إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: 676 ـ 690
(676)
    ولا بشرط « لحاظ عدم لحاظ شيء معه » حتّى يكون اللا بشرط القسمي.
    وذلك لأنّه لو كان من قبيل القسم الأوّل ـ أي مأخوذاً فيه الشمول ـ لما صحّ حمله على فرد خارجي كقولنا زيد إنسان.
    ولو كان من قبيل القسم الثاني ـ أي مأخوذاً فيها لحاظ « عدم لحاظ شيء معه » ـ فلا يحمل أيضاً على الخارج ، لأنّ جزء المعنى ( لحاظ عدم اللحاظ ) أمر ذهني لا ينطبق على الثاني.
    فتلخّص من كلامه الإشارة إلى أُمور ثلاثة :
    الأوّل : الماهية اللا بشرط المقسمي وهي التي وضع اللفظ بازائها.
    الثاني : الماهية بشرط شيء وهي الماهية بشرط الشمول والشيوع.
    الثالث : الماهية اللا بشرط القسمي وهي الماهية الملحوظة بعدم اللحاظ.
    ولا يخفى إجمال ما ذكره ، إذ كان عليه أوّلاً ان يشرح تقسيم الماهية إلى الأقسام الثلاثة ، أعني : اللا بشرط وبشرط لا وبشرط شيء ، ثمّ يحكم على أسماء الأجناس بأنّها موضوعة لمقسم هذه الأقسام لا لواحد منها ، ولأجل إيقاف القـارئ على حقيقة التقسيم وإن كانت خارجة عن علم الأُصول نذكر تقسيم الماهية إلى الأقسام الثلاثة ونبيّن الفرق بين اللا بشرط المقسمي واللا بشرط القسمي.
    فنقول : قسّم أهل المعقول الماهية إلى أقسام ثلاثة :
    أ. مطلقة وهي اللا بشرط.
    ب. مخلوطة وهي البشرط شيء.
    ج. مجردة وهي البشرط لا.


(677)
    قال الحكيم السبزواري : (1)
    مطلقــة ، مخلـوطــة ، مجـردة عند اعتبارات عليها موردة
    فالحكيم السبزواري بقوله : « عند اعتبارات » يشير إلى أنّ التقسيم ليس للماهية بما هي هي بل للماهية الملحوظة ، وذلك لأنّ الماهية ما لم تقع في أُفق اللحاظ ولم تر نوراً بالوجود الخارجي أو الذهني يساوق العدم فهي كالمعدوم المطلق لا يخبر عنها فلذلك قال الشيخ الرئيس : ما لا وجود له لا ماهية له ، فأي حكم على الماهية فرع تنوّرها بنور الوجود ولو وجوداً ذهنياً غاية الأمر يكون الوجود الذهني مغفولاً عنه ، والإنسان يحكم عليها بواسطة تنوّرها بالوجود.
    إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ هنا مقسماً باسم اللابشرط المقسمي وأقساماً ثلاثة وإليك بيانها.
    اللا بشرط المقسمي
    وهي عبارة عن لحاظ الماهية بذاتها وذاتياتها مع قطع النظر عن كلّ شيء معها حتّى الوجود الذهني الذي به ظهرت ، والماهية بهذا المعنى ليست إلا هي لا موجودة ولا معدومة بمعنى لا انّ الوجود جزؤها ولا العدم. والماهية بهذا المعنى مقسم للأقسام الثلاثة الآتية :
    1. الماهية البشرط شيء
    فإذا لوحظت تلك الماهية بهذا المعنى ـ السابق ـ مقيسة إلى الخارج مقترنة بشيء من عوارضها كالإنسان بقيد الوجود ، والرقبة بقيد الإيمان ، والعبد بشرط الكتابة ، فهذا هو المسمّى بالماهية بشرط شيء.
1. شرح المنظومة : 90.

(678)
    2. الماهية البشرط لا
    فإذا لوحظت الماهية مقيسة إلى الخارج مشروطة بعدم مقارن خاص كالإنسان بقيد عدم الوجود والرقبة بقيد عدم الإيمان والعبد بقيد عدم الكتابة فالماهية بشرط لا.
    3. الماهية اللا بشرط القسمي
    وأمّا إذا لوحظت الماهية مقيسة إلى الخارج بلحاظ عدم شيء معها على نحو يكون ذلك اللحاظ ( عدم لحاظ شيء ) قيداً له فهذه هي الماهية على نحو اللا بشرط القسمي. حسب ما اختاره المحقّق الخراساني ، ونحن نمشي في تفسير هذه المصطلحات الثلاثة في المقام على ضوء « الكفاية ».
    فتلخص انّ هناك « لا بشرطاً مقسمياً » وله أقسام ثلاثة :
    بشرط شيء ، بشرط لا ، ولا بشرط القسمي.
    والفرق بين اللا بشرط المقسمي والقسمي واضح ، فانّ الأوّل عار عن كلّ قيدحتّى لحاظها في الذهن وليست إلا هي هي ، ولكن القسمي هي الماهية بلحاظ عدم قيد معه فيصير لحاظ عدم القيد قيداً.
    وإن أردت التشبيه فقس الفرق بينهما بالفرق بين مطلق المفعول والمفعول المطلق ، فالإطلاق في القسم الأوّل ليس بقيد بل رمز عدم القيد ، ولذلك يشمل الأقسام الخمسة للمفعول ، بخلاف الثاني فانّ الإطلاق هناك قيد ، أي تعرّيه عن كلّ قيد ، قيد كقولك ضربت ضرباً ، فقوله ضرباً مفعول مطلق ملحوظ بلحاظ عدم كونه مقترناً بالباء أو بمع أو بفي أو باللام أو غير ذلك.
    فإن قلت : إذا كان اللا بشرط القسمي هو الماهية المشروطة بلحاظ عدم


(679)
لحاظ شيء ، فهو يكون من أقسام الماهية بشرط شيء والشرط هو لحاظ عدم اللحاظ.
    قلت : إنّ هذا التقسيم الثلاثي لما كان باعتبار إضافة الماهية إلى خارجها كالوجود والإيمان والكتابة وغير ذلك ، يكون المراد من الشيء هو الأمر الخارجي ، ولا يعمّ القيد الذهني كاعتبار « عدم لحاظ شيء معها » قيداً ، فالماهية اللاّبشرط عارية عن القيود الخارجية وإن كانت تحمل قيداً ذهنياً ، كالإطلاق ، ولحاظ « عدم لحاظ شيء معه ».
    فإن قلت : إذا كان معنى الماهية البشرط لا ، هو أخذ « بشرط لا » ، قيداً يكون هذا القسم أيضاً داخلاً في الماهية البشرط شيء ، إذ الشيء أعمّ من القيد الذهني.
    قلت : الجواب عن هذا الاعتراض نفس الجواب عن الاعتراض السابق ، لأنّ المراد من القيود هو القيود الخارجية بشهادة انّ هذا التقسيم بلحاظ إضافة الماهية إلى خارجها التكويني ، فالشيء في هذا القسم هو القيد الطارئ الخارجي فلا يعمّ القيد الذهني « كونها بشرط لا ».
    وبالجملة لحاظ عدم اللحاظ أو لحاظ عدم الشيء غير داخلين في لفظ الشيء الوارد في « الماهية بشرط شيء ».
    تفسير السيّد الأُستاذ لتقسيم الماهية
    ثمّ إنّ سيّدنا الأُستاذ ( قدس سره ) فسّر تقسيم الماهيات الملحوظة إلى الأقسام الثلاثة بوجه آخر ، وأفاد أنّ التقسيم ليس بحسب الماهية في مقام ذاتها ، بل التقسيم باعتبار مرتبة وجودها.


(680)
    و إن شئت قلت : الماهية الموجودة إذا قيست إلى أيّ شيء فإمّا أن يكون الشيء لازم الالتحاق بها كالتحيّز بالنسبة إلى الجسمية ، والزوجية بالنسبة إلى الأربعة ؛ وإمّا أن يكون ممتنع الالتحاق ، كالتجرّد عن المكان بالنسبة إليها ؛ أو يكون ممكن الالتحاق ، كالبياض بالنسبة إلى الجسم. فالأوّل هي الماهية بشرط شيء ، والثاني هي الماهية بشرط لا ، والثالثة هي الماهية لا بشرط.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ما ذكره راجع إلى تقسيم عوارض الوجود وأنّها لا تخلو عن حالات ثلاث ، من ممكن الالتحاق ، إلى ممتنعه ولازمه ، والبحث في تقسيم الماهية إلى أقسام ثلاثة.
    وثانياً : أنّ البحث في تقسيم نفس الماهية أو الملحوظة لا في الماهية الموجودة.
    ثمّ إنّ هذا التقسيم ليس تلاعباً بالألفاظ كما حسبه ، بل هذا التقسيم لأجل إيجاد الفرق بين النوع والجنس والفصل والمادة والصورة وإلاّيلزم أن يكون جميع المباحث الدارجة في باب الماهيات تلاعباً بها.
    فانّ الحيوان على فرض اللا بشرط جنس ، وعلى فرض بشرط لا مادة ، وعلى فرض بشرط شيء نوع والمفهوم منه في كلّ موطن ، يغاير المفهوم منه في موطن آخر ، كما أنّ الناطق على فرض « اللابشرط » فصل ، وعلى فرض « بشرط لا » صورة ، وأمّا ما هو المراد من « اللا بشرط » في الجنس والفصل ، ومن « البشرط لا » في المادة والصورة فموكول بيانه إلى محله. (1)
    إذا عرفت ذلك ينبغي الكلام في موضعين :
1. لاحظ ما حرّرناه من محاضرات شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ في هذا المضمار في مبحث المشتق في الجزء الأوّل ، ص 248 ـ 252.

(681)
    الأوّل : ما هو الموضوع له لأسماء الأجناس؟
    ذهب المشهور إلى أنّ أسماء الأجناس موضوعة للماهية المطلقة على وجه يكون الإطلاق قيداً للمعنى ورتّبوا على ذلك أنّ تقييد المطلق يستلزم المجازية ، فإذا قلت : أعتق رقبة مؤمنة فالقيد أعني « مؤمنة » تضيق دائرة المطلق ويخصّه بالمقيّد ، وعلى هذا فالمطلق موضوع للا بشرط القسمي.
    هذا هو المعروف قبل السيد سلطان العلماء ( المتوفّى سنة 1064 هـ ).
    ولكنّه ( قدس سره ) أوّل من ردّ هذه النظرية وقال : بأنّ اسم الجنس موضوع للماهية من حيث هي هي دون أن يكون الإطلاق قيداً للمعنى فالمطلق عنده موضوع للا بشرط المقسمي ، وقد أشار إلى ذلك في حاشيته على المعالم ونقله الشيخ في مطارحه بما هذا لفظه :
    إنّه يمكن العمل بالمطلق والمقيد من دون إخراج عن حقيقته بأن يعمل بالمقيد ويبقى المطلق على إطلاقه ، فلا يجب ارتكاب مجاز حتّى يجعل ذلك وظيفة المطلق ، فانّ مدلول المطلق « ليس صحّة العمل بأيّ فرد كان » حتّى ينافي مدلول المقيد ، بل هو أعمّ منه وممّا يصلح للتقييد ، بل المقيد في الواقع. ألا ترى أنّه معروض للقيد كقولنا : رقبة مؤمنة ، وإلا لزم حصول المقيد بدون المطلق مع أنّه لا يصلح لأيّ رقبة كانت فظـهر انّ مقتضى المطلق ليس ذلك وإلا لم يتخلّف فيه. (1)
    ورتّب على ذلك أمرين :
    1. تقييد المطلق لا يوجب المجازيّة.
1. لاحظ مطارح الأنظار : 221 ؛ ولاحظ معالم الدين : 155 ، قسم التعليق طبعة عبد الرحيم.

(682)
    2. انعقاد الإطلاق فرع تمامية مقدّمات الحكمة.
    وقد أخذه المتأخرون بعد السلطان فقالوا بأنّ المطلق موضوع للاّبشرط المقسمي أي موضوع للماهية بما هي هي من دون أن يكون فيه قيد كالإطلاق ، وممّن اختار هذا النظر المحقّق الخراساني فذهب إلى أنّ الوضع في أسماء الأجناس عام والموضوع له عام وانّ الواضع لاحظ الماهية من حيث هي هي. ووضع اللفظ لها وقال ما هذا توضيحه : التي تفقد كلّ شيء إلا ذاته وذاتياته فوضع اللفظ عليها وهي المعبر عنها باللا بشرط المقسمي.
    فإن قلت : إذا كان الموضوع هو الماهية الملحوظة بما هي هي التي ليست إلا هي ، فيكون اللحاظ جزء المعنى وهو أمر ذهني ، فيلزم عدم صحّة حمل الإنسان على أفراده.
    قلت : إنّ اللحاظ ليس جزء المعنى الموضوع ، بل هو عبارة عن نفس الماهية لكنّها بما انّها لا تقع في أُفق الذهن ، ما لم يتنوّر بنور الوجود ، فالواضع يتوسل باللحاظ ، لأجل تصورها وإدخالها من أُفق التصوّر ، ثمّ يضع اللفظ لنفس الملحوظ ، لا بقيد اللحاظ.
    وإن أردت التنزيل والتشبيه فلاحظ لازم الماهية ، أعني : الزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، فانّ وجود الماهية في الخارج أو الذهن شرط لظهور الملازمة ، لا لثبوتها فالزوجية أمر لا ينفك عن الأربعة في أي موطن من المواطن ، لكن وجه اللزوم ليس دخيلاً في أصل الملازمة ، بل دخيل في ظهورها ولو افترض انفكاك الأربعة عن الوجود مطلقاً ، لكانت الزوجية معها.
    وبذلك أبطلوا القول بأنّ الزوجية من قبيل لازم الوجودين لا من قبيل لازم الماهية ، ببيان أنّها من قبيل لازم الماهية ، غاية الأمر انّ ظهور الملازمة رهن تنوّر


(683)
الماهية بالوجود لا بثبوتها.
    ومثل المقام ، فالموضوع هو ذات الماهية ، لكن الطريق إلى تصورها عارية عن كلّ قيد ، رهن لحاظها في الذهن على نحو يكون اللحاظ أمراً مغفولاً عنه ، وغير المغفول ، هو ذاتها من حيث هي هي.
    الثاني : ما هو المراد من الكلّي الطبيعي ؟
    إنّ علماء المنطق قسّموا الكلّي إلى أقسام ثلاثة :
    1. كلّي منطقي ، وهو مفهوم لفظ « الكلّي » أي ما يصدق على كثيرين.
    2. كلّي طبيعي ، وهو مصداق الكلّي المنطقي كالإنسان.
    3. كلّي عقلي وهو المجموع من الكلّي المنطقي والطبيعي.
    فعندئذ يقع السؤال في أنّ الكلّي الطبيعي هل هو نفس اللا بشرط المقسمي ، أو نفس اللا بشرط القسمي ؟
    الظاهر من الحكيم السبزواري هو الأوّل ، يقول :
    وهـو بكـلّ طبيعـي وُصـف وكونه من كون قسميه كُشف
    أي نحن نستكشف من وجود القسمين : الماهية بشرط شيء والماهية اللابشرط دليل واضح على وجود المقسم وهو اللا بشرط المقسمي.
    وعلى ذلك فالكلّي الطبيعي هو الماهية الملحوظة في الذهن بما هي هي ، أي بذاتها وذاتياتها دون لحاظ أي شيء معها حتّى هذا اللحاظ.
    وذهب المحقّق النائيني إلى أنّ المراد منه هو اللا بشرط القسمي ، ولا يمكن جعله من اللا بشرط المقسمي ، وذلك لأنّ الكلّي الطبيعي عبارة عن حقيقة الشيء الذي يقال في جواب ما هو والجامع بين جميع المتّفقة الحقيقة من الأفراد الخارجيّة


(684)
الفعليّة وما يفرض وجودها. والماهيّة بشرط لا عبارة عن الماهيّة المجرّدة عن كلّ خصوصيّة حتّى خصوصيّة وجوده الذّهني ، وليست الماهيّة بشرط لا من أفراد الحقيقة.
    فلو كان الكلّي الطّبيعي هو اللاّ بشرط المقسمي يلزم أن تكون الماهيّة بشرط لا من أفراد الحقيقة ، لما عرفت من أنّ الكلّي الطّبيعيّ عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأفراد. وليس الإنسان بشرط لا ، مثلاً من أفراد حقيقة الإنسان حتّى يقال : انّ المقسم هي الحقيقة الجامعة ، وأفرادها : الماهيّة بشرط لا ، وبشرط شيء ، ولا بشرط ، فلابدّ أن يكون الكلّي الطّبيعي هو اللاّ بشرط القسمي الّذي يكون تمام حقيقة الأفراد الخارجيّة. وعلى كلّ حال : فهذا بحث آخر لا يرتبط بما نحن فيه.
    يلاحظ عليه : الذي يمنع عن صدق الكلّي الطبيعي على الأفراد الخارجية هو القيد المأخوذ فيه ، أعني : كونه مجرّداً عن الوجود ، والماهية بهذا القيد يمتنع صدقها على الأفراد ، وهذا لا يمنع أن تكون بنفسها ومجرّدة عن ذاك ، صادقة عليها.
    والحاصل : أنّ القيد المأخوذ في بعض الأقسام يمنع المقسم عن الانطباق على الخارج ، وهذا لا يمنع عن كون المقسم قابلاً له في حدّ ذاته ، هذا واضح لاسترة عليه.
    ثمّ إنّ المراد من الجامع ليس هو الجامع الخارجي ، بداهة أنّ الشيء الخارجي بوصف الوجود يمتنع أن يكون جامعاً إذ الوجود ، ملاك التشخّص والوحدة ، والجامع على الطرف النقيض منهما. والمراد من اشتراك زيد وعمرو في الإنسانية هو الاشتراك في مفهوم الإنسان الصادق على كلّواحد ، لا الاشتراك في الإنسانية المشخَّصة.


(685)
    نظرنا في أسماء الأجناس
    إنّ مختار المشهور ( أسماء الأجناس موضوعة للماهية بما هي هي مجرّدة عن الوجود والعدم وعن عامة العوارض ) لا يخلو عن إشكال ، ويعلم ذلك مَن وقف على نشوء اللغات في المجتمع البشري.
    إنّ وضع اللفظ للماهية بالنحو المذكور عمل الحكيم والفيلسوف الذي يستطيع أن يتصوّر الموضوع له عارياً عن كلّ قيد ثمّ يضع اللفظ بازائها ، والظاهر انّ الواضع في أكثر اللغات لم يكن إنساناً حكيماً عارفاً بتجريد الماهية عن الوجود وتصوّرها عن كلّ قيد ، بل الظاهر أنّ أسماء الأجناس من يومها الأوّل وضع لفرد خارجي ثمّ إذا قابل الواضع بفرد هو نظيره ، يطلقُ عليه ذلك اللفظ لما بينهما من المشابهة.
    وهكذا يستمر الأمر حتّى يحصل له وضع ثانوي حسب كثرة الاستعمالات فينقل اللفظ من المعنى الأوّل إلى الجامع بين هذه المصاديق.
    وإن كنت في شكّ من ذلك فلاحظ ألفاظ أرباب الاختراع كالسيارة والمذياع والتلفاز إلى غير ذلك ، فانّ المخترع ينتخب لفظاً لما اخترعه فيكون الوضع خاصاً لكون الملحوظ خاصاً ويضع اللفظ لما اخترعه ويكون الموضوع له خاصاً أيضاً ، لكن حسب تكرر الاستعمال في أشباه ما وضع له ، يحصل الوضع التعيني للجامع بين الأفراد.
    وبذلك تعرف انّ الموضوع له كالوضع كان خاصاً ولكن مرور الزمان وكثرة الاستعمال صار سبباً لنقله القهري من الموضوع له الخاص إلى الموضوع له العام.
    وهناك احتمال آخر وهو أن يكون الوضع خاصاً والموضوع له عاماً من أوّل


(686)
الأمر ، وقد أثبتنا إمكانه في محلّه بمعنى أن يكون الملحوظ شيئاً معيّناً ولكن الموضوع له أمراً عاماً ، مثلاً : يتصوّر المخترعُ المذياع الماثل أمامه ويضع تلك اللفظة لكلّ ما يماثله في الهيئة والأثر ، فيكون استعماله في غير الماثل أمامَه حقيقياً أيضاً.
    اسم الجنس موضوع للماهية الموجودة
    وهذه هي النظرية الثالثة في تصوير اسم الجنس وهي انّ الإنسان والشجر والغنم موضوع للماهية الموجودة من هذا النوع ، لأنّ الغاية من الوضع هو إلفات ذهن المخاطب إلى ما يرفع حاجته ويسدّ خُلّته ، والماهية المجردة لا تسمن ولا تغني من جوع ، فالذي يسدّ خُلَّة المخاطب هو الفرد الموجود من الماء والنار وغيرهما لا المفهوم منهما.
    والحاصل : أنّ الغاية من الوضع تُحدِّد الموضوعَ له والغاية من الوضع في قسم من المحاورات هو احضار الأشياء التي ترفع الحاجة ، فإذا قال : اسقني ، فهو يطلب الماء الذي يرفع عطشه وليس إلا الماء الموجود بوجوده السّعِيّ.
    يلاحظ عليه أوّلاً : أنّه لو كان الوجود جزء الموضوع له يلزم انقلاب القضايا الممكنة إلى الضرورية ، فإذا قلنا : الإنسان موجود ، يكون معناه الإنسان الموجود موجود ويكون من قبيل الضرورة بشرط المحمول فمثله ليس موجوداً بالإمكان ، بل موجود بالضرورة مع أنّا نرى أنّ جهة الحمل في هذه القضايا هي الإمكان لا غير.
    فإن قلت : لا مناص في هذه القضايا من تجريد المبتدأ عن الوجود عند حمل الموجود عليه.
    قلت : إنّ التجريد خلاف الوجدان أوّلاً ويلزم المجازية في ناحية الموضوع له ، لأنّ اللفظ الموضوع للكلّ استعمل في الجزء وذلك خلاف الوجدان.


(687)
    وثانياً : أنّ ما ذكره من الغاية وإن كان صحيحاً ولكنّه لا يكون دليلاً على أخذ الوجود في الموضوع له ، بل يكفي أن يكون الإيجاد غاية للأمر ، فإذا قال : اسقني فهو قرينة على أنّ طلب السقي أو البعث إلى السقي لغاية تحصيله. فالبعث يتعلّق بالماهية المعرّاة عن الوجود لكن لغاية إيجاده ، وقد مرّ الكلام فيه ، في مبحث تعلّق الأحكام بالطبائع.
    2. علم الجنس
    إنّ في لغة العرب أسماءً ترادف أسماء الأجناس مفهوماً ولكن يعامل معها معاملة المعرفة فتقع مبتدأ ، وذا حال ومن المعلوم اشتراط التعريف فيهما.
    فهذا كالثعلب والثعالة ، والأسد وأُسامة ، والعقرب وأُم عريط حيث إنّ الثاني يقع مبتدأ ويجيء منه الحال بخلاف الأوّل ، وهذا ما دعاهم إلى تسمية هذا النوع من الألفاظ بعلم الجنس ، وفي الوقت نفسه عدّها من ألفاظ المطلق كاسم الجنس يقول ابن مالك في ألفيته :
ووضعوا لبعض الأجناس علم من ذاك أُم عريط للعقرب ومثله بَرّة للمبرّة كاعلم الأشخاص لفظاً وهو عمّ و هكذا ثعالة للثعلب كذا فجارُ علم للفجْرة (1)
    وقد وقع الكلام في سبب عد علم الجنس معرفة وما هو الفارق بين اسم الجنس وعلمه حتّى يوصف الثاني بالمعرفة دون الأوّل ، فهناك أقوال :
    الأوّل : التعريف لفظي ، وهو خيرة الرضي في شرحه على الكافية ، قال : إنّ
1. شرح ابن عقيل : 1/111.

(688)
كون علم الجنس معرفة مثل كون الشمس مؤنثاً ، فكما أنّ التأنيث ينقسم إلى حقيقي ومجازي ، كذلك التعريف ينقسم إلى : حقيقي كالأعلام الشخصية ، ومجازي كعلم الجنس ، أي يعاملون معه معاملة المعرفة من صحّة وقوعه مبتدأ وذا حال. (1)
    توضيحه : أنّ لعلم الشخص حكمين : أحدهما معنوي ، والآخر لفظي ، والأوّل وهو انّه يطلق ويراد به واحد بعينه كزيد وأحمد ، والثاني صحّة مجيء الحال متأخرة عنه كما يقال جاءني زيد ضاحكاً.
    وعلم الجنس له الحكم الثاني فقط فهو نكرة ولكن يجيء منه الحال ويقال : هذا أُسامة مقبلاً ، ولا تدخل عليه الألف واللام فلا تقول هذه الأُسامة ، ويقع مبتدأ يقال : أُسامة مقبل وثعالة هارب ، كما نقول : علي حاضر وخالد مسافر.
    فكما أنّ التأنيث على قسمين فهكذا التعريف على قسمين ، وهذا هو المفهوم من كتب الأدب. (2)
    ولو اقتصر الأُصوليون في مقام التفريق بين اسم الجنس وعلم الجنس على ما ذكره الأُدباء لكان أحسن غير أنّهم ذكروا في وجه تعريفه وجوهاً أُخرى نأتي بها تباعاً.
    الثاني : أنّه موضوع للطبيعة المتعيّنة في الذهن
    ربما يقال انّه موضوع للطبيعة لا بما هي هي ، بل بما هي متعيّنة بالتعيّن الذهني ، ولذا يعامل معه معاملة المعرفة بدون أداة التعريف ، والعجب انّ المحقّق
1. شرح الكافية للاسترابادي.
2. لاحظ شرح ابن عقيل الحمداني المصري ( 698 ـ 769 هـ ).


(689)
الخراساني نسب هذا إلى أهل العربية مع أنّ المختار عندهم هو الوجه السابق كما عرفت.
    وأورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الموضوع له في اسم الجنس وعلم الجنس أمر واحد والقول بأنّ الثاني موضوع للماهية المتعيّنة يستلزم عدم صدقه على الخارج ، فلا يصحّ أن يقال هذا أُسامة ، لأنّ المفروض انّ التعيّن جزء الموضوع وهو قائم بالذهن ، فلا محيص في الحمل إلا عن التجريد ، وهو أمر على خلاف الوجدان.
    أضف إلى ذلك : أي فائدة في الوضع على الماهية المتعيّنة ثمّ تجريده عن التعيّن في عامة الاستعمالات ، ومعنى ذلك كون الوضع للمعنى المتعيّن أمراً لغواً.
    الثالث : علم الجنس موضوع للطبيعة في حال التعيّن
    إنّ الموضوع له هو الماهية في حال خاص وهو كون المعنى متصوّراً في الذهن لا على نحو المشروطة حتّى يرجع إلى كونه قيداً للمعنى ، ولا على نحو المطلقة حتّى يكون الموضوع له عارياً عن كلّ قيد ، بل الموضوع هو ذات الطبيعة لكن مقارناً بهذا الحال.
    وإلى ذلك ينظر كلام صاحب المحاضرات وهو أنّ الإشكال إنّما يلزم إذا أخذ التعيين الذهني جزءاً أو شرطاً لا ما إذا أخذ على نحو المرآتية والمعرّفية فحسب من دون دخله في المعنى الموضوع له لا بنحو الجزئية ولا بنحو الشرطية. (1)
    والفرق بين هذين الوجهين جوهري ، حيث إنّ الوجه الثاني مبنيّ على أساس قبول كون التعيّن جزءاً أو شرطاً لكن أخذ مرآة ، بخلاف الوجه الثالث فإنّه
1. المحاضرات : 5/355.

(690)
مبني على إلغاء أخذ القيد في الموضوع له ، وانّه من حالاته شبيه القضية الحينية.
    يلاحظ عليه : أنّ تلك الحالة إمّا أن تكون دخيلة في الموضوع له أو لا ؛ فعلى الأوّل يعود الإشكال فلا ينطبق على الخارج ، وعلى الثاني يتحد علم الجنس مع اسم الجنس معنى وذاتاً.
    وبالجملة الأمر دائر بين الدخل وعدمه ، فعلى الأوّل يلزم عدم الانطباق ، وعلى الثاني يعود عدم التفاوت.
    الرابع : الماهية في رتبة متأخرة متعيّنة بذاتها
    ذهب سيّدنا الأُستاذ ( قدس سره ) إلى أنّ الماهية في حدّ ذاتها وفي وعائها وتقررها الماهوي عارية عن كلّ شيء سوى ذاتها وذاتياتها حتّى كونها نكرة فضلاً عن كونها معرفة وبالجملة الماهية في مرتبة ذاتها ليست إلا هي ليس فيها شيء من التعريف والتنكير وإلا يمتنع أن تتصف بخلافه فاسم الجنس موضوع لهذا المعنى بما هوهو.
    وبما انّ الماهية في رتبة متأخرة متعيّنة بذاتها ومتميزة عن سائر المعاني بجوهرها ، وبعبارة أُخرى : يعرضها التعيّن في مقابل اللا تعيّن ويعرضها التميز من عند نفسها بين المفاهيم فيوضع عليه اسم الجنس.
    ولا يرد عليه ما أُورد على الوجه الثاني والثالث ، لأنّ التعيّن فيهما عرضيّ ، بخلافه في هذا الوجه ، لأنّ التعيّن نابع عن ذات الشيء ، لاحظه أحد أو لا. (1)
    يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره صحيح ولكن أنّى للواضع هذا الإدراك المخصوص بالحكيم.
1. تهذيب الأُصول : 1/530.
إرشاد العقول إلى مباحث الأصول الجزء الثاني ::: فهرس