|
|||
(646)
فاجلِدُوا كُلَّ واحد منهُما مِائةَ جَلدَة وَلا تَأْخُذكُمْ بِهما رأْفةٌ فِي دينِ اللّه ). (1)
والظاهر أنّ من جوّز نسخ التـلاوة حـاول بذلك تبريـر ما ورد في الصحـاح والسنن والمسانيد ممّا يدلّ على التحريف ، فجعلوه من قبيل منسوخ التلاوة. وهناك سؤال وهو انّ المفروض في منسوخ التلاوة انّ المعنى ثابت وهو رجم الشيخ والشيخة ، دون اللفظ ، واللفظ القرآني يجب أن يكون على حد يمتنع على الآخرين مقابلته حتّى يكون على القمة من الجزالة والحلاوة ، وعندئذ يُسأل لماذا نسخت تلاوة الآية ، وما هو السبب في نسخها ؟ أفهل كان العيب في المعنى والمفروض انّه ثابت ، أم في اللفظ والمفروض انّه على درجة سائر الآيات في البلاغة ؟ السادس : الآيات المنسوخة في القرآن الكريم اختلف المسلمون في وجود النسخ في القرآن ، والمشهور وجوده ، ولكنّهم بين مقلّ ومكثر. فالنحاس في كتابه « الناسخ والمنسوخ » من المكثرين ، فقد أدرج كثيراً من الآيات في عداد الناسخ والمنسوخ وليس منها شيء. والسيد المحقّق الخوئي من المقلّين لو لم نقل من المنكرين إلا في مورد واحد ، وهو مورد الصدقة عند النجوى في كتابه « البيان في تفسير القرآن ». وها نحن نذكر الموارد التي دلّ الدليل القطعي على تطرّق النسخ إليها. 1. النور : 2. (647)
1. عدّة الوفاة
كانت عدّة الوفاة بين العرب قبل الإسلام حولاً وقد أمضاها سبحانه بالآية التالية : ( والّذينَ يُتوَفَّونَ مِنْكُمْ وَيذَرُونَ أَزواجاً وَصيّةً لأَزواجِهِمْ متاعاً إِلى الحَولِ غَيرَ إِخراج فإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيكُمْ فِيما فعلْنَ في أَنفُسهِنّ مِنْ مَعْروف وَاللّهُ عَزيزٌ حَكيم ). (1) فإنّ تعريف الحول للأُمّ إشارة إلى الحول الرائج بين العرب قبل الإسلام وهو حول العدّة. قال المحقّق القمي : الآية دالّة على وجوب الإنفاق عليها في حول وهو عدّتها ما لم تخرج ، فإن خرجت تنقضي عدّتها ولا شيء لها. (2) ولكن نسخت الآية بقوله : ( وَالّذينَ يتوفّون مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزواجاً يتربَّصنَ بأَنفُسِهِن أَربعة أَشهُر وَعشراً ). (3) وربّما يتصوّر انّ الآية الأُولى تدلّ على حكم تكليفي للزوج في حقّ الزوجة ، وهو انّه يجب على الزوج أن يوصي لزوجته بسكنى الدار إلى حول ، وانّه لا يحق للورثة إخراجها من بيتها إلا باختيارها. وعلى ضوء هذا ، فلا منافاة بينها وبين آية العدة التي تحدّدها بأربعة أشهر وعشراً. يلاحظ عليه : أنّه لو كان المقصود مجرّد بيان الحكم التكليفي وانّ المرأة لها حقّ السكنى في دار الزوج إلى حول كان اللازم تنكير الحول مع أنّه ذكره معرّفاً 1. البقرة : 240. 2. القوانين : 2/94. 3. البقرة : 234. (648)
باللام مشيراً إلى حول خاص معروف بين العرب ، وما ذلك الحول إلا حول العدة.
ويدلّ على ذلك ما نقله العياشي عن أبي بكر الحضرمي ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : لمّا نزلت هذه الآية : ( وَالّذِينَ يتوفّون مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزواجاً يتربّصن بأَنفُسِهِنَّ أَربَعةَ أَشهر وَعَشراً ) جئن النساء يخاصمن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقلن : لا نصبر ، فقال لهن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : كان إحداكنّ إذا مات زوجها ، أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها في حذرها ، ثمّ قعدت ، فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول ، أخذتها ففتتها ، ثمّ اكتحلت بها ، ثمّ تزوجت ، فوضع اللّه عنكنّ ثمانية أشهر. (1) 2. الصدقة قبل النجوى أمر اللّه سبحانه المؤمنين بتقديم الصدقة قبل نجوى الرسول ، وقال : ( يا أَيُّها الّذينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقة ذلِكَ خَيرٌ لَكُمْ وَأَطهَرُ فإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحيم ). (2) ولما امتنع المسلمون من تقديم الصدقة تفرقت الصحابة من حول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فنسخت الآية بقوله سبحانه : ( أأشفَقْتُمْ ان تُقدِّمُوا بينَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدقات فإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللّهُ عَلَيْكُمْ فأَقيمُوا الصَّلاة ... ). (3) وكانت الغاية من تشريع إيجاب الصدقة هي تمييز من يؤثر نجوى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على دنياه عمّن لا يؤثر. فقد روي أنّ علياً تصدّق بدرهم وناجى الرسول. (4) 1. بحارالأنوار : 104/188 ؛ تفسير العياشي : 1/237 ، الحديث 489. 2. المجادلة : 12. 3. المجادلة : 13. 4. تفسير مفاتيح الغيب : 3/230. (649)
روى ابن جرير باسناده عن مجاهد قال :
قال علي ( عليه السَّلام ) : آية من كتاب اللّه لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان عندي دينار فصرّفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تصدّقت بدرهم ، فنسخت ، فلم يعمل بها أحد قبلي ( إِذا ناجَيْتُم ). (1) قال الشوكاني : وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عنه ( علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ) قال : ما عمل بها أحد غيري حتّى نسخت ، وما كانت إلا ساعة ، يعني : آية النجوى. (2) دلّت الآية المباركة على أنّ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خير ، وتطهير للنفوس ، والأمر به أمر بما فيه مصلحة العباد. ودلّت على أنّ هذا الحكم إنّما يتوجّه على من يجد ما يتصدّق به ، أمّا من لا يجد شيئاً فانّ اللّه غفور رحيم. قال المحقّق الخوئي : ولا ريب في أنّ ذلك ممّا يستقلّ العقل بحسنه ويحكم الوجدان بصحّته ، فإنّ في الحكم المذكور نفعاً للفقراء ، لأنّهم المستحقّون للصدقات ، وفيه تخفيف عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فانّه يوجب قلّة مناجاته من الناس ، وانّه لايقدم على مناجاته ـ بعد هذا الحكم ـ إلا من كان حبّه لمناجاة الرسول أكثر من حبّه للمال. ولا ريب أيضاً في أنّ حسن ذلك لا يختصّ بوقت دون وقت ، ودلّت الآية الثانية على أنّ عامّة المسلمين غير علي بن أبي طالب أعرضوا عن مناجاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إشفاقاً من الصدقة وحرصاً على المال. (3) 1. تفسير الطبري : 28/15. 2. فتح القدير : 5/186. 3. تفسير البيان : 376. (650)
3. الإمساك في البيوت بدل الحد
كان حد الزانية هو حبسها في البيت ، قال سبحانه : ( وَ اللاّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِنْكمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتّى يَتَوفّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللّهُ لَهُنَّ سَبيلاً ). (1) فنسخت بجلد الزانية مائة جلدة قال سبحانه : ( الزّانيةُ والزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحد مِنْهُما مِائةَ جَلْدَة ). (2) ثمّ إنّ السيد المحقّق الخوئي أنكر وجود النسخ في الآية قائلاً : بأنّ المراد من لفظ الفاحشة ما تزايد قبحه وتفاحش ، وذلك قد يكون بين امرأتين فيكون مساحقة ، وقد يكون بين ذكرين فيكون لواطاً ، وقد يكون بين ذكر وأُنثى فيكون زنا ، ولا ظهور للفظ الفاحشة في خصوص الزنا لا وضعاً ولا انصرافاً. ثمّ إنّ الالتزام بالنسخ في الآية يتوقّف : أوّلاً : على أنّ الإمساك في البيوت حدّ لارتكاب الفاحشة. ثانياً : أن يكون المراد من جعل السبيل هو ثبوت الرجم والجلد. وكلا هذين الأمرين لا يمكن إثباتهما. إذ الظاهر من الآية المباركة انّ إمساك المرأة في البيت إنّما هو لتعجيزها عن ارتكاب الفاحشة مرة ثانية. كما أنّ الظاهر من جعل السبيل للمرأة التي ارتكبت الفاحشة هو جعل طريق لها تتخلص به من العذاب ، فهل يكون الجلد أو الرجم سبيلاً لها ؟! 1. النساء : 15. 2. النور : 2. (651)
ثمّ خرج بالنتيجة التالية : أنّ المراد من الفاحشة خصوص المساحقة أو الأعمّ منها ومن الزنا.
يلاحظ على الوجه الأوّل : بأنّ الفاحشة أُطلقت في القرآن وأُريد بها الزنا ، نعم ربّما أُطلقت وأُريد بها غيرها أيضاً. قال سبحانه : ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنا إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلاً ). (1) وقال في سورة يوسف : ( كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنا الْمُخْلَصِين ). (2) وأمّا الثاني أي كيف يكون الجلد والرجم سبيلاً لصالحهنّ ، فيلاحظ عليه : أنّ المراد من الإمساك في البيوت هو الحبس الدائم ، والمراد من السبيل خصوص الجلد وهو أهون من الحبس الدائم ، وليس الرجم داخلاً في السبيل بشهادة انّ الآية منسوخة بآية الجلد كما ذكرنا. روى العياشي في تفسيره عن جابر ، عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) في قول اللّه سبحانه : ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ـ إلى ـ سبيلاً ) قال : منسوخة ، والسبيل هو الحدود. (3) وعن أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : سألته عن هذه الآية ( واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ـ إلى ـ سبيلاً ) ، قال : « هذه منسوخة ». (4) هذه هي الموارد التي دلّ الدليل القطعي على تطرق النسخ إلى الآيات 1. الإسراء : 32. 2. يوسف : 24. 3. تفسير العياشي : 1/377 برقم 902. 4. تفسير العياشي : 1/377 برقم 903. (652)
القرآنية ، ولعلّ هناك موارد أُخرى لم نشر إليها.
واعلم أنّ البحث في المقام هو نسخ الحكم الشرعي الوارد في القرآن بالقرآن ، وهناك قسم آخر ، وهو ما يكون الناسخ آية قرآنية والمنسوخ سنّة نبوية ، وهذا كنسخ وجوب الصلاة إلى بيت المقدس بالتوجّه إلى الكعبة. أمر المسلمون بالصلاة إلى بيت المقدس ، وصلّى النبي والمسلمون إليها حوالي سبعة عشر شهراً ، ثمّ نسخ الحكم الشرعي بآية قرآنية ، يقول سبحانه : ( قَدْ نَرى تَقلُّبَ وَجهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسّجِدِ الحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه ). (1) هذا بعض الكلام في النسخ ، ولنعطف عنان القلم إلى بحث آخر وهو البداء. 1. البقرة : 144. (653)
الأمر الثالث
البداء
البداء مسألة كلامية لا صلة له بعلم الأُصول ، والفرق بين النسخ والبداء أنّ الأوّل نسخ في التشريع والثاني نسخ في التكوين ، ولأجل ذلك ناسب أن نردف البحث في النسخ ، بالبحث في البداء.
البداء من المسائل الشائكة لمن لم يتدبّر فيها ، ومن المطالب الواضحة لمن تدبّر ، وسيظهر أنّ النزاع فيها لفظي لا معنوي كما سيوافيك ، وتحقيق البحث ضمن أُمور : 1. البداء في اللغة البداء في اللغة هو ظهور ما خفي ، وقد اتّفق عليه أصحاب معاجم اللغة ، ويدلّ عليه قوله سبحانه في حقّ المشركين يوم القيامة : ( وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون ). (1) أي ظهر لهم آثار ما عملوا من السيِّئات بعدما خفيت عليهم ، وأحاط بهم ما كانوا به يستهزئون. وقال عزّ من قائل : ( ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الآياتِ ليَسجُنُنَّهُ حَتّى 1. الجاثية : 33. (654)
حين ). (1) أي ظهر لهم بعدما رأوا الآيات الدالّة على براءة يوسف أن يسجنوه إلى حين ينقطع فيه كلام الناس.
فالبداء بهذا المعنى من خصائص من كان جاهلاً بعواقب الأُمور ثمّ يبدو له ما خفي عليه ، ولأجل ذلك لم يُنسَب البداءُ في القرآن إلى اللّه سبحانه ، بل إلى غيره ، لأنّه استعمل في الكتاب العزيز بالمعنى الحقيقي ، ويستحيل أن يوصف به العالم بعواقب الأُمور. 2. إحاطة علمه سبحانه بعامّة الأشياء اتّفق الإلهيون إلا الشاذّ منهم على أنّه سبحانه عالم بما وقع وما يقع قبل وقوعه ، وهو بقيوميته وإحاطته بالأشياء لا يتصوّر في حقّه الجهل أو الظهور بعد الخفاء ، وأظهر آية تدلّ على ذلك قوله سبحانه : ( ما أَصابَ مِنْ مُصيبَة فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسكُمْ إِلاّ في كِتاب مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرأَها إِنَّ ذلكَ عَلى اللّهِ يَسير ). (2) ثمّ إنّ البحث في البداء يقع في مقامين : مقام الثبوت ، ومقام الإثبات. وإليك الكلام في المقام الأوّل : 3. البداء في مقام الثبوت اتّفق الإلهيون على أنّ للإنسان أن يغيّـر ما قُدِّر له ، ولم يخالف في ذلك إلا اليهود حيث ذهبوا إلى استحالة تعلّق مشيئة اللّه بغير ما جرى به قلم القضاء والقدر ، وقد تبلورت تلك العقيدة في كلامهم « يَدُ اللّه مَغْلُولة » قال سبحانه حاكياً 1. يوسف : 35. 2. الحديد : 22. (655)
عنهم : ( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءَ وَليزيدنَّ كَثيراً مِنْهمْ ما أُنْزِلَ إِليكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً ) (1) ، إنّ كثيراً من المفسّرين وإن خصصوا مضمون الآية بالعطاء والسعة في الرزق ، ولكنّ أئمّة أهل البيت ( عليهم السَّلام ) فسّروا قولهم « يَدُ اللّه مَغْلُولة » بالفراغ عن الأمر.
روى هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) في تفسير الآية أنّه قال : « كانوا يقولون قد فرغ من الأمر » (2) فالمعروف عن اليهود انّهم يقولون : انّه سبحانه قد فرغ من الأمر لا يبدل ولا يغير ما قُدِّر فلا يزاد في العمر ولا ينقص. فاستنتجوا من هذا الأصل امتناع نسخ الأحكام أوّلاً ، ونسخ التكوين ثانياً. أمّا نسخ الأحكام فقد مرّ جوازه ووقوعه. وأمّا نسخ التكوين فاللّه سبحانه يرد على هذه العقيدة من أنّ التقدير الأوّل لا يغيّر ولا يبدّل في ضمن آيات ، ويقول سبحانه : ( الْحَمْدُ للّهِ فاطِرِ السَّمواتِ وَ الارْضِ ... يَزِيدُ فِي الخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللّهَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدير ). (3) ( وَماتَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّر وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرهِ إِلاّ في كِتاب إِنَّ ذلِكَ عَلى اللّهِ يَسير ). (4) فاللّه سبحانه كما هو المقدّر للمصير الأوّل ، هو المقدّر للمصير الثاني أيضاً 1. المائدة : 64. 2. تفسير البرهان : 1/486 ، الحديث 3. 3. فاطر : 1. 4. فاطر : 11. (656)
فهو في كلّ يوم في شأن ، وانّه جلّ وعلا يبدأ ويعيد ، يزيد في الرزق والعمر وينقص ، كلّ ذلك حسب مشيئته الحكمية والمصالح الكامنة ، فكما هو عالم بالتقدير الأوّل عالم في نفس الوقت بأنّه سوف يزول ويخلفه تقدير آخر لكن لا بمعنى وجود الفوضى في التقدير ، بل بتبعية كلّ تقدير لملاكه وسببه.
ثمّ إنّ الآيات الدالّة على أنّ التقدير يغيّر بصالح الأعمال وطالحها على قسمين : تارة يؤكد على الضابطة ، وأُخرى يعيّن الموضوع الذي به يتغيّر ما هو المقدّر. أمّا القسم الأوّل كقوله سبحانه : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغيّراً نِعْمَةً أَنعَمَها عَلى قَوم حتّى يُغَيِّرُوا مابأَنْفُسِهِمْ ). (1) وقوله : ( إِنّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حتّى يُغَيّرُوا ما بأَنْفُسِهمْ ). (2) وقوله سبحانه : ( ولَوْ أَنَّ أَهلَ القُرى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فأَخَذْناهُمْ بِما كَانُوا يَكْسِبُون ). (3) وقوله سبحانه : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتاب ). (4) إلى غير ذلك من الآيات المؤكدة على انّ العمل يغيّر ما قُدِّر ، سواء أكان صالحاً أم طالحاً. وأمّا القسم الثاني ما يؤكّد على أنّ عملاً خاصاً مثلاً يغيّر المصير ، وهذا كالاستغفار والتسبيح والكفران بنعمة اللّه. 1. الأنفال : 53. 2. الرعد : 11. 3. الأعراف : 56. 4. الرعد : 39. (657)
أمّا الاستغفار ، فكقوله سبحانه : ( استَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراًً * يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَموال وَبَنينَ وَيَجْعَل لَكُمْ جَنّات وَيَجعَل لَكُمْ أَنهاراً ). (1)
وأمّا التسبيح ، فكقوله سبحانه : ( فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبعَثُون * فَنَبَذْناهُ بِالعراءِ وَهُوَ سَقِيم * وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرةً مِنْ يَقطِين ). (2) وأمّا الكفران ، فقال سبحانه : ( وضربَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكان فَكَفَرتْ بِأَنْعُمُ اللّهِ فَأَذاقَها اللّهُ لِباسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ). (3) هذا كلّه في القرآن الكريم ، وأمّا الروايات فقد روى الفريقان أثر الدعاء والصدقة في تغيير المصير ، ورفع البلاء. أخرج الحاكم عن ابن عباس ( رض ) قال : لا ينفع الحذر من القدر ولكن اللّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر. (4) روى الكليني عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : سمعته يقول : « إنّ الدعاء يرد القضاء ، ينقضه كما ينقض السلك وقد أبرم إبراماً ». (5) وأمّا الصدقة فقد روى السيوطي في « الدر المنثور » عن علي ، عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن هذه الآية ( يَمْحُوا اللّه ) فقال : « لأقرّنّ عينيك بتفسيرها ، ولأقرّنّ عين 1. نوح : 10 ـ 12. 2. الصافات : 143 ـ 146. 3. النحل : 112. 4. الدر المنثور : 4/661. 5. الكافي : 2/169 ، باب الدعاء يرد البلاء والقضاء ، الحديث 1. (658)
أُمّتي بعدي بتفسيرها : الصدقة على وجهها وبرّ الوالدين واصطناع المعروف ، يحوّل الشقاء سعادة ، ويزيد في العمر ، ويقي مصارع السوء ». (1)
وقد كان الصحابة يدعون اللّه سبحانه بتغيير مصيرهم ، هذا هو الطبري ينقل في تفسير الآية بأنّ عمر بن الخطاب يقول وهو يطوف بالكعبة : اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها ، وإن كنت كتبتني على الذنب [ الشقاوة ] فامحني واثبتني في أهل السعادة ، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُمّ الكتاب. وروى نظير هذا الكلام عن ابن مسعود وابن عباس وشقيق وأبي وائل. (2) هاتان الآيتان تدلاّن بوضوح على أنّ الأمر لم يُفرغ عنه ، وانّ اللّه سبحانه يمحو ما يشاء ممّا قدّر ، كلّ ذلك معلوم له سبحانه من أوّل الأمر. 4. البداء في الإثبات البداء في الإثبات عبارة عن إخبار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو الولي ( عليه السَّلام ) بوقوع شيء لأجل الاطّلاع على المقتضى له ، ولكنّه لايقع لأجل وجود المانع من تأثير المقتضي. وبعبارة أُخرى : انّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يطّلع على وقوع الشيء ولكن لايطّلع على كونه معلّقاً على أمر غير واقع أو عدم أمر هو واقع ، فلذلك يخبر عن الشيء ولا يتحقّق فيقال : بدا للّه في هذه الواقعة. فيقع الكلام في أُمور : الأوّل : هل يمكن أن يخبر النبيّ أو الإمام عن وقوع الشيء أو عدم وقوعه 1. الدر المنثور : 4/661. 2. تفسير الطبري : 13/112 ـ 114. (659)
وتكون النتيجة على العكس ، ومع ذلك لا يلزم كذب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
الثاني : هل ورد في الذكر الحكيم أو السنّة الشريفة نماذج من هذا النوع من الإخبار ؟ الثالث : كيف يمكن نسبة البداء إلى اللّه سبحانه ، وقد تقدّم من أنّ مورد استعماله هو الجهل بعواقب الأُمور ؟ أمّا الأمّر الأوّل : فإمكانه بمكان من الوضوح ، مثلاً إذا اطّلع النبي على المقتضي دون شرطه أو مانعه ، فيخبر عن وقوعه نظراً إلى المقتضي ، ولا يتحقّق نظراً إلى عدم وجود شرطه أو وجود مانعه. قال المحقّق الخراساني : وأمّا البداء في التكوينيات بغير ذاك المعنى فهو ممّا دلّ عليه الروايات المتواترات كما لا يخفى ، ومجمله انّ اللّه تبارك وتعالى إذا تعلّقت مشيئته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة داعية إلى إظهاره لهم ، أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه أن يخبر به مع علمه بأنّه يمحوه أو مع عدم علمه به لما أُشير إليه من عدم الإحاطة بتمام ما جرى في علمه وإنّما يخبر به لأنّه حال الوحي والإلهام لارتقاء نفسه الزكية واتصاله بعالم لوح المحو والإثبات اطّلع على ثبوته ولم يطّلع على كونه معلّقاً على أمر غير واقع أو عدم الموانع ، قال اللّه تبارك وتعالى : ( يَمْحُوا اللّه ما يَشاء وَيُثْبِت ) الآية. (1) هذا كلّه إذا اتّصل النبي بصحيفة المحو والإثبات ؛ وأمّا إذا اتّصل بصحيفة اللوح المحفوظ الذي يتكشف فيه الواقعيات على ما هي عليها ، فيقف 1. كفاية الأُصول : 1/273 ـ 274. (660)
على المقتضي وشرطه ومانعه ، ويميّز ما هو الواقع عن غيره.
وأمّا الثاني : فنذكر فيه بعض ما ورد في الذكر الحكيم : 1. أخبر يونس قومه بنزول العذاب ، ثمّ ترك القوم ، وكان في وعده صادقاً معتمداً على مقتضى العذاب الذي اطّلع عليه ، لكن نزول العذاب كان مشروطاً بعدم المانع ، أعني : التوبة والتضرع ، قال سبحانه : ( فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاّ قَومَ يُونُسَ لمّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِين ). (1) أخرج عبد الرزاق ، عن طاووس في قوله : ( وَإِنّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلى الفُلْكِ المَشْحُون ). (2) قال : قيل ليونس ( عليه السَّلام ) : إنّ قومك يأتيهم العذاب يوم كذا وكذا...فلمّا كان يومئذ خرج يونس ففقده قومه ، فخرجوا بالصغير والكبير والدواب وكلّ شيء ، ثمّ عزلوا الوالدة عن ولدها ، والشاة عن ولدها ، والناقة والبقرة عن ولدها ، فسمعت لهم عجيجاً ، فأتاهم العذاب حتى نظروا إليه ثمّ صرف عنهم ، فلمّا لم يصبهم العذاب ذهب يونس ( عليه السَّلام ) مغاضباً ، فركب في العير في سفينة مع أناس ... الخ. (3) 2. ذكر المفسّرون انّه سبحانه واعد موسى ثلاثين ليلة ، فصامها موسى ( عليه السَّلام ) وطواها ، فلمّا تم الميقات استاك بلحاء شجرة ، فأمره اللّه تعالى أن يكمل بعشر ، يقول سبحانه : ( وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْر فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَربَعِينَ لَيلَةً 1. يونس : 98. 2. الصافات : 139 ـ 140. 3. الدر المنثور : 7/121. |
|||
|