|
|||
(361)
وتملّك المكرِه المبيع على خلاف الامتنان ورفعه وكونه باطلاً لعدم طيب نفسه على وفاقه.
وأمّا إذا أُكره على الحكم التكليفي ، كما إذا أُكره على الزنا أو شرب الخمر وإلا فيهان ، أو يجبر بدفع مال غير مهم بالنسبة إليه ، فلا يكون الوضع ، أي حفظ حرمة الفعل على خلاف الامتنان بعد كون ما توعد به أمراً قابلاً للتحمّل ، ولذا قالوا ليس كلّ إكراه مسوّغاً لمخالفة الحكم التكليفي ، بخلاف الإكراه في مورد المعاملات فإنّ الأقل منه الملازم لعدم طيب النفس ملازم للبطلان. نعم لو كان ما توعد به أمراً مهماً لا يُتحمل عادة ، فهو مرفوع ، بدليل الإكراه أوّلاً و دليل « لا حرج » ثانياً كما لا يخفى. السادس : المرفوع آثار المعنون لا آثار العناوين اعلم أنّ الآثار الشرعية على قسمين : قسم يترتب على نفس الفعل بما هو هو من دون تعنونه بعنوان خاص كالأحكام الواردة في الآيات التالية : 1. ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وساءَ سَبِيلاً ). (1) 2. ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَليّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ). (2) 3. ( وأَوفُوا بالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤولاً ). (3) 4. ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا ). (4) 1. الاسراء : 32. 2. الاسراء : 33. 3. الاسراء : 34. 4. المائدة : 38. (362)
5. ( الزَّانِيَةُ وَالزّاني فَاجْلِدُوا كُلّ واحِد مِنْهُما مائَةَ جَلْدَة ). (1)
فالحكم المجعول في هذه الموارد على فعل المكلف بما هو هو عالماً كان أو جاهلاً ، مختاراً كان أو مكرهاً ، مضطراً أو غير مضطر. وقسم يترتب الحكم على الفعل بما هو معنون بعنوان خاص ، كترتب الدية على القتل الخطأ ، كما في قوله سبحانه : ( وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ ). (2) وكالإتيان بسجدتي السهو إذا تكلم ناسياً ، كقوله ( عليه السَّلام ) عن الرجل يتكلّم ناسياً في الصلاة ؟ فأجاب : « يسجد سجدتين » (3). فالحكمان مترتبان على الفعل الصادر عن خطأ ونسيان. إذا علمت ذلك ، فاعلم أنّ المرفوع هو القسم الأوّل من الآثار لا الثاني ، وذلك لوجهين : الأوّل : انّ المتبادر من أخذ العناوين التالية : الإكراه والاضطرار والنسيان في حديث الرفع ، هو أخذها طريقاً إلى متعلّقاتها ، فأطلق رفعها وأُريد رفع متعلّقاتها ، أعني : الأفعال المكره والمضطر إليها والمنسية ورفعها كناية عن رفع آثار متعلّقاتها التي رتبت في الأدلّة على مطلق الفعل من غير تقييد بعنوان خاص ، مثلاً حكم في الآيات السابقة على الزنا والسرقة بالحرمة ، وبالقتل بجواز الاقتصاص ، وبالعهد بلزوم الوفاء من غيرتقييد بعنوان مثل العمد والاختيار والذكْر ، ومقتضى إطلاق الدليل ثبوتها في جميع الحالات ، فإذا ضمّ إليها حديث الرفع ، يكون مقتضى الجمع بين الدليلين هو رفع تلك الآثار إذا كان الفاعل مكرهاً أو مضطرّاً ، أو ناسياً أو جاهلاً. 1. النور : 2. 2. النساء : 92. 3. الوسائل : الجزء 5 ، الباب 4 من أبواب الخلل ، الحديث 1. (363)
وهذا بخلاف الحسد والطيرة والوسوسة ، فالظاهر انّها عناوين موضوعية ، فالمرفوع آثار نفسها.
وعلى هذا ، فلو رتب أثر شرعي على خصوص الفعل الصادر عن خطأ أو نسيان ، فلا يكون مرفوعاً بحديث الرفع ، لأنّ الخطأ وأمثاله فيه أخذا موضوعاً لا طريقاً إلى المتعلّق. الثاني : إذا كان حديث الرفع حاكماً على مثل القسم الثاني يلزم التناقض بين الأدلّة الدالة على ثبوت هذه الأحكام في هذه الأحوال ، وحديث الرفع النافي لها فيها ولا محيص عن صرفه عن مثل هذه الأحكام. السابع : عدم اختصاصه بالأُمور الوجودية إذا كان المرفوع جدّاً هو عموم الآثار ، كما مرّ; تكون النتيجة ، عدم اختصاص الحديث بالأُمور الوجودية ، بل يعمّ الأُمور العدمية. مثلاً لو نذر أن لا يدَّخِنَ ، لكن دخّن عن إكراه أو نسيان ، فالفعل مرفوع برفع آثاره. ولو نذر ، أن يشرب من ماء زمزم فنسي أو أُكره على الترك ، فلا يعدّ حنثاً ولا تجب الكفارة. لكن ذهب المحقّق النائيني قدَّس سرَّه إلى اختصاص الحديث بالأُمور الوجودية ، وقال : وإن أكره المكلّف على الترك أو اضطر إليه أو نسي الفعل ففي شمول حديث الرفع لذلك إشكال مثلاً لو نذر أن يشرب ماء دجلة فأُكره على العدم أو اضطر إليه أو نسي أن يشرب ، فمقتضى القاعدة وجوب الكفارة لو لم تكن أدلّة وجوب الكفارة مختصة بصورة تعمد الحنث ومخالفة النذر عن إرادة واختيار ، لأنّ شأن الرفع تنزيل الموجود منزلة المعدوم ، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود ، لأنّ تنزيل المعدوم منزلة الموجود إنّما يكون وضعاً لا رفعاً والمفروض انّ المكلّف قد ترك الفعل عن إكراه ونسيان ، فلم يصدر منه أمر وجودي قابل للرفع ، ولا يمكن أن يكون عدم الشرب في المثال مرفوعاً وجعله كالشرب حتى يقال انّه لم تتحقق (364)
مخالفة النذر فلا حنث ولا كفارة. (1)
يلاحظ عليه : أنّ كلامه إمّا في عالم الإثبات والاستعمال أو عالم الثبوت والجد ، فإن كان في المقام الأوّل فقد مرّ انّ مصحح الرفع إثباتاً عبارة عن تعلّقه بهذه العناوين الوجودية ، من غير فرق بين تعلّقها بأُمور وجودية أو أُمور عدمية ، وما ذكره قدَّس سرَّه نظير ما ذكره الشيخ الأعظم في بيان وجه اختصاص أخبار الاستصحاب بالشكّ في الرافع دون الشكّ في المقتضي ، وذلك لأنّ النقص لا يناسب إلا المعنى الأوّل الذي أحرز فيه اقتضاء البقاء وإنّما شكّ في رافعه دون الثاني الذي لم يحرز فيه اقتضاء البقاء. وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بأنّ المصحح لاستعمال النقض في كلا الموردين هو تعلّقه باليقين الذي هو أمر مبرم مستحكم ـ وليس مثل الظن ـ سواء تعلّق اليقين بما أحرز فيه المقتضي وشكّ في رافعه أو بما شكّ في وجود الاقتضاء فيه. ونظيره المقام ، فانّ المصحّح في مقام الإثبات ، كون متعلّق الرفع عبارة عن الأُمور التسعة التي هي أمر وجودي ، فهي في عالم التشريع مرفوعة ، من غير نظر إلى تعلّقها بأمر وجودي أو أمر عدمي. وإن كان كلامه في المقام الثاني ، فالمرفوع هو الأحكام الوجودية المترتبة على الموضوعات الشرعية من غير فرق بين ترتبه على أمر وجودي أو أمر عدمي ، فالحنث والكفارة في مثاله الذي ذكره مترتب على ترك الشرب ، فالحديث يرفع وجوب الكفارة الذي هو أمر وجودي. وعلى ذلك لو أكره على ترك السورة في الصلاة أو نسيها ، فيجري فيه حديث الرفع ، وسيوافيك تفصيله في أحد الأُمور الآتية. 1. فوائد الأُصول : 3/352 ـ 353. (365)
الأمر الثامن : المرفوع هو المترتب على فعل المكلّف
إنّ المرفوع هو الأثر المترتب على فعل المكلّف ، لأنّ هذه العناوين ممّا لا تعرض إلا على فعله ، فلو ترتب أثر على فعله فهو مرفوع ، وأمّا إذا كان الأثر مترتباً على وجود الشيء كالنجاسة بواسطة ملاقاة ، جسم لجسم ، فلا يرتفع به ، فلو أُكره على شرب الخمر ترتفع الحرمة دون نجاسة ملاقيه من اليد والفم ، أو أكره على الزنا ، فالأثر المترتب على فعله من حرمة التزويج إذا كانت محصنة مرتفعة بشرط أن يكون كلّ مكرهاً عليه ، وبذلك يعلم انّه لو أكره على ترك الفريضة أو اضطر إلى الترك ، لا يسقط القضاء ، لأنّه مترتب على الفوت بما هو هو لا بما هو فعل المكلّف ، فلو نام عن فريضة فعليه القضاء مضافاً إلى وجود الملاك. ولا ينافيه قوله : « رفع القلم عن ثلاثة ... النائم حتى يستيقظ ». هذه هي الأُمور الكلية التي تسلط الضوء على المقصد إذا عرفتها ، فنقول يقع الكلام في مقامين : المقام الأوّل : في عنواني « ما لا يعلمون » و « النسيان » قد عرفت أنّ المرفوع جدّاً هو عموم الآثار الشرعية ، وعلى ذلك كما يكون الحكم التكليفي مرفوعاً بالجهل والنسيان ، كذلك يكون الحكم الوضعي ، كالجزئية والشرطية مرفوعاً بهما أيضاً. فلو جهل بحرمة الشيء ـ بعد الفحص عن مظانّه أو نسي الحكم الشرعي ـ فارتكبه فلا يترتب عليه شيء; فلو نذر أن يصلّي الغفيلة فنسيها ، ولم يصل لا يترتب عليه الحنث. وأمّا لزوم القضاء ، فالبحث عن لزومه وعدمه يطلب لنفسه مجالاً آخر. (366)
إنّما الكلام في رفع الحكم الوضعي كالجزئية والشرطية ، فلنركز الكلام على النسيان ومنه يعلم حال الجهل به.
أقول : إنّ النسيان قد يتعلّق بالجزئية ، والشرطية ، فهو يكون مساوقاً لنسيان الحكم الكلي ، وقد يتعلّق بنسيان الجزء والشرط مع العلم بحكمهما ؛ وعلى كلّ تقدير ، فلا مانع من عمومية الحديث لكلا القسمين تحت عنوان واحد ، ورفع المنسي باعتبار رفع النسيان سواء كان المنسيّ ، الحكم الكلي ، أو الجزئي بماله من الأثر الشرعي ( الوجوب ). وعلى ضوء ذلك ، يكون الواجب في حقّ الناسي الأجزاء الباقية ، وتكون الصلاة صحيحة ، والتفصيل بين نسيان الحكم ، ونسيان الجزئية والشرطية تحكم بعد تعلّق الرفع برفع النسيان ورفع ما نسي ، وهو أعم من الحكم والجزئية والشرطية. نعم استشكل على التمسك بالحديث بأُمور ذكر بعضها المحقّق الخراساني في باب الشكّ في المكلّف به عند الجهل بالجزئية والشرطية (1) ، وبعضها الآخر المحقّق النائيني في المقام ، ونحن نشير إلى الجميع بصورة موجزة. 1. الجزئية أمر انتزاعي وليس حكماً شرعياً ولا موضوعاً لحكم شرعي ، فكيف يتعلّق به الرفع التشريعي ؟ يجاب : يكفي في جواز الرفع كونها منتزعاً من أمر مجعول ، وهو وجوب السورة ، وهذا المقدار كاف في صحّة الرفع. 2. انّ رفع الجزئية ، يلازم رفع وجوب السورة ، وأمّا كون الواجب هو الباقي وتعلّق الأمر به فهو لا يستفاد من حديث الرفع. يجاب : بأنّ نسبة حديث الرفع إلى أدلّة الأجزاء والشرائط ، هو نسبة 1. كفاية الأُصول : 2/235. (367)
الاستثناء ، فكما أنّ استثناء شيء من العموم ، يلازم اختصاص الحكم الباقي ، فهكذا استثناء جزئية السورة في حال النسيان ، يلازم انحصار الأمر بالباقي ، وبذلك يكون حديث الرفع من أدلّة الأجزاء.
بعبارة أُخرى : تحديد دائرة المأمور به ، ليس على عاتق حديث الرفع بل على عاتق أدلّة الأجزاء ، فإذا اختص وجوب السورة بغير حال النسيان ، يكون الواجب في حقّ الناسي هو الصلاة بغير السورة ، وينطبق عنوان المأمور به على الباقي انطباقاً قهرياً ، ويكون سقوط الأمر والأجزاء مثله. 3. ما ذكره المحقّق النائيني من أنّه لا يمكن تصحيح العبادة الفاقدة لبعض الأجزاء والشرائط ، لنسيان أو إكراه ونحو ذلك بحديث الرفع ، فانّه لا محلّ لورود الرفع على السورة المنسيّة في الصلاة مثلاً لخلو صفحة الوجود عنها. (1) يجاب عنه بما عرفت من أنّ الرفع تعلّق في عامة الموارد بأُمور وجودية ، وهو العناوين الواردة في الحديث ، وقد تقدّم أنّها أخذت فيه بعنوان الطريقية فيكون المرفوع هو المنسي. 4. ما ذكره هو أيضاً قدَّس سرَّه لا يمكن أن يكون رفع السورة بلحاظ رفع أثر الإجزاء والصحّة ، فانّ ذلك يقتضي عدم الإجزاء وفساد العبادة وينتج عكس المقصود. (2) يلاحظ عليه : ليس المرفوع هو الإجزاء والصحّة ، بل المرفوع هو الجزئية والوجوب الذي لها ، وهذا ينتج نفس المقصود. 5. إنّما تصحّ عبادة الناسي ويكون المركب الفاقد تمام المأمور به في حقّه إذا أمكن تخصيص الناسي بالخطاب ، وأمّا مع عدم إمكانه لأجل كون الخطاب بقيد انّه ناس ، لوجب انقلاب الموضوع إلى الذاكر فلا يمكن تصحيح عبادته. 1. فوائد الأُصول : 3/353. 2. فوائد الأُصول : 3/353. (368)
يجاب : انّ تصحيح عبادته لا تتوقف على تخصيصه بالتكليف ، بل الأمر المتعلّق بالصلاة في الكتاب والسنّة كاف في التصحيح ، فانّ الذاكر والناسي يقصدان امتثال قوله سبحانه : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيل ) (1) والصلاة أمر مقول بالتشكيك ، تصدق على الفرد الواجد للسورة ، والفاقد لها وكلاهما ـ بما هما فردان للطبيعة ، غير انّ الواجب على الذاكر إيجادها في ضمن الفرد الكامل ، وعلى الناسي إيجادها في ضمن الفرد الناقص ـ إيجاد لنفس الطبيعة وامتثال للأمر الوارد في الكتاب والسنّة بلا حاجة إلى تخصيص الناسي بالتكليف.
وعلى ذلك فلو ذكر الناسي بعد أداء الصلاة انّه ترك السورة فصلاته صحيحة ، مجزئة لانطباق عنوان المأمور به على ما أتى ، وقد قام الإجماع على عدم وجوب صلاتين في وقت واحد. 6. انّ هذا التقريب يوجب سقوط الأمر الظاهري ، وأمّا الأمر الواقعي المتعلّق بالصلاة بعامة أجزائها وشرائطها فهو باق. يجاب : انّك قد عرفت في باب الإجزاء انّه ليس لنا إلا أمر واحد ، وهو بوحدته يبعث الذاكر والناسي والمصحّ والمريض والحاضر والمسافر ، ولأجل ذلك يعبر سبحانه عن صلاة المسافر ، بالتقصير ويقول : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاة ) (2) فالواجب في حقّ المسافر ، هو نفس الواجب في حقّ الذاكر ، غير أنّ له أن يقصّـرها ويقلِّلها من ركعاتها. نعم يمكن امتثال هذا الأمر الواحد بصور مختلفة حسب اختلاف أحوال المصلي ، من الذكر والنسيان والصحّة والمرض. 1. الإسراء : 78. 2. النساء : 101. (369)
تعلّق النسيان بالسبب
ما ذكرناه في نسيان الجزء والشرط والمانع يأتي بعينه في نسيان السبب لكن بالتفصيل الآتي. وهو انّه إن تعلّق النسيان بأصل السبب أو بشرط يعد عند العقلاء من مقومات العقد ، كما إذا تقاولا على الزوجية ، ودخل بالمرأة بلا عقد عن نسيان أو عقد هازلاً ، فلا ريب في بطلان مثل هذا الزواج ، إذ لم يصدر من المكلّف أيُّ عمل حتى يوصف بالصحّة ، وهذا بخلاف ما إذا تعلّق النسيان بشروط السبب وموانعه ، كما إذا عقد فارسياً ـ على القول بشرطية العربية ـ ، فيحكم بالصحّة لرفع شرطيتها في حال النسيان فيكون العقد الفارسي قائماً مكان السبب التام ، وليس المرفوع إلا شرطية العربية. وبما ذكرنا يظهر ، عدم تمامية ما أفاده المحقّق النائيني حيث قال ببطلان العقد الفارسي إذا صدر عن نسيان قائلاً : بأنّ رفع العقد الفارسي لا يقتضي وقوع العقد العربي. (1) لما عرفت من أنّ المرفوع هو شرطية العربية في العقد ، وهو كاف في الصحّة ، لا العقد الفارسي. المقام الثاني : في الاضطرار والإكراه قد استقصينا البحث في الفقرتين الماضيتين : مالا يعلمون ، والنسيان ; فلنعطف عنان الكلام إلى الفقرتين الأخيرتين : الاضطرار والإكراه. فيقع الكلام تارة في الحكم التكليفي ، وأُخرى في الحكم الوضعي. 1. فوائدالأُصول : 3/ 357. (370)
تعلّق الإكراه بالحكم التكليفي
إذا تعلّق الإكراه بارتكاب المحرم ، فلا يرتفع بمجرّد عدم طيب النفس إلا إذا كان المتوعد به أمراً حرجياً ، غير قابل للتحمل عادة ، وهذا يختلف حسب اختلاف الأشخاص والأحوال. وقد فصّل الشيخ في الموضوع في المكاسب المحرمة فليرجع إليها. وأمّا ما رواه المفضل بن عمر ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) في رجل أتى امرأته وهو صائم وهي صائمة فقال : « إن كان استكرهها فعليه كفارتان ، وإن كان طاوعته فعليه كفارة ... ». (1) فضعيف السند جدّاً ، لأنّ الكليني يرويه بسند لم نجد أيّ توثيق في حقّ واحد منهم ، وعلى فرض الثبوت يحمل على المرحلة التي ربما تسلب الطاقة عرفاً عن الزوجة. إذا علمت انّه ليس كلّ إكراه مسوِّغاً لارتكاب المحرم بل مرتبة خاصة منه ، فاعلم انّه إذا بلغ الإكراه إلى الدرجة المسوِّغة ، وأُكره على ارتكاب محرم فعليه الاقتصار به دون تجاوز إلى الفرد الآخر ، كما أنّه إذا أكره على ترك فرد من الواجب كالصلاة في المسجد فليس له ترك الصلاة في البيت. تعلّق الإكراه بالحكم الوضعي هذا كلّه حسب الحكم التكليفي وأمّا الوضعي ، فتارة يتعلّق بالسبب ، وأُخرى بالمسبب. أمّا الأوّل فكما لو أُكره على ترك السبب أو ترك ما يعد من مقوماته كالتزويج بلا عقد ، أو هازلاً ، فلا شكّ في بطلان التزويج غاية الأمر يعدّ معذوراً من جانب المخالفة التكليفية ، كالنظر واللمس إذا استمر الإكراه. 1. الوسائل : 7 ، الباب 12 من أبواب ما يمسك عنه الصائم. (371)
أمّا إذا تعلّق الإكراه بترك الجزء والشرط أو إيجاد المانع ، فالظاهر صحّة العبادة على غرار ما ذكرناه في نسيان الجزء والشرط وإيجاد المانع إذا كان العذر مستوعباً ، وأمّا إذا لم يكن كذلك ، فالإجزاء وعدمه رهن جواز البدار مع احتمال ارتفاع العذر أو لا. فعلى الأوّل يجزي لوحدة الأمر وقد امتثله وانطبق عليه عنوان الواجب دون ما إذا قلنا بعدم الاجزاء ومثله إذا أكره على المانع كما إذا أكره على الصلاة في الثوب النجس.
فتلخص من ذلك أنّ مطلق الإكراه لا يسوِّغ مخالفة الحكم التكليفي إلا إذا بلغ درجة غير قابلة للتحمل عادة ، ومعه يجب الاقتصار على مورده. وأمّا الإكراه على الحكم الوضعي ، فلو أُكره على ترك السبب من رأس أو ما يعد مقوماً فلا يجدي في صحّة السبب لعدم السبب. وأمّا إذا أُكره على ترك الشرط والجزء والمانع في المعاملة والعبادة ، فالظاهر رفع الجزئية والشرطية والمانع ، وبالتالي التكاليف الوضعية والحكم بصحّة العمل عبادياً كان أو معاملياً. نعم فصّل سيدنا الأُستاذ قدَّس سرَّه في باب الإكراه بين تعلّقه بالمانع وتعلّقه بترك الجزء والشرط ، بجريان حديث الرفع في الأوّل وصحّة العمل ، دون الأخير ، وذلك لأنّ الإكراه في الأوّل تعلّق بشيء ذي أثر وهو المانع كالصلاة في الثوب النجس ، دون الأخيرين إذ الإكراه تعلّق بترك الجزء والشرط ، وهما ليسا متعلّقين بالحكم الشرعي. هذا بخلاف ما إذا نسي الجزء والشرط بأنّ متعلّق النسيان ذو أثر شرعي ، وعلى ضوء ما ذكر يجزي حديث الرفع في مورد النسيان في جميع الموارد الثلاثة ، دون الإكراه فهو يجري في إيجاد المانع ، دون ترك الجزء والشرط. (1) 1. تهذيب الأُصول : 2/167 ـ 168. (372)
يلاحظ عليه : أنّه يكفي في جريان الحديث أحد الأمرين إمّا كون متعلّق العنوان ذا أثر شرعي كنسيان الجزء ، أو كون متعلّقه ملازماً عرفاً للحكم الشرعي ، فانّ ترك الجزء في نظر العرف ملازم لبقاء الأمر بالمركب فإذا تعلّق الإكراه بترك الجزء وصار المكلّف معذوراً في تركه يكون نظر العرف ملازماً لعدم بقاء الأمر بالمركب وسقوط الأمر النفسي ، وهذا المقدار من الملازمة العرفية كاف في التمسك به ، هذا كلّه حول الإكراه على السبب.
الإكراه على المسبب وأمّا إذا أكره على المسبب ، فإن كان من الأُمور الاعتبارية المترتبة على فعل المكلّف كالزوجية والملكية إذا أمكن الاكراه عليه ، فهو مرفوع ، وأمّا إذا كان من الأُمور المترتبة على وجود السبب بما هو هو لا بما هو فعل اختياري للمكلّف فلا يرتفع بالإكراه كالغسل لمن أكره بالجنابة ، وتطهير الثوب والبدن للصلاة لمن أكره على الجنابة. حكم الاضطرار الاضطرار إمّا أن يتعلّق بالأمر المشروع كبيع الدار لمعالجة الولد ، فلا شكّ انّه غير مؤثر في رفع الأثر ، لأنّه على خلاف الامتنان ، وأمّا إذا تعلّق بأمر محرم فهو رافع له بعامة مراتبه خلافاً للإكراه ، وقد عرفت أنّه لا يرتفع به الأثر إلا إذا كان ما توعد به أمراً غير قابل للعمل. وأمّا إذا تعلّق بإيجاد المانع أو ترك الجزء والشرط فهو كالإكراه ، مختاراً وإشكالاً وجواباً. (373)
إكمال
لا يخفى انّ مفاد ما مرّ من الآيات السابقة ، مفاد البراءة العقلية من قبح العقاب بلا بيان فلو تم دليل الأخباري على لزوم الاحتياط يكون وارداً على أدلّة الأُصولي ، إنّما الكلام في مفاد حديث الرفع ، فهل مفاده نفس مفاد البراءة العقلية ، أو انّ مفاده رفع الواقع المجهول سواء أكان حكماً أم موضوعاً ومعنى ذلك أنّ المكلّف في سعة من جانبه وليس له أيّ حرج من جانبه ، فلو دل دليل على لزوم الاحتياط وانّ المكلّف مأخوذ من جانب الحكم المجهول يقع التعارض بينهما. وعلى ضوء هذا ، يجب إمعان النظر في مفاد كلّ دليل يقام على البراءة ، فهل يتحد مفاده مع مفاد البراءة العقلية أو لا ؟ 2. حديث الحجب روى الكليني ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن ابن فضال ، عن داود بن فرقد ، عن أبي الحسن زكريا بن يحيى ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « ما حجب اللّه عن العباد ، فهو موضوع عنهم ». (1) ومحمد بن يحيى شيخ الكليني ثقة ، يروي عن شيخه أحمد بن محمد بن عيسى ، وهو ثقة جليل ؛ يروي عن ابن فضال ، وهو الحسن بن علي بن فضال من أصحاب الإمام الهادي والعسكري عليهما السَّلام ، كوفي ثقة ، وهو شيخ أبي النضر محمد بن مسعود العياشي قال التلميذ : فما لقيتُ بالعراق وناحية خراسان أفقه ولا أفضل من الحسن بن علي بالكوفة (2) ؛ وهو يروي عن داود بن فرقد الثقة ؛ وهو يروي عن زكريا بن يحيى هو الواسطي ، قال النجاشي : إنّه ثقة. والحديث لا غبار عليه ، لكن 1. الكافي : 1/164 ، باب حجج اللّه على خلقه ، الحديث 3. 2. رجال النجاشي : 1/127 ، برقم 71. (374)
لوقوع ابن فضال الفطحي في السند ، يوصف بالموثق ، وقد مات عام 221 أو 224 هـ ويمكن وصفه بالصحّة لأنّ ابن فضال كان خصيصاً بالرضا ( عليه السَّلام ) وهو يدل على توفّيه على الحقّ وإلا لما كان خصيصاً به واللّه العالم.
وأمّا الدلالة ، فتقرر بأنّ حرمة شرب التتن ـ على فرض حرمتها ـ ممّا حجب اللّه علمه عن العباد ، فهي مرفوعة عنهم ، فليس من ناحيتها أيّ حرج ، فيكون على فرض تمامية الدلالة معارضاً لأدلّة الأخباري الدالة على وجود المسؤولية للعباد فيما جهلوا من الأحكام ولو بالاحتياط. إنّما الكلام في تمامية الدلالة ، وذلك لأنّ في الموصول احتمالات : 1. المعارف والأُمور الغيبيّة التي لم يكلف العباد بالتعرف عليها ككيفية البرزخ والميزان والصراط والشجرة الخارجة من أصل الجحيم (1) ، فانّ ذلك كلّه من الأُمور الغيبية التي لا تصل إلى دركها أفهام العباد في هذه النشأة ، ويؤيد ذلك المعنى عدّة من الروايات. (2) 2. الأحكام التي لم يُبيّنها الشارع أصلاً ، لأجل التسهيل ، ويؤيده ما عن أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : « إنّ اللّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهِكُوها ، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها ». (3) 3. المعنى العام الشامل للمعارف والأحكام لكن بجامع انّه ممّا لم يبيّنه أصلاً. 1. إشارة إلى قوله سبحانه : ( إنّهاشَجَرَة تَخْرُج في أَصْلِ الجَحيم * طَلْعُها كأنّهُ رُؤوس الشَّياطين ) ( الصافات/64 ـ 65 ). 2. الكافي : 1/92 ، الحديث 1 ، و ص 103 ، الحديث 12. 3. نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم 105. (375)
4. ذلك المعنى لكن الأعم ممّا لم يبيّنها ، أو بيّنها لكن أخفاها الظالمون ، أو خفي لأجل حوادث مرّة من التقية وغيرها.
والاستدلال مبني على كون المراد من الموصول هو الأعم من المعارف والأحكام ، كما أنّه مبنيّ أيضاً على أنّ المراد من الحجب هو الأعم من حجبه سبحانه مباشرة ، أو حجب عباده الذي يصحّ اسناده إلى اللّه أيضاً كإسناد سائر أفعال العباد إليه إسناداً بالمباشرة. فإن قلت : إنّ ظاهر الحجب هو الحجب المباشري فيختص بما لم يُبيّن. قلت : إنّ ظاهره معارض بظهور لفظ الوضع الذي هو بمعنى الرفع لمكان لفظة « عن » والرفع فرع وجود الحكم وتشريعه ولولاه لما صحّ رفعه ، فيكون الحديث محتمل الوجهين ، فيسقط عن الدلالة ، بل يمكن ترجيح الأوّل بادّعاء كفاية وجود المقتضي للوضع لكنّه سبحانه لم يضعه تسهيلاً للعباد ، كما يمكن ترجيح الثاني بادّعاء انّ الحجب الناشئ من ناحية العباد منسوب إلى اللّه سبحانه كنسبة سائر الأفعال إليه. يقول سبحانه : ( وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللّهَ رَمى ) (1) ، على أنّه ربّما يكون الحجب معلولاً للحوادث المرّة كجريان السيل ، ووقوع الزلزال الّذين يسببان زوال الكتب فتصحُّ نسبته إلى اللّه سبحانه. 3. حديث السعة استدل الشيخ الأنصاري والمحقّق الخراساني بقوله ( عليه السَّلام ) : « الناس في سعة ما لا يعلمون ». وجه الاستدلال : انّ « ما » في قوله « ما لا يعلمون » يحتمل أحد وجهين : 1. انّها موصولة : و « لا يعلمون » صلة والضمير العائد إلى الموصول محذوف ، 1. الأنفال : 17. |
|||
|