إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 526 ـ 540
(526)
المخصص اللبي لكنّه كان في الواقع تفصيلاً بين المخصّص اللفظي والمخصص اللبي.
    وأمّا التفصيل الذي اختاره المحقّق النائيني فهو تفصيل بين المخصصات اللبيّة فهو يفرّق بين المخصص اللبيّ الذي يصلح أن يؤخذ قيداً وعنواناً في العام وبين المخصص اللبيّ الذي لا يصلح لذلك ، بل يكون ملاكاً لحكم العام ، فلا يجوِّز التمسّك بالعام في الأوّل بخلاف الثاني ، وحاصل ما أفاده :
    1. انّ المخصص اللبّي لو كان صالحاً لأخذه في عنوان العام وقيداً له كالعدالة في قوله : « فانظروا إلى رجل قد روى حديثنا » حيث عُلم أنّ العام بعمومه غير مراد ، وقام الإجماع على اعتبار العدالة في الراوي ففي مثله يكون المخصص اللبي كالمخصص اللفظي حيث يصبح موضوع العام مركّباً من قيدين ، أعني : رجلاً عادلاً ، فكما يجب إحراز الجزء الأوّل يجب إحراز الجزء الثاني.
    2. انّ المخصّص اللبي لو كان غير صالح للأخذ في الموضوع ، بل كاشفاً عن ملاك الحكم وعلّته كعنوان « غير المؤمن » و « غير الخيّر » ، ففي مثله يجوز التمسّك بعموم العام وإن شكّ في وجود الملاك ، وذلك لبقاء موضوع العام على بساطته وسعته من دون تقييد ، وأمّا عدم صلاحيته للأخذ في العنوان ، هو انّ حكم اللعن بنفسه لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير حتّى يصلح للتقييد ، فللحكم ضيق ذاتي بغير المؤمن فكيف يتصوّر فيه السعة ثمّ التقييد ؟! بخلاف الفاسق فانّ حكم الإكرام بطبعه يصلح أن يكون عاماً للعادل والفاسق ثمّ يخرج الفاسق ، وهذا بخلاف اللعن فانّه من أوّل الأمر من خصائص غير المؤمن وغير الخير.
    فإذا كان غير المؤمن ملاكاً لحكم العام غير مأخوذ فيه يؤخذ بحكم العام في مورد الشكّ لكون الموضوع بسيطاً ( بني أُمية ) وعدم أخذ قيد آخر فيه.


(527)
    هذا من جانب ومن جانب آخر انّ إحراز الملاك من وظائف المولى ، فإلغاء الحكم بصفة العام كاشف عن إحراز وجود الملاك في عامتهم ، وعندئذ : فلو علمنا بإيمان أموي كخالد بن سعيد بن العاص وإخوته أبان بن سعيد وعمر بن سعيد كان ذلك موجباً لخروجهم من تحت العام ، وانّ المتكلّم أخّر بيانَ إخراجهم لمصلحة فيه.
    فعلى ضوء ذلك فلو شككنا في إيمان أحد من بني أُميّة يتمسّك بعموم العام لإحراز الموضوع.
    ثمّ إنّ هنا صورة ثالثة وهي انّه إن تردد أمره ولم يحرز كونه قيداً أو ملاكاً فلو كان من الأحكام العقلية الضرورية يمكن الاتّكال عليه فيكون قيداً ، وإن كان نظرياً أو إجماعياً لا يصحّ الاتّكال عليه ، فيلحق بالقسم الثاني فتمسك بالعموم لجواز أن يكون الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه مع احتمال انّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاك. (1)
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ وجود أمثال أبناء سعيد بن العاص أوضح دليل على أنّ حكم العام ليس ملازماً لوجود ملاك اللعن في كلّ فرد فرد.
    وعلى ضوء ذلك فنحن نحتمل أنّ سكوت المولى عن الفرد الآخر لنفس العلّة التي لأجلها سكت عن ذكر الثلاثة ، وهي وجود المصلحة في تأخير البيان ، وعند ذلك لا عبرة بعموم العام عند العقلاء ، إذ ليس كاشفاً عن وجود الملاك.
    اللّهمّ إلا أن يقال : أصالة تطابق الإرادة الاستعمالية مع الإرادة الجدية دليل على وجود الملاك في الجميع إلا ما قام الدليل على فقده.
    وثانياً : أنّ موضوع الحكم لا يمكن أن يكون أعمّ من الملاك ، فإذا كان الملاك
1. فوائد الأُصول : 1/536 ـ 539.

(528)
أخصّ من مطلق بني أُمية يجب أن يكون الموضوع أيضاً كذلك ، وليس هذا إلا قيد « غير المؤمن » أو قيد « غير الخير » ونظائرهما ، فعندئذ يلحق الحكم الثاني بالقسم الأوّل في تركّب الموضوع من جزءين :
    1. كونه أُموياً ، 2. كونه غير المؤمن أخذاً بوحدة الموضوع والملاك في السعة والضيق.
    وأمّا ما ذكره من أنّ الملاك لا يمكن أخذه في الموضوع ، وذلك لأنّ حكم اللعن بنفسه لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير حتّى يصحّ تخصيصه بأحد هذين الوجهين ، مدفوع بأنّه خلط بين سعة الحكم حسب الإرادة الاستعمالية وسعة الحكم بالإرادة الجديّة ، فاللعن حسب الإرادة الجديّة وإن كان لا يصلح أن يعمّ المؤمن أو الخير ولكنّه حسب الإرادة الاستعمالية قابل لأن يعمّ عامة بني أُميّة حتّى المؤمن والخيّر ، وذلك لوجود المقتضي في كلهم إلا من هداهم اللّه ، فعلى ذلك فلا فرق بين كون غير المؤمن ملاكاً للحكم أو مأخوذاً في الموضوع.
    وثالثاً : أنّ ما ذكره من الصورة الثالثة ، أعني : ما يتردد بين الملاك وقيد الموضوع مخدوش أيضاً ، لأنّ حاصله أنّه يلحق بالقسم الثاني باحتمالين :
    1. احتمال أن يكون الفرد المشكوك قد أحرز المولى وجود الملاك فيه.
    2. احتمال انّ ما أدركه العقل أو قام عليه الإجماع من قبيل الملاك.
    فهذان الاحتمالان من الظنون التي لم يقم على حجّيتها دليل ، أفيصحّ أن يتمسّك بالعام اعتماداً على هذين الاحتمالين ؟!
    3. التفصيل بين ما إذا كان الفساد هو الأصل وعدمه
    وهاهنا تفسير ثالث وإن شئت فسمه رابع التفاصيل بضم ما أفاده المحقّق


(529)
الخراساني من التفصيل إليه.
    وحاصله : انّه إذا كان الحكم الطبيعي للموضوع هو الحرمة والفساد وكانت الحلية والصحّة أمراً طارئاً وعلى خلاف طبع الموضوع ، ففي هذه الموارد لو شكّ في مورد انّه باق تحت حكم العام أو خارج عنه فالعام هو المحكّم حتّى يثبت الخلاف ، وعلى ذلك جرت سيرة علمائنا وإن كان تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقية.
    وها نحن نذكر عدّة أمثلة اتّفقت كلمة الفقهاء فيها على العمل بالعام وإن كانت الشبهة مصداقية :
    1. دلّ الذكر الحكيم على وجوب الغض على المؤمنين بالنسبة إلى الجنس غير المماثل ، وإن شئت قلت حرمة النظر إليه ، وقال : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُروجَهُمْ ذلِكَ أَزكى لَهُمْ إِنَّ اللّهَ خَبيرٌ بِما يَصْنَعُون ). (1)
    ثمّ إنّه سبحانه خصّص وجوب الغض أو حرمة النظر بالنسبة إلى غير المماثل في سورة النساء بالمحارم الواردة في قوله سبحانه : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخواتُكُمْ وَعَمّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَناتُ الأَخ ... ) (2) فإذا ضُمّت الآيتان يتشكل منهما ، عام مخصَّص ، كأنّه سبحانه قال : غضّوا أبصاركم عن المرأة غير المحارم ... ، فلو شكّ في جنس غير مماثل انّه من المحارم ، أو لا ، يكون مرجعه إلى الشكّ في مصداق المخصص فأحد الجزءين محرز وهو كونه مرأة أو جنساً غير مماثل وإنّما الشكّ في الجزء الآخر ، أعني : كونه غير المحارم ، فالدليل الاجتهادي ، أعني : العام ، ساقط ، لعدم جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، فالمرجع
1. النور : 30.
2. النساء : 23.


(530)
هو حلية النظر ومع ذلك عدل المشهور عن الضابطة وأفتوا بالحرمة أخذاً بحكم العام ، وما ذلك إلا لأنّ الحكم الطبيعي في نظر الرجل إلى المرأة هو الحرمة ، خرج عنه ، موارد معدودة استثنائية فيؤخذ بالحكم الطبيعي للموضوع وهو حرمة النظر ، إلى أن يثبت خلافه.
    ولذلك يقول السيد الطباطبائي في العروة : إذا شكّ في كونه مماثلاً أو لا ، أو شكّ في كونه من المحارم النسبية أو لا ، فالظاهر وجوب الاجتناب ، لأنّ الظاهر أنّ وجوب الغض إلى جواز النظر مشروط بأمر وجودي وهو كونه مماثلاً أو من المحارم فمع الشكّ يعمل بمقتضى العموم. (1)
    وما علَّل به الحكم من الأخذ بقاعدة المقتضي وعدم المانع ليس بتام ، فانّ عدم احراز عنوان المخصص لا يكون دليلاً على التمسك بالعام ، إذ ليست المرأة بما هي هي موضوعة للحرمة بل المرأة بوصف كونها من غير المحارم فكما لا يجوز التمسّك بالمخصص لا يجوز التمسك بعموم العام ، إلا أن يكون الدليل ما ذكرناه من جريان السيرة على العمل بعموم العام ، لكون الأصل في المورد هو الحرمة ، والحلية أمر استثنائي.
    2. يقول سبحانه : ( ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنّ ... ) (2) فالأصل في إبداء الزينة لغير المماثل هو الحرمة ، خرجت المحارم عن تحتها ، أعني قوله : ( إِلاّ لبُعُولتهنّ ) وما عُطِفَ عليها في الآية ، فلو شك في رجل في أنّه من المحارم الذين يجوز ابداء الزينة لهم ، أو لا ، فالسيرة على حرمة الإبداء ، إلا إذا تبيّن كونه من المحارم ، مع أنّ مقتضى الأصل العملي هو جواز
1. العروة الوثقى ، كتاب النكاح ، المسألة 50.
2. النور : 31.


(531)
الإبداء وما ذلك ، إلا لأنّ الحكم الطبيعي أو الأصل الأوّلي في إبداء الزينة هو الحرمة والحلية طارئة استثنائية فيؤخذ به حتّى يثبت خلافه.
    3. انّ الوقف عبارة عن تحبيس العين وتسبيل المنفعة فلا يباع ولا يوهب ولا يرهن ، ومع ذلك كلّه فقد أفتى الفقهاء تبعاً للنصوص والقواعد ، بجواز بيعه في موارد عشرة تكفّل ببيانها الشيخ الأعظم في المتاجر ، فلو قام رجل ببيع الوقف واحتملنا كون المورد من الموارد المرخصة فمقتضى القاعدة الأُصولية عدم جواز التمسّك بالعام : « لا يجوز بيع الوقف » لكون الشبهة مصداقية ، لكن الفقهاء أفتوا بعدم جواز الشراء ، حتّى يعلم المجوز ، عملاً بالعام ، وما ذلك إلا لأجل أنّ الأصل الأوّلي في الوقف هو الحرمة تكليفاً ووضعاً ، فالعام حجّة ، وإن كانت الشبهة مصداقية.
    4. انّ الأصل في مال اليتيم هو حرمة التصرف إلا إذا كان فيه غبطة اليتيم ، قال سبحانه : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ اليَتيمِ إِلاّ بالّتِي هِيَ أَحسَن ) (1) فلو قام أحد ببيع مال اليتيم واحتملنا فيه غبطة اليتيم ، لا يجوز الشراء حتّى يثبت المجوز ، ولا يجري في المقام ولا في المورد السابق أصالة الصحّة حتّى أنّ الشيخ استثنى في فرائده (2) هذين الموردين من مجرى أصالة الصحة ، فلاحظ.
    وبذلك يعلم وجه التفريق في كلام الشيخ في فرائده ومتاجره ، بين الصلاة على الميّت ، وبيع مال اليتيم والوقف ، حيث تجري أصالة الصحّة في الأُولى دون الثاني ؛ فلو قام أحد بإقامة الصلاة على الميّت وشككنا في صحّة صلاته وفسادها ، تحمل على الصحّة ؛ ولو قام هو ببيع مال اليتيم ، أو الوقف ، لا يحمل على
1. الأنعام : 152.
2. الفرائد : 419 ، طبعة رحمة اللّه.


(532)
الصحّة إذا كان هناك شك في وجود المسوّغ للبيع.
    5. لوتلف مال الغير تحت يد الإنسان فالأصل فيه هو الضمان إلا إذا كانت اليد يد أمانة ، فلو تلف مال وشكّ في كيفية اليد أنّها يد أمانة أو لا ، فالأصل فيه الضمان ، ولأجل ذلك حكم الفقهاء في مثل المورد بالضمان. (1)
    و إن كان المورد ، من قبيل الشبهة المصداقية ، لقوله : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي. (2)
    6. الأصل في اللحوم البحرية هي الحرمة إلا السمك ذات الفلس ، فلو شكّ في نوع سمك في أنّه من ذوات الفلس أو لا ، فالأصل فيه الحرمة حتّى يثبت الخلاف ، لنفس الوجه الذي أوضحنا حاله في الأمثلة السابقة.
1. نقل شيخنا الأُستاذ ـ مد ظلّه ـ عن شيخه المحقّق البروجردي في درسه احتمال انّ المشهور اعتمدوا في الإفتاء بالضمان بالروايات الواردة في المقام ، لاحظ الوسائل : 13 ، الباب 16 من أبواب الرهن ، الحديث 2 و3.
2. سنن البيهقي : 6/90 ، 95 ؛ مسند أحمد : 5/8 و13.


(533)
    الفصل السادس
إحراز ما بقي تحت العام بالأصل العملي (1)
    قد عرفت أنّ العام ـ إلا ما سبق ـ ليس حجّة في الشبهة المصداقية للمخصّص. فلابدّ من الرجوع إلى الأصل ، فلو كان للمصداق المشتبه حالة سابقة يؤخذ بها ، فإذا قال : أكرم العلماء ولا تكرم فسّاق العلماء ، وشكّ في عدالة زيد العالم وكان مسبوق العدالة أو مسبوق الفسق فيحكم عليه بأحدهما فعلى الأوّل يدخل تحت العام وعلى الثاني تحت المخصص.
    إنّما الكلام إذا لم يكن له حالة سابقة ، فهل هنا أصل موضوعي يُنقِّح حال المشتبه ويدخله تحت العام أو لا ؟ ذهب المحقّق الخراساني إلى وجود الأصل المحرز في صورتين :
    1. إذا كان المخصّص منفصلاً.
    2. إذا كان المخصّص متّصلاً بصورة الاستثناء.
    وأما في غيرهما كما إذا كان متّصلاً وكان وصفاً فلا يحرز الموضوع بالأصل.
    توضيح كلامه : هو انّ المخصّص يتصوّر على صور أربع :
1. وما يأتي في هذا الفصل ، وإن كان ذيلاً ومتمّماً لمباحث الفصل السابق ، لكن فصلناه عن السابق لتسهيل الأمر على القارئ ، فإنّ الإطناب ربما يوجب الملَل.

(534)
    1. أن يكون وصفاً متّصلاً ، كما إذا قال : أكرم العلماء العدول.
    2. أن يكون وصفاً متّصلاً لكن بصورة الموجبة المعدولة ، كما إذا قال : أكرم العلماء غير الفسّاق.
    3. أن يكون المخصّص متّصلاً على نحو الاستثناء كما إذا قال : أكرم العلماء إلا الفسّاق.
    4. أن يكون المخصّص منفصلاً كما إذا قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم فسّاق العلماء.
    فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى أنّ الأصل المحرز ينقح حال الموضوع المشتبه في الصورتين الأخيرتين دون الأُوليين.
    وذلك لأنّ عنواني العدول أو غير الفسّاق من العناوين المنوعة التي تقسّم الموضوع إلى علماء عدول وغير عدول ، أو علماء فسّاق وغير فسّاق ، واستصحاب العدم الأزلي ( عدم كونه فاسقاً ) لا يثبت العنوان الوجودي للعام ، لأنّ استصحاب الأمر العدمي ( عدم كونه فاسقاً ) وإثبات الأمر الوجودي ( كونه عادلاً ، أو غير فاسق ) من الأُصول المثبتة التي ثبت في محلّها عدم حجّيتها.
    والحاصل : الفرق بين كون المخصّص منوّعاً للعام ، ومقسّماً له إلى قسمين ، وبين ما لا يكون كذلك ، بل يُخرج طائفة عن تحت العام دون أن ينوّع العام ويجعل الموضوع مركّباً من جزءين.
    أمّا الأوّل ، فكما إذا كان المخصّص وصفاً للعام كالعدول ، وغير الفسّاق ، إذ عندئذ يكون العام مركّباً من جزءين ، يحرز أحد الجزءين بالوجدان وأمّا الأمر فلا يحرز بالأصل ، لما عرفت من أنّ استصحاب العدم الأزلي ، لا يثبت عنواناً وجودياً وإن كانا متلازمين في الخارج.


(535)
    أمّا الثاني فكما إذا ورد المخصص بصورة الاستثناء أو ورد منفصلاً عن العام ، إذ ليس لهما دور عند ذاك إلا الإخراج من دون تقييد للعام بقيد وجودي ، فالاستثناء يخرج آحاد الفسّاق دون أن يقيد عنوان العام بقيد ومثله المخصص المنفصل ، غاية الأمر يجب في كلا الموردين أن لا يصدق عليه عنوان المخصص ، ويكفي في ذلك استصحاب العدم الأزلي للرجل المشكوك فسقه وعدالته.
    وعلى ضوء هذا قال المحقّق الخراساني بجريان استصحاب عدم القرشية في المرأة المرددة بين القرشية وغير القرشية ، قائلاً ، بأنّ النصّ ورد على أنّ المرأة ترى الحمرة إلى خمسين إلا القرشية ، فالمخصّص متصل لكنّه بصورة الاستثناء فليس له دور إلا إخراج القرشية من دون تقييد موضوع العام بقيد ، غاية الأمر يجب أن يحرز عدم عنوان المخصص ، ويكفي في ذلك استصحاب عدم القرشية للمرأة المرددة ، فيكون المورد من الموارد التي تثبت أحد الجزءين بالوجدان والآخر بالأصل.
    ومثله ما إذا كان المخصّص منفصلاً كما إذا قال : المرأة ترى الحمرة إلى خمسين عاماً ثمّ ذكر بعد فترة : القرشية ترى الدم إلى ستين.
    وبذلك تبين انّ نظريته مبنيّة على أمرين :
    الأوّل : انّ التخصيص المتصل بصورة الوصف أو بصورة القضية الموجبة المعدولة ينوِّع العام ويجعل الموضوع مركّباً من جزءين ، ومن المعلوم أنّه لا يمكن إثبات القيد الوجودي بالأمر العدمي.
    الثاني : انّه إذا كان المخصّص متّصلاً بصورة الاستثناء أو منفصلاً فلا يضفي للعام تنويعاً ولا يوجب تركّب الموضوع ، بل العام باق على عمومه ، غاية الأمر يجب أن لا يصدق عليه عنوان المخصّص ، فعندئذ يكفي استصحاب عدم


(536)
قرشية المرأة ، بعدم تحقّق الانتساب بينها وبين قريش فيكون باقياً تحت العام محكوماً بحكمه.
    وبذلك علم أنّ المحقّق الخراساني يركز في جريان الأصل الأزلي وعدمه على شيء واحد وهو تعنون العام بقيد وجودي كما في القسمين الأوّلين وعدم تقيّده به كما في القسمين الأخيرين ، فبما انّ الوصف أو الموجبة المعدولة ينوِّع العام بقيد وجودي فلا يثبت بالأصل العدمي ، وأمّا الاستثناء والمخصّص المنفصل لا ينوع الموضوع ولا يضفي عليه قيداً زائداً غاية الأمر يجب أن يحرز عدم عنوان المخصص فيجري ويثبت عدم تعنونه به.
    هذا توضيح مفصّل لمرام صاحب الكفاية ، وقد أجمل ( قدس سره ) في بيان مقصوده.
    مناقشة نظرية المحقّق الخراساني
    البحث في جريان استصحاب العدم الأزلي في المرأة المرددة بين القرشية وغيرها يقع في مقامين :
    الأوّل : مقام الثبوت.
    الثاني : مقام الإثبات.
    أمّا الأوّل فالذي يمكن أن يبقى تحت العام بعد ملاحظة المخصص ، أحد الأُمور الثلاثة :
    1. الموجبة المعدولة نحو قولنا : المرأة غير القرشية ترى الدم إلى خمسين.
    2. الموجبة ، السالبة المحمول نحو قولنا : المرأة التي هي ليست قرشيـة ترى الدم إلى خمسين. والمراد من الموجبة السالبة المحمول هو جعل القضية السالبة المحصلة خبراً لموضوع أو في حكم الخبر ، كما في المقام بحيث يكون الربط قبـل


(537)
الخبـر فتحمـل السالبـة على الموضـوع ويوصف بهــا لبّاً ويقـال : المـرأة التـي هي ليست بقرشية.
    3. السالبة المحصلة نحو قولنا : إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين ، وعلى كلّ تقدير فالباقي تحت العام أحد القضايا الثلاثة.
    فلو كان الباقي تحت العام ، هو الأوّلان ، أعني : المرأة بوصف القرشية ، أو المرأة التي هي ليست بقرشية ، فلا يمكن إثبات هذا القيد بالأصل العدمي ، وذلك لوجهين :
    الأوّل : انّ القيد المنوِّع أمر وجودي ، والمستصحب أمر عدمي ، واستصحاب الأمر العدمي وإثبات القيد الوجودي من الأُصول المثبتة. وهذا هو الذي ركّز المحقّق الخراساني عليه.
    الثاني : انّ المتيقّن قضية سالبة محصلة حيث تقول : إذ لم تكن المرأة موجودة فلم تكن قرشية ، والقضية المشكوكة قضية سالبة المحمول بمعنى نعلم وجودها ونشك في وصفها ، فاستصحاب السالبة المحصلة الصادقة مع نفي الموضوع وإثبات القضية بصورة سالبة المحمول من الأُصول المثبتة.
    وقد تكرر من الشيخ الأعظم وغيره أنّ مفاد كان التامة أو النفي التام لا يثبتان مفاد كان الناقصة والنفي الناقص ، مثلاً :
    إذا كان في البيت ماء كرّ فنقص منه شيء ، فلو قيل كان في البيت ماء كرّ بصورة كان التامة فلا يثبت به كرّيّة هذا الماء المشكوك ، ولا محيص من الاستصحاب بصورة كان الناقصة بأن يقال : انّ هذا الماء كان كرّاً والأصل بقاؤه.
    ومنه المرأة المشتبهة المرددة بين القرشية وغيرالقرشية ، فالمتيقّن عدم قرشية تلك المرأة عند عدم وجودها ، أعني : النفي التام ، والمشكوك هذه المرأة الموجودة ، المشكوكة قرشيتها. واستصحاب التام لا يثبت النفي الناقص.


(538)
    إلى هنا تبيّن انّ الأصل لا يجري فيما إذا كان الواقع تحت العام إحدى القضيتين :
    1. معدولة المحمول.
    2. الموجبة سالبة المحمول.
    نعم لو كان الواقع تحت العام على نحو السالبة المحصلة نحو قولنا : إذا لم تكن هذه المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين الصادقة حتّى مع عدم الموضوع ، ففي هذه الصورة تثبت القضيةُ المشكوكة بالقضية المتيقّنة لعدم وجود المانعين المذكورين ، فعندئذ يصحّ استصحاب عدم قرشيتها لإثبات انّ المرأة المرددة واقعة تحت العام لم تخرج منها.
    الكلام في مقام الإثبات
    إلى هنا تمّ كلامنا في مقام الثبوت ، بقي الكلام في مقام الإثبات ، أي تعيين أنّ الباقي تحت العام من أي قسم من الأقسام الثلاثة.
    الظاهر أنّ الباقي تحت العام بعد التخصيص هو القسمان الأوّلان لا الثالث.
    وذلك لأنّ الحكم الوارد في القضية حكم إيجابي ( ترى ) والقضية الموجبة لا تصدق إلا بوجود الموضوع ، قال التفتازاني في التهذيب : ولابدّ في الموجبة من وجود الموضوع ، إمّا محقّقاً وهي الخارجية ، أو مقدّراً فالحقيقية ، أو ذهناً فالذهنية. (1) والقضية في المقام حقيقية يجب وجود الموضوع في ظرف الصدق ، ومن المعلوم أنّ الرؤية إلى خمسين من خصائص المرأة الموجودة فيختص الباقي تحت العام
1. الحاشية على تهذيب المنطق : 58 ، ط مؤسسة النشر الإسلامي.

(539)
بالقضية المعدولة أو بالموجبة السالبة المحمول اللتين لا ينفكان عن صدق الموضوع ووجوده.
    وأمّا القضية السالبة المحصّلة فيمتنع أن تقع موضوعاً للرؤية ، فلو قيل إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين فقد جُمِعَ بين نقيضين ، فالموضوع بما انّه قضية سالبة محصّلة يصدق مع عدم الموضوع ، ولكن المحمول ( ترى ) بما انّه قضية موجبة لا تصدق إلا مع وجود الموضوع فلا يمكن أن يكون الباقي تحت العام هو السالبة المحصّلة.
    فإن قلت : لا مانع من أن يكون الأصل فاقداً للأثر حدوثاً وواجداً له بقاءً ، فعدم القرشية وإن كان فاقداً للأثر عند عدم الموضوع ولكنّه واجد له بعد وجود الموضوع ومثل هذا داخل تحت قوله : لا تنقض اليقين بالشك.
    قلت : ما ذكرته صحيح فيما إذا عمّ الدليل كلتا الصورتين ، مثلاً : إذا كان الماء كراً على وجه اليقين يشمله الدليل الاجتهادي بأنّه لاينجّسه شيء ، فإذا نقص منه شيء فشكّ في كونه كرّاً فالدليل الاجتهادي يكون قاصراً عن شموله لهذا المورد ، ولكن لا قصور في دليل الاستصحاب فيستصحب بقاء الماء على الكرّية فيشمله الدليل الاجتهادي ثانياً.
    غير أنّ هذا الشرط غير موجود في المقام ، لأنّ موضوع الدليل الاجتهادي ، أعني قوله : « المرأة غير القرشية » لم يكن شاملاً لها في فترة من الزمن ، أي عندما كانت معدومة الوجود والصفة ، فكيف يشملها بعد وجودها مع الشكّ في بقاء عدم وصفها ؟ ففي مثل ذلك لا يشملها الدليل الاجتهادي ولا الاستصحاب.
    إذا عرفت ذلك تقف على أنّه يتوجّه على المحقّق الخراساني إشكالات نأتي بها تالياً.


(540)
    1. إذا كان الباقي تحت العام حسب الدراسة السابقة هو القضية الموجبة ، سواء أكانت موجبة معدولة أو موجبة سالبة المحمول فهذا ممّا لا حالة سابقة له ، إذ المرأة الموصوفة بغير القرشية لم يتعلّق بها اليقين في عصر من الأعصار ، وأمّا السالبة المحصلة ، أعني « إذا لم تكن المرأة قرشية فترى الدم إلى خمسين » فهي غير صالحة لأن تكون موضوعاً للرؤية ، لأنّ الحكم الإيجابي يستلزم وجود الموضوع كما ذكره المنطقيون. قال التفتازاني في التهذيب :
    ولابدّ في الموجبة من وجود موضوع ... والسالبة المحصّلة التي تصدق مع عدم الموضوع لا تصلح لأن تقع موضوعاً للحكم الإيجابي.
    2.نفترض انّ الباقي تحت العام هو السالبة المحصّلة ولكن القضية المتيقّنة تُغاير القضية المشكوكة ، فانّ المتيقّنة منها هي السالبة الصادقة بانتفاء الموضوع ، أي لم تكن موجودة فلم تكن قرشية ، والمشكوكة هي القضية السالبة ، الصادقة بانتفاء المحمول مع وجود الموضوع ، ومن المعلوم أنّ إسراء الحكم من القضية الأُولى إلى القضية الثانية إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر.
    3. انّ استصحاب العدم الأزلي ليس مصداقاً عرفياً للاستصحاب ، وظـواهر الكلام حجّة في المصاديق العرفية لا المصاديق العقلية الدقيقة كما في المقام.
    4. انّ التفريق بين الوصف والاستثناء قائلاً بأنّ الأوّل ينوِّع دون الثاني تفريق بلا وجه ، لأنّ العرف لا يفرّق بين قولنا : أكرم العلماء غير الفسّاق ، وقولنا : أكرم العلماء إلا الفسّاق ، والتفريق بينهما بكون المخصص وصفاً في الأوّل ومنوِّعاً للموضوع إلى فاسق وغير فاسق دون الثاني فانّ دوره الإخراج لا التنويع ، بعيد عن الأذهان العرفية.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس