|
|||
(16)
وعلى هذا يرد على التقريرين أمران :
الأمر الأوّل : انّ الشكّ في التكليف ليس ملاكاً للبراءة ، ولا الشكّ في المكلف به ملاكاً للاحتياط بل ربّ شك في التكليف يجب فيه الاحتياط ، كما أنّ ربّ شك في المكلّف به لا يجب فيه الاحتياط. أمّا الأوّل ، فكالشكّ قبل الفحص ، أو كون الشكّ متعلقاً بالدماء والأعراض والأموال أو إذا دار الأمر بين وجوب شيء ، وحرمة شيء آخر ، حيث إنّ المعلوم جنس التكليف لا نوعه ، فالجميع من قبيل الشكّ في التكليف مع أنّه يجب فيه الاحتياط مثلاً يجب في الأخير فعل الأوّل وترك الثاني. ويمكن دفع الأوّلين ، بأنّ الفحص من شرائط جريان البراءة لا من شرائط العمل ، فلا موضوع لها قبله ، كما أنّ وجوب الاحتياط لدليل ثانوي من الإجماع وغيره ولولاه لكانت البراءة جارية. نعم يبقى المورد الثالث باقياً بحاله والاحتيال بجعله من قبيل العلم بالنوع بأنّ مرجعه إلى الشكّ إلى العلم بوجوب فعل هذا ، أو وجوب ترك ذاك ، تكلّف جدّاً. وأمّا الثاني فكما إذا كان أطراف الشبهة غير محصورة ، فلا يجب الاحتياط مع كون الشكّ من قبيل الشكّ في المكلّف به. الأمر الثاني : انّ نوع التكليف في مجرى التخيير ، أعني : دوران الأمر بين المحذورين ، مجهول ، وعلى هذا فهو من قبيل الشكّ في التكليف ، لكنّه جعله قسيماً لكلا الأمرين في البيان الأوّل ، وقسماً من الشكّ في المكلّف به في البيان الثاني ، في غير محله. هذا ما يرجع إلى البيانين الموجودين في أوّل رسالة القطع. (17)
البيان الثالث
وهناك بيان ثالث للشيخ ربما يكون أمتن منهما ولا يرد عليه واحد من الإشكالين ، وقد جعل فيه ملاك البراءة والاشتغال عدم نهوض دليل على ثبوت العقاب أو نهوضه من غير نظر إلى كون الشكّ في التكليف أو كون الشكّ في المكلّف به ، نعم الغالب على الأوّل عدم نهوض الدليل على العقاب وعلى الثاني نهوضه عليه ، وإليك نصّه : إنّ حكم الشكّ إمّا أن يكون ملحوظاً فيه اليقين السابق عليه وإمّا أن لا يكون ، سواء لم يكن يقين سابق عليه أو كان ولم يلحظ ، والأوّل مورد الاستصحاب ، والثاني إمّا أن يكون الاحتياط فيه ممكناً أم لا ، والثاني مورد التخيير ، والأوّل إمّا أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول أو لا ، والأوّل مورد الاحتياط والثاني مورد البراءة. (1) وقد تبع المحقّق الخراساني كلام الشيخ في تعليقته وقيد مجرى البراءة بما إذا لم يكن هناك حجّة ناهضة على التكليف في البين عقلاً ونقلاً. (2) أمّا عدم ورود الإشكالين فواضح : أمّا الأوّل : فلأنّ عدم جريان البراءة في الموارد الثلاثة لنهوض الدليل على العقاب ، وأمّا الثاني : فلنهوض الدليل على عدم العقاب من حيث استلزامه العسر والحرج المنفيين في الشرع. وعلى هذا فيكون مجرى كلّ واحد مشخصاً من دون أن يتداخل أحدهما في الأمر بالنحو التالي : 1. الفرائد : رسالة البراءة : 192 ، طبعة رحمة اللّه. 2. تعليقة المحقق الخراساني على الفرائد : 3. (18)
1. مجرى الاستصحاب : أن تكون الحالة السابقة ملحوظة.
2. مجرى التخيير أن لا تكون ملحوظة إمّا لعدمها أو لعدم حجّيتها ولكن كان الاحتياط غير ممكن ، سواء كان الشكّ من سنخ الشك في التكليف ، كما إذا تردد حكم شيء معين في وقت محدد بين الوجوب والحرمة ؛ أو كان من قبيل الشكّ في المكلّف به ، كما لو علم بوجوب البيتوتة إمّا في هذا البلد أو في بلد آخر ، فأصالة التخيير تجري في كلا الموردين بملاك عدم إمكان الاحتياط. 3. مجرى البراءة بعد امتناع الاحتياط عبارة عمّا إذا لم ينهض دليل على العقاب بل على عدمه من العقل : كقبح العقاب بلا بيان أو الشرع كحديث الرفع. 4. مجرى الاشتغال بعد إمكان الاحتياط ، إذا نهض دليل على العقاب لو خالف. وهذا هو المختار ، وعليه لا يكون هناك أيّ تداخل. وأمّا المحقّق النائيني فقد تخلص عن التداخل بوجه آخر حيث جعل مجرى البراءة ، هو الشكّ في التكليف وفسّـره بالجهل بنوع التكليف وجنسه وجعل العلم بالجنس مع الجهل بالنوع من أقسام الشكّ في المكلّف به ، غاية الأمر إذا لم يمكن الاحتياط ، يجري التخيير كدوران الأمر بين وجوب الشيء وحرمته ، وإذا أمكن يكون مجرى للاحتياط كما إذا علم وجوب شيء ، أو حرمة شيء آخر فالمعلوم هو الجنس لكن يختلفان بعدم امكان الاحتياط في الأوّل دون الثاني. نعم يتوجه عليه النقض بما إذا جهل بالتكليف نوعاً وجنساً فهو عنده من قبيل الشكّ في التكليف ومع ذلك إذا حاز المحتمَل أهميّة خاصة دعت الشارع إلى جعل الاحتياط كالدماء والأعراض والأموال فأمرها وإن كان دائراً بين الحلية والحرمة وكان جنس التكليف مجهولاً لكن يجب الاحتياط. كما يتوجه إليه النقض (19)
بعدم لزوم الاحتياط في غير المحصورة مع أنّه من قبيل العلم بالتكليف والشكّ في المكلّف به.
إلا أن يقال انّه بصدد بيان حكم الشبهة بما هي هي مع قطع النظر عن قيام الدليل الخارجي على حكمها. (20)
الأمر الأوّل :
في أحكام القطع
ونذكر من أحكامها ما يلي :
1. في وجوب متابعة القطع قال الشيخ الأعظم : لا إشكال في وجوب متابعة القطع والعمل عليه مادام موجوداً ، لأنّه بنفسه طريق إلى الواقع. وقال المحقّق الخراساني : لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً ولزوم الحركة على طبقه جزماً. يلاحظ عليه : أنّه إن أُريد من متابعة القطع ، متابعة نفس القطع ، فهو فرع كونه ملتفتاً إليه مع أنّه أمر مغفول عنه ، لأنّ البحث في القطع الطريقي الذي ليس فيه أيّ التفات إلى القطع ، وإن أُريد المقطوع كالوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام الصادرة من المولى ، فالموضوع لوجوب الاتباع عند نظر العقل هو نفس الأحكام بما هي هي حيث يستقل العقل بلزوم إطاعة أوامر المولى ونواهيه ، نعم ذات الأحكام بما هي هي وإن كانت موضوعة لوجوب الإطاعة لكن لا يمكن امتثالها إلاإذا وقف عليه المكلّف بالحجّة العقلية أو الشرعية كالأمارات ، فالوقوف عليها من شرائط تنجز الطاعة من غير اختصاص بالقطع. (21)
2. هل طريقية القطع أمر ذاتي له ؟
المعروف انّ طريقية القطع من ذاتياته أو لوازمه فهي غنية عن الجعل. توضيحه : انّ الجعل إمّا بسيط وهو جعل الشيء ، أو مركب وهو جعل الشيء شيئاً ومفاد الأوّل مفاد كان التامة ، ومفاد الثاني مفاد كان الناقصة ، ويسمّى جعلاً تأليفياً أيضاً. ثمّ الجعل التأليفي ينقسم إلى : جعل تأليفي حقيقي كجعل الجسم أبيض ، وجعل تأليفي مجازي كجعل الأربعة زوجاً. ثمّ إنّ ذاتي الشيء أو لازمه غنيان عن الجعل التركيبي الحقيقي ، وذلك لأنّ مناط الجعل الحقيقي هو الحاجة وعدم إغناء جعل الموضوع عن جعل المحمول كما هو الحال في جعل الجسم فانّ إيجاده لا يغني عن إيجاد البياض ، إذ ليس الجسم بما هو هو واجداً للبياض فيحتاج البياض إلى جعل أمر ، بخلاف الأربعة بالنسبة إلى الزوجية فانّ جعلها تُغني عن تعلّق جعل مستقل بها ، فجعلها جعل بالنسبة إلى لازمها ، وإذا كان هكذا حال اللازم ، فكيف بالذاتي كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان. يلاحظ عليه : أنّ الطريقية ليست ذاتية للقطع وفي الوقت نفسه لا تنالها يدُ الجعل. أمّا الأوّل : فإن أُريد من الذاتي ، ذاتي باب الايساغوجي ، فهو فرع كونها جنساً أو فصلاً أو نوعاً وليست كذلك ، لأنّ حقيقة القطع ترجع إلى كونه من الحالات النفسانية كسائر الصفات ، نعم فيه اقتضاء هداية الإنسان إلى الخارج في بعض الأوقات دون بعض. (22)
أمّا الثاني : فلأنّـها لو كانت من لوازم وجوده لزم عدم صحّة الانفكاك بينهما مع أنّا نرى أنّ الإنسان غارق في الجهل المركّب وكم من قاطع ليس قطعه إلا ضلالة.
ومع الاعتراف بأنّ الطريقية ليست ذاتية للقطع تُصافِقُ القولَ بأنّ الحجّية لا تنالها يد الجعل ، لكن لا بالملاك السابق ـ أي كونها ذاتية أو من لوازمه ـ بل بملاك آخر ، وهو انّ المراد من الجعل هو الجعل الاعتباري التشريعي ، وهو ما لايتعلق إلابالأُمور الاعتبارية ، وأمّا الطريقية والكاشفية أو تتميم الكشف في الأمارات كلّها أُمور تكوينية لا تتحقق إلابيد التكوين لا بالجعل الاعتباري الذي هو موضوع البحث في المقام ، وبذلك يعلم انّ ما يظهر من المحقّق النائيني في غير واحد من المواضع من أنّ المجعول في الأمارات هو الطريقية ليس بتام. ومثله ما اختاره السيد الحجّة الكوهكمري قدَّس سرَّه في درسه الشريف ، فقد كان يقوِّي انّ عمل الشارع في الأمارات هو تتميم الكشف ، ومن المعلوم انّ التتميم كأصله أمر تكويني لا تنالهما يد الجعل. فتخلص من ذلك ان الطريقية ليست ذاتية للقطع وفي الوقت نفسه لا تنالها يد الجعل ، وما ربما يقال من أنّ الطريقية ذاتية له عند القاطع غير تام ، لأنّ الأُمور التكوينية غير خاضعة للنسبية ، لأنّ أمرها دائر بين الوجود والعدم ، فالطريقية للقطع إمّا حاصلة أو لا ؟ وكونها حاصلة له عند القاطع دون غيره يرجع معناه إلى جهله بالواقع فيزعم غير الطريق طريقاً. نعم إذا صادف الواقع يكون طريقاً فيكون وصفاً مفارقاً لا دائماً. (23)
3. هل القطع حجّة بالذات ؟
قد تعرفت على حكم الطريقية وانّها غير قابلة للجعل ، وإن كانت غير ذاتية له ، فيقع الكلام في حجّية القطع ، فاعلم أنّ الحجّة على أقسام : 1. الحجّة اللغوية. 2. الحجّة المنطقية. 3. الحجّة الأُصولية. ونبحث في الجميع واحداً تلو الآخر. أمّا الحجّة اللغوية أو العقلائية ، فهي عبارة عمّا يحتجّ به المولى على العبد وبالعكس. وبعبارة أُخرى : ما يكون قاطعاً للعذر إذا أصاب ، وعذراً إذا أخطأ. فقد افترض المحقّق الخراساني الحجّية بهذا المعنى من لوازم وجود القطع كالإحراق بالنسبة إلى النار ، ومن المعلوم امتناع الجعل التأليفي الحقيقي بين الشيء ولازمه ، نعم يصحّ الجعل التأليفي العرضي ، بجعل الموضوع وإيجاده بسيطاً ، فإن جعل النار ، جعل للإحراق تأليفاً مجازياً ، ثمّ رتب عليه انّه لا يصحّ المنع من تأثيره أي كونه قاطعاً للعذر أو معذّراً ، لعدم تعقل الانفكاك بين الشيء ولازمه بل يستلزم اجتماع الضدين في نظر القاطع مطلقاً وافق الواقع أم خالف ، وفي نفس الأمر إذا وافق. وربّما يستدل على امتناع جعل الحجّية له باستلزامه التسلسل ، لأنّ الجاعل إمّا أن يكون القطع أو الظن أو الشكّ ، والأخيران أنزل من أن يكون مبدأً لحجّية القطع فينحصر بالقطع ، فينقل الكلام إليه ، إمّا يتسلسل أو يتوقف في مورد ، تكون (24)
الحجّية له هناك أمراً ذاتياً.
يلاحظ عليه : أنّ القطع وإن كان في غنى عن جعل الحجّية لها ، لكن لا لأجل كونها من لوازم وجوده وذاته ، كذاتي باب البرهان مثل الإمكان بالنسبة إلى الماهية ، والزوجية إلى الأربعة ، بل لأجل أنّ صحة الاحتجاج بالقطع من الأحكام القائمة بنفس العقل ، وليست الحجية من عوارض القطع أو لوازمه حتى يستدل بعدم صحّة الجعل بما سمعت من امتناع الجعل التأليفي بين الشيء وذاتياته أو لوازمه. وهذا بخلاف الزوجية بالنسبة إلى الأربعة فإنّ الزوجية من لوازم وجود الأربعة وهي قائمة بها قيام اللازم مع الملزوم. ونظير الحجية بالنسبة إلى القطع حسن العدل وقبح الظلم فربّما يتصور أنّ نسبتهما إلى العدل والظلم كنسبة الزوجية إلى الأربعة بتصور أنّهما من لوازمهما أو من ذاتياتهما. ولكن الحق أنّ الحسن والقبح من الادراكات العقلية التي ينتقل إليها العقل من احساسه بالملائمة بين الفطرة والعدل و بالمنافرة بينها وبين الظلم ، فيعبر عن الاحساسين بالحسن والقبح دون أن يكونا من الأُمور القائمة بالعدل والظلم وقد أسهبنا البحث في ذلك في محله (1). وهذا هو الوجه في عدم خضوع القطع لجعل الحجّية له ، لا كونها ذاتيةً له ، أو استلزامه التسلسل ، لأنّ الدليل الأوّل باطل والثاني تبعيد للمسافة. 1. انظر رسالة التحسين والتقبيح العقليين. (25)
4. ليس القطع حجّة منطقية
إذا كان الحدّ الوسط في القياس المنطقي علّة لثبوت الأكبر للأصغر أو معلولاً لثبوته له فيوصف بالحجّة المنطقية كالتغيّـر الذي هو علّة لإثبات الحدوث للعالم ، وصورة القياس واضحة. وبما انّ البحث في المقام في القطع الطريقي الذي ليس له دور في ثبوت المقطوع به واقعاً وتحقّقه ، غير كونه كاشفاً عن الواقع فلا يوصف بالحجّة المنطقية فلا يصحّ تنظيم قياس من القطع وجعله حدّالوسط بأن يقال : هذا مقطوع الخمرية ، وكلّ مقطوع الخمرية حرام ، فهذا حرام لكذب الكبرى ، إذ ليس الحرام إلا نفس الخمر ، تعلّق بها القطع أو لا ، لا خصوص مقطوع الخمريّة. ومثله الظن والأمارة ، فليس الظن والأمارة علّة لثبوت المقطوع به ، وإنّما هو كاشف ، من دون أن يكون له دور في تحقّق متعلقه ، فلا يصحّ أن يقال هذا مظنون الخمرية وكلّ مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه ، لكذب الكبرى ، لأنّ المحرم هو ذات الخمر ، لا كونه بوصف المقطوعية. هذا كلّه في القطع الطريقي ، وأمّا القطع الموضوعي خصوصاً إذا كان تمام الموضوع للحكم فبما انّ له دوراً في ثبوت الحكم كما إذا رتّب الشارع الحرمة على مقطوع الخمرية ، يكون القطع واسطة لثبوت الأكبر على الأصغر ، ويصحّ تأليف قياس منطقي منه ، فيقال هذا مقطوع الخمرية وكلّ مقطوع الخمرية حرام ، فهذا حرام والكبرى صادقة بخلاف ما إذا كان القطع طريقاً لا دخيلاً في الموضوع. والعجب من الشيخ الأعظم حيث فرّق بين القطع والظن ، فقال بأنّه لا يحتج بالقطع على ثبوت الأكبر للأصغر ، بخلاف الظنّ أو البيّنة أو فتوى المفتي فصحح قول القائل هذا الفعل ما أفتى بتحريمه المفتي ، أو قامت البيّنة على كونه (26)
محرماً ، وكلّما كان كذلك فهو حرام (1) مع أنّ الجميع من باب واحد ، ولعلّ منشأ الاشتباه هو الخلط بين الحجّة المنطقية والحجّة الأُصولية ، فانّ التفكيك إنّما يصحّ في الثانية دون الأُولى ، وإليك بيانها.
5. ليس القطع حجّة أُصولية بخلاف الظن الحجّة الأُصولية عبارة عمّا لا يحكم العقل بالاحتجاج بها ولا يحكم بعدمه أيضاً غير أنّ العقلاء أو الشارع يرون الاكتفاء بالقطع يوجب العسر والحرج ، أو فوتَ المصالح لقلة القطع واليقين ، فيعتبرون الأمارة في الأحكام والبيّنة في الموضوعات حجّة لإثبات متعلقاتهما ، والحجّة بهذا المعنى من خصائص الحجج العقلائية والشرعية ، وذلك لأنّ كاشفية الأمارة ليست تامة فيحتاج في صحّة الاحتجاج بها إلى إضفاء الحجّية عليه ، من جانب العقلاء أو المولى. وهذا بخلاف القطع فبما انّه كاشف تامّ عند القاطع ، يستقل العقل بصحة الاحتجاج به يراه غنيّاً عن إفاضة الجعل عليه ، مضافاً إلى ما عرفت من استلزامه التسلسل. 6. لا يصحّ المنع عن العمل بالقطع إذا كان الحكم مترتباً على الواقع كالحرمة على الخمر بما هو هو ، فلو قطع إنسان بكون المائع خمراً لا يصحّ النهي عن العمل به لاستلزامه كون الناهي مناقضاً في كلامه في نظر القاطع ، سواء أصاب أم أخطأ ، إذ معنى النهي هو تعلّق إرادتين تشريعيتين مختلفتين بشيء واحد. نعم إذا كانت للطريق مدخليّة في موضوع الحكم ، فله أن يتصرّف في 1. الفرائد : 1 ، طبعة رحمة اللّه. (27)
الموضوع ويرتّب الحرمة على الخمر الثابت بالقطع الحاصل من الحسّ دون الحدس ، أو على الخمر الثابت بالبيّنة دون القطع ترجيحاً لها على قطع المكلّف لكثرة الخطأ في قطعه.
هذا كلّه في أحكام القطع. بقي هنا شيء وهو ماذكره المحقّق الخراساني : 7. أحكام القطع مترتّبة على القطع بالحكم الفعلي قد مضى وسيوافيك انّ الحكم له مراتب أربع : 1. مرتبة الاقتضاء كالمصالح والمفاسد وتسميتها بالحكم بنوع من التوسّع والمجاز ، وإلافهما من مبادئه ومقدماته. 2. مرتبة الإنشاء والتصويب قبل الإبلاغ إلى المكلّف. 3. مرتبة الفعليّة ، وجعل البعث والزجر في مظان وجود التكليف. 4. مرتبة التنجيز إذا وقف عليه المكلّف ، وإبلاغه إلى المكلّفين. وما ذكر من الأحكام للقطع فإنّما هي في مورد تعلقه بحكم فعلي ، يتنجّز بالقطع ، وأمّا ما لم يبلغ تلك المرتبة ، فلا يترتب عليه حكم شرعي ، لأنّه ليس حكماً وإن كان يترتّب عليه الثواب إذا قام بالامتثال من باب الانقياد. ثمّ أشار إلى مشكلة الجمع بين الحكم الواقعي الفعلي و الظاهري ، وسيوافيك بيانه في مبحث الأمارات. (28)
الأمر الثاني
في التجرّي
وقبل الورود في الموضوع نذكر أُموراً :
1. التجرّي لغةً : التجرّي في اللغة مطلق إظهار الجرأة ، فإذا كان المتجرّى عليه هو المولى فيتحقّق التجرّي بالإقدام على خلاف ما قطع بوجوبه أو بحرمته بترك الأوّل وارتكاب الثاني دون فرق بين كون قطعه مصيباً للواقع أو مخالفاً له ، ولكن المقصود من التجرّي هنا ليس المعنى اللغوي بل المعنى المصطلح ، وهو الإقدام على خلاف ما قطع به في مجال إطاعة المولى شريطة أن يكون قطعه خلافاً للواقع. كما إذا أذعن بوجوب شيء أو حرمته ، فترك الأوّل وارتكب الثاني فبان خلافهما ، ويسمّى مخالفة القطع المصيب بالمعصية. ومنه يظهر حال الانقياد فهو لغة الإقدام على وفق ما قطع ، سواء كان في قطعه مصيباً أم لا ، لكن المراد هنا هو القسم الخاص ، أعني : ما إذا عمل على وفق قطعه ، لكن إذا تبيّن خطأ قطعه ، فيختصّ الإقدام على وفق القطع المصيب بالطاعة. ومنه يعلم أنّ التجري والانقياد بالمعنى الاصطلاحي لا يختصان بالقطع بل يعمان الحجج الشرعية أيضاً من الأمارات والأُصول ، فلو خالف البيّنة أو الأصل (29)
العملي ثمّ ظهر عدم إصابتها للواقع يسمى تجريّاً ، ومثله الانقياد فهو لا يختص بالقطع بل يعم الحجج الشرعية أيضاً.
2. التجرّي اصطلاحاً : إنّ التجري بالمعنى الاصطلاحي إنّما يتصور إذا كان القطع طريقياً محضاً بحيث ينصبّ الحكم على ذات الواقع سواء أقطع به أم لا ، وسواء أكانت هناك حجّة أم لا. وأمّا إذا كان الحكم منصبّاً على القطع بالشيء بحيث يكون القطع تمام الموضوع للحرمة سواء صادف الواقع أو لا ، فلا يتصور التجري الاصطلاحي هنا بل يعدّ من قبيل المعصية. 3. هل المسألة كلامية أو أُصولية أو فقهية ؟ قال شيخ مشايخنا العلاّمة الحائري : إنّ النزاع يمكن أن يقع في استحقاق العقوبة وعدمه فيكون راجعاً إلى النزاع في المسألة الكلاميّة ، كما يمكن أن يقع النزاع في ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أو لا ؟ فتكون المسألة من المسائل الأُصولية التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي ، ويمكن أن يكون النزاع في كون هذا الفعل ، أعني : ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً حراماً شرعاً أو لا ، فتكون من المسائل الفقهية. (1) أقول : الظاهر انّ المسألة قاعدة فقهية ، ومصبّ البحث فيها كون نفس التجرّي حراماً أو لا ، حتى يكون دليلاً على الحكم الشرعي في أبواب مختلفة من الفقه. 1. درر الفوائد : 2/11. (30)
وأمّا البحث عن كونه قبيحاً أو لا ؟ فإنّما هو من باب الاستدلال على الحرمة لكشف القبح عن الحرمة لو قلنا بصحّة الكشف في هذه المقامات ، كما أنّ البحث عن استحقاقه للعقاب بحث عن نتيجة المسألة.
4. أقسام التجرّي : إنّ الشيخ قسّم التجرّي إلى أقسام ستة نذكر منها ثلاثة : أ. إذا نوى ارتكاب المحرم من دون ارتكاب مقدّماته فضلاً عن ارتكاب نفس الحرام ثم ارتدع. ب. إذا نوى وارتكب بعض المقدمات ثمّ ارتدع. ج. إذا ارتكب ما يراه محرماً ثمّ بان كونه مباحاً. ومحلّ البحث هو القسم الثالث للاتفاق على عدم حرمة القسمين الأوّلين. إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّ الكلام يقع تارة في حكم نفس ارتكاب ما قطع بحرمته مثلاً وانّه هل هو حرام أو لا ؟ وأُخرى في حكم الفعل المتجرّى به الذي تحقّق التجرّي في ضمنه من حيث الحرمة وعدمها ، ولأجل ذلك يقع الكلام في مقامين : المقام الأوّل : في حكم نفس التجرّي إذا ارتكب المكلّف ما يراه معصية أو ما قامت الحجّة على كونه كذلك ، فهل ارتكب حراماً أو لا ؟ ففيه أقوال ثلاثة : 1. الحرمة واستحقاق العقاب. وهو خيرة المحقّق الخراساني. 2. عدم الحرمة وعدم استحقاق العقاب. وهو خيرة الشيخ الأنصاري |
|||
|