|
|||
(646)
الواقع.
وقد عرفت أنّ العقاب فرع البيان الواصل ، والمفروض أنّه لم يكن كذلك. فإن قلت : إنّه ترك الواقعة بلا عذر ولا حجّة ، وكون المقام خالياً عنالدليل ، أووجود الدليل المخالف للواقع لا يعد عذراً ما لم يستند إليه المكلّف. قلت : ليس العقاب مترتباً على مطلق ترك الواقع بلا عذر ، بل هو مترتب على ترك الواقع المنجز ، وهو رهن وجود البيان الواصل ، والمفروض عدمه ، وبالجملة كونه معذوراً في نفس الأمر لأجل عدم البيان الواصل يكفي في معذوريته عند العقلاء. نعم كان سيدنا الأُستاذ غير جازم بكون العذر الواقعي المغفول عنه ، غير الملتفت إليه رافعاً للعقاب ، ولكن الرائج بين العقلاء هو المعذورية ، وقد ذكر الشيخ في مبحث التجري ما يفيد المقام ، حيث قال : إنّ عدم العقاب لأجل أمر غير اختياري ليس بقبيح وإنّما القبيح هو العقاب لأمر اختياري. (1) وأمّا عدم التفاته إلى ذلك ، أو عدم استناده إليه فإنّما يحقِّق عنوان التجري ، وهو خارج عن موضوع بحثنا. وأمّا الصورة الخامسة : فالحقّ صحّة العقوبة لتمامية البيان في المورد الذي خالفه وقد كان بيان المولى فيه تاماً ، أعني : وجوب الدعاء عند رؤيته لأنّه خالف الواقع عن اختياره لافتراض أنّه لو فحص لوصل إلى ذلك البيان. نعم لا يصحّ العقاب بالنسبة إلى التدخين الذي لم يكن هناك بيان واصل. 1. الفرائد : 5. (647)
في المقدمات المفوِّتة
ثمّ إنّ هنا إشكالاً معروفاً وهو : انّ التكاليف المشروطة والموقتة إنّما تتنجز بعد تحقّق الشرط وحصول الوقت ، ولا تكون المقدمة العلمية ـ أعني الفحص ـ واجباً إلا بعد حصول الشرط ، فلو افترضنا أنّ المكلّف لم يتعلم قبل الوقت لعدم وجوب المقدمة ، ولم يتمكن عنه بعد وجوبه فيلزم عدم صحّة العقاب مع أنّه على خلاف ما اتّفقوا عليه ، نظير ذلك أحكام الشكوك حيث لم يقم دليل على تعلّم أحكامها قبل الوقت لعدم وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، وأمّا بعد دخوله ووجوب ذيها فربما لا يتمكن خصوصاً إذا دخل الصلاة. وأمّا الجواب فبوجوه : الوجه الأوّل : نختار انّ التعلم ـ لو قلنا بوجوب المقدمة ـ واجب قبل حصول الشرط ، وذلك لأنّ كون وجوب المقدمة تابعاً لوجوب ذيها ليس بمعنى ترشح وجوبها عن وجوبه ، أو ترشح تعلّق الإرادة بها عن إرادته ، بل لكلّ من الوجوبين والإرادتين مباد ومقدمات بها يتكون وجوبهما وإرادتهما ، وعلى ذلك فلو وجدت المبادئ في مورد المقدمة قبل الوقت يحكم بوجوبها سواء وجب ذوها أم لا ، والمقام من هذا القبيل ، فانّ المولى لما وقف على توقف امتثال الواجب المشروط على الفحص قبل حصول الشرط ، وأنّ ترك التعلم يوجب سلب القدرة عنه حال تحقّق الشرط ، تنقدح في نفسه إرادتها وإيجابها ، وإن لم تكن تلك المبادئ موجودة في ذيها. ولا يراد من الملازمة تحقّق الإرادتين أو الوجوبين في زمان واحد مثل الزوجية والأربعة ، بل المقصود عدم جواز التفكيك بينهما في مجال الطلب والإرادة فلو تقدم طلب أحدهما على طلب الآخر لا تنثلم به الملازمة. الوجه الثاني : حكم العقل بوجوب التعلم ـ وإن لم يتعلق به الوجوب شرعاً ـ (648)
لاستقلال العقل بذلك ، فلو ترك أو تساهل في التعلم وانتهى إلى ترك الواجب يعدُّ مقصراً في مجال المولوية والعبودية ، ولأجل ذلك أفتى الفقهاء بوجوب تعلّم أحكام الشكوك المتعارفة التي تعم بها البلوى.
وبالجملة المقدمات المفوِّتة لغرض المولى يحكم العقل بوجوب تحصيلها وإن لم تكن واجبة شرعاً ، لأنّ حفظ غرض المولى ليس بأقل من حفظ غرض العبد فكما هو يقدم على المقدمات المفوتة في محلها فكذلك في أغراض المولى. ولذلك يجب على الجنب ، الغسل قبل الفجر لأجل عدم إمكان درك الفجر بالطهارة إلا بالإتيان به قبل وجوب ذيه ، كما أنّه يجب السير إلى الحج قبل الموسم لأجل عدم إمكان امتثال أمر المولى إلا بالسير قبله ، ففي جميع تلك الموارد يحكم العقل بلزوم تحصيل المقدمة المفوتة. هذان الجوابان موافقان للتحقيق غير أنّ الجواب الأوّل مبني على وجوب المقدمة ، دون الثاني فأنّه يمشي وإن لم تكن المقدمة واجبة. الوجه الثالث : إرجاع الواجب المشروط إلى المعلّق وحاصل هذا الوجه ، هو إرجاع الواجب المشروط إلى الواجب المعلّق الذي يكون الوجوب فيه فعلياً والواجب استقبالياً. وعلى ذلك فوجوب صلاة الظهر قبل دلوك الشمس فعلي وإن كان الواجب استقبالياً ، كما التزم بعضهم به في الحجّ وأنّ الوجوب قبل موسم الحجّ فعلي وإن كان الواجب استقبالياً ، وعلى ذلك يجب تحصيل المقدمات لكون الوجوب فعلياً. فإن قلت : إرجاع الواجب المشروط إلى الواجب المعلق ، يوجب لزوم تحصيل عامة المقدمات قبل الوقت ، سواء كانت المقدمة علمية كالتعلم ، أو وجودية (649)
كالستر والطهارة الخبثية والحدثية ، إلى غير ذلك من المقدمات الوجودية.
قلت : إنّ الواجب المعلق عبارة عن كون الوجوب فيه فعلياً والواجب استقبالياً ، ولزوم تحصيل المقدمات قبل الوقت ، تابع لكيفية دخلها في الملاك ، فتارة تكون دخيلاً فيه بنحو التحصيل ، وأُخرى بنحو الحصول ، ففي الأوّل يجب التحصل دون الثاني ، ولذلك يجب التعلّم ولا يجب سائر المقدمات. وإلى ما ذكرنا من الإشكال والجواب يشير المحقّق الخراساني بعبارته التالية : ولكنّه قد اعتبر على نحو لا تتصف مقدماته الوجودية عقلاً بالوجوب قبل الشرط أو الوقت ، غير التعلم فيكون الإيجاب حالياً وإن كان الواجب استقبالياً قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف بالوجوب شرطه ( كالاستطاعة ) ولا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته. (1) يلاحظ على هذا الجواب : انّه على خلاف ظاهر الأدلّة فقوله سبحانه : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) (2) فالمتبادر دخول تعلّق الوجوب بدلوك الشمس ، وانّه لا وجوب قبل الدلوك كما هو المتبادر من آية الصوم : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْط الأَبْيَض مِنَ الْخَيْطِ الأَسْود مِنَ الْفَجْر ). (3) الوجه الرابع ذهب المحقّق الأردبيلي وتلميذه إلى أنّ وجوب التعلم واجب نفسي تهيئي ، وبهذا تخلص عن الإشكال في الواجب المشروط ، فوجوب التعلّم ليس وجوباً 1. كفاية الأُصول : 2/259. 2. الاسراء : 78. 3. البقرة : 187. (650)
مقدّمياً حتى يتبع حدوثاً وبقاءً حدوث وجود ذيها ، بل واجب نفسي ، غاية الأمر المطلوب تهيّؤ المكلّف للعمل بالأحكام ، وعلى ذلك فالعقاب على ترك التعلم فانّ المستتبع للعقاب إنّما هو ترك الواجب النفسي لا ترك الواجب الطريقي وعندئذ يرتفع الإشكال.
يلاحظ عليه بوجوه : 1. انّ القول بأنّ التعلّم واجب نفسي تهيؤي جمع بين الضدين ، إذ لو كان الملاك قائماً به فلماذا وصف بأنّه تهيؤي للغير ؟ وإن لم يكن الملاك قائماً به ، فلماذا يكون واجباً نفسياً ؟ فإن قلت : إنّ صلاة الظهر واجب نفسي وفي الوقت نفسه مقدمة لصحّة صلاة العصر. قلت : إنّ صلاة الظهر بما هي هي واجب نفسي فقط ، نعم تقدّم صلاة الظهر على صلاة العصر مقدمة لصحّة الصلاة الثانية ، فما هو الموضوع للوجوب النفسي ، غير الموضوع للوجوب المقدّمي بخلاف المقام فانّ التعلم بما هو هو واجب نفسي ، وفي الوقت نفسه تهيؤي. 2. لو ترك الفحص وخالف الواقع مع وجود البيان الواصل فالقول بأنّ العقاب لترك السؤال والتعلم دون مخالفة الواقع ، بعيد جداً ، والقول بالعقابين أبعد ، فلا محيص عن كون العقاب على ترك الواقع ومخالفته المنجز بمجرّد احتمال وجود البيان الواصل. 3. انّ ما ذكراه مخالف لظهور الأدلّة وقد مضى قوله ( عليه السَّلام ) في تفسير قوله تعالى : ( فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَة ) انّه يقال للعبد هل علمت ؟ فإن قال : نعم. يقال : فهلاّعملت ؟ وإن قال : لا. قيل هلا تعلّمت حتى تعمل ؟ إلى غير ذلك من الروايات التي مرّ ذكرها ، التي تنادى بوضوح كون العلم مقدمة للعمل نعم معرفة (651)
اللّه وصفاته وأفعاله ، خارجة عن الموضوع فانّها واجبة عقلاً والمطلوب فيها هو العقيدة.
الموضع الثالث : في صحّة عمل تارك الفحص عنوان البحث يعرب عن اختصاصه بالمجتهد الذي عمل بالأصل قبل الفحص ، فهل يحكم على عمله بالصحة أو لا ، أو فيه تفصيل ؟ ولكنّ ملاكه يعمّ المقلِّد الذي عمل بلا تقليد ولا احتياط. وقد طرح السيد الطباطبائي كلا العنوانين في كتابه العروة الوثقى في أحكام التقليد في المسألة السابعة ، غير أنّه خصّها بما إذا لم ينكشف الخلاف ، كما خصّ المسألة السادسة عشرة بما إذا انكشف الخلاف ، والمقصود في المقام هو ما إذا انكشف الواقع ، لأنّ حكم الموضوع قبل الانكشاف واضح ، وهو أنّه لا يصحّ له أن يقتصر بما عمل بحكم العقل ، لعدم المُؤمِّن من العقاب ، وهذا هو المراد من حكم السيد الطباطبائي على عمله بالبطلان. ثمّ الصور المتصورة فيما إذا انكشف الخلاف أربع : الصورة الأُولى إذا انكشف أنّ العمل كان مخالفاً لفتوى من يجب الرجوع إليه حين العمل وفتوى من يجب عليه الرجوع فعلاً ، فيحكم بالبطلان لعدم الدليل على الصحّة ، فيجب تحصيل المؤمِّن من العقاب ، ولا يحصل إلا بتطبيق العمل على الحجّة الفعلية. الصورة الثانية إذا كان العمل موافقاً لفتوى من كان عليه الرجوع حين العمل ، وفتوى من (652)
يجب عليه الرجوع فعلاً وذلك لموت الأوّل وتعيّن الرجوع إلى المجتهد الحي فيحكم بالصحة ، كما في المعاملات مطلقاً ، وفي العبادات إذا تمشّت منه القربة ، لأنّ الصحّة في الأُولى رهن المطابقة ، وفي الثانية كذلك بشرط حصول قصد القربة.
الصورة الثالثة أن يكون العمل موافقاً لفتوى من كان الرجوع إليه واجباً حين العمل ، ومخالفاً لفتوى من يجب عليه الرجوع فعلاً ، ففيه وجهان : الأوّل : الصحّة ، لكونه موافقاً لرأي من كان الرجوع إليه واجباً ، لأنّها تدور على موافقة العمل للواقع والكاشف عنها رأي المجتهد آنذاك. الثاني : البطلان ، وذلك لأنّ الحكم بالصحة فرع الاستناد إلى الحجّة الشرعية حين العمل حتى يدخل في معقد الإجماع على صحّة عمل العامي المستند لرأي المفتي فلا يضرّه تبدل رأيه أو موته ورجوعه إلى من يخالفه في الرأي ، لوجود الإجماع على الإجزاء والمفروض أنّه لم يستند إليه ، حتى يدخل في معقد الإجماع ، وانحصر الطريق إلى كشف الموافقة والمخالفة في رأي المجتهد الحيّ ، أعني : من يجب عليه الرجوع ، والمفروض أنّ العمل حسب نظره باطل ، فلابدّ من تطبيق العمل على وفق رأيه. وبذلك يعلم حكم ما إذا فاتت فريضة الإنسان وأراد القضاء ، فانّه يجب عليه تطبيق العمل على رأي من يجب الرجوع إليه حين القضاء ، لا على رأي من كان عليه الرجوع حين الفوت ، وذلك لأنّ الفائت وإن كان هو الواجب الواقعي إلا أنّ الطريق إليه هو رأي المجتهد الحي ، لا رأي من مضى وتُوفِّي فانّه ليس بحجّة. (653)
الصورة الرابعة
عكس الثالثة ، فيحكم على العمل بالصحة لقيام الطريق على كون العمل مطابقاً للواقع. وبذلك يعلم حكم المجتهد ، فإذا كان عمله مطابقاً لما استنبطه من الحكم بعد العمل فيحكم بالصحة دون ما إذا كان مخالفاً له. وما ذكرنا هو الضابطة في الحكم بالصحة والبطلان لكن اتّفق الأصحاب على صحّة عمل الجاهل في موضعين إذا خالف الواقع وعدم جواز الإعادة مع الحكم بالعقاب. 1. الإتمام موضع القصر دون العكس. 2. الجهر في موضع المخافتة وبالعكس. فوقع الكلام في كيفية الجمع بين الصحّة واستحقاق العقاب ، فانّ الحكم بالصحّة ، آية القبول ولا معنى معه للعقاب. وبعبارة أُخرى ، انّ الجمع بين عدم الإعادة والقضاء ، واستحقاق العقاب ، جمع بين المتناقضين ، لأنّ الحكم بالأوّل دليل على أنّ العمل واف بالمصلحة الفائتة الكامنة في العمل بالواقع ، ولذلك حكم عليه بعدم الإعادة والقضاء ، كما أنّ الحكم بالعقاب دليل على عدم وفاء العمل المأتي به ، بالمصلحة الفائتة الكامنة في العمل بالواقع. ومع ذلك فكيف يجمع بين الأمرين. وقد حاول المحقّقون من عصر الشيخ الكبير كاشف الغطاء ، إلى عصرنا ، أن يجمعوا بين الصحّة والعقاب بوجوه ، نذكر ما ذكره الشيخ الأنصاري ، ثمّ نردفه ببعض الكلمات. قد أجاب الشيخ عن الإشكال باحتمالات ثلاثة : (654)
أ : منع تعلّق التكليف فعلاً بالواقع المتروك ، وأنّ المأتي به هو المأمور به.
ب : منع تعلّقه بالمأتي به ، وانّ الواجب هو الواقع المتروك. ج : منع التنافي بينهما ، بالأمر بالواقع المتروك أوّلاً ، والمأتي به ثانياً عند عصيان الأمر الأوّل ، وهذا هو المسمّى بالترتب. وردّ الأوّل : بأنّه خلاف ظاهر المشهور ، حيث إنّهم يقولون ببقاء التكليف المجهول بالنسبة إلى الجاهل. وردّ الثاني : بأنّ الظاهر من الأدلّة أنّ المأتي به هو المأمور به ، حيث ورد في من جهر محل المخافتة أو بالعكس ، « وقد تمّت صلاته ». (1) والثالث : مبني على صحّة الترتّب أوّلاً ، وليس المقام من موارده ثانياً. (2) وقد اختار المحقّق الخراساني الوجه الثاني من هذه الوجوه ـ أي انّ الواجب هو الواقع المتروك ـ وأوضحه بقوله : إنّما حكم بالصحة لأجل اشتمال غير المأمور به على مصلحة تامّة لازمة الاستيفاء في نفسها ، مهمة في حدّ ذاتها ، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر ، وإنّما لم يؤمر بها ، لأجل أنّه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل الأتم. وأمّا الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكّن من الإعادة فلأنّها بلا فائدة ، إذ مع استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في 1. إشارة إلى ما رواه الصدوق عن أبي جعفر ( عليه السَّلام ) في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه ، وأخفى فيما لا ينبغي الإخفات ، فقال : أيّ شيء ذلك فعل تعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، وإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه ، وقدتمت صلاته. الوسائل : 4 ، الباب 26 من أبواب القراءة ، الحديث 1. 2. الفرائد : 408 ، وجه عدم كونه من موارده لأنّه فيما إذا كان هناك أمران أحدهما أهم والآخر مهم ، وكان الاشتغال بالمهم عصياناً للأوّل وليس المقام كذلك. (655)
المأموربه. (1)
وهو قدَّس سرَّه دفع الإشكال بحذافيره. أمّا الصحّة فلأجل عدم توقفها على الأمر ، بل يكفي فيها الملاك وهو اشتمال العمل على مصلحة تامة ولازمة الاستيفاء ، وإن كانت دون الأُخرى ، وأمّا عدم الإعادة فللتدافع بين الملاكين ، كما إذا أمر المولى عبده بإطعام الضيف باللحم المشويّ فأطعمه بالخبز والجبن ، فلا يبقى مجال لإعادة الإطعام ، وأمّا العقاب فلأنّه ترك المأمور به المشتمل على المصلحة الكاملة عن تقصير. وأمّا ما استظهره الشيخ من أنّ ظاهر الأوّل هو كونه مأموراً به ، فلا ظهور لقوله : « تمّت صلاته » سوى في الصحّة والقبول ، لا في كونه مأموراً به ، ويؤيده ما ورد في نفس الرواية وفي رواية أُخرى قوله : « إذا فعل ذلك ناسياً أو ساهياً فلا شيء عليه » فهو ظاهر في قبول المأتي به مكان الواقع إرفاقاً ومنّة. وهذا الجواب أوضح الوجوه الثلاثة. ما هو المختار عندنا في حلّ الإشكال الظاهر أنّ الأجوبة الثلاثة نابعة من عدم الرجوع إلى الروايات ، إذ معه يظهر ما هو الحقّ في الجواب فنقول : إنّ الجواب الماضي كان مبنيّاً على أنّ الرباعية أقلُّ مصلحة من الثنائية ، ولكن الظاهر من الروايات تساويهما في المصلحة ، وإنّما أمر المسافر بالثنائية لغاية التخفيف ، روى الصدوق بسند معتبر عن الفضل بن شاذان في حديث العلل التي سمعها من الرضا ( عليه السَّلام ) قال : إنّ الصلاة إنّما قصرت في السفر لأنّ الصلاة المفروضة أوّلاً هي عشر ركعات ، والسبع إنّما زيدت فيها فخفّف اللّه عزّوجلّ عن 1. الكفاية : 2/161. (656)
العبد تلك الزيادة لموضع سفره وتعبه ونصبه ، واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته ، لئلاّ يشتغل عمّا لابدّ منه من معيشته ، رحمة من اللّه عزّوجلّ وتعطفاً عليه .... (1)
وعلى هذا لما لم تكن الرباعية بأقلّ مصلحة من الثنائية وكان الأمر بالإعادة يناقض غرض الشارع ، قَبِلَ الرباعية مكانها فيختلف هذا الجواب عن السابق بأمرين : 1. تساوي الصلاتين في المصلحة. 2. عدم الأمر بالإعادة لأجل كونها مخالفة لغرضه الذي هو التسهيل وتنافيه الإعادة. وأمّا العقاب ، مع إمكان الإعادة في الوقت ، فلم يرد فيه دليل صالح ، وإن ادعي الإجماع وليس في الروايات منه عين ولا أثر ، والأصل في ذلك صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم قالا : قلنا لأبي جعفر ( عليه السَّلام ) رجل صلى في السفر أربعاً أيعد أم لا ؟ ، قال : « إن كان قرئت عليه آية التقصير ، وفسّرت له فصلّى أربعاً أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه ». (2) فإن قلت : لو كانت المصلحة متساوية ، فلماذا لا يجوز الإتمام للعالم بالحكم مع وجود الملاك به ؟ قلت : إنّ العقل يحكم بحفظ أغراض الشارع ، وقد عرفت ما هو الغرض له في الأمر بالقصر ، وكون الغرض عائداً إلى صالح العبد لا يسوِّغ المخالفة ، وفي بعض الروايات ما يشير إلى أنّ العالم المتم رادّ لهدية الشارع وهو قبيح. (3) هذا وكان سيد مشايخنا المحقّق البروجردي قدَّس سرَّه يقول حول أجوبة الشيخ 1. الوسائل : الجزء 3 ، الباب 24 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، الحديث 5. 2. الوسائل : الجزء 5 ، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث 4. 3. الوسائل : الجزء 5 ، الباب22 من أبواب صلاة المسافر ، الحديث 3 ، 4 ، 8 ، 11. (657)
الأنصاري في هذا المقام : بأنّ تذليل العقبات الصعاب في مباحث البراءة والاشتغال عاقه عن إعطاء النظر الدقيق للبحث. ثمّ أشار إلى الأجوبة الثلاثة الماضية.
شرطان آخران للبراءة ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شرطين آخرين : الأوّل : أن لا يكون إعمال الأصل موجباً لثبوت حكم شرعي آخر من جهة أُخرى مثل أن يقال : « في أحد الإناءين المشتبهين ، الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فانّه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر ، أو فيما علم بحدوث الكرية وملاقاة الماء بالنجاسة وشكّ في تقدّم أحدهما على الآخر ، فانّ إعمال الأُصول في عدم تقدّم الكرية على الملاقاة يوجب الاجتناب عن الملاقي. (1) إنّ ما ذكره ممنوع صغرى وكبرى. أمّا الأوّل : فلأنّ الأصل الجاري في هذه الأمثلة هو الاستصحاب لا البراءة ومع غض النظر عن هذا ، فانّ الأُصول لا تجري في أطراف العلم الإجمالي إمّا لعدم شمول أدلّة الأُصول لأطرافه ، أو شمولها ولكنها تسقط لأجل التعارض ، أو لاستلزامه المخالفة العملية. وأمّا الثاني : فقد أورد عليه المحقّق الخراساني بأنّ الإباحة الظاهرية ، أو رفع التكليف ، إذا كان موضوعاً أو ملازماً لثبوت حكم آخر فلا محيص عن ترتّبه عليه بعد إحرازه كما لو نذر أن يعطي للفقير المال الحلال ظاهراً فوجد مالاً تحت يده يحتمل أنّه لغيره نعم لو كان مترتباً على نفي التكليف واقعاً له ، لا يترتب عليه ، وذلك لعدم الموضوع لا للاشتراط ، كما إذا نذر أن يعطي للفقير الحلال الواقعي ، فلا يجب إذا ثبتت حليته بالأصل. 1. الفرائد : 311. (658)
أقول : ترتّب حكم على حكم على أقسام :
1. إذا لم يكن بين الحكمين ترتّب شرعي كما في الأمثلة التي ذكرها الفاضل التوني ، فانّ الترتب هناك عقلي ، فانّ إجراء الطهارة في أحد الإناءين يلازم عقلاً ـ بحكم العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين ـ نجاسـة الإناء الآخر ، أو نفي تقدّم أحد الحادثين يستلزم تقدّم الآخر للعلم بتقدّم أحدهما. 2. إذا كان بين الحكمين ترتّب شرعي ، لكن كان الحكم الثاني مترتباً على الوجود الواقعي منه ، كما إذا نذر أنّه لو صلى بماء طاهر واقعاً فعليه أن يطعم الفقير فتوضّأ بماء مشكوك محكوم بالطهارة ظاهراً. 3. أن يكون الحكم مترتّباً على الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية كوجوب الوضوء للصلاة المترتّب على الماء الطاهر واقعاً أو ظاهراً. 4. وربّما يتصوّر وجود قسم رابع وهو أن يكون الحكم الواقعي مترتّباً على الحليّة الواقعية ، والظاهري على الحلية الظاهرية ، كوجوب الحجّ المترتّب على إباحة المال الذي يكون به مستطيعاً فلو حكم على إباحة المال ظاهراً حكم بوجوب الحجّ ظاهراً ولو انكشف الخلاف ينكشف عدم وجوب الحجّ عليه واقعاً ، وهذا بخلاف وجوب التوضّؤ فأنّه مترتّب على الإباحة الأعم. يلاحظ عليه : بعدم وجود إلزامين في المقام ، إلزام ظاهري ، وإلزام واقعي ، بل إلزام واحد مترتّب على الاستطاعة الواقعية ، فإذا كشف الخلاف ، كشف عن عدم الاستطاعة واقعاً ، نعم يحكم العقل بلزوم الحجّ عند ثبوت إباحة المال ظاهراً لأجل تحصيل المؤمن وليس هو حكماً شرعياً. الشرط الثاني لأصل البراءة ذكر الفاضل التوني شرطاً ثانياً لأصل البراءة ، وهو أن لا يضرّ بإجرائها (659)
شخص آخر ، ومثّل بالأُمور التالية :
1. فتح قفص طائر ، فطار. 2. حبس شاة فمات ولدها. 3. أمسك رجلاً ، فهربت دابته. فانّ إعمال البراءة فيها موجب لتضرر المالك فيندرج تحت قاعدة الإتلاف أو قوله : « لا ضرر ولا ضرار ». يلاحظ عليه بأمرين : الأوّل : انّه لا موضوع للأصل مع وجود الدليل الاجتهادي ، لحكومة قاعدة « من أتلف مال الغير فهو له ضامن » أو قاعدة « لا ضرر ولا ضرار » على أصل البراءة أو ورودهما عليها. الثاني : انّ حديث الرفع الذي هو من أهم أدلّة البراءة النقلية ، حديث امتنان فلا موضوع له إذا كان على خلافه ، وأيّ امتنان بالحكم بعدم الضمان على فاتح القفص ، أو حابس الشاة ، وممسك الرجل. ثمّ إنّ القوم تبعاً للشيخ الأنصاري ذيّلوا المقام ، بالبحث عن قاعدة « لا ضرر » سنداً ومفاداً وتفريعاً ، فبما أنّ البحث فيها طويل الذيل أفردناها بالتأليف وأفرزناها عن سائر المباحث. تمّ الكتاب ـ بحمد اللّه تبارك وتعالى ـ في ثامن شهر شوّال المكرّم
من شهور عام 1419 من الهجرة النبوية والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً قم المشرفة ـ محمد الحسين الحاج العاملي ـ عُفي عنه ـ |
|||
|