|
|||
(421)
ولا منافاة في ترتيب النجاسة والحرمة على موضوعين ، أحدهما : خاص ، أي الميتة ؛ والآخر : عام ( غير المذكى ) وإن كان العام يغني عن الآخر ، وذلك لأنّ الاحناف قبل الإسلام كانوا يجتنبون الميتة ، كما ورد في شعر الأعشى ، ولمّا كان الموضوع أعم أُضيف إلى الميتة عنوان آخر وهو غير المذكّى بطريق شرعي.
وعلى ضوء ما ذكرنا يكفي استصحاب عنوان غير المذكّى في ترتّب الحرمة فقط ، لأنّها المترتبةُ على غير المذكّى في الآيات والرواية دون النجاسة ولذا قلنا في محله بأنّ المذبوح على غير الوجه الشرعي ، حرام لكونه غير مذكّى وليس بنجس. الإشكال الثاني : اختلاف القضية المتيقنة مع المشكوكة ويمكن تقريره بوجوه مختلفة : أ : انّ موضوع القضية الأُولى هو الحي ، وموضوع القضية الثانية الميت ، ولا يصحّ أن تعد الحياة والموت من حالات الموضوع ، ولا وحدة بين الحيوان والجماد. ب : انّ الاستصحاب في المقام من قبيل استصحاب القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، كاستصحاب الإنسانية فيما إذا كان في الدار زيد ، ثمّ علمنا بخروجه واحتملنا قيام فرد آخر مكانه عند الخروج ومثله المقام فإنّ عدم التذكية كان قائماً بالحي ، وقد ارتفع واحتملنا حلول فرد آخر مكانه عند زهوق الروح لأجل احتمال اختلال بعض الشروط ( القابلية ) فيستصحب الكلي. وحجّية مثل هذا النوع من الاستصحاب محلّ تأمل ، لأنّ الكلي المتحقّق في ضمن الفرد الأوّل غير الكلي المتحقّق في ضمن الفرد الثاني. ج : انّ القضية المتيقنة من قبيل القضية الموجبة ، لكن سالبة المحمول وهي عبارة عن جعل القضية السالبة المحصلة ، نعتاً للموضوع ، كما إذا قيل زيد هو ليس بقائم وفي المقام : « الحيوان ، الذي لم تزهق روحه بالكيفيّة المخصوصة » كان محكوماً بعدم التذكية ، لكن القضية المشكوكة ، عبارة عن القضية المعدولة ، أعني : (422)
الحيوان الذي ، زهق روحه بغير الشرائط المطلوبة ، واستصحاب القضية الأُولى وإثبات القضية الثانية من الأُصول المثبتة.
وإن شئت قلت : إنّ ماله حالة سابقة عبارة عن الحيوان الذي لم تزهق روحه بالكيفيّة وهو قطعي الارتفاع للعلم بزهوق روحه ، وما هو مشكوك الارتفاع ، أعني : الحيوان الذي زهقت روحه ، بغير الكيفية الشرعية ، فاقد للحالة السابقة ، لأنّ الشكّ في حدوثه وتحقّقه. هذه صور مختلفة لإشكال واحد وهو عدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة. استصحاب عدم القابلية ثمّ إنّ المعروف في المقام استصحاب عدم التذكية لكن نقل سيدنا الأُستاذ عن شيخه العلاّمة الحائري ـ قدّس سرّهما ـ انّه كان يتمسك في المقام بأصالة عدم القابلية الحاكم على أصالة عدم التذكية حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي ، لأنّ الشكّ في التذكية وعدمها ، نابع عن الشكّ في قابلية الحيوان للتذكية. وحاصل ما إفاده : انّ العوارض على قسمين ، عارض الماهية سواء كان لازماً كالزوجية للأربعة ، أو مفارقاً كالوجود بالنسبة إلى الماهية ، وعارض للوجود ، سواء كان لازماً كالنور بالنسبة إلى الوجود ، ومفارقا كالبياض والسواد بالنسبة إلى الجسم. ثمّ إنّ القابلية من عوارض وجود الحيوان ، ولكن تعرض للماهية بواسطة الوجود ، ويقال ماهية الغنم الموجود قابلة للتذكية ، وماهية الكلب الموجود غير قابلة ، وإذا شككنا في قابلية حيوان للتذكية أشرنا إلى ماهيته ، ونقول انّها قبل أن (423)
توجد لم تكن قابلة للتذكية ولو لأجل عدم الوجود ، ولكن انتقض العدم في جانب الوجود وعلمنا انّه صار موجوداً ولكن نشكُّ في انتقاض عدم القابلية إلى القابلية والأصل بقاؤه بحاله.
يلاحظ عليه : أوّلاً : قد ثبت في الفن الأعلى بأنّ ما لا وجود له لا ماهية له ، والماهية حدّ الوجود تنتزع من الشيء بعد تحقّقه ، وعلى ضوء هذا ، كيف يصحّ لنا الإشارة إلى ماهية الشيء المعدوم ؟ وثانياً : أنّ الأثر مترتب على التذكية وعدمها ، القابلية وعدمها ، غاية الأمر انّ القابلية جزء من أجزاء التذكية ، فحينئذ استصحاب نفي الجزء ، يلازم عقلاً ، نفي الكل ، ولا يلازمه شرعاً ويكون أشبه بالأصل المثبت. وثالثاً : أنّ الإشكال الثاني باق بحاله بصوره الثلاث ، لأنّ القضية المتيقنة ، قضية أشبه بالسالبة المحصلة فماهية هذا الحيوان لم تكن قابلة للتذكية لعدم وجودها والغرض إثبات استمرار العدم ، حتى بعد وجودها واستصحاب النفي التام لغاية إثبات النفي الناقص من الأُصول المثبتة. تفصيل للمحقق النائيني (1) ثمّ إنّ المحقّق النائيني فصّل في جريان أصالة عدم التذكية بين النظريتين : الأُولى : أن تكون التذكية أمراً وجودياً بسيطاً مسبَّباً عن الذبح بشرائطه نظير الطهارة المسببة عن الوضوء أو الغسل ، والملكية الحاصلة من العقد والإيجاب. فعلى هذه النظرية تجري أصالة عدم التذكية عند الشكّ ، لأنّه أمر بسيط مسبوق بالعدم والأصل بقاؤه على ما هو عليه. 1. فوائد الأُصول : 2/281. (424)
الثانية : أن تكون التذكية أمراً مركباً من أُمور ستة ، سادسها قابلية الحيوان للطهارة والحلية ، فعلى ذلك لا تجري أصالة عدم التذكية ، لأنّ الشكّ لو كان من ناحية الأُمور الخمسة فقد تحققت قطعاً ، وإن كان من جهة القابلية فليست لها حالة سابقة وجوداً وعدماً ، إلا باعتبار استصحاب العدم الأزلي.
يلاحظ على ذلك التفصيل : أنّ الظاهر جريان الأصل مطلقاً سواء كانت التذكية أمراً بسيطاً أو أمراً مركباً من أُمور ستة ، أو كانت هي الفري مشروطاً بالأُمور الباقية ، وذلك لأنّ الموضوع للطهارة والحلية ليس هو الأُمور الكثيرة بكثرتها وتفرقها ، بل الموضوع هو الأمر الموحّد من اجتماع الأُمور الستة ، أو الفري المشروط بالأُمور الخمسة والأمر الواحد بما هو واحد كان مسبوقاً بالعدم فيستصحب عدمه ، وما ذكره من التفصيل مبني على عدم اعتبار الوحدة في جانب الموضوع ولو بصورة الوحدة الحرفية التي ليس لها شأن إلا جمع المتفرقات وجعلها في إطار واحد ، مع أنّها أمر لا مناص عنها ، لأنّ الحكم الواحد يطلب لنفسه الموضوع الواحد لا المتفرق الذي لا ارتباط بين أجزائها. وبذلك ظهر جريان أصالة عدم التذكية على جميع التقادير مع غض النظر من الإشكال المتقدم. هذا كلّه حول الصورة الأُولى ، وإليك الكلام في الصورة الثانية. الصورة الثانية إذا شكّ في وجود القابلية للحلية ، بعد إحراز وجودها للطهارة ، فقد منع المحقّق الخراساني عن جريان أصالة عدم التذكية ـ بخلاف الصورة الأُولى ـ وقال بجريان أصالة الحلّ للشكّ في هذا الحيوان المذكّى حلال أو حرام ولا أصل فيه ، إلا أصالة الإباحة. (425)
أمّا جريان الأصل : فلعدم اعتبار الخصوصية الموجبة للحل مأخوذة في التذكية فلا تجري أصالة التذكية للعلم بوجودها ، وأمّا الثاني فلأنّه مشكوك الحلية والحرمة.
يلاحظ على الأمر الأوّل : عدم وضوح الفرق بين الصورتين ، فلأنّ الظاهر من تقسيم الشارع الحيوان إلى طاهر ونجس ، وحلال وحرام ، انّ للتذكية مراتب ، فمرتبة منها مؤثرة في الطهارة ومرتبة أُخرى مؤثرة في الحلية ، فمع الشكّ في تحقّق القابلية للحلية ، تجري أصالة عدم التذكية بالمعنى الثاني. نعم يرد على جريانه في هذه الصورة ما أوردنا على الصورة الأُولى. ويلاحظ على الأمر الثاني : أنّ أصالة الحلّ إنّما تجري فيما إذا كان الموضوع محكوماً حسب طبيعته بالحلية وشكّ في حرمته لعروض طوارئ خارجية ، ومثله الطهارة ، وأمّا إذا كان الموضوع حسب طبيعته محكوماً بالحرمة وكانت الحلية أمراً عارضاً عليه فلا تجري في مثله ولذلك ذهب الشيخ الأعظم وغيره إلى عدم جريان أصالة الإباحة في الدماء والأعراض والأموال وإن كانت الشبهة بدوية وذلك لأنّ الأصل فيها ، هو الحرمة وإنّما تعرض الحلية لها بأسباب خاصة فلا يجوز قتل إنسان باحتمال انّه مرتدّ ، أو النظر إلى المرأة باحتمال انّها من المحارم ، أو التصرف في مال لاحتمال انّه ماله. والفقيه إذا تتبع في الفقه وقف على تلك الضابطة ولذلك ذهب المشهور إلى عدم جريان أصالة الصحة في تصرّف غير الولي في مال اليتيم ، أو بيع الوقف لاحتمال عروض مسوّغ له وما ذلك إلا لأنّ الأصل في هذه الأُمور ، هو الحرمة. ومن هنا يعلم عدم جريان أصالة الحلية في كلتا الصورتين ، مع جريان أصالة الطهارة فيهما ، لأنّ الأصل في اللحوم هو الحرمة وإنّما يحكم عليها بالحلية لدليل خاص. (426)
فتلخص من مجموع ما ذكرناه : أنّه لا تجري أصالة التذكية في كلتا الصورتين لاختلاف القضيتين المتيقنة والمشكوكة ، وعندئذ تصل النوبة إلى الأُصول الحكمية فلا تجري أصالة الحلية ، لأنّ الأصل في اللحوم الحرمة ، وتجري أصالة الطهارة لأنّ الأصل في الأشياء الطهارة الذاتية فتتبعها الطهارة الشرعية.
الصورة الثالثة والرابعة إذا شكّ في شرطية شيء في التذكية ككون آلة الذبح حديداً ، أو شكّ في مانعية لها كالجلل مع ورود الذبح على الحيوان بعامة ما ثبت اعتباره ، فيقع الكلام في مقامين : 1. ما هو مقتضى الدليل الاجتهادي ؟ 2. ما هو مقتضى الأُصول العملية إذا لم يكن هناك دليل اجتهادي ؟ أمّا الأوّل : فالظاهر صحّة التمسّك بالإطلاق في نفي الشرطية والمانعية ، لأنّ الحلية تعلّقت بالمذكّى في الآية والرواية ، قال سبحانه : ( وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاّما ذَكَّيْتُمْ ) (1) وقوله : « إلا ما يكون ذكياً ذكّاه الذابح » (2) ، وليست التذكية في اللغة إلا الفري مع قابلية في الحيوان ، والمفروض صدق الأمرين وتحقّقهما ، فإذا شكّ في شرطية زائد أو مانعيته فالأصل عدمهما. نعم من قال بأنّ التذكية أمر بسيط حاصل من الأُمور الستة ، يكون الشكّ من قبيل الشكّ في المحصِّل ، نظير ما إذا قلنا بأنّ الطهور عبارة عن الطهارة النفسانية ، وتكون الغسلات والمسحات مع سائر الشرائط من قبيل المحصِّلات ، فيكون المرجع هو الاشتغال في كلّ ما شكّ في شرطيته أو مانعيته. 1. المائدة : 3. 2. الوسائل : 3 ، الباب 2 من أبواب لباس المصلي ، الحديث 1. (427)
لكن لا دليل على أنّه كذلك ، وقد مرّ انّ التذكية عبارة عن الفري مع أجزاء وشروط خاصة ، وقد ثبت شرطية ما ثبت ، ويكون المرجع في غيره ، هو البراءة.
ثمّ إنّ المحقّق الخوئي ذهب إلى عدم صحّة الرجوع إلى إطلاق دليل التذكية لنفي المشكوك قائلاً بأنّها ليست أمراً عرفياً كي ينزل الدليل عليه ويُدفع احتمال التقييد بالإطلاق ، كما كان الأمر كذلك في مثل قوله تعالى : ( أحلَّ اللّهُ البَيْع ) (1). (2) يلاحظ عليه : بعدم وضوح الفرق بين الأمرين بعد شيوعهما في العرف ، فكما أنّ تقييد البيع بشروط لا يخرجه من كونه أمراً عرفياً فهكذا تقييد التذكية ببعض الأُمور كذلك ، ولعلّ منشأ الخلط بين التذكية بالذال المعجمة ، والتزكية بالزاء أُخت الراء ، فالأُولى بمعنى الفري والذبح ، والثانية بمعنى الطهارة والتنزيه ، قال سبحانه : ( وَنَفْس وَما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّيها ) (3). فهي بالمعنى الثاني ليس أمراً عرفياً ، بخلاف التذكية في المقام فهو أمر عرفي غاية الأمر أضاف الشارع إليها شروطاً كنفس البيع. أمّا الثاني : أي مقتضى الأصل ، فالأصل البراءة لكون المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر فيرفع شرطية الأمر المشكوك أو مانعيته بالأصل. فإن قلت : لماذا لا يجري الأصل في ناحية التذكية ، فيتمسك بأصالة عدم التذكية ؟ قلت : لا شكّ في تحقّق التذكية إنّما الكلام في اشتراطها بوجود شيء أو عدمه الذي هو عبارة أُخرى عن مانعية الشيء الموجود. 1. البقرة : 275. 2. مصباح الأُصول : 2/313. 3. الشمس : 7 ـ 9. (428)
وإن شئت قلت : إنّ الشكّ في تحقّق التذكية الشرعية وعدمها نابع عن شرطية شيء أو مانعيته ، فإذا جرى الأصل في جانب الأصل السببي ، ارتفع الشكّ عن جانب الأصل المسببي كما لا يخفى.
صور الشبهة الموضوعية قد وقفت على أقسام الصور الأربع من الشبهة الحكمية ، وإليك الكلام في الشبهة الموضوعية ، وصورها أيضاً كالحكمية أربع. الصورة الأُولى : في اللحم المردّد بين الغنم والكلب إذا دار أمر اللحم بين كونه لحمَ غنم أو كلب ، فقد ذهب المحقّق الخراساني إلى جريان أصالة عدم التذكية حسب ما قرّره في الصورة الأُولى من الشبهة الحكمية فيكون محكوماً بالنجاسة والحرمة. وقد عرفت الإشكال في جريان الأصل وانّ الحقّ عدم جريانها ، وعندئذ تصل النوبة إلى الأصل الحكمي ، وهو أصالة الطهارة دون الحلية لما عرفت في المقام الأوّل ، وسنشير إليه في القسم الثاني. فإن قلت : لماذا لا نتمسك بعموم العام ، وهو انّ كلّ حيوان قابل للتذكية بمعنى الطهارة إلا الكلب والخنزير ؟ قلت : وجه عدم التمسك واضح ، لأنّه من قبيل التمسك بعموم العام مع كون الشبهة مصداقاً للمخصص لدوران اللحم المذكور بين كونه داخلاً تحت العام أو داخلاً تحت المخصص. فلا مناص من التمسك بأصالة الطهارة ويكون الحكم بطهارته حكماً ظاهرياً. (429)
الصورة الثانية : في اللحم المردّد بين الغنم والأرنب
إذا دار أمر اللحم بين كونه لحم غنم أو لحم أرنب مع العلم بفري أوداجه بشرائطه الخاصة ، فقد عرفت عدم جريان أصالة عدم التذكية ، فينتهي الأمر إلى الأُصول الحكمية. أمّا طهارته فلا شكّ فيها لفرض انّ الحيوان على كلّ تقدير واجد للقابلية التي تؤثر في الطهارة إنّما الكلام في حلّيته ، وبما انّ الأصل الأوّلي في اللحوم هو الحرمة ، فلا تجري أصالة الحلية ، وقد عرفت تفصيلها في الصورة الثانية من الشبهة الحكمية. وأمّا التمسّك بأصالة الصحّة في فعل المسلم فهو يثبت الطهارة لا الحلية ، إذ لا منافاة بين صحّة فعل المسلم وحرمة لحمه ، لأنّ للتذكية مراتب مختلفة ، ولها آثار فيكفي في صيانة فعل المسلم من اللغوية ترتّب الأثر عليه وهو صحّة التذكية المؤثرة في الطهارة. الصورة الثالثة : فيما إذا شكّ في وجود الشرط إذا علمنا بورود التذكية على الحيوان القابل للطهارة والحلية لكن شكّ في تحقّق الشرط وعدمه فالحقّ فيه التفصيل. فلو شكّ في كون الذابح مسلماً فلا تجري أصالة الصحّة في فعله. وأمّا إذا كان الذابح مسلماً وشككنا في رعايته سائر الشرائط ، فالأصل الصحّة ويترتب عليه الطهارة والحلية. (430)
الصورة الرابعة : فيما إذا شكّ في وجود المانع
إذا علمنا بورود التذكية على حيوان قابل للطهارة والحلية ولكن شككنا في اقتران الحيوان بالمانع كعروض الجلل وغيره ، فالأصل العدم فيقال : إنّ هذا الحيوان لم يكن جلاّلاً ، فالأصل بقاؤه على ما هو عليه. فقد خرجنا بهذه النتيجة : إنّ اللحم المطروح طاهر في الصورة الأُولى والثانية فحسب ، وطاهر وحلال في الصورتين الأخيرتين على غرار ما ذكرناه في المقام الأوّل. التنبيه الثاني : في حسن الاحتياط حين التردد بين الوجوب وغير الاستحباب اتّفقت كلّمتهم على الأُمور التالية : 1. يحسن الاحتياط في الأُمور التوصلية ، كدفن الميت المردّد بين كونه مسلماً أو كافراً. 2. يترتب الثواب على الاحتياط مهما تحقّق ، ولعلّه لاستقلال العقل على ترتّب الثواب على الانقياد وإن لم يستقل بالعقاب في التجري المجرّد عن الهتك ، وذلك لأنّ الإنسان المحتاط بصدد تعظيم المولى وتكريمه ، وخضوعه له حتى فيما لم يعلم انّه واجب أو حرام فيستحق الثواب أكثر ممن لا يُحركه إلا العلم بالوجوب ، بخلاف الثاني فانّه مجرد عن أيّ هتك وإطاحة بالمولى غاية الأمر شرب الماء بتصور انّه خمر ، مع عدم كونه بصدد هتكه. وإلا خرج عن باب التجري. (431)
3. إمكان الاحتياط في العمل العبادي المردد بين الوجوب والاستحباب لإحراز الأمر وإن كانت الخصوصية مجهولة.
4. اختلفت أنظارهم في إمكان الاحتياط في العمل العبادي عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب باعتبار أنَّ مقوم العبادة هو قصد القربة ، بامتثال أمر المولى والمفروض عدم إحرازه فلا يمكن الاحتياط ، قال الشيخ : وفي جريان الاحتياط عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب وجهان ، أقواهما العدم ، لأنّ العبادة لابدّ فيها من نيّة التقرب المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلاً وإجمالاً. (1) فالكلام في هذا التنبيه في تصحيح الاحتياط في هذا النوع من العمل وقد ذكروا في وجه تصحيحه وجوهاً ندرسها واحداً تلو الآخر : 1. كشف الأمر عن حسن الاحتياط يكفي في تصحيح العمل ، حسن الاحتياط عقلاً وهو يكشف عن تعلّق الأمر به شرعاً ، فيقصد المكلّف ذاك الأمر المستكشف. أورد عليه بأمرين : 1. ما أورده الشيخ وتبعه المحقّق الخراساني بأنّ الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقي والإطاعة الواقعية في معلوم التكليف إرشاديّ محض لا يترتب على موافقته ومخالفته أزيد ممّا يترتب على نفس المأمور به أو عدمه ، كما هو شأن الأوامر الإرشادية فلا طاعة لهذا الأمر الإرشادي ولا ينفع في جعل الشيء عبادة ، إذ لا إطاعة له حتى يقصد إطاعته. 2. ما ذكره المحقّق الخراساني من استلزام هذا التصحيح الدور ، وذلك لأنّ حسن الاحتياط متوقف على نفس الاحتياط توقفَ العارض على معروضه 1. الفرائد : 228. (432)
وإمكان الاحتياط في المورد موقوف على وجود الأمر ، المتوقف على الحسن ، لأنّ المفروض استكشاف الأمر بالحسن ، وإلى ذلك يشير بقوله : بداهة توقف الحسن على الاحتياط توقفَ العارض على معروضه ، فكيف يعقل أن يكون الحسن من مبادئ ثبوت الاحتياط ؟! (1)
2. استكشاف الأمر عن ترتّب الثواب وهذا هو الجواب الثاني الذي أشار إليه المحقّق الخراساني من استكشاف الأمر عن ترتّب الثواب على الاحتياط ، الكاشف عن وجود الأمر ، والفرق بينه وبين كشفه بحسن الاحتياط ، انّ الكشف في المقام إنّي ، لأنّ الثواب من آثار الأمر ، وهناك لمّي ، لأنّ حسن الاحتياط صار سبباً للأمر به ، ويرد عليه ما ذكرناه في الوجه الأوّل من عدم كونه أمراً مولوياً فلا إطاعة له حتى يقصد إطاعته ، أضف إليه انّ ترتّب الثواب أوّل الكلام فانّه فرع إمكانه والمفروض وجود الشكّ في إمكانه. 3. الاحتياط مجرّد الفعل عدا نيّة القربة وهذا هو الجواب الثالث الذي أشار إليه الشيخ أيضاً بقوله : إنّ المراد من الاحتياط هو مجرّد الإتيان بجميع ما يعتبر فيها ما عدا قصد القربة. (2) يلاحظ عليه : أنّ البحث هو الاحتياط في محتمل العبادة ، فلو أتى بالعمل مجرّداً عنها ، فلا يكون احتياطاً كاملاً بل احتياطاً نسبياً غير مقيد ، لأنّه لو كان عبادة لا يفيد إلا إذا صدر عن المكلّف عن نيّة القربة. 1. كفاية الأُصول : 2/194 ، وقد جعل المراجع مكان الضمائر في عبارته طلباً للإيضاح. 2. الفرائد : 229 ، وتركنا ذيل كلامه تبعاً للكفاية. (433)
4. كفاية الإتيان باحتمال الأمر
وهذا هو الجواب الرابع ، وقد أشار إليه الشيخ في ضمن كلماته وقال : والتحقيق انّه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبية في صحّة العبادة فيما لا يعلم المطلوبية ولو إجمالاً. (1) وحاصله : انّه يكفي في تصحيح العبادة ، الإتيان بها رجاء وباحتمال تعلّق الأمر به ، وذلك لأنّ الكلام في العبادة المحتملة ويكفي فيها احتمال الأمر. وبعبارة أُخرى : انّ قصد الأمر من القيود التي يستقل بها العقل وليس من القيود التي يمكن أخذها في المتعلق لما عرفت وجهه تفصيلاً في الجزء الأوّل والعقل مستقل بكفاية قصد الأمر الاحتمالي في العبادة المحتملة. 5. وهنا جواب خامس ، وهو انّه لا يعتبر في صحّة العبادة قصد الأمر ، بل يكفي الإتيان بها للّه سبحانه ، وهذا هو الذي اعتمدنا عليه في باب العبادات ، فلو كان ما ذكرنا كافياً في العبادات القطعية ومغنياً عن قصد الأمر القطعي فليكن كافياً في العبادات المحتملة. وهناك جواب سادس ، وهو قصد الأمر الاستحبابي المستنتج من أخبار « من بلغ » على القول بدلالتها على استحباب نفس العمل ، إذ أتى به الإنسان رجاء درك الثواب وحيث إنّ هذه الأخبار وقعت مورداً للنقاش من هذا الجانب نفرّدها بالبحث. 1. الفرائد : 229. (434)
التنبيه الثالث : التسامح في أدلّة السنن
ولنقدم أُموراً : 1. في السير التاريخي للمسألة اشتهرت بين الأصحاب مسألة : « التسامح في أدلّة السنن » ويراد منها انّه لا يعتبر في ثبوتها والعمل بها ، ما يشترط في ثبوت غيرها كالواجبات والمحرمات من كون الراوي ثقة ضابطاً ، بل يكفي وروده ولو عن طريق ضعيف والمسألة معنونة في كلمات الفريقين ، غير انّهم يعبِّرون عن المسألة بقولهم : « العمل بالخبر الضعيف في فضائل الأعمال » وقد ألمع إليها الشهيد ( 734 ـ 786 هـ ) في الذكرى ، وابن فهد الحلي ( المتوفّى 841 هـ ) في عدة الداعي ، والشهيد الثاني ( المتوفّى 966 هـ ) في درايته ، وبهاء الدين العاملي ( المتوفّى 1030 هـ ) في أربعينه ، إلى أن وصلت النوبة للشيخ الأنصاري ، فألّف رسالة مستقلة فيها طبعت في آخر كتاب المتاجر له. وأدرجها تلميذه الشيخ موسى التبريزي في حاشيته على الفرائد ، باسم « أوثق الوسائل » فلاحظ. 2. وجود ملاكات مختلفة في المسألة وهل المسألة أُصولية أو فقهية ، أو كلامية لكلّ وجه ولا يترتب ثمرة لذلك ، فلو كان الكلام مركزاً على عدم اعتبار شرائط الحجية في العمل بالسنن المروية ، بل يكفي مجرّد ورود الخبر ، فالمسألة أُصولية ، ولو كان الكلام دائراً حول ثبوت الاستحباب بمجرّد الورود ، وإن لم يكن مطابقاً للواقع بتصور عروض مصلحة غير إلزامية على الفعل عند ذاك ويكشف عنها ترتّب الثواب على الفعل ، تكون المسألة فقهية ، وأمّا إذا كان الكلام حول ثبوت الثواب وعدمه تكون المسألة كلامية. (435)
3. الاستدلال عليها بطرق مختلفة
ثمّ إنّه ربما يستدل على القاعدة بالإجماع وحكم العقل والأولى الاستدلال عليها بالروايات ، لأنّ الإجماع على فرض ثبوته ، مدركيّ مستند إلى نفس الروايات ، وأمّا العقل فلا يستقل إلا بالرجحان ، وترتّب الثواب بما هو مصداق للانقياد ، ولا يستقل على خصوص الثواب الوارد في الرواية ، كما لا يستقل باستحباب نفس العمل فالأولى ذكر الروايات ، والتكلّم في حدود دلالتها. وقد جمعها الشيخ الحرّ العاملي في مقدمات وسائل الشيعة. أ : رواية هشام بن سالم إنّ لهشام بن سالم رواية واحدة عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) يرويها تارة بلا واسطة ، وأُخرى بواسطة صفوان ، والأقرب انّها رواية واحدة ، وانّ التعدّد أيضاً محتمل. 1. روى الكليني بسند صحيح عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « من سمع شيئاً من الثواب على شيء ، فصنعه ، كان له وإن لم يكن على ما بلغه ». (1) روى البرقي في المحاسن عن علي بن الحكم ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) قال : « من بلغه عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) شيء من الثواب ، فعمله كان أجر ذلك له ، وإن كان رسول اللّه لم يقله ». (2) وعلي بن الحكم الكوفي من أصحاب الإمامين : الرضا والجواد عليهما السَّلام ، وهو ثقة كما في الفهرست وهو متحد مع علي بن الحكم الأنباري ، وابن الزبير ، بشهادة انّ الصدوق ذكر طريقه إليه ولم يصفه بأحد الأوصاف الثلاثة : الكوفي ، الأنباري أو ابن الزبير ، وهذا يكشف عن الاتحاد ، وهناك قرائن أُخرى للاتحاد لاحظ المصادر. (3) والروايتان متحدتان لوحدة المرويّ 1. الوسائل : الجزء 1 ، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 6 ، 3. 2. الوسائل : الجزء 1 ، الباب 18 من أبواب مقدمة العبادات ، الحديث 6 ، 3. 3. لاحظ قاموس الرجال ، ومعجم رجال الحديث : 12/411 ، 426. |
|||
|