|
|||
(151)
الرئيس مجال ، وأما إذا اتفق الاتفاق بلا تواطئ منهم على ذلك ، فهو مما لا يلازم عادة رضا الرئيس ولا يمكن دعوى الملازمة.
وأما مسلك تراكم الظنون : فهو مما لا يندرج تحت ضابط كلي ، إذ يختلف ذلك باختلاف مراتب الظنون والموارد والأشخاص ، فقد يحصل من تراكم الظنون القطع لشخص وقد لا يحصل ، فلا يصح أن يجعل ذلك مدركا لحجية الإجماع. فالإنصاف : أن الذي يمكن أن يدعى ، هو أن يكون اتفاق العلماء كاشفا عن وجود دليل معتبر عند المجمعين ، ولكن هذا إذا لم يكن في مورد الإجماع أصل أو قاعدة أو دليل على وفق ما اتفقوا عليه ، فإنه مع وجود ذلك يحتمل أن يكون مستند الاتفاق أحد هذه الأمور ، فلا يكشف اتفاقهم عن وجود دليل آخر وراء ذلك. نعم : لو كان الاتفاق مستمرا من زمان الصحابة المعاصرين للأئمة ( عليهم السلام ) ك « زرارة » و « محمد بن مسلم » إلى زمان أرباب الفتوى إلى زمن المتأخرين ، فهو يكشف كشفا قطعيا عن رضاء المعصوم بذلك ولا يلتفت إلى القاعدة أو الأصل الموافق ، إلا أن تحصيل مثل هذا الاتفاق مما لا سبيل إليه ، بل القدر الممكن هو تحصيل الاتفاق من زمان أرباب الفتوى ، وهذا الاتفاق لا يكشف عن نفس رضاه ( عليه السلام ) بل أقصاه أنه يكشف عن وجود دليل معتبر عند الكل إذا لم يكن في المورد أصل أو قاعدة ، فإنه لا يمكن الاتفاق في الفتوى اقتراحا بلا مدرك. ومما ذكرنا ظهر : ما في عد الإجماع دليلا برأسه في مقابل الأدلة الثلاثة الأخر ، فإنه على جميع المسالك لا يكون الإجماع مقابلا للسنة. نعم : بناء على ما قربناه من المسلك يكون التقابل بين الإجماع والسنة تقابل الإجمال والتفصيل ، فان الإجماع يكشف عن وجود دليل على الإجمال ، فتأمل. (152)
إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الحاكي للاجماع إنما يحكى السبب الكاشف عن المسبب والمنكشف ، إلا على مسلك الدخول ، قد عرفت فساد أصل المسلك. وأما على المسالك الاخر : فالحكاية إنما هي للسبب ، وقد تقدم أن الحكاية إن رجعت إلى السبب تكون عن حس (1) لا عن حدس ، فلا بد من الأخذ بما يحكيه من السبب ، ويندرج ذلك في حجية الخبر الواحد ، فان كانت الحكاية لتمام السبب في نظر المنقول إليه فهو ، وإلا احتيج إلى ضم ما يكون تمام السبب ، وهذا يختلف باختلاف الحاكي والمحكى له ، فان كان الحاكي للإجماع من المتقدمين على « العلامة » و « المحقق » و « الشهيد » ـ رحمهم الله ـ فلا عبرة بحكايته ، لأن الغالب فيهم حكاية الإجماع على كل ما ينطبق على أصل أو قاعدة في نظرهم ، ولا عبرة بنظر الغير في تطبيق المورد على الأصل أو القاعدة وإن كان نفس الأصل والقاعدة مورد الإجماع.
وأما إذا كان الحاكي من قبيل « الشهيد » و « المحقق » و « العلامة » فالإنصاف اعتبار حكايتهم ، لأنهم يحكون نفس الفتاوى وبلسان الإجماع الكاشفة عن وجود دليل معتبر مع عدم وجود أصل أو قاعدة أو دليل في البين. هذا خلاصة الكلام في الإجماع المنقول ، ولا يستحق إطالة الكلام فيه أزيد مما ذكرنا ، فتدبر جيدا حتى يتضح لك الحال. ولا بأس بالإشارة إلى أقسام الشهرة وأحكامها في المقام ، وإن كان يأتي الكلام فيها في مبحث التعادل والتراجيح. 1 ـ أقول : في إطلاقه نظر. (153)
فنقول : الشهرة على أقسام ثلاثة : الشهرة الروايتية ، والشهرة العملية ، والشهرة الفتوائية.
أما الشهرة الروايتية : فهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها وتكررها في الأصول والكتب قبل الجوامع الأربع ، وهذه الشهرة هي التي تكون من المرجحات في باب التعارض والمقصودة من قوله عليه السلام : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » (1). وأما الشهرة العملية : فهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية والاستناد إليها في مقام الفتوى ، وهذه الشهرة هي التي تكون جابرة لضعف الرواية وكاسرة لصحتها إذا كانت الشهرة من قدماء الأصحاب القريبين من عهد الحضور ، لمعرفتهم بصحة الرواية وضعفها. ولا عبرة بالشهرة العملية إذا كانت من المتأخرين ، خصوصا إذا خالفت شهرة القدماء ، والنسبة بين الشهرة الروايتية والشهرة العملية العموم من وجه ، إذ ربما تكون الرواية مشهورة بين الرواة ولكن لم يستندوا إليها في مقام العمل ، وربما ينعكس الأمر ، وقد يتوافقان. وأما الشهرة الفتوائية : فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى في مسألة لا استناد إلى رواية ، سواء لم تكن في المسألة رواية ، أو كانت رواية على خلاف الفتوى ، أو على وفقها ولكن لم يكن عن استناد إليها ، وهذه الشهرة الفتوائية لا تكون جابرة لضعف الرواية ، إذ الجبر إنما يكون بالاستناد إلى الرواية ولا أثر لمجرد مطابقة الفتوى لمضمون الرواية بلا استناد إليها ، ولكن 1 ـ مستدرك الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 2 (154)
تكون كاسرة لصحة الرواية إذا كانت الشهرة من القدماء ، لأن الكسر إنما يتحقق بالإعراض وعدم العمل بالرواية.
وهذه الشهرة الفتوائية هي المبحوث في حجيتها وعدم حجيتها في المقام ، وقد استدل للحجية بوجوه : الوجه الأول ، قوله ( عليه السلام ) في مقبولة ابن حنظلة : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فان المجمع عليه لا ريب فيه ». الخبر (1). وجه الاستدلال : هو أن المراد من « المجمع عليه » ليس اتفاق الكل بقرينة قوله عليه السلام : « ويترك الشاذ » فلابد وأن يكون المراد منه المشهور بين الأصحاب ، فيرجع مفاد التعليل إلى أن المشهور مما لا ريب فيه. وعموم التعليل يشمل الشهرة الفتوائية وإن كان المورد الشهرة الروايتية ، وكذا قوله عليه السلام في مرفوعة زرارة : « خذ بما اشتهر بين أصحابك » (2) بدعوى عموم الموصول لكل ما اشتهر بين الأصحاب. ولا يخفى عليك ضعف الاستدلال. أن التعليل : فلأنه ليس من العلة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلية التي يتعدى عن موردها ، فان المراد من قوله « فان المجمع عليه لا ريب فيه » إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعم الشهرة الفتوائية ، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصح حمل قوله عليه السلام « مما لا ريب فيه » عليه بقول مطلق ، بل لابد من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما يقابله ، وهذا يوجب خروج 1 ـ الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 1 2 ـ مستدرك الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 2 (155)
التعليل عن كونه كبرى كلية ، لأنه يعتبر في الكبرى الكلية صحة التكليف بها ابتداء بلا ضم المورد إليها ، كما في قوله « الخمر حرام لأنه مسكر » فإنه يصح أن يقال « لا تشرب المسكر » بلا ضم الخمر إليه ، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك ، لأنه لا يصح أن يقال « يجب الأخذ بكل ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله » وإلا لزم الأخذ بكل راجح بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظن المطلق ، وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها ، فالتعليل أجنبي عن أن يكون من الكبرى الكلية التي لا يصح التعدي عن مورده. (1).
وأما الموصول : فلا يعم الشهرة الفتوائية ، بل هو خاص بالشهرة الروايتية ، وليس ذلك من جهة تخصيص العام بالمورد حتى يقال : إن المورد لا يخصص العام ، بل من جهة عدم العموم. الوجه الثاني : قوله تعالى في ذيل آية النبأ : « أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين » (2) بتقريب : أن المراد من « الجهالة » السفاهة والاعتماد على ما لا ينبغي الاعتماد عليه ، والاعتماد على الشهرة ليست من السفاهة : وفيه : أن أقصى ما يقتضيه التعليل هو عدم جواز الأخذ بكل ما يقتضي الجهالة والسفاهة خبرا كان أو غيره ، هذا لا يقتضي وجوب الأخذ بكل ما ليس فيه جهالة ، إذ ليس له مفهوم حتى يتمسك به ، ألا ترى : أن قوله « لا تأكل الرمان لأنه حامض » لا يدل على جواز أكل كل ما ليس بحامض ، وذلك واضح. 1 ـ كذا في نسخة الأصل ، والظاهر : زيادة كلمة « لا » ( المصحح ). 2 ـ سورة الحجرات الآية 6 (156)
الوجه الثالث : دعوى أن الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية أقوى من الظن الحاصل من الخبر الواحد.
وفيه : أن حجية الخبر ليس لأجل إفادته الظن ، بل لأجل قيام الدليل عليه وإن كانت الحكمة في حجيته كونه مفيدا للظن نوعا. نعم : لو قلنا باعتبار الظن المطلق كان من أحد أفراده الشهرة الفتوائية إذا حصل منها الظن ، وإلا فلم يقم دليل بالخصوص على حجية الظن الحاصل من الشهرة الفتوائية. إعلم : أن إثبات الحكم الشرعي من الخبر الواحد يتوقف على : أصل الصدور ، وجهة الصدور ، وعلى الظهور ، وإرادة الظهور. والمتكفل لإثبات الظهور وإرادة الظهور هو الأوضاع اللغوية ، والقرائن العامة ، والأصول العقلائية ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في الفصل الأول. والمتكفل لإثبات جهة الصدور ـ من كون الخبر صادرا لبيان حكم الله الواقعي لا لأجل التقية ونحوها ـ هو الأصول العقلائية أيضا ، فان الأصل العقلائي يقتضي أن يكون جهة صدور الكلام من المتكلم لبيان المراد النفس الأمري وأن مؤداه هو المقصود ، إلا أن يثبت خلافه ، وعلى ذلك استقرت طريقة العقلاء واستمرت سيرتهم في محاوراتهم ، ويأتي توضيح ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ في محله. والمتكفل لأصل الصدور هو الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد ، وهو (157)
المقصود بالبحث في هذا الفصل ، وهو من أهم المسائل الأصولية ، لما تقدم : أن الموضوع في علم الأصول ليس خصوص الأدلة الأربعة بذواتها أو بوصف دليليتها ليقع الإشكال في بعض المسائل المهمة ـ كمسألة حجية الخبر الواحد و كمسألة التعادل والتراجيح ـ من حيث عدم رجوع البحث عنها إلى البحث عن عوارض الأدلة فيحتاج إلى إتعاب النفس لإدراج البحث عنها في البحث عن عوارض الأدلة ، كما أتعب الشيخ ( قدس سره ) نفسه الزكية في ذلك ، بتقريب : أن البحث عن حجية الخبر الواحد يرجع إلى البحث عن أن السنة ـ التي هي أحد الأدلة الأربعة ـ هل تثبت بخبر الواحد ؟ أو لا تثبت به ؟ فيكون بحثا عن عوارض الموضوع.
وقد أورد عليه : بأن البحث عن ثبوت الموضوع ولا ثبوته بمفاد « كان التامة » لا يرجع إلى البحث عن عوارض السنة ، فان البحث عن عوارض الشيء إنما يكون بعد الفراغ عن وجوده ، وإن كان المراد من الثبوت ، الثبوت التعبدي بمفاد « كان الناقصة » لا الثبوت الواقعي ـ ليؤول البحث إلى البحث عن التعبد بالسنة المحكية بخبر الواحد ـ فهذا يرجع في الحقيقة إلى البحث عن عوارض الخبر لا عن عوارض السنة. هذا ، ولكن يمكن توجيه ما أفاده الشيخ ( قدس سره ) بما لا يرد عليه ذلك ، ببيان : أن المراد من ثبوت السنة ولا ثبوتها ليس هو الثبوت الواقعي ولا ثبوته ليرجع البحث إلى البحث عن وجود الموضوع ولا وجوده ، بل المراد منه هو أن البحث عن حجية الخبر يرجع إلى البحث عن أن مؤدى الخبر هل هو من السنة أو لا ؟ وإن شئت قلت : إن البحث إنما هو عن انطباق السنة على مؤدى الخبر وعدم الانطباق (1) وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنة ولا 1 ـ أقول : انطباق المهية على فرد ليس إلا ملازما لوجوده في ضمنه ، ومثل هذا البحث وإن كان من عوارض المهية تصورا ، ولكن هو عين البحث عن وجودها ضمن هذا الفرد وهويته ، ولو كان هذا المقدار يكفي (158)
وجودها ، بل يكون البحث عن عوارض ، السنة ، بداهة أن انطباق الموضوع وعدم انطباقه يكون من العوارض اللاحقة له ، كالبحث عن وجود الموضوع في زمان أو مكان ولا وجوده.
هذا ، ولكن لو أمكننا إدراج مسألة حجية الخبر الواحد في مسائل الأصول بما ذكرناه من التوجيه ، فلا يمكننا إدراج كثير من مهمات المباحث في علم الأصول لو جعلنا الموضوع خصوص الأدلة الأربعة ، مع أنه لا ملزم إلى ذلك بعد إمكان أخذ الموضوع بمعنى يعم جميع هذه المسائل ، وهو « كل ما يقع في طريق الاستنباط » ومن أوضح مصاديقه مسألة حجية الخبر الواحد ، فإنها تقع كبرى لقياس الاستنباط والجزء الأخير من علته ، بل عليها يدور رحى الاجتهاد ، فان الأخبار المتواترة والمحفوفة بالقرائن القطعية قليلة جدا لا تفي بمعظم الفقه ، بل استفادة غالب الأحكام إنما تكون من الخبر الواحد ، فلابد للأصولي من إثبات حجيته ، أو الاعتماد على الظن المطلق بمقدمات الانسداد. ثم لا يخفى عليك : أنه قد انعقد الإجماع على حجية الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب ، ولكن لا يصح الاعتماد والإتكال على هذا الإجماع ، لاختلاف مشرب المجمعين في مدرك الحجية ، فان منهم من يعتمد على هذه الأخبار لتخيل أنها قطعية الصدور ، ومنهم من يعتمد عليها من أجل اعتماده على الظن المطلق بمقدمات الانسداد ، ومنهم من يعتمد عليها لأجل قيام الدليل بالخصوص عنده على حجيتها ، والإجماع الذي يكون هذا شأنه لا يصح الإتكال عليه في البحث عن العوارض ، يلزم دخول البحث في وجود المهية وانطباقه على الخارج في المباحث كلها ، وهو كما ترى !. وأما المثال الذي مثل به من البحث عن وجود شيء في المكان ، ففيه : أن القياس مع الفارق ، إذ الكينونة في الزمان أو المكان جهة طارية على الوجود فارغا عن وجوده ، وهذا بخلاف البحث عن وجود الطبيعة في ضمن فرد ، إذ هو ليس بحثا عن عوارض الوجود فارغا عن أصل وجوده ، بل مرجع البحث فيه إلى البحث عن أصل وجودها في ضمن الفرد وعدمه ، كما لا يخفى ، فتدبر. (159)
وأخذه دليلا في المسألة ، ولا يكفي مجرد ثبوت الإجماع على النتيجة مع اختلاف نظر المجمعين (1) فان هذا الإجماع لا يكشف عن رأى المعصوم ( عليه السلام ) ولا عن وجود دليل معتبر ، بل الكاشف عن ذلك هو الإجماع على الحكم الشرعي مرسلا ، فلا عبرة بالإجماع التقييدي الذي هو عبارة عن اختلاف مدرك المجمعين.
فلابد للقائل بحجية أخبار الآحاد من إقامة الدليل على مدعاه إذا لم يكن ممن يرى حجية مطلق الظن بمقدمات الانسداد ولم تكن الأخبار في نظره مقطوعة الصدور ـ كما هو الواقع ـ بداهة أنه لا يمكن القطع بصدور جميع الأخبار المودعة فيما بأيدينا من الكتب مع ما بينها من الاختلاف الفاحش ، فدعوى القطع بالصدور غريبة جدا ! خصوصا من بعد زمان الغيبة الكبرى ! وما كنا نترقب من المتأخرين هذه الدعوى ، وقد نسب إلى شرذمة من الأخباريين ، بل هذه الدعوى ممن كان عهده قريبا بزمان الحضور كانت أولى وأحرى ك « السيد المرتضى » لأنه كان يتمكن من العلم بما صدر من الأخبار وما دس فيها. وأما اعتبارها من باب الظن المطلق فهو مبنى على صحة مقدمات الانسداد ، وسيأتي الكلام فيها ، فعلى هذا ينبغي إقامة الدليل بالخصوص على حجية ما بأيدينا من الأخبار ، ولنقدم الكلام أولا في أدلة النافين للحجية ، ثم 1 ـ أقول : لا يخفى أن مجرد اختلاف استناد كل طائفة من المجمعين لجهة غير الجهة الأخرى إنما يضر بانعقاد الإجماع في فرض انصرافه عن فتواه لو التفت إلى بطلان مستنده ، وإلا فلو فرض عدم رجوعه عن فتواه مع علمه بفساد ما تشبث به ، تكشف ذلك عن أن ما استندوا به من قبيل النكات بعد الوقوع وتطبيق ما هو المسلم عندهم على وجه وقاعدة ، ومثل ذلك لا يضر بالإجماع بتا ، وحينئذ لنا أن ندعي أنه لو فرض عدم قطعية سند الأخبار ولا تمامية دليل الانسداد ولا تمامية الأدلة المخصوصة : من آية النبأ وغيرها من الآيات والروايات ، فهل يرفعون الأصحاب يدهم عن مثل هذه الأخبار في مقام استنباط الأحكام ؟ كلا وحاشا ! وذلك يكشف عن أن العمل بأخبار الآحاد في الجملة مسلم عندهم. نعم : إنما الكلام في تعينها بخصوص طائفة دون طائفة ، فبالأخرة ربما ينتهى إلى العلم الإجمالي بوجود الحجة بين الطوائف ، فيؤخذ بلوازمه ، فتدبروا فهم. (160)
نعقبه بذكر أدلة المثبتين لها.
فنقول : قد استدل النافون بالأدلة الأربعة. فمن الكتاب : الآيات الناهية عن العمل بالظن وما وراء العلم ، كقوله تعالى : « قل إن الظن لا يغني من الحق شيئا » (1). ومن السنة : الأخبار الناهية عن العمل بالخبر إذا لم يكن عليه شاهد من كتاب الله تعالى والأخبار الآمرة بطرح ما خالف كتاب الله تعالى ، وهي كثيرة تبلغ التواتر ، ولا شبهة أن غالب الأخبار التي بأيدينا ، إما أن تكون مخالفة لكتاب الله تعالى ولو بالعموم ، وإما أن لا يكون عليها شاهد من الكتاب ، فلا يجوز العمل بها ، خصوصا بعد ما ورد في جواب سؤال « داود بن فرقد » كما في البحار عن بصائر الدرجات قال : « كتبت إليه ( عليه السلام ) عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك قد اختلفوا علينا فيه ، كيف العمل به على اختلافه ؟ فكتب ( عليه السلام ) بخطه : ما علمتم أنه قولنا فالزموه وما لم تعملوا فردوه إلينا » (2). ومن الإجماع : ما ادعاه السيد ( رحمه الله ) في مواقع من كلامه ، حتى جعل العمل بالخبر الواحد بمنزلة العمل بالقياس في قيام الضرورة على بطلانه. ومن العقل : ما ذكره « ابن قبة » من أن العمل بخبر الواحد موجب لتحليل الحرام وتحريم الحلال ، والعقل يستقل بقبحه على الشارع. وأنت خبير بأنه لا دلالة لشئ من هذه الأدلة على المنع عن العمل بخبر الواحد. أما الآيات : فلأن مساقها حرمة العمل بالظن في باب العقائد وأصول الدين وعلى فرض تسليم عمومها لمطلق الأحكام الشرعية ، فغايته أن تكون 1 ـ سورة يونس الآية 36 2 ـ بصائر الدرجات : الجزء العاشر الباب 19 الحديث 26 ص 524 (161)
دلالتها على المنع عن الظن الحاصل من الخبر الواحد بالعموم ، فلابد من تخصيصه بما سيأتي من الأدلة الدالة على جواز العمل بخبر الواحد ، بل نسبة تلك الأدلة إلى الآيات ليست نسبة التخصيص بل نسبة الحكومة ، فان تلك الأدلة تقتضي إلقاء احتمال الخلاف وجعل الخبر محرزا للواقع ، فيكون حاله حال العلم في عالم التشريع ، فلا يمكن أن تعمه الأدلة الناهية عن العمل بالظن لنحتاج إلى التخصيص ، لكي يقال : إن مفاد الآيات الناهية آبية عن التخصيص ، هذا في غير السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الموثوق به.
وأما السيرة العقلائية : فيمكن بوجه أن تكون نسبتها إلى الآيات الناهية نسبة الورود بل التخصص ، لأن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظن ، لعدم التفاتهم إلى احتمال مخالفة الخبر للواقع ، فالعمل بخبر الثقة خارج بالتخصيص عن العمل بالظن ، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأن تكون رادعة عن السيرة العقلائية القائمة على العمل بخبر الثقة (1) 1 ـ أقول : لا يخفى أن السيرة العقلائية بالنسبة إلى أمور معادهم الذي من هذه الجهة يدخل في السيرة المتشرعة فلا شبهة أن أصل استقراره منوط بعدم رادعية الآيات الناهية عنها ، فمهما استقرت يستكشف بأنه لا يكون في البين رادع ولا مانع بأي وجه. وأما سيرتهم في أمور معاشهم فحجيته مبنى على إمضاء الشارع إياهم في الشرعيات أيضا ، كما هو الشأن في سيرتهم في أمر معادهم بمذهبهم الخارجة عن مذهبنا ، فان حجيته أيضا مبنى على إمضاء لهم ، ففي هذه الصورة لا تصلح هذه السيرة مخصصة ولا ورودا ولا حكومة على الآيات الناهية ، لأن هذه الجهات بعد الفراغ عن حجيتها ، وهذه الجهة مبنية على عدم رادعية الآيات الناهية ، فعدم رادعيتها يقع في الرتبة السابقة عن حجيتها ، لأنه بمنزلة شرطها ، ففي الرتبة السابقة المزبورة أصالة العموم في النواهي محكمة ، فيخرج مثله عن الحجية ، وحينئذ كيف يشكل الدور في الرادعية ؟ مع كون عدمها شرطا في حجيتها وحجيتها موجب لورودها ، فمرتبة ورودها أو حكومتها على الآيات قهرا متأخرة عن الحجية المتأخرة عن عدم الرادعية ، ولازمه تأخر نقيضه من الرادعية في الرتبة السابقة ، وحينئذ يستقر الدور المزبور من طرف التخصيص أو الورود ، لا العكس ، كما لا يخفى. ومن جهة ذلك نقول ـ وسيأتي في محله ـ إن ما يصلح للحجية والتشبث به في حجية أمارة إنما هو السيرة العقلائية المستقرة في أمورهم الشرعية على وفق مذهبنا ، إذ هو الذي لا يكاد ردع الآيات لها ، لأن نفس وجودها ملازم لعدم مانعية الآيات ، بلا احتياج حجيتها على عدم رادعية الآيات ، بخلاف السيرة العقلائية الجارية في (162)
فإنه مضافا إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات الناهية يلزم الدور المحال ، لأن الردع عن السيرة بالآيات الناهية يتوقف على أن لا تكون السيرة مخصصة لعمومها ، وعدم كونها مخصصة لها يتوقف على أن تكون رادعة عنها.
وإن منعت عن ذلك كله ، فلا أقل من أن يكون حال السيرة حال سائر الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد : من كونها حاكمة على الآيات الناهية ، والمحكوم لا يصلح لأن يكون رادعا عن الحاكم ، كما لا يخفى ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى. وأما السنة : فلأن الأخبار الدالة على طرح الخبر المخالف أو الذي لا شاهد عليه من الكتاب والعمل بخبر الموافق والذي عليه شاهد من الكتاب وإن كانت متواترة معنى أو إجمالا ـ للعلم بصدور بعضها عن المعصوم ( عليه السلام ) وهي آبية عن التخصيص ـ كما لا يخفى على المتأمل فيها ـ إلا أنه يعلم أيضا بصدور جملة من الأخبار المخالفة للكتاب ولو بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد ، لا يسعنا طرح جميع ما بأيدينا من الأخبار المودعة في الكتب ، لأنه يلزم من الاقتصار على ما يستفاد من ظاهر الكتاب تعطيل كثير من الأحكام ، خصوصا في باب العبادات ، بل معظم الأحكام إنما يستفاد من الأخبار ، ولو بنينا على الأخذ بظاهر هذه الأخبار الناهية عن العمل بما يخالف الكتاب أو الذي لا يوجد له شاهد منه والاقتصار في العمل بما يوافق ظاهر الكتاب يلزم طرح جميع ما بأيدينا من الأخبار المخالفة لظاهر الكتاب بالعموم أمورهم الغير الراجعة إلى شرعيات مذهبنا ، فان حجيتها مبنية على إمضاء الشارع الملازم مع عدم ردعه. ولئن شئت قلت : إن ما أفيد من الدور في الرادعية إنما يتم في فرض اقتضاء الحجية في نفس السيرة وأن الردع مانع عنه ، فإنه لابد وأن يكون المانعية تعليقية ، فلا محيص من تأثير المقتضى التنجيزي أثره ، فيرفع موضوع المانعية والرادعية ، وأما لو قلنا : بأن قوام حجيتها بامضاء الشارع بحيث لولاه لا اقتضاء في نفس بنائهم للحجية وأن الإمضاء المزبور متمم لاقتضائه ، فلا يكون اقتضائها للحجية إلا تعليقيا ، ومع هذا الوصف لا محيص من تشكيل الدور في طرف المخصصية ، لا الرادعية ، فتدبر في أمثال المقام ، كي لا يختلط عليك الأمر. (163)
والخصوص والإطلاق والتقييد ، وهذا مما لا سبيل إلى الالتزام به ، فلا بد وأن يكون المراد من « المخالفة » غير المخالفة بالعموم والخصوص أو الإطلاق والتقييد : من المخالفة بالتباين الكلي أو بالعموم من وجه ، بل المخالفة بالعموم والخصوص لا تعد من المخالفة لما بينهما من الجمع العرفي ، والتخالف بينهما إنما يكون بدويا يزول بالتأمل في مدلولهما ، فالأخبار الناهية عن العمل بالخبر المخالف للكتاب لا تعم المخالفة بالعموم والخصوص.
ولا يبعد أن يكون صدور هذه الأخبار في مقام الرد على الملاحدة الذين كانوا يضعون الأخبار ويدسونها في كتب الأصحاب هدما للشريعة المطهرة ، حتى نقل عن بعضهم انه قال ـ بعد ما استبصر ورجع إلى الحق ـ « إني قد وضعت إثنا عشر ألف حديثا » فأقرب المحامل لهذه الأخبار حملها على الخبر المخالف للكتاب بالتباين أو بالعموم من وجه ، وإن كان يبعد حملها على المخالفة بالتباين ، لأنه ليس في الأخبار ما يخالف الكتاب بالتباين الكلي ، حتى أن من يريد الوضع والدس في الأخبار لا يضع ما يخالف الكتاب بالتباين الكلي ، لأنه يعلم أنه من الموضوع. ولا يبعد أيضا حمل الأخبار الناهية على الأخبار الواردة في باب الجبر والتفويض والقدر ونحو ذلك. ويمكن أيضا حمل بعضها على صورة التعارض بين الروايات ، فيؤخذ بالموافق للكتاب ويطرح المخالف له. وكيف كان : لابد من حمل هذه الأخبار على أحد هذه المحامل ، لما عرفت من أنه لو بنينا على شمولها للمخالفة بالعموم والخصوص يلزم تعطيل كثير من الأحكام. ومما ذكرنا يظهر ما في الاستدلال برواية « داود بن فرقد » فإنه مضافا إلى أنها من أخبار الآحاد ولا يصلح التمسك بها لما نحن فيه ـ لأنه يلزم من حجيتها عدم حجيتها ـ لا تشمل العمل بخبر الثقة ، لأنه ليس من أفراد قوله (164)
عليه السلام : « وما لم تعلموا فردوه إلينا » (1) بل أدلة حجيته تقتضي أن يكون من أفراد قوله عليه السلام : « ما علمتم أنه قولنا فالزموه » (2) بالبيان المتقدم في الجواب عن الاستدلال بالآيات الناهية عن العمل بالظن.
وأما الإجماع : فموهون بمصير الأكثر إلى خلافه ، مع أنه معارض بمثله. وأما الدليل العقلي : فقد عرفت ما فيه في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ، من أنه لا يلزم من التعبد بكلى الأمارات تحليل الحرام وتحريم الحلال. هذا كله في أدلة النافين. وأما المثبتون لحجية الخبر الواحد : فقد استدلوا أيضا بالأدلة الأربعة. أما الكتاب : فبآيات ، منها : آية النبأ ، قال تعالى : « إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين » (3) وتقريب الاستدلال بها يمكن بأحد وجهين : الأول : بمفهوم الشرط ، ببيان أنه تعالى علق وجوب التبين عن الخبر بمجئ الفاسق به ، فإذا انتفى الشرط وكان المخبر عدلا ينتفى وجوب التبين عن خبره ، وإذا لم يجب التبين عن خبر العادل ، فاما أن يرد ، وإما أن يقبل ، ولا سبيل إلى الأول ، لأنه يلزم أن يكون العادل أسوء حالا من الفاسق ، فيتعين الثاني وهو المطلوب ، لأنه لا نعنى بحجية الخبر الواحد إلا قبوله. ولعل أخذه هذه المقدمة الأخيرة وهي أنه « لو لم يجب قبول قوله يلزم أن يكون أسوأ حالا من الفاسق » مبنى على كون التبين واجبا نفسيا ، ولو كان 1 ـ الوسائل الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 36. 2 ـ الوسائل الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 36. 3 ـ سورة الحجرات : الآية 6. (165)
وجوبه شرطا للعمل بخبر الفاسق فلا نحتاج إلى هذه المقدمة (1) فإنه على هذا يكون مفاد المنطوق وجوب التبين عند العمل بخبر الفاسق ومفاد المفهوم عدم وجوب التبين عند العمل بخبر العادل ، فيتم الاستدلال بلا ضم تلك المقدمة.
ولا إشكال في أن وجوب التبين يكون شرطيا لا نفسيا كما يظهر ذلك من التعليل في ذيل الآية ، فان إصابة القوم بالجهالة إنما تكون عند العمل بخبر الفاسق لا مطلقا ، فلا يحتمل الوجوب النفسي في التبين ، وذلك واضح. الثاني : بمفهوم الوصف ، وتقريبه : ان الآية الشريفة نزلت في شأن « الوليد » لما أخبر بارتداد « بني المصطلق » وقد اجتمع في خبر « الوليد » وصفان : أحدهما كونه من الخبر الواحد ، ثانيهما كون المخبر به فاسقا ، ولا إشكال أن العلة لوجوب التبين لو كان هو الخبر الواحد لكان ذلك أولى بالذكر من كون المخبر به فاسقا ، فان اتصاف الخبر خبرا واحدا يكون مقدما بالرتبة على اتصافه بالفاسق ، لأن خبر الواحد يكون مقسما لخبر الفاسق والعادل ، فيكون الخبر الواحد بمنزلة الموضوع للفاسق. وبعبارة أخرى : يجتمع في خبر الفاسق وصفان : وصف ذاتي وهو كونه خبرا واحدا ، ووصف عرضي وهو كونه فاسقا ، ومن المعلوم : أنه لو اجتمع في 1 ـ أقول : لو كان التبين شرطا للعمل الواجب ، فمجرد شرطية وجوب التبين لا يجدى لنفي المقدمة الأخرى ، إلا في فرض كون نظر الآية إلى نفي الشرطية فارغا عن وجوب العمل ، وإلا فلو كانت الآية في مقام نفي وجوب التبين لا نفي شرطيته ، فغاية شرطية وجوبه كونه وجوبا غيريا للعمل به ، ونفى هذا الوجوب الغيري للتبين لا يقتضي نفي شرطيته ، بل يناسب مع نفي وجوب ذيها أيضا ، فإرجاع مثل ذلك إلى الاحتمال الأول وصرفه عن الثاني إلى مقدمة الأسوئية. نعم : لو كان التبين شرطا لوجوب العمل فلا محيص من إرجاعه إلى نفي الشرطية ، إذ لا معنى لوجوب شرطية وجوب شيء ، فلا محيص من جعل وجوبه كناية عن شرطيته ، ولكنه خلاف ظاهر القضية المتكفلة لإثبات التكليف لا الوضع محضا ، كما لا يخفى. |
|||
|