( الخاص ) من الأفراد ، فيكون أكرم العلماء دليلاً وحجّة في العالم غير الفاسق ، فالمصداق المشتبه وإن كان مصداقاً للعام بلا كلام ، إلا أنّه لم يعلم أنّه من مصاديقه بما هو حجّة لاختصاص حجّيته بغير الفاسق. وبالجملة : العام المخصّص بالمنفصل وإن كان ظهوره في العموم كما إذا لم 1. الكفاية : 1/342 ، ولاحظ تشريح الأُصول للمحقّق النهاوندي : 261 ـ 262. (516)
يكن مخصَّصاً ، بخلاف المخصص المتصل ، كما عرفت إلا أنّه في عدم الحجّية إلا في غير عنوان الخاص ، مثله فحينئذ يكون الفرد المشتبه غير معلوم الاندراج تحت إحدى الحجّتين فلابد من الرجوع إلى ما هو الأصل في البين ». (1)
وحاصله : انّ الصغرى في كلا الدليلين غير محرزة ، أمّا الخاص فلما عرفت ، وأمّا العام فهناك ملاحظتان ، فالصغرى حسب إحداهما محرزة دون الأُخرى فإن لوحظ العام ، مع قطع النظر عن المخصص المنفصل ، فالصغرى والكبرى محرزتان ، لأنّها في هذا اللحاظ ليست إلا نفس العالم ، وأمّا إذا لوحظ العام بعد تخصيصه به ، فالموضوع يتعنون بقيد عدمي ، ويكون الموضوع هو العالم غير الفاسق ، والجزء الأوّل منها وإن كان محرزاً لكن الجزء الثاني ، أعني : القيد العدمي بعد غير محرز. وإن شئت قلت : إنّ الموضوع حسب ظهور العام وإن كان محرزاً ، لكنّه بالنسبة إلى ما هو حجّة فيه غير محرز ، لأنّه ليس حجّة في مطلق العلماء ، بل العلماء غير الفسّاق. وبعبارة ثالثة : انّ الموضوع حسب الإرادة الاستعمالية محرز ولكنّه بالنسبة إلى الإرادة الجدية غير محرز. فإن قلت : ما ذكرته خلط بين التقييد والتخصيص فبما انّ لسان التقييد ، لسان بيان حدّ الموضوع وخصوصياته ، يكون سبباً لتركب الموضوع وتعنونه بعنوان القيد ، كما إذا قال : إذا أفطرت اعتق رقبة ، ثمّ قال : إذا أفطرت اعتق رقبة مؤمنة. 1. كفاية الأُصول : 1/342 ـ 343. (517)
فعندئذ يكون متعلّق الإرادة الجدية هو المعنون المركب من شيئين.
وهذا بخلاف التخصيص فانّ شأنه إخراج ما ليس بموضوع عن تحت الموضوع ، فلا يورث إخراج الفسّاق منهم ، تركّب الموضوع من جزءين أحدهما إيجابي ـ أعني : العلماء ـ والآخر سلبي وهو غير الفسّاق. قلت : إنّ ما ذكرته من الفرق بين التقييد والتخصيص إنّما يصحّ إذا كان الإخراج إفرادياً ، كأن يُخرج زيداً ، وعمراً وهكذا على التفصيل ، وأمّا إذا كان الإخراج بملاك وتحت عنوان كالفسّاق مثلاً ، فلا محالة يكون العام في مقام الحجّية ، معنوناً بغير عنوان الخاص ، أي العلماء غير الفسّاق. نعم يظهر من المحقّق العراقي ، انّ التخصيص ، لا يُضفي على العام أي عنوان ، وانّ إخراج بعض الأفراد ، بعنوان خاص ـ كالفسّاق ـ أشبه بإخراجهم عن تحته بالموت ، حيث قال : إنّ شأن المخصّص إخراج الفرد مع إبقاء العام على تمام الموضوعية ، وإنّما يُقلِّل افراد العام دون انقلاب فيه نظير موت بعض الأفراد. (1) وأنت خبير بأنّه خلط بين التخصيص الإفرادي ، والتخصيص العنواني الحاكي عن ملاك الإخراج ، فعندئذ يكون العام حجّة في غير عنوان الخاص كما أوضحناه. الثاني : التمسّك بالعموم الأحوالي إنّ العام بعمومه الافرادي يدلّ على وجوب كلّ فرد من العلماء كما أنّه بعمومه الأحوالي يدلّ على سراية الحكم إلى كلّ حال من حالات الموضوع ، وهي عبارة عن كونهم عدولاً أو فسّاقاً ، أو مشكوكي العدالة ، فقد خرج الثاني عن 1. مقالات الأُصول : 1/444 ـ 445. (518)
تحت العموم بفضل المخصص ، وبقي الثالث تحت العموم الأحوالي للدليل.
يلاحظ عليه أوّلاً : ـ مضافاً إلى ـ أنّ العموم الأحوالي هو نفس الإطلاق الأحوالي والتعبير عن الثاني بالأوّل خلاف الاصطلاح ، انّه ليس الإطلاق هو تسرية الحكم إلى عامة حالات الموضوع وأخذها فيه ، بأن يقال : إنّ العالم واجب الإكرام ، سواء كان معلوم الفسق ، أو مشكوك ، أو مقطوع العدم حتّى يرجع الإطلاق إلى ضم القيود ، مع أنّه رفض القيود ، بل الإطلاق عبارة عن كون ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع وهو في المقام هو لفظ « العالم » فقط لاجعل الفرد واجب الإكرام في الأحوال الثلاثة. وثانياً : أنّ العموم الأحوالي فرع العموم الافرادي ، فلو علم بقاء فرد تحت العام يشمله الحكم في الأحوال الثلاثة ، وأمّا إذا شكّ في بقائه أو خروجه ، كما هو الحال في المقام ، لأنّ المورد على فرض من مصاديق المخصص ، نشك في وجود العموم الأحوالي حتّى يحتجّ به. وثالثاً : إنّما يصحّ التمسّك بالعموم الأحوالي ، إذا كان الشكّ مأخوذاً في لسان الدليل ، بأن يقال : انّ العالم واجب الإكرام حتّى ولو شكّ في كونه فاسقاً أو غير فاسق ، مع أنّه ليس كذلك وإلا يلزم أن يكون مبيّناً لحكمين : واقعي وظاهري ، أمّا الأوّل فالحكم على العالم بما هو هو ، والحكم عليه ، بما انّه مشكوك الفسق والعدالة ، وهذا ممّا لا يحتمله قوله : « أكرم العلماء ». الثالث : استصحاب حكم العام هذا الوجه ذكره الشيخ من قبل المجوزين وقال : ويمكن أن يحتجّ للخصم بالاستصحاب فيما لو عمل بالعام في المشكوك بواسطة القطع باندراجه (519)
ثمّ طرأ الشكّ فيه. (1)
يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ الكلام في التمسك بالعام لا بالاستصحاب. وثانياً : أنّه لا يعمّ الشكوك البدوية ويختصّ بما إذا كان للحكم حالة سابقة. وثالثاً : انّ طروء الشكّ إلى اليقين يوجب زوال اليقين من أصله ، فعندئذ يخرج المورد عن قاعدة الاستصحاب ويدخل في قاعدة اليقين ، وهي ليست بحجّة ولا تشملها أخبار الاستصحاب ، لأنّها ظاهرة في وجود اليقين الفعلي حين الشكّ والمفروض زواله من عند الشك. الرابع : التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع وهذا الوجه أيضاً ذكره الشيخ في المطارح من قبل المجوزين ، قال : الظاهر عن عنوان العام والمخصص أن يكون الأوّل مقتضياً ، والثاني مانعاً عن الحكم ففي موارد الاشتباه يؤول الأمر إلى الشك في وجود المانع بعد إحراز المقتضي والأصل عدمه فلابدّ من الحكم بوجود المقتضي. (2) يلاحظ عليه : أنّه لم يدلّ دليل على حجّية قاعدة « المقتضي والمانع » ، نعم قال بحجّيتها العلامّة الشيخ محمد هادي الطهراني ( قدس سره ) وبالغ في تشييدها ، بتطبيق أخبار الاستصحاب عليها ، وقد أوضحنا في محلّه ضعف التطبيق. أضف إلى ذلك : انّه ربّما لا يكون لسان المخصّص ، لسان المانع ، كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : وليكن العلماء عدولاً ، والشكّ في عدالة واحد منهم ، ليس شكّاً في المانع بعد إحراز المقتضي ، بل هو شكّ في جزء المقتضي. 1. مطارح الأنظار : 197. 2. مطارح الأنظار : 197. (520)
المخصّص اللبّي والشكّ في الشبهة المصداقية
المراد من المخصّص اللبيّ ، ما إذا كان الدالّ على الحكم الشرعي ، أمراً غير لفظي ، كالإجماع ، وسيرة المتشرّعة ، وحكم العقل ، مثلاً لو دلّ الدليل اللفظي على إكرام الجيران وحصل القطع للمكلّف على عدم وجوب إكرام الأعداء منهم ، يسمّى مثل ذلك تخصيصاً لبيّاً. ثمّ إنّ المحقّق الخراساني خصّ ذكر المخصّص اللبي بهذا الفصل ، أعني : الشبهة المصداقية ، ولم يذكره في فصل الشبهة المفهومية مع إمكان جريانه فيها ونحن أيضاً نقتفيه. ونقول : إنّ المخصّص اللبيّ في الشبهة المصداقية تارة يكون متّصلاً بالحكم العام ـ كحكم العقل ـ وأُخرى منفصلاً ، كالإجماع والسيرة ، وعلى كلا الوجهين فتارة يكون الإجمال دائراً بين الأقل والأكثر ، وأُخرى بين المتبائنين ، والأمثلة نفس الأمثلة. وعلى ضوء ما ذكر يسري الإجمال إلى العام ، في متصله ومنفصله ، في الدائر بين الأقل والأكثر أو الدائر بين المتبائنين ، ووجهه انّ المخصص جعل العام حجّة في غير عنوان الخاص والعام بعنوانه وإن كان محرزاً ، لكنّه بما هو حجّة فيه ، أعني : الجار غير العدو ، غير محرز. لكن الشيخ الأعظم والمحقّق الخراساني أجازا التمسّك بالعام في صورة واحدة ، وهي إذا دار إجمال المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر مصداقاً وأوضحه في « الكفاية » بما يلي : وأمّا إذا كان لبيّاً بأن كان ممّا يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم إذا كان بصدد (521)
البيان في مقام التخاطب فهو كالمتصل حيث لا يكاد ينعقد معه ظهور للعام إلا في الخصوص ، وإن لم يكن كذلك فالظاهر بقاء العام في المصداق المشتبه على حجّيته كظهوره فيه.
والسرّ فيه انّ الكلام الملقى من السيد حجةً ، ليس إلا ما اشتمل على العام الكاشف بظهوره عن إرادته للعموم فلابد من اتّباعه مالم يقطع بخلافه ، مثلاً إذا قال المولى : أكرم جيراني وقطع بأنّه لايريد إكرام من كان عدواً له منهم وشكّ في عداء بعض الجيران ـ كانت أصالة العموم باقية على الحجّية بالنسبة إلى من لم يُعلم بخروجه عن عموم الكلام للعلم (1) بعداوته لعدم حجّة أُخرى بدون ذلك على خلافه بخلاف ما إذا كان المخصّص لفظياً ، فانّ قضية تقديمه عليه ، هو كون الملقى إليه كان من رأس لا يعم الخاص ، كما كان كذلك حقيقة فيما كان الخاص متصلاً. والقطع بعدم إرادة إكرام العدو ـ لا يوجب انقطاع حجّيته إلا فيما قطع انّه عدوه لا فيما شكّ فيه. كما يظهر هذا من صحّة مؤاخذة المولى لو لم يكرم أحداً من جيرانه لاحتمال عداوته ، وحسن عقوبته على مخالفته ، وعدم صحّة الاعتذار عنه بمجرّد احتمال العداوة كما لا يخفى. بل يمكن التمسّك بعموم العام وإثبات انّ المشكوك ليس فرداً لما علم خروجه ، فلو شكّ في جواز لعن شخص من بني أُميّة ـ لاحتمال كونه مؤمناً ـ يتمسّك بعموم : « لعن اللّه بني أُميّة قاطبة » ، فيحكم عليه بأنّه ليس بمؤمن. (2) وحاصل كلامه يرجع إلى أُمور ثلاثة : 1. متعلّق بقوله بخروجه. 2. كفاية الأُصول : 1/342. (522)
1. وجود التفاوت بين المخصّص اللفظي بكلا قسميه والمخصّص اللبي ، وهو انّ المولى ألقى حجّتين في الأوّل وصارت قضيةُ تحكيم الخاص على العام ، انّ العام لم يشمل الخاص ( الفاسق ) من رأس ، بخلاف المقام فانّ الحجّة الملقاة ليست إلا أمراً واحداً ، والقطع بعدم إكرام العدو لا يوجب رفع اليد عن عموم الدليل إلا فيما قطع بخروجه.
2. وجود السيرة العقلائية على صحّة المؤاخذة لو لم يكرم أحداً من جيرانه لاحتمال عداوته. 3. يمكن أن يتمسّك بعموم العام ويحكم للفرد المشكوك أنّه ليس من أقسام الفرد المقطوع خروجه ، كما في مثال : لعن اللّه بني أُميّة قاطبة ، ودلّ النقل على عدم جواز لعن المؤمن منهم ، فلو شكّ في أي فرد من بني أُمية يمكن التمسك بعموم العام وإثبات انّه ليس مؤمناً. ونتيجة البحث : انّ العام حجّة باق على ظهوره وحجّيته مطلقاً إلا ما علم خروجه. يلاحظ على الأوّل : بأنّه إذا كان العقل أو السيرة أو الإجماع أحد الحجج الشرعية ، يكون حكمها حكم الحجج اللفظية ، فكما أنّ الثانية تجعل العام حجّة في غير عنوان الخاص ، كذلك الأُولى فكما يجب إحراز كونه عالماً غير فاسق في اللفظي من المخصص كذلك إحراز انّ الجار ليس عدوّ المولى. وما اعتمد في الدليل من إلقاء الحجّتين هناك واقعاً وحجة واحدة في المقام غير واضح ، بل هو ألقى حجتين في كلا المقامين غاية الأمر قام بالثاني ، مباشرة في اللفظي وبغير مباشرة في اللبي. يلاحظ على الثاني : بأنّ ما ادّعى من السيرة العقلائية غير محرزة خصوصاً (523)
إذا كان تكريم العدو محرّماً وأمراً مبغوضاً ، فكيف يجزى العبد بإكرامه مع دوران الأمر بين المحذورين ؟!
يلاحظ على الثالث : بأنّ إحراز الموضوع ، أعني : بعموم الدليل ، أعني قوله : « لعن اللّه بني أُميّة قاطبة » ، عدم كون الفرد المشكوك مؤمناً ، بأنّه مبني على حجّية مثبتات الأُصول اللفظية حتى تثبت بأصالة العموم كون الفرد المشكوك كافراً غير مؤمن ، وهو موضع تأمّل. وعلى فرض الصحّة فما ذكر إنّما يتأتّى إذا كان التخصيص إفرادياً ، فيكون إخراج الفرد المشكوك تخصيصاً آخر ، فيتمسّك بالعموم لئلاّ يلزم التخصيص الزائد بخلاف ما إذا كان التخصص عنوانياً ، فانّ خروجه وعدم خروجه لا يؤثر في كثرة التخصص وقلته ، كما سيوافيك توضيحه في التفصيل الآتي. تفاصيل ثلاثة في المسألة ثمّ إنّ في المسألة ـ جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية ـ تفاصيل ثلاث : 1. التفصيل الذي اختاره الشيخ الأعظم في مطارح الأنظار. 2. التفصيل الذي أفاده المحقّق النائيني ( قدس سره ). 3. التفصيل الذي اخترناه في سالف الزمان. فلندرس تلك التفاصيل بعون اللّه تبارك وتعالى. 1. التفصيل بين مخصّص يوجب التنويع ومالا يوجب إنّ للشيخ الأنصاري تفصيلاً آخر في المسألة ( حجّية العام في الشبهة (524)
المصداقية ) وحاصله :
أنّ التخصيص تارة يوجب تعدّد الموضوعين وتنويعهما كالعالم والفاسق ، والعالم غير الفاسق وأُخرى لا يوجب ذلك ، كما إذا لم يعتبر المتكلّم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنواناً في العام وإن علمنا بأنّه لو فرض بين أفراد العام من هو فاسق لا يريد إكرامه ( لكن انطباق العنوان عليه ارتجالي وليس بملاك للحكم ). فعلى الأوّل لا وجه لتحكيم العام وأغلب ما يكون ذلك إنّما هو في التخصيصات اللفظية ، وعلى الثاني يجب تحكيم العام وأغلب ما يكون إنّما هو في التخصيصات اللبيّة. (1) وما ذكره الشيخ ( قدس سره ) نظرية علمية متقنة ولكن يجب أن نشير إلى وجه الإتقان وظاهر كلام الشيخ انّ الفارق بين القسمين هو كون المخصص لفظياً ، وكونه لبيّاً ، ولكن الفارق الواقعي غيره وإن كان الغالب في المخصص اللفظي هو الأوّل وفي اللّبي هو الثاني ، ويظهر ما ذكرنا بالبيان التالي : إذا كان التخصيص عنوانياً فلا يصحّ التمسّك بالعام لوجهين : الأوّل : المخصّص العنواني يجعل العام حجّة في غير الخاص ، ففي ظرف الشبهة المصداقية يكون أحد الجزءين محرزاً والجزء الآخر غير محرز كما مرّ بيانه. الثاني : انّ التوقف في العمل بالعام في مورد الشبهة المصداقية لا يستلزم تخصيصاً زائداً ، فسواء أصح التمسّك بالعام أم لم يصحّ لا يتوجه إلى العام إلا تخصيص واحد وهو تحت عنوان « الفاسق » ، سواء أكثرت أفراده أم قلّت ، فالتوقف في إكرام زيد العالم مشكوك الفسق لا يكون سبباً لتخصيص زائد وراء ما خصّ به. 1. مطارح الأنظار : 198. (525)
ولأجل هذين الوجهين يتوقّف في العمل بالعام.
وهذا بخلاف ما إذا كان التخصيص أفرادياً بأن يخرج من تحت العام تسعة أشخاص كلّ باسمه وشخصه وشكّ في الفرد العاشر في أنّه هل خرج من العام أو لا ؟ ففي ذلك المورد يتمسّك بالعام للوجهين التاليين : 1. انّ التخصيص الافرادي لا يُضفي على العام عنواناً زائداً على ما له من العنوان وإن علمنا دخول من خرج تحت عنوان خاص وهو الفاسق لكنّه في مقام الإثبات ليس بهذا العنوان العام ، بل بلحاظ كلّ فرد منهم ، وعندئذ فالموضوع هو العالم ، سواء أخرج عن تحته أفراد خاصة أم لم يخرج والتخصيص لا يجعل الموضوع مركباً ، وعند ذلك يتمسّك في المصداق المشتبه لانطباق الموضوع عليه غاية الأمر نشك في إخراجه والأصل عدمه. 2. إنّ التوقّف بالعمل بالعام في التخصيص الأفرادي يوجب كثرة التخصيص ، وذلك لأنّ تخصيص كلّ فرد يعدّ تخصيصاً مستقلاً ، فلو خرج تسعة أشخاص وشكّ في الشخص العاشر فقد خصّ تسع مرات وشكّ في المرة العاشرة ، وعليه فالشكّ في الفرد العاشر شكّ في التخصيص الزائد. نعم التخصيص في الشريعة الإسلامية إنّما هو على نحو الإخراج العنواني دون الإخراج الأفرادي. وعلى ما ذكرنا فهذا التفصيل في أصل المسألة ، لا تفصيلاً بين المخصص اللفظي واللبي. 2. التفصيل بين القيد والملاك قد عرفت أنّ التفصيل السابق وإن كان بظاهره تفصيلاً بين أقسام |
|||
|