فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: 16 ـ 30
(16)
على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلقاء الطرف الآخر كالاستصحاب ، وأصالة الصحة ، وقاعدة التجاوز ، وأمثال ذلك من الأصول المحرزة ـ كما يأتي تفصيله إنشاء الله تعالى في محله ـ فمثل أصالة الطهارة والبرائة و الاشتغال ليس داخلا في محل الكلام في المقام ، ولذا قيد الشيخ ( قده ) ببعض الأصول (1).
    الأمر الثاني : قد عرفت أن القطع من الصفات الحقيقية ذات إضافة ، ولأجل ذلك يجتمع في القطع جهات ثلاث :
    الجهة الأولى : جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم من حيث إنشاء النفس في صقعها الداخلي صورة على طبق ذي الصورة ، وتلك الصورة هي المعلومة بالذات ، ولمكان انطباقها على ذي الصورة ، يكون ذيها معلوما بتوسط تلك الصورة ، فالمعلوم أولا وبالذات هي الصورة ، وتلك الصورة هي حقيقة العلم والمعلوم ، وهذا من غير فرق بين أن نقول : إن العلم من مقولة الكيف ، أو من مقولة الفعل ، أو من مقولة الانفعال ، أو من مقولة الإضافة ـ على اختلاف الوجوه والأقوال ـ فإنه على جميع التقادير تكون هناك صفة قائمة في نفس العالم ، فهذه أول جهات العلم.
    الجهة الثانية : جهة إضافة الصورة لذي الصورة ، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيته له وإرائته للواقع المنكشف ، وهذه الجهة مترتبة على الجهة الأولى ، لما عرفت من أن إحراز الواقع وكشفه إنما يكون بتوسط الصورة.
ذلك وبتوارد الأفكار وقع الخلط في جعل الكاشف والإحراز إلى تتميم كشف الناقص الذي هو مفاد دليل الأمارة بنحو من العناية محضا ، بلا جريان مثله في مفاد أدلة الأصول.
1 ـ ذكرنا في مبحث الاستصحاب أنه يمكن فرض قيام الأصول الغير المحرزة مقام القطع على بعض الوجوه ، فراجع ـ منه


(17)
    الجهة الثالثة : جهة البناء والجري العملي على وفق العلم ، حيث إن العلم بوجود الأسد مثلا في الطريق يقتضي الفرار عنه ، وبوجود الماء يوجب التوجه إليه إذا كان العالم عطشانا ، ولعله لذلك سمى العلم اعتقادا ، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العملي عليه.
    فهذه الجهات الثلاث كلها مجتمعة في العلم وتكون من لوازم ذات العلم ، حيث إن حصول الصورة عبارة عن حقيقة العلم ومحرزيته وجداني و البناء العملي عليه قهري.
    ثم إن المجعول في باب الطرق والأمارات هي الجهة الثانية من جهات العلم ، وفي باب الأصول المحرزة هي الجهة الثالثة ، وتوضيح ذلك هو أن المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية والمحرزية والكاشفية ، بناء على ما هو الحق عندنا : من تعلق الجعل بنفس الطريقية ، لا بمنشأ انتزاعها ، كما هو مختار الشيخ ( قده ) ـ وسيأتي إنشاء الله تفصيله في مبحث الظن ـ وأن تصوير ما يكون منشأ لانتزاع الطريقية في غاية الإشكال بل كاد أن يكون من المحالات. و ليس المجعول في باب الأمارات هو المؤدى بحيث يتعلق حكم بالمؤدى غير ما للمؤدى من الحكم الواقعي ، فان ذلك غير معقول كما سيأتي ، بل المجعول هو الطريقية والوسطية في الإثبات والكاشفية عن الواقع ، أي تتميم الكاشفية بعد ما كان في الطرق والأمارات جهة كشف في حد أنفسها ، غايته أن كشفها ناقص وليس ككاشفية العلم.
    ومن هنا اعتبرنا في كون الشيء أمارة من أن يكون له في حد ذاته جهة كشف ، والشارع في مقام الشارعية تمم كشفه وجعله محرزا للواقع و وسطا لاثباته ، فكأن الشارع في عالم التشريع جعل الظن علما من حيث الكاشفية والمحرزية بلا تصرف في الواقع ولا في المؤدى ، بل المؤدى بعد باق على ما هو عليه من الحكم الواقعي صادفت الأمارة للواقع أو خالفت ، لأنه يكون من مصادفة الطريق أو مخالفة الطريق لذي الطريق من دون توسعة في


(18)
الواقع وتنزيل شيء آخر منزلة الواقع ، فان كل ذلك لم يكن ، بل المجعول هو نفس الطريقية والكاشفية والمحرزية (1) التي كان القطع واجدا لها بذاته والظن يكون واجدا لها بالتعبد والجعل الشرعي ، فهذا هو المجعول في باب الطرق و الأمارات.
1 ـ أقول لا يخفى أن نتيجة الجعل والتشريع تارة إحداث حقيقة الشيء الذي هو منشأ انتزاع مفهومه و كان بنحو يطبق العقل هذا العنوان على المجعول بنحو الحقيقة والوجدان ـ نظير جعل المسجدية والملكية وأمثالها ، بناء على أن حقايقها أمور جعلية ـ وتارة ليس إحداث هذه الحقيقة بالوجدان ، فلا محيص إلا ان يكون تطبيق عنوان المجعول عليه بالعناية والادعاء ، لا يتصور ثالث لهذين المعنيين ، لدورانه بين النفي والإثبات. وليس الغرض من تطبيق العنوان وجدانا على الشيء كون العنوان ذاتيا له ، بل الغرض كون هذه الحقيقة عارضا للشئ بالجعل أو غيره من سائر الأمور الاختيارية ، كجعل الجسم أبيضا أو أسودا ، ففي الأمور الاعتبارية كالمسجدية والوقفية ـ جعلها التشريعي عين تكوينه بانشاء قولي أو بفعل خارجي ، قبال ذاتي الشيء الغير القابل للجعل ولو تكوينا ، ولذا « ما جعل الله المشمشة مشمشة » بل أوجد الذات الواجد لهذه الحيثية بذاته. إذا عرفت هذه المقدمة نقول :
    إن الغرض من تشريع الإحراز وإلقاء احتمال الخلاف المساوق لتمامية الكشف : إن كان بنحو يحكم العقل بتطبيق هذه العناوين على المجعول بنحو الحقيقة والوجدان ، ففساده أوضح من أن يخفى على أحد ، وإن كان الغرض أن نتيجة التشريع تطبيق العقل هذه العناوين على المجعول بالعناية والادعاء ـ كجعل الحياة والممات لزيد ـ فهو في غاية المتانة ولا يتصور في البين الثالث ، لما عرفت من دورانه بين النفي والإثبات.
    وإذا كان كذلك فلا شبهة في أن ادعاء شيء لشئ يحتاج إلى النظر إلى جهة أخرى مصحح لهذا الإدعاء ، فربما يكون الغرض من ادعاء العالمية احترام الناس له ، ففي هذه الصورة لا يترتب عليه عمل لعلمه هذا ، فلا محيص في ترتب هذا الأثر من كون النظر في هذا الإدعاء إلى لزوم عمله عليه على وفق علمه الوجداني ، فبالأخرة ينتهى إلى الأمر بالمعاملة ، فتشترك الأمارة مع الأصول في ذلك وفي قيامها مقام القطع في الجهة الثالثة.
    نعم : الفارق بينهما هو أن الأمر بالمعاملة في الأصول مجعول بدوا ، وفي الأمارة مستكشف من جعل الإحراز بدوا بانشائه أو إمضائه. وحينئذ فالغرض من قيام الظن مقام العلم إن كان هذا المقدار فلا بأس به ، لكن معلوم أن هذا المقدار لا يكون ملزما للعمل لولا استكشاف الأمر بالمعاملة منه ـ كما أشرنا إليه ـ فالذي يوجب قيام الظن مقام العلم الطريقي في هذه الجهة هو الأمر بالمعاملة لا تتميم الكشف محضا ، كما هو الشأن لو قلنا بتنزيل المؤدى منزلة الواقع ، إذ المقصود أيضا الأمر بالمعاملة مع ما أدى إليه الظن معاملة الواقع ، ومرجع هذا الأمر والعناية المزبورة أيضا إلى إبراز الإرادة الواقعية بهذا الإنشاء ، كما هو الشأن في لسان تتميم الكشف ، بل و مثل ايجاب الاحتياط الذي لا عناية فيه أصلا ، فمبرزية هذه الخطابات عن الواقع إنما هو بهذا المعنى ، لا بمعنى تتميم الكشف أو التعبد بالمؤدى الذي هو مفاد الخطاب.


(19)
    وأما المجعول في باب الأصول التنزيلية فهي الجهة الثالثة من العلم ، و هو الجري والبناء العملي على الواقع من دون أن يكون هناك جهة كشف و طريقية ، إذ ليس للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول جهة كشف عن الواقع كما كان في الظن ـ فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الأصول الطريقية و الكاشفية ، بل المجعول فيها هو الجري العملي والبناء على ثبوت الواقع عملا الذي كان ذلك في العلم قهريا وفي الأصول تعبديا.
    ومما ذكرنا ظهر : أن حكومة الطرق والأمارات والأصول على الأحكام الواقعية ليست الحكومة الواقعية ، مثل قوله « الطواف بالبيت صلاة » (1) وقوله « لا شك لكثير الشك » (2) بل الحكومة الظاهرية.
    والفرق بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية ، هو أن الحكومة الواقعية توجب التوسعة والتضيق في الموضوع الواقعي ، بحيث يتحقق هناك موضوع آخر واقعي في عرض الموضوع الأولى كما في قوله « الطواف بالبيت صلاة » وهذا بخلاف الحكومة الظاهرية مع ما لها من العرض العريض : من حكومة الأمارات بعضها على بعض ، وحكومتها على الأصول ، وحكومة الأصول بعضها على بعض ، وحكومة الجميع على الأحكام الواقعية ، فإنه ليس في الحكومة الظاهرية توسعة وتضييق واقعي ، إلا بناء على بعض وجوه جعل المؤدى الذي يرجع إلى التصويب. وأما بناء على المختار : من عدم جعل المؤدى و أن المجعول فيها هو الوسطية في الإثبات والكاشفية والمحرزية ، فليس هناك توسعة وتضييق واقعي ، وحكومتها إنما تكون باعتبار وقوعها في طريق إحراز
1 ـ المستدرك : الباب 38 من أبواب الطواف الحديث 2
2 ـ لم نجد حديثا بهذه العبارة ـ على ما تفحصنا ـ في روايات الباب ، وإليك نص ما أورده في الوسائل « إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك » و « لا سهو على من أقر على نفسه بسهو » راجع الوسائل الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة. ( المصحح )


(20)
الواقع في رتبة الجهل به ، فيكون المجعول في باب الطريق والأمارات والأصول في طول الواقع لا في عرضه. وليس للشارع حكمان : حكم واقعي وحكم ظاهري ، بأن يكون تكليفان مجعولان شرعيان : أحدهما تكليف واقعي ، والآخر تكليف ظاهري ، فان التكليف الظاهري بهذا المعنى مما لا نعقله.
    والمراد من كون مؤديات الطرق والأصول أحكاما ظاهرية هو كونها مثبتة للواقع عند الجهل والحكم بأن مؤدياتها هو الواقع لمكان كونها محرزة له ، و ليس هناك حكم آخر وراء الواقع يسمى بالحكم الظاهري ، كما ربما يتخيل.
    فظهر : أن ما بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية بون بعيد ، وأن حكومة الأمارات إنما تكون حكومة ظاهرية واقعة في طول الواقع وفي طريق إحرازه ، و يكون المجعول فيها نفس المحرزية ، والتنجيز والعذر من اللوازم العقلية المترتبة على ما هو المجعول ، لوضوح أن التنجز لا يكون إلا بالوصول إلى الواقع وإحرازه ، إما بنفسه ( كما في العلم والطرق والأمارات والأصول المتكفلة للتنزيل ) وإما بطريقه ( كما في موارد جريان أصالة الاحتياط ) على ما سيأتي توضيحه في محله. وعلى كل حال : نفس التنجيز والعذر غير قابل للجعل ، كما ربما يوهمه بعض الكلمات ، وإنما الذي يكون قابلا للجعل هو المحرزية والوسطية في الإثبات ليكون الواقع واصلا إلى المكلف ، ويلزمه عقلا تنجيز الواقع.
    الأمر الثالث : قد ظهر مما ذكرنا : أنه ليس لنا واقع حقيقي وواقع جعلي ، وعلم بالواقع الحقيقي وعلم بالواقع الجعلي ، بأن يكون للواقع فردان : فرد حقيقي وفرد جعلي ، وللعلم فردان : علم بالواقع الحقيقي وعلم بالواقع الجعلي ، فان ذلك كله مبنى على جعل المؤدى ، فيصح أن يقال ـ بنحو من المسامحة ـ إن للخمر مثلا فردان : خمر واقعي وخمر جعلي تعبدي ، وكذا للعلم فردان : علم بالخمر وعلم بالخمر التعبدي. وأما بناء على عدم جعل المؤدى فليس للخمر إلا فرد واحد ، وهو الخمر الواقعي ، والإحراز إنما يتعلق به. نعم : هناك علم


(21)
بحجية الطرق والأصول ، وهذا غير العلم بالواقع الجعلي.
    إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الوجوه أو الأقوال في قيام الطرق و الأمارات والأصول التنزيلية مقام القطع ثلاثة :
    الأول : قيامها مقامه بجميع أقسامه حتى فيما إذا اخذ موضوعا على نحو الصفتية.
    الثاني : عدم قيامها مقام ما اخذ في الموضوع مطلقا ولو على نحو الطريقية والكاشفية.
    الثالث : قيامها مقام القطع الطريقي مطلقا ولو كان مأخوذا في الموضوع ، وعدم قيامها مقام القطع الصفتي ، وهذا هو الأقوى ، فان ما ذكر مانعا عن قيامها مقام القطع المأخوذ موضوعا على وجه الطريقية ـ من استلزام الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي في لحاظ واحد ـ ضعيف غايته ، فان الاستلزام المذكور مبنى على جعل المؤدى الذي قد تبين فساده. وأما على المختار : من أن المجعول في باب الطرق والأمارات هو نفس الكاشفية والمحرزية والوسطية في الإثبات ، فيكون الواقع لدى من قامت عندي الطرق محرزا كما كان في صورة العلم ، والمفروض أن الأثر مترتب على الواقع المحرز ، فان ذلك هو لازم أخذ العلم من حيث الكاشفية موضوعا ، وبنفس دليل حجية الأمارات و الأصول يكون الواقع محرزا فتقوم مقامه بلا التماس دليل آخر (1) وتركيب
1 ـ أقول : بعد ما لا يكون في مفاد الأصول جهة إحراز وتتميم كشف ، بل غايته هو الرضا بجري العمل بعنوان أنه واقع من دون اقتضاء هذا المعنى لإثبات العلم بالواقع الحقيقي لا وجدانا ولا تعبدا ، وإنما غاية اقتضائه العلم بالواقع التعبدي لا الحقيقي ، ومعلوم : أن مثل هذا العلم غير العلم بالواقع الحقيقي ، وحينئذ قيام أحدهما مقام الآخر يحتاج إلى جعل آخر ولا يفي به مفاد أدلة الأصول كما هو الشأن لو كان مفاد أدلة الأمارات هو التعبد بكون المؤدى هو الواقع بلا تتميم كشف فيه ، وحينئذ فما أفيد بأن الواقع بنفس دليل حجية الأمارات و الأصول محرز صحيح ، ولكن في الأمارات يكون الواقع الحقيقي محرزا بالعناية ، وفي الأصول كان الواقع التعبدي محرزا بالوجدان ، ولا نفهم أزيد من ذلك. وما أفيد للحكومة في المقام إنما يتم في الأول لا الأخير ، ولعمري ! أن بيان مرامه في هذه المقامات نحو رمز لا نفهم إلا بشرحه ، وعليه بشرح مرامه ، وإلا فلا يكون لهذه البيانات معنى محصل.

(22)
الموضوع من الواقع والإحراز ليس على حد الموضوع المركب من الأجزاء العرضية كالصلاة ، فان الأجزاء العرضية تحتاج إلى أن تكون كل منها محرزة بالوجدان ، أو بالتعبد ، أو بعضها بالوجدان وبعضها بالتعبد ، ولا يكون إحراز أحد الأجزاء إحرازا للآخر أو التعبد بأحدهما تعبدا بالآخر ، بل يحتاج كل منها إلى تعبد مستقل أو إحراز مستقل ، وهذا بخلاف التركيب من الشيء وإحرازه ، فإنه بنفس إحراز ذلك الشيء يتحقق كلا جزئي الموضوع ولا يحتاج إلى احرازين أو تعبدين ، بل لا معنى لذلك ، فلو فرض أن الشارع جعل الظن محرزا للواقع فبنفس جعله يتحقق كلا جزئي الموضوع ، و لا يحتاج إلى جعلين حتى يقال : إنه ليس في البين جعلان والجعل الواحد لا يمكن أن يتكفل كلا الجزئين لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي ، حيث إن تنزيل الظن منزلة العلم باعتبار المودى يرجع في الحقيقة إلى تنزيل المظنون منزلة المعلوم ، فيكون النظر إلى الظن والعلم نظرا مرآتيا ، وتنزيل الظن منزلة العلم باعتبار نفسه وبما أنه جزء الموضوع يرجع في الحقيقة إلى لحاظ الظن والعلم شيئا بحيال ذاته ، ويكون النظر إليهما نظرا استقلاليا ولا يمكن الجمع بين اللحاظين في جعل واحد ، لا لمكان أنه ليس هناك مفهوم عام يجمعهما ، كما يقال : إن الجمع بين الشيئين في استعمال واحد لا يمكن لعدم الجامع بينهما ، بل لمكان عدم إمكان الجمع بين اللحاظين لتنافيهما ذاتا. وهذا الاشكال قد كان دائرا على ألسنة أهل العلم من زمن الشيخ ( قده ) إلى زماننا هذا ، على ما حكاه شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) وقد تبين أنه لا موضوع لهذا الإشكال ولا محمول ، فان مبنى الإشكال هو تخيل أن المجعول في باب الطرق والأمارات و الأصول هو المؤدى وتنزيله منزلة الواقع والخلط بين الحكومة الواقعية والحكومة


(23)
الظاهرية ، فيقال : إن في قيام الظن مقام العلم المأخوذ موضوعا يحتاج إلى تنزيلين : تنزيل المظنون منزلة المقطوع ، وتنزيل الظن منزلة القطع ، وأنت بعد ما عرفت حقيقة المجعول في باب الأمارات والأصول ظهر لك : انه ليس في البين تنزيل أصلا ، بل الشارع إنما أعطى صفة المحرزية للظن ، فيرتفع الإشكال من أصله.
    فان قلت : هب ان المجعول في باب الأمارات والأصول ذلك ، إلا أن الذي اخذ جزء الموضوع في ظاهر الدليل هو العلم والإحراز الوجداني ، وبأي دليل تقولون : إن الإحراز التعبدي يقوم مقام الإحراز الوجداني ؟.
    قلت : يمكن التفصي عن هذه بوجوه :
    الأول : دعوى أن المراد من العلم الذي اخذ في ظاهر الدليل موضوعا هو العنوان الكلي ـ أي عنوان المحرز ـ بلا أخذ الإحراز الوجداني قيدا له (1) غايته أنه لولا جعل الشارع الطرق والأصول محرزة كان مصداق عنوان المحرز منحصرا بالمحرز الوجداني ، وبعد ذلك الجعل الشرعي يتحقق مصداق آخر
1 ـ أقول : بعد ما كان المراد من الإحراز الوجداني بل كل أمر وجداني ما كان العقل بوجدانه يطبق عنوانه على الموجود ، سواء كان الشيء الموجود ذاتيا له أو عرضيا ـ كالبياض المجعول للجسم بسبب في قبال ما فيه البياض باقتضاء ذاته كالثلج مثلا فإنه لا يكون مجعولا للثلج بل بعين جعل الثلج يتحقق البياض ـ فما لا يكون بهذه المثابة قد تقدم أنه لا يطبق العقل عنوانه عليه إلا بنحو من الإدعاء والعناية ، وحينئذ ففي قبال الإحراز الوجداني لا يتصور إلا الإحراز بالعناية والادعاء ، ولا يتصور في البين ثالث ، لما عرفت من دوران الأمر فيه بين النفي والإثبات. وحينئذ نقول : إن مرجع الإحراز بالعناية إلى تنزيل عدم الإحراز منزلة الإحراز ، كجميع العناوين الادعائية ، وقوام هذا الإدعاء إنما هو بكون الشيء خارجا عن حقيقة المنزل عليه بتمامه ، ومعه كيف بتصور اشتراكهما في الجامع الحقيقي بواسطة الإدعاء والتنزيل كي يصير البحث في المقام لفظيا ؟.
    نعم : لو أريد من الإحراز التشريعي الإحراز الحقيقي بنحو يطبق العقل العنوان عليه بعد الجعل بنحو الحقيقة ـ بحيث كان هذا الإحراز مثل البياض المجعول للجسم أمرا وجدانيا ـ ففي هذه الصورة صح دعوى الجامع بين الإحراز الذاتي والعرضي بعد اشتراكهما في صدق الإحراز الوجداني ، ولكن أنى لك بذلك ! ثم أنى لك ! إذ لا أظن توهمه من ذي مسكة.


(24)
للمحرز ، كما هو الشأن في جميع العناوين الكلية ، كما يقال في الشمس : إنها كوكب نهاري ناسخ ضوئه وجود الليل ولكن في الخارج منحصر في الفرد ، فلو فرض أنه وجد فرد آخر مثل هذا الموجود كان أيضا من مصاديق ذلك العنوان ، فكذا يقال في العلم وأنه عبارة عن عنوان « المحرز » ويكون الموضوع في الحقيقة هو هذا العنوان ، وبالتعبد الشرعي يتحقق مصداق آخر لعنوان « المحرز » هذا.
    ولكن للمنع عن هذا الدعوى مجال ، من جهة أن هذا في الحقيقة يرجع إلى البحث اللغوي وأن العلم موضوع لكلي المحرز أو لخصوص المحرز الوجداني ، ولا سبيل إلى إثبات أنه موضوع للعنوان الكلى.
    الثاني : دعوى استخراج المناط نظير العلة المستنبطة ، بأن يقال : إنه و إن كان المأخوذ في لسان الدليل هو خصوص العلم والإحراز الوجداني ، إلا أنه نقطع بأنه ليس للوجدان دخل ، بل المناط هو جهة الإحراز الموجودة في الظن أيضا بعد اعتباره شرعا ، هذا وللمنع عن هذه الدعوى أيضا مجال ، فإنها موقوفة على استخراج المناط القطعي ولا سبيل إلى إثبات ذلك.
    الثالث : ( وهو الذي يحسم مادة الإشكال ) دعوى أن ذلك من مقتضيات حكومة أدلة الطرق والأمارات والأصول على الواقعيات (1) بالبيان
1 ـ أقول : إن من أسس أساس الحكومة والورود كلماته مشحونة بأن مرجع الورود إلى اقتضاء الجعل لتضييق دائرة دليل الإحراز وتوسعته حقيقة ، ومرجع الحكومة إلى تضييق دائرته عناية وادعاء وأن لبه يرجع إلى التخصيص ، كما أن الأول يرجع إلى التخصص على وجه ، وإن كان بينهما فرق. وحينئذ إذا فرضت في الطرق أنها لا تكون إلا توسعة في طريق الواقع بلا حكم ظاهري ولا تصرف في الواقع ولو بالعناية ، فمن أين لمثل هذا الجعل حكومة على الواقع ولو ظاهرا ؟ وتسمية التوسعة في الطريق محضا بالحكومة الظاهرية بالنسبة إلى الأحكام اصطلاح جديد ما سمعناه من آبائنا الأولين !.
    نعم : الحكومة الظاهرية صحيحة بالنسبة إلى مفاد الأصول الذي ليس فيها توسعة إحراز بجعله ، وإنما المجعول فيها الأمر بالمعاملة مع أحد الاحتمالين معاملة الواقع ، فان مرجع ذلك إلى توسعة الواقع بالعناية وايصاله إلى مرحلة الظاهر وفي ظرف الشك والاحتمال ، ثم في مثله ليس إلا العلم الوجداني بالواقع بالعناية ، بخلاف الطرق ، فان نتيجة جعلها هي العلم بالعناية بالواقع الحقيقي ، ومن ذلك يقوم مقام العلم الموضوعي ، بخلاف


(25)
المتقدم من معنى الحكومة وأنها ظاهرية لا واقعية وأن حكومتها لأجل كونها واقعة في طريق إحراز الواقعيات فتكون حاكمة على كلا جزئي الموضوع : من الواقع ومن الإحراز ، بل حكومتها على الواقع لمكان كونها محرزة له ، فتكون حكومتها على أحد جزئي الموضوع انما هي بعناية حكومتها على الجزء الآخر وهو الإحراز فأي أثر رتب في الشريعة على العلم بما أنه محرز يترتب على الطرق و الأمارات والأصول المحرزة ولو كان ذلك الأثر من جهة دخله في الموضوع و كونه جزئه ، فإنه يكفي هذا المقدار من الأثر في صحة التعبد ولا يتوقف على أن يكون تمام الموضوع.
    والحاصل : أن نتيجة الحكومة الظاهرية هي التوسعة في الإحراز وأنه أعم من الإحراز الوجداني ، وإلا لم يكن للحكومة معنى ، وبملاحظة هذه الحكومة صح أن يقال : إن الموضوع هو الأعم من الإحراز الوجداني وهو العنوان الكلي ، لكن لا لمكان أن معنى العلم ذلك ـ كما هو مفاد الوجه الأول ـ بل لمكان الحكومة وأن نتيجتها تكون ذلك.
    فظهر : أن في قيام الطرق والأمارات والأصول مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية لا يحتاج إلى التماس دليل آخر غير أدلة حجيتها ، و أن قيامه مقامه من لوازم حجيتها وحكومتها على الأحكام الواقعية بالحكومة الظاهرية.
    هذا إذا اخذ العلم في الموضوع على وجه الطريقية ، وأما إذا لم يؤخذ في موضوع أصلا وكان طريقا عقليا محضا فقيامها مقامه أولى ، لأن الواقع يكون
الأول ، فإنه لا يكون نتيجة جعله العلم بالواقع الحقيقي لا حقيقة ووجدانا ولا عناية وادعاء ، فيحتاج في قيامه مقام العلم الموضوعي إلى جعل آخر من تنزيل العلم بالواقع بالعناية منزلة العلم بالواقع الحقيقي. ولو فرض مثل هذا الجعل ـ ولو بالملازمة العرفية كما قيل ـ كانت هذه الحكومة حكومة واقعية ، ولا معنى لإطلاق الحكومة الظاهرية هنا ، وبالله ! عليك أن تتأمل في ما قيل ، ترى بأنه لا مفهوم محصل تحت هذه البيانات.

(26)
حينئذ مرسلا غير مقيد بقيد ، والمفروض أنها مثبتة للواقع فلا مانع من قيامه مقامه.
    وأما قيامها مقام القطع المأخوذ على جهة الصفتية فلا يمكن ، لأنه يكون حينئذ كسائر الصفات النفسانية ومفاد حجية الطرق والأمارات أجنبي عن إفادة ذلك ، فان مفادها الوسطية في الإثبات وإحراز الواقع ، وأين هذا من تنزيل الظن منزلة القطع من حيث الصفتية ! فقيام الظن مقام القطع من هذه الجهة يحتاج إلى دليل آخر وراء أدلة الحجية.
    وظاهر عبارة الشيخ ( قده ) أنه هو لو قام دليل آخر على قيام الظن منزلة العلم من هذه الجهة يكون مفاد ذلك الدليل مفاد أدلة حجية الطرق و الأمارات من حيث قيامها مقام العلم الطريقي ، أي يكون مدلول ذلك الدليل من سنخ مدلول الأمارات من حيث كونه حكما ظاهريا.
    ولا يخفى ما فيه ، فإنه لو فرض أنه قام دليل على تنزيل الظن منزلة العلم من هذه الجهة يكون ذلك من التنزيل الواقعي والتعميم في ناحية الموضوع واقعا من قبيل قوله « الطواف بالبيت صلاة » وليس ذلك من الحكم الظاهري ، لما تقدم من أن الحكم الظاهري ما كان في طول الواقع وواقعا في طريق إحرازه ، وأين هذا من تنزيل صفة مقام صفة أخرى ، فإن الظن حينئذ لم يعتبر من حيث إحرازه للمتعلق ، بل من حيث إنه صفة ، فيكون في عرض العلم موضوعا واقعيا لحكم واقعي ، وذلك واضح.
    والذي يسهل الخطب أنه لم نعثر في الفقه على مورد اخذ العلم فيه موضوعا على وجه الصفتية ، والأمثلة التي ذكرها الشيخ ( قده ) في الكتاب ليس شيء منها من هذا القبيل ، فان العلم في باب الشهادة اخذ من حيث الطريقية ، ولذا جاز الشهادة في موارد اليد ، كما دلت عليه رواية ( حفص ) (1) وفي باب
1 ـ الوسائل : الباب 25 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى الحديث 2

(27)
الركعتين الأولتين لم يؤخذ فيهما على نحو الصفتية ، بل على نحو الطريقية ، كما يدل على ذلك بعض الأخبار الواردة في ذلك الباب قوله عليه السلام : « حتى تثبتهما أو تحرزهما » (1) وأمثال ذلك من التعبيرات الظاهرة في أن العلم اعتبر من حيث الطريقية. وبالجملة : ظاهر العلم مهما اخذ في لسان الدليل هو العلم الطريقي ، وإرجاعه إلى العلم الصفتي يحتاج إلى قرينة لم نعثر عليها في شيء من المقامات.
    ثم إن للمحقق الخراساني ( قده ) كلام في حاشيته على « الفرائد » في وجه قيام الطرق والأصول مقام القطع بجميع أقسامه ، حتى بما اخذ على وجه الصفتية ( وقد عدل عنه في الكفاية ) وحاصل ما أفاده في « الحاشية » هو أن أدلة الطرق والأمارات إنما توجب تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، ولمكان العلم بحجية الأمارات يتحقق العلم بالمؤدى وأنه بمنزلة الواقع ، وهناك ملازمة عرفية بين تنزيل المؤدى منزلة الواقع وتنزيل العلم بالمؤدى وأنه بمنزلة الواقع منزلة العلم بالواقع ، فيتحقق كلا جزئي الموضوع بلا استلزامه الجمع بين اللحاظين الآلي والاستقلالي ، فإن أدلة الأمارات لم تتكفل إلا لتنزيل المؤدى فقط ، و كان تنزيل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع بالملازمة العرفية بين التنزيلين ، فكأنه تحقق كل جزء من جزئي الموضوع بدليل يخصه ، كما أنه لو قام دليل بالخصوص في ما اخذ العلم جزء الموضوع على تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فإنه بدلالة الاقتضاء وصون كلام الحكيم عن اللغوية لابد من تنزيل العلم به منزلة العلم بالواقع ، لأن المفروض أنه لا أثر للواقع حتى ينضم إليه العلم ، هذا إذا قام دليل بالخصوص على تنزيل المؤدى فيما اخذ العلم جزء الموضوع.
    وأما الأدلة العامة لحجية الطرق والأمارات فدلالة الاقتضاء لا تقتضي ذلك ، لأنه لو لم ينزل العلم بالمؤدى منزلة العلم بالواقع لا يلزم لغوية
1 ـ الوسائل : الباب 1 من أبواب الخلل الحديث 15

(28)
جعل الحجية إذ يبقى لها مورد ، وهو ما إذا كان الأثر مترتبا على نفس المودى بلا دخل للعلم فيه ، ولكن مع ذلك الملازمة العرفية تقتضي تنزيل أحد العلمين منزلة الآخر.
    هذا حاصل ما أفاده في « الحاشية » ورده في « الكفاية » بما حاصله :
    ان ذلك يستلزم الدور المحال (1) فان تنزيل المؤدى منزلة الواقع فيما كان للعلم دخل لا يمكن إلا بعد تحقق العلم في عرض ذلك التنزيل ، فإنه ليس للواقع أثر يصح بلحاظه التنزيل ، بل الأثر مترتب على الواقع والعلم به ، والمفروض أن العلم بالمؤدى يتحقق بعد تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فيكون التنزيل موقوفا على العلم والعلم موقوفا على التنزيل ، وهذا دور محال ، هذا.
    ولكن لا يخفى عليك : أنه لا ينحصر الإشكال على ما أفاده في « الحاشية » بالدور ، بل مضافا إلى الدور يرد عليه :
    أولا : ان ذلك مبنى على أن يكون المجعول في باب الطرق والأمارات هو المؤدى ، وقد تقدم فساده وأن جعل المؤدى يوجب التصويب (2) ويقتضي أن تكون الحكومة واقعية لا ظاهرية ، وهذا ينافي ما عليه المخطئة ، وسيأتي أيضا تفصيل ذلك ( إن شاء الله تعالى ) في باب جعل الطرق والأمارات.
    وثانيا : ان المفروض أن الموضوع مركب من العلم ومتعلقه ، و
1 ـ أقول : عمدة الإشكال فيما أفيد في دعوى الملازمة العرفية ، وإلا فمع الالتزام به فإنما يرد إشكال الدور على فرض الاحتياج في صحة التنزيل إلى فعلية الأثر للجزء الآخر ، وإلا فلو قلنا بأن أثر الجزئية هي القضية التعليقية من أنه لو انضم إليه الجزء الآخر ليجب فعلا وأنه يكفي لصحة التنزيل هذا المقدار الناشئ من جعله جزء ، فلا دور ، لعدم توقفه على فعلية الجزء الآخر.
2 ـ أقول : لو كان نتيجة جعل المودى منزلة الواقع حكما مستقلا عن إرادة مستقلة لا يلزم تصويب ، بل غاية الأمر جعل حكم ظاهري في طول الواقع ، كما سيأتي بيانه ( إن شاء الله تعالى ) فضلا عن أن يكون نتيجته جعل حكم طريقي ـ الذي عبارة عن حكم وخطاب ظاهري ـ مبرز للإرادة الواقعية ، بل الحكم الواقعي أيضا ، لأنه تتم مع إرادته ، كما هو الشأن في جميع الخطابات الايجابية الظاهرية وغيرها ، كما سيجيء شرحها في بحث الظن ( إن شاء الله ) فتدبر.


(29)
التركيب من العلم ومتعلقه ليس على حد سائر الموضوعات المركبة من الأمور المتباينة كالصلاة ، فان المركب من الأمور المتباينة يقتضي أن يكون لكل من الأجزاء إحراز يخصه ، وقد يكون إحراز بعض الأجزاء متقدما زمانا أو رتبة على إحراز الجزء الآخر ، ولا يتوقف إحراز أحدها على إحراز البقية. نعم : الأثر يتوقف على إحراز الجميع ، إما بالوجدان ، وإما بالتعبد ، وهذا بخلاف الموضوع المركب من العلم ومتعلقه (1) فإنه لا يمكن أن يتعلق بكل من العلم والمتعلق إحراز يخصه ، إذ ليس للإحراز إحراز ولا يتعلق العلم بالعلم ، بل بنفس إحراز المتعلق يتحقق كلا جزئي المركب في زمان واحد وفي مرتبة واحدة ، ولا يعقل أن يتقدم إحراز المتعلق على إحراز الجزء الآخر ، وإحراز المتعلق ، إما أن يكون بالعلم الوجداني كما إذا علم وجدانا بالملكية فيجوز له الشهادة لصاحبها ـ بناء على أخذ العلم جزء لموضوع الشهادة ـ وإما أن يكون بالتعبد الشرعي بجعل ما يكون محرزا للمتعلق ، فيتحقق أيضا كلا الجزئين بنفس الجعل الشرعي كما كان يتحقق بالعلم الوجداني. وهذا إنما يستقيم بناء على بيناه : من أن المجعول في باب الطرق والأمارات نفس الوسطية في الإثبات والمحرزية للمتعلق ، فيتحقق كلا جزئي الموضوع بنفس هذا الجعل ، بلا حاجة إلى جعلين ولحاظين.
    وأما لو بنينا على تعلق الجعل بالمؤدى : فهذا الجعل بنفسه لا يوجب تحقق كلا الجزئين ، إذ الإحراز لم يتحقق بهذا الجعل ، وبعد ذلك يستحيل أن يتحقق جزئه الآخر ، لما عرفت : من أن الموضوع المركب من الإحراز ومتعلقه
1 ـ أقول : هذا البيان صحيح على مبناك : من كون دليل الأمارة ناظرا إلى تتميم الكشف وجاعلا لإحراز الواقع تشريعا وادعاء ، وأما بناء على مسلك أستاذنا : من تنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فلا يكون في البين جعل إحراز تشريعا ، وإنما الحاصل من التنزيل المزبور الإحراز الوجداني بالواقع التعبدي ، وهو جزء الموضوع ، فيحتاج جزئه الآخر إلى جعل آخر ، وهذا الجعل لا يفي به لولا دعوى الملازمة العرفية الممنوعة ، مع الإغماض عن الدور المزبور الذي اعترفت به ، كما أنك أيضا اعترفت بأن الإشكال يرد على تنزيل المؤدى ، فمرجع هذا الإشكال إلى الإشكال السابق عليه ، فلا حاجة إلى تكثيره.

(30)
يتحقق كلا جزئيه في مرتبة واحدة ولا يتقدم إحراز أحدهما على الآخر ، ولا يمكن أن يصير الإحراز بشيء آخر غير الملكية مثلا في المثال المتقدم جزء موضوع الشهادة بعد ما اخذ جزء الموضوع هو إحراز نفس الملكية ، والإحراز الحاصل من تنزيل المؤدى هو إحراز الحجية والعلم بها ، وأين ذلك من العلم بالملكية ؟ و كيف ينضم العلم بالحجية إلى الملكية التي هو مؤدى الإمارة ويلتئم جزئي الموضوع من الإحراز والملكية مع أن الموضوع هو إحراز الملكية (1) فتأمل. (2).
    فتحصل من جميع ما ذكرنا : أن قيام الطرق والأصول مقام العلم الطريقي لا يحتاج إلى كلفة جعلين ولحاظين ، بل نفس أدلة حجيتها تفي بذلك بعد ما كانت حجيتها عبارة عن وسطيتها في الإثبات ووقوعها في طريق إحراز الواقع وكونها محرزة له ـ كما هو الشأن في الطرق العقلائية ـ بل الظاهر أنه ليس للشارع طريق مخترع ، بل الطرق الشرعية كلها إمضاء لما في يد العقلاء من الطرق المحرزة لمؤدياتها ، ولكونها واقعة في طريق إحراز الواقع كان حكومتها حكومة ظاهرية ، ويستقيم حينئذ جميع ما فرع على ذلك مما يقتضيه أصول المخطئة من عدم الإجزاء وإيجاب الإعادة والقضاء عند المخالفة ، وهذا بخلاف ما إذا كان المجعول هو المؤدى ، فإنه يكون من الحكومة الواقعية ولابد حينئذ من القول بالإجزاء ، ويكون ذلك من التصويب المعتزلي. على ما سيأتي تفصيله.
    ثم إن شيخنا الأستاذ ( مد ظله ) قد تعرض في المقام لوجه حكومة الأمارات على الأصول ، وحكومة الأمارات والأصول بعضها على بعض ، وأن
1 ـ وجهه : هو أن المدعى تنزيل الشارع العلم بالحجية والمؤدى منزلة العلم بالملكية ، ولا إشكال في أنه يمكن للشارع هذا التنزيل ، والمفروض دعوى الملازمة العرفية على هذا التنزيل ، فينبغي الاشكال في الملازمة العرفية وأنه ليس هناك ملازمة ، ولكن بعد تصديق الملازمة وأن المجعول هو المؤدى لا يرد عليه الاشكال الأخير ، فالذي يرد عليه منع كون المجعول هو المؤدى ، ثم منع الملازمة العرفية ، ثم استلزام ذلك الدور ( منه ).
2 ـ أقول : رحمة الله عليك ! حيث نبهت وجئت بما فيه في شرح التأمل ، ولكن يا ليت قنعت في الإشكال بالأولين دون الأخير !.
فوائد الاصول ـ الجزء الثالث ::: فهرس