|
|||
(286)
كون صدوره لبيان حكم الله الواقعي لا لتقية ونحوها ، فان هذه الأصول تتوقف على العلم بكون الشيء طريقا والعلم بالمؤدى والظهور ، وإلا لم يكن موضوعا لها.
وانحلال العلم الإجمالي بالأحكام إنما يكون من لوازم جريان الأصول ، وإلا كان العلم الإجمالي بها بحاله (1) فإنه لم يعلم بالطريق المنصوب موضوعا ولا بمؤداه حتى يكون العلم بما يؤدى إليه من الأحكام موجبا لانحلال العلم الإجمالي بها إذا كان ما أدى إليه بقدر المعلوم بالإجمال منها. فالعلم الإجمالي بنصب الشارع طريقا إلى الأحكام لا أثر له ولا يكون العباد مكلفين بالعمل به ما لم يصل إليهم تفصيلا ، والمفروض عدم وصوله إليهم كذلك ، فيبقى العلم الإجمالي بالأحكام على حاله ، وهو يقتضي الخروج عن عهدتها ، إما علما مع الإمكان ، وإما ظنا مع عدمه. نعم : العمل بمؤدى ما يظن كونه طريقا يجزى أيضا ، لعدم التفاوت بين العمل بالظن بالحكم الفرعي وبين العمل بمؤدى الطريق المظنون فيما هو المهم في نظر العقل : من حصول الظن بالمؤمن عن تبعة التكاليف والخروج عن عهدتها عند انسداد باب العلم بها ، فلا وجه لتخصيص النتيجة بخصوص الظن بالطريق بعد اشتراكه مع الظن بالواقع في الأثر. هذا كله ، مضافا إلى أن ما ذكره من الدليل لا يقتضي اعتبار خصوص الظن بطريق خاص ، فان ما أفاده من الوجه ـ على فرض صحته وسلامته عما تقدم ـ لا يثبت أزيد من وجوب امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال من طرقها المقررة لها شرعا ، وذلك يقتضي كفاية الظن بأن الحكم 1 ـ أقول : الذي مسلم واعترفنا به أيضا سابقا هو صورة عدم الجزم بظهور ما هو الصادر إجمالا بمقدار المعلوم بالإجمال ، وإلا فلو علم بظهور ما هو الصادر المعلوم إجمالا بمقدار المعلوم بالإجمال ، فلا قصور في حجية مثل هذا الخبر الظاهر من بين الأخبار ، وكذلك لا قصور في سببية هذا المقدار لانحلال العلم الكبير ، كما لا يخفى. (287)
الكذائي مؤدى طريق معتبر وإن لم يحصل الظن بطريقية طريق خاص ، فلو حصل للمكلف الظن بان وجوب صلاة الجمعة مؤدى طريق معتبر كان حكمه حكم الظن بطريقية طريق خاص. والظن بالأحكام غالبا يلازم الظن بأنها مؤدى طريق معتبر ، خصوصا إذا كانت الأحكام المظنونة مما تعم بها البلوى ، فان الظن بها لا ينفك عن الظن بأنها مؤدى طريق معتبر وإن لم يتشخص ذلك الطريق لدى المكلف.
فالإنصاف : أن الوجه الأول ـ الذي اقتصر عليه « صاحب الفصول » لإثبات كون نتيجة دليل الانسداد اعتبار خصوص الظن بالطريق لا بالواقع ـ مما لا يرجع إلى محصل ولا يثبت دعواه. الوجه الثاني : ما أفاده « المحقق صاحب الحاشية » مضافا إلى الوجه الأول ، وحاصله يتألف من مقدمات : الأولى : ان الواجب علينا أولا ـ بعد العلم بأننا مكلفون بالأحكام الشرعية ولم تسقط عنا ـ هو العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف أو الشارع (1) 1 ـ أقول : بعد ما كان اشتغال الذمة اليقينية يقتضي الفراغ اليقيني يرجع ذلك إلى حكم العقل المستتبع لحكم الشرع إرشادا بلزوم تحصيل اليقين بالفراغ الوجداني أو اليقيني تنزيلا ، الذي هو عبارة عن حجية شيء على الواقع الملازم لليقين التنزيلي بالفراغ في عرض اليقين الوجداني به ، وحينئذ نقول : إن الظن بصرف أداء الواقع وإن كان ملازما للظن بالفراغ واقعا ، ولكن لا يلازم للظن بالفراغ عن يقين وجداني أو تعبدي تنزيلي ، بخلاف ما لو ظن بحجيته شرعا ، فإنه يلازم الظن بالفراغ اليقيني التنزيلي ولو لم يكن ملازما للفراغ المتيقن وجدانا ، وعمدة النكتة فيه : هو أن حجيته شرعا المساوق للفراغ اليقيني التنزيلي إنما هو في عرض اليقين بالفراغ وجدانا ، ولازمه كون الظن بها ظنا بالفراغ اليقيني الذي هو في عرض اليقين بالفراغ الواقعي ، وحينئذ إذا كان هم العقل عند الاشتغال بشيء تحصيل اليقين بالفراغ أو اليقيني منه ـ الذي هما في طول الفراغ الواقعي ـ فمع عدم التمكن يتنزل إلى تحصيل الظن بالفراغ اليقيني ، وهو ينحصر بالظن بحجية شيء لا بصرف الظن بأداء الواقع ، وحينئذ لو أراد « المحقق » هذا المعنى لا يرد عليه ما أورد ، كما إنه لا يحتاج في إثبات مدعاه إلى دعوى العلم الإجمالي بجعل طريق أصلا ، كما لا يخفى ، فتدبر فيه وفي دفع ذلك البيان بالبيان الآتي ( إن شاء الله تعالى ) لا بمثل هذه البيانات. (288)
سواء حصل معه العلم بأداء الواقع أو لم يحصل ، بل المناط هو حصول اليقين بأن الشارع قد حكم بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به.
الثانية : ان الشارع قد جعل لنا طرقا خاصة (1) وحكم بأن سلوكها يوجب فراغ الذمة والخروج عن عهدة التكاليف ، سواء أصابت الواقع أو لم تصب ، بل تكون تلك الطرق التي عينها الشارع في عرض الواقع (2) فكما أن العلم بأداء الواقع يوجب فراغ الذمة والخروج عن عهدته ، كذلك سلوك الطرق المنصوبة شرعا يوجب ذلك : فمع التمكن وانفتاح باب العلم يجزى العمل بما علم أنه الواقع والعمل بما علم أنه مؤدى الطريق الخاص ، لأنه في كل منهما يعلم بفراغ الذمة في حكم الشارع. الثالثة : أنه قد انسد علينا باب العلم بفراغ الذمة في حكم الشارع ، فلابد من تحصيل الظن بالفراغ كذلك ، والظن بالفراغ في حكم الشارع لا يحصل بمجرد الظن بأداء الواقع ، فان الظن بأداء الواقع لا يلازم الظن بأن الشارع قد اكتفى عن الواقع وحكم بفراغ الذمة عنه بما ظن أنه الواقع ، فتحصيل الظن بالفراغ في حكم الشارع ينحصر بالعمل بمؤدى ما يظن أن الشارع جعله طريقا إلى أحكامه ، لأن العمل بما يظن كونه طريقا يلازم الظن بالفراغ في حكم الشارع. هذا حاصل ما أفاده في وجه اعتبار خصوص الظن بالطريق ، وقد أطال الكلام والنقض والإبرام فيه ، والمتحصل من كلامه هو ما ذكرناه. وأنت خبير بأن المقدمات التي اعتمد عليها في بيان مختاره ممنوعة أشد المنع. 1 ـ أقول : مختار « المحقق » لا يحتاج إلى دعوى العلم بجعل الطرق ، كما أشرنا إليه. 2 ـ أقول : بل هي في عرض العلم بالواقع ، وإلا فبالنسبة إلى الفراغ الواقعي كان في طوله ، كما لا يخفى. (289)
أما المقدمة الأولى : فقوله : « الواجب علينا أولا تحصيل العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف » مما لا محصل له (1) فان باب الامتثال وفراغ الذمة ليس مما يقبل الجعل الشرعي والحكم بأنه حصل الامتثال وفرغت الذمة أو لم يحصل ولم تفرغ الذمة ، فان حصول الامتثال وفراغ الذمة يدور مدار فعل متعلقات الأوامر وترك متعلقات النواهي ، وهذا أمر واقعي غير قابل للجعل الشرعي ، وأي معنى لحكم الشارع بأنه فرغت ذمتك أيها المكلف من التكاليف ؟ فدعوى : أن اللازم على المكلف تحصيل العلم بأن الشارع قد حكم بفراغ ذمته من التكاليف غريبة (2).
وأغرب من ذلك أنه جعل المناط في الامتثال ذلك مطلقا حتى مع العلم بأداء الوقع ـ كما يقتضيه ظاهر كلامه ـ مع أنه لقائل أن يقول : إنه في صورة العلم بأداء الواقع ، هل يكون حكم من الشارع بفراغ الذمة ؟ وهل يحتاج المكلف إلى تحصيل العلم بحكمه ذلك بعد العلم بفعل متعلق التكليف الواقعي ؟ وأي أثر يترتب على حكمه بذلك مع أن إجزاء المأتى به عن الأمور الواقعي قهري لا يمكن أن يكون حكم شرعي في مورده ؟. وبالجملة : لم يظهر لنا معنى محصلا (3) لقوله : « إن الواجب علينا هو العلم بتفريغ الذمة في حكم المكلف » ولو مع انسداد باب العلم وعدم التمكن من تحصيل العلم بأداء الواقع ، فضلا عن صورة انفتاح باب العلم والتمكن من 1 ـ أقول : هذا الإشكال مبنى على كون مراده من حكم الشارع حكما مولويا ، وإلا فلو كان إرشاديا فلا يرد عليه الإشكال. 2 ـ أقول : ذلك صحيح لو كان المراد الفراغ الواقعي ، وإلا فلو كان مورد إلزام العقل الفراغ اليقيني المستتبع لحكم الشرع به إرشادا أيضا ، فلا محيص عند التنزل إلى الظن من تحصيل الظن بالفراغ المتيقن أو بحكم المتيقن ، وحيث لم يكن الأول فلا محيص من تحصيل الثاني ، وهو منحصر بالظن بالحجية ، لا الظن بأداء الواقع. 3 ـ أقول : لو تأملت فيما ذكرنا في الحاشية ، ترى كونه معنا وجيها وقابلا لأخذ النتيجة منه. (290)
أداء الواقع ، إلا أن نقول : إن العلم مما تناله يد الجعل الشرعي وأن وادى الفراغ والامتثال مما يقبل الحكم المولوي ، فتصح دعوى أنه مع العلم بأداء الواقع للشارع الحكم بفراغ الذمة.
وأما المقدمة الثانية : فجعل الطريق في عرض الواقع وأن المكلف مخير بين تحصيل العلم بأداء الواقع وبين العمل بالطريق واضح الفساد ، فان الطريق ليس أمرا مغايرا للواقع وفي عرضه ، بل ليس مفاد جعل الطريق سوى كون مؤداه هو الواقع بالجعل والتعبد الشرعي ، فان معنى كون الشيء طريقا هو أن ما يحكى عنه هو الواقع ، كما تقدم بيان ذلك بما لا مزيد عليه في أول مبحث الظن. ولقد أجاد الشيخ ( قدس سره ) في المقام من قوله : « إن تفريغ الذمة عما اشتغلت به ، إما بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعية (1) 1 ـ أقول : لو كان هم العقل في ظرف الاشتغال تحصيل اليقين بالفراغ وجدانا أو تنزيلا المساوق لتحصيل الحجة على الفراغ بحيث كان تحصيل الحجة على الفراغ في عرض تحصيل اليقين بالفراغ الواقعي لا في عرض نفس الفراغ الواقعي لأن تتميم كشفه وتنزيل يقينه في عرض اليقين بالواقع لا في عرض الواقع ، فمع التمكن من تحصيل اليقين أو اليقيني يتعين ذلك ، ومع عدم التمكن ينتهى النوبة إلى تحصيل الظن بالفراغ اليقيني الذي هو في عرض اليقين بالفراغ ، وذلك منحصر بالظن بحجية شيء ، ولا يكاد أن يتحقق بالظن بأداء الواقع محضا بلا ظن حجيته ، وعمدة النكتة في ذلك : هو أن الفراغ اليقيني ينتزع من تنزيل اليقين وتتميم الكشف المساوق لحجية شيء ، وهو في عرض العلم بالواقع ، وكلاهما في طول الفراغ الواقعي ، كما أشرنا إليه. وما قيل : بأن مفاد دليل الحجية إثبات الهوهوية ـ فهو مع أنه يناسب لكون المفاد تنزيل المؤدى لا تنزيل اليقين به ـ نقول : إنه بالنسبة إلى أداء الواقع لا يضر بالطولية المزبورة ، لأن هذه الهوهوية هو هوية تنزيلية ثابتة في ظرف الجهل بالواقع ، لا في ظرف نفس الواقع ، ولذا كانت حكومتها على الواقع حكومة ظاهرية ، ولازمه ثبوت اليقينية التنزيلية في ظرف الجهل به. نعم : ما أفيد من نفي العرضية مع الواقع متين ، لكن لا بهذا البيان ، كما لا يخفى. وحينئذ لا مجال لورود هذه البيانات على المحقق المزبور ، بل التحقيق في جوابه أن يقال : إن التنزل إلى الظن بالفراغ ، ليس من باب صرف كونه ظنا به يكتفى العقل به في ظرف الاشتغال ، بل إنما هو من جهة (291)
وإما بفعل ما حكم حكما جعليا بأنه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة ، فتفريغ الذمة بهذا ـ على مذهب المخطئة ـ من حيث إنه نفس المراد الواقعي بجعل الشارع ، لا من حيث إنه شيء مستقل في مقابل المراد الواقعي ، فضلا عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين » انتهى.
فلا معنى لجعل الطرق في عرض الواقع والتخيير بينهما ، بل إجزاء العمل بالطرق إنما يكون باعتبار أن مؤداها هو الواقع بجعل الشارع والحكم بالهوهوية ، وعلى ذلك يبتني عدم الإجزاء ووجوب الإعادة والقضاء عند انكشاف مخالفة الطريق للواقع ـ كما عليه أصول المخطئة ـ فالتخيير بين العمل بالطريق وبين تحصيل العلم بالواقع في صورة انفتاح باب العلم ليس من باب التخيير بين فردي الواجب المخير ـ نظير خصال الكفارة ـ بل من باب اتحاد مفاد أحدهما للآخر بحسب الجعل الشرعي ، فقوله في طي كلامه « إن الواجب أولا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع في الظاهر وحكم معه بتفريغ ذمتنا بملاحظة الطرق المقررة لمعرفتها مما جعلها وسيلة للوصول إليها سواء علم بمطابقة الواقع أو ظن ذلك أو لم يحصل شيء منهما » مما لا يستقيم ولا يقتضيه مذهب المخطئة. وأما المقدمة الثالثة : ففيها أن الظن بالواقع ملازم للظن بالفراغ في حجية هذا الظن بمقدمات الانسداد ، كي بالأخرة ينتهى إلى القطع بالفراغ. ومعلوم : أن المقدمات المزبورة لو اقتضت حجية مثل هذا الظن ، يقتضي حجية الظن بالواقع أيضا ، إذ نتيجة المقدمات قيام الظن مقام العلم بشيء في ظرف انسداده ، فكما أن العلم بأداء الواقع الجعلي يجدى ، كذلك الظن بأداء الواقع الحقيقي ، إذ بكل واحد يحصل الفراغ اليقيني ، كيف ! ولو لم ينتهى الأمر بالأخرة إلى الفراغ اليقيني ، فالظن بالحجية أيضا لا يجدى شيئا ، إذ لا يكتفى العقل بغير الفراغ اليقيني في أي مورد ، وحينئذ فمع لا بدية انتهاء النوبة إلى حجية هذا الظن مقدمة للفراغ اليقيني كذلك لو انتهى النوبة إلى حجية الظن بأداء الواقع تنتهي النوبة أيضا إلى الفراغ اليقيني ، وبعد فرض عدم العلم بجعل طريق لا يفرق مقدمات الانسداد لحجية أي واحد من الظنين ، كما لا يخفى ، فتدبر. (292)
حكم الشارع ، كما أن العلم بالواقع يلازم العلم بالفراغ في حكم الشارع (1) كما اعترف به ، فإنه لا يعقل الفرق بين العلم والظن من هذه الجهة ، لأن العلم والظن بأحد المتلازمين يلازم العلم والظن بالآخر ، فلا معنى للتفكيك بين العلم والظن في ذلك.
والحاصل : أنه كما لا فرق بين العلم بأداء الواقع وبين العمل بمؤدى الطريق الذي علم كونه طريقا في حصول العلم بالفراغ ـ على ما زعمه في مورد انفتاح باب العلم والتمكن من تحصيل اليقين بذلك ـ كذلك لا فرق بين الظن بالواقع والعمل بمؤدى الطريق الذي ظن كونه طريقا في حصول الظن بالفراغ ، ولا حاجة معه إلى حكم الشارع بالفراغ ، بل في صورة انسداد باب العلم يستقل العقل بحصول الامتثال. وكأن منشأ تخيل المحقق ( صاحب المقالة ) في اختياره اعتبار خصوص الظن بالطريق عند عدم التمكن من تحصيل العلم بالواقع ، هو أن مجرد نصب الشارع طريقا إلى أحكامه يقتضي اشتغال الذمة بمؤدى الطريق ويكون مدار فراغ الذمة والخروج عن عهدة التكاليف عليه لا على الواقع (2) كما كان هذا منشأ تخيل « صاحب الفصول » فيما أفاده من الوجه المتقدم ، وقد عرفت : أن مجرد نصب الطريق ما لم يكن محرزا لدى المكلف وواصلا إليه لا أثر له ولا يحصل الامتثال والفراغ بمجرد مطابقة العمل لمؤداه من باب الاتفاق والمصادفة. وبذلك يظهر : أن الطريق الغير الواصل أسوء حالا من الحكم الواقعي الغير الواصل ، فان مطابقة العمل للواقع من باب المصادفة والاتفاق 1 ـ أقول : بعد ما كان مورد الزام العقل القطع بالفراغ أو القطعي منه ، فلا شبهة في أنه مع تحصيل القطع بالفراغ يقطع بحصول موضوع الإلزام ، بخلاف الظن بالفراغ الواقعي ، فإنه لا يحصل به موضوع الإلزام المزبور ، لا وجدانا ولا تنزيلا ، بخلاف الظن بحجية شيء ، فإنه ظن بموضوع الإلزام من الفراغ اليقيني التنزيلي. 2 ـ أقول : قد أشرنا بأن مختار المحقق المزبور لا يتوقف على العلم بجعل طريق من الشارع ، بل تمام همه أن ما يجب تحصيل العلم به مع التمكن يتنزل إلى الظن به مع عدم التمكن ، بالتقريبات السابقة. (293)
ـ وإن لم يعلم المكلف به ـ يجزى في غير التكاليف العبادية بل حتى فيها إذا تمشى من المكلف قصد التعبد والتقرب ، وأما مطابقة العمل للطريق المنصوب من باب المصادفة والاتفاق لا يجزى ، لأن الطريق الغير الواصل لا يقتضي التنجيز ولا المعذورية ، وكيف يقتضي المعذورية مع عدم استناد المكلف إليه في العمل ؟ لأن الذي يستقل به العقل هو امتثال التكاليف الواقعية ولزوم الخروج عن عهدتها إلا إذا استند المكلف في العمل إلى ما نصبه الشارع طريقا إلى التكاليف ، فلا مجال لتوهم اشتغال الذمة بالطرق المنصوبة مع عدم إحرازها ووصولها تفصيلا ، ونتيجة ذلك : هو مع العلم بالطريق يجزى العمل بمؤداه مع عدم العلم بمخالفته للواقع. كما يجزى العلم بالواقع ، ومع انسداد باب العلم يجزى العمل بما ظن كونه طريقا كما يجزى العمل بما ظن كونه حكما واقعيا ، لعدم التفاوت فيما هو المهم عند العقل : من لزوم الخروج عن تبعة التكاليف بوجه ، إما علما مع التمكن ، وإما ظنا مع عدم التمكن ، وذلك يحصل بالظن بكل من الواقع والطريق ، فتخصيص النتيجة بخصوص الظن بالطريق لا وجه له ، كما لا وجه لتخصيصها بخصوص الظن بالواقع ـ كما ذهب إليه بعض المشايخ ـ لاشتراكهما في الأثر.
ولعل منشأ توهم اختصاص النتيجة بخصوص الظن بالواقع ، هو أن مقدمات الانسداد إنما تجرى في المسائل الفرعية والأحكام الشرعية دون المسائل الأصولية ، فان أول المقدمات هو انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام الشرعية ويتبعها ساير المقدمات ، فلابد وأن تكون النتيجة اعتبار خصوص الظن بالواقع لأن النتيجة تابعة للمقدمات ، هذا. ولكن لا يخفى أن المقدمات وإن كانت تجرى في خصوص الأحكام الشرعية ، إلا أن نتيجتها أعم من الظن بالواقع والظن بالطريق (1) فان تمهيد 1 ـ أقول : من قال باختصاص الشرعية المنسد فيها باب العلم خصوص الأحكام التكليفية ؟ كي (294)
مقدمات الانسداد إنما كان لأجل رعاية التكاليف المعلومة بالإجمال والخروج عن عهدتها بوجه ، وهو كما يحصل مع الظن بالواقع يحصل مع الظن بالطريق.
هذا بناء على الحكومة وكون النتيجة حكم العقل بكفاية الامتثال الظني في مقام الطاعة والخروج عن عهدة التكاليف واضح ، فان الامتثال الظني يحصل بالعمل بما ظن كونه حكما واقعيا ، ويحصل أيضا بالعمل بمؤدى ما ظن كونه طريقا شرعيا. وأما بناء على المختار من الكشف : فقد يتوهم أن أقصى ما يستكشف من المقدمات هو حجية الظن في الأحكام الشرعية ، وأما حجيته في المسألة الأصولية وتعيين الطرق المنصوبة فلا تقتضيها المقدمات المذكورة. ولكن التوهم في غير محله ، فإنه لا موجب لاستكشاف نصب الشارع خصوص الظن في المسألة الفرعية طريقا ، بل العقل يستكشف من المقدمات نصب مطلق الظن طريقا ، كان مؤداه مسألة فرعية من كون الشيء واجبا أو حراما ، أو مسألة أصولية من كون الشيء طريقا. فالأقوى : عموم النتيجة بالنسبة إلى كل من الظن بالحكم والظن بالطريق مطلقا بناء على الكشف والحكومة. الأمر الثاني : هل يقتضي دليل الانسداد كلية النتيجة ؟ أو يقتضي إهمالها ؟ (1) يختص المقدمات بخصوصها ، وعلى فرض التخصيص لازمه عدم الانسداد في الأحكام الأصولية ، ومع عدم انسداد باب العلم فيها لازمه لزوم تحصيل الفراغ اليقيني الجعلي بالأحكام ، ومع ذا كيف يكتفى العقل بالفراغ الظني الجعلي ؟ فتدبر. 1 ـ أقول : ظاهر كلماتهم أن هذا النزاع متفرع على الكشف لا الحكومة ، فينبغي له أن ينبه على ذلك في عنوان المسألة ، بل بعض كلماته في طي بيانه ـ كما سيأتي منه ـ يوهم جريان النزاع حتى على الحكومة ، وعهدته على مدعيه !. (295)
ونعني بكلية النتيجة هو اعتبار الظن مطلقا في أي مسألة من المسائل ، ومن أي سبب حصل ، وأي مرتبة من الظن كان. ويقابله إهمال النتيجة ، إما مطلقا من حيث المرتبة والسبب والمسألة ، وإما في الجملة وبالنسبة إلى بعض هذه الجهات.
والوجوه المحتملة ثلاثة : الأول : كون النتيجة كلية مطلقا. الثاني : كونها مهملة مطلقا. الثالث : التفصيل بين المرتبة فالنتيجة مهملة وبين السبب والمورد فالنتيجة كلية ، أو التفصيل بين السبب والمورد ، فبالنسبة إلى السبب كلية وبالنسبة إلى المورد مهملة ، على ما سيأتي تفصيل ذلك كله ( إن شاء الله تعالى ). وينبغي أن يعلم أولا : أن المقصود من كون النتيجة مهملة ، هو أن ما تقتضيه مقدمات الانسداد أولا وبالذات ليس إلا قضية جزئية (1) وهي اعتبار الظن في الجملة في بعض الموارد ، أو بعض المراتب ، أو من بعض الأسباب ، وتعيين النتيجة من حيث العموم والمخصوص بالنسبة إلى هذه الأمور لابد وأن يكون بمعين آخر غير تلك المقدمات الأولية التي مهدت لاستنتاج اعتبار الظن. وليس المقصود من إهمال النتيجة كونها مهملة إلى الآخر من دون أن يكون لها معين ، فان ذلك يلزم لغوية دليل الانسداد (2) وهو واضح. وإلى ذلك يرجع ما اشتهر في الألسن : من كون الطريق قد يكون واصلا بنفسه وقد يكون واصلا بطريقه ، فان معنى كون الطريق واصلا بنفسه : هو أنه لا يحتاج في استنتاج النتيجة وتعيينها إلى مقدمة خارجية أخرى وراء مقدمات الانسداد (3) ومعنى كون الطريق واصلا بطريقه : هو أنه لا تكفى تلك 1 ـ أقول : يعنى قابلة للجزئية والكلية وأن المتيقن هو الجزئية ، كما يقال : من أن المهملة في قوة الجزئية. 2 ـ أقول : لو لم يكن في البين قدر متيقن مطلقا أو بالإضافة ، وليس ذلك من المعينات الخارجية ، كما لا يخفى. 3 ـ أقول : لا ندري من أين جاء شرح هذا الاصطلاح ، والذي سمعناه من الأساطين أن المقصود من (296)
المقدمات في أخذ النتيجة وتعيينها ، بل لابد من ضم مقدمة أخرى إليها ، وتلك المقدمة ، إما أن تكون عناية أخرى من العقل في عرض أخذ النتيجة ـ كقبح الترجيح بلا مرجح ونحو ذلك مما سيأتي بيانه في وجه عموم النتيجة ـ وإما أن تكون تلك العناية مقدمات انسداد آخر غير المقدمات المتقدمة التي يتركب منها دليل الانسداد المعروف ـ على ما سيأتي توضيحه ـ وعلى كلا التقديرين تكون النتيجة واصلة بطريقها لا بنفسها ، ولكن العناية التي تكون في عرض أخذ النتيجة متقدمة على عناية مقدمات انسداد آخر ، فان أول مقدمة من مقدمات الانسداد الآخر هو انسداد باب العلم والعلمي فيما هو الحجة والطريق المتبع عند انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام ، فإذا كان في رتبة أخذ النتيجة ما يوجب تعميمها من حيث الموارد والمراتب والأسباب أو تعيينها في بعض هذه
الجهات ، فلا تصل النوبة إلى ترتيب مقدمات انسداد آخر ، لانفتاح باب العلم والعلمي فيما هو الحجة والطريق.
وعلى كل حال : من يقول بأن نتيجة مقدمات دليل الانسداد كلية يقول : إن الطريق واصل بنفسه ، لأنه بعد البناء على كلية النتيجة لا يحتاج إلى عناية أخرى لأخذ النتيجة. ومن يقول بإهمال النتيجة يقول : إن الطريق واصل بطريقه ، وسيأتي أن الأقوى عندنا كون النتيجة من حيث المراتب خصوص الظن المفيد للاطمئنان ، وهو الظن الحاصل من خبر الثقة المحفوف بعمل المشهور ، ولمكان كونه وافيا بمعظم الأحكام صح دعوى كون النتيجة لو كانت الواصل بنفسه ما علم بحجيته ولو من جهة عناية خارجية ومعمم خارجي ، بحيث لا ينتهى النوبة إلى الاحتياط في الطريق أو إجراء مقدمات انسداد أخرى في تعيينه مرة أو مرارا إلى أن ينتهى النوبة إلى ظن واحد أو ظنون متساوية الإقدام ، ولذا جعل المعممات كل واحد مبنيا على نتيجته ، فمن عمم الظن بعدم الترجيح نظره إلى كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه ، ومن جعل المعمم إجراء مقدمات الانسداد مبناه جعل النتيجة الطريق الواصل بطريقه ، ومن جعل المعمم الاحتياط في الطرق مبناه كون النتيجة طريقا لم يوصل ولو بطريقه ، وعليك بالمراجعة إلى الكلمات ينكشف لك الحال (297)
كلية فهي من حيث المراتب أيضا كلية ، لأن اعتبار خصوص الظن الاطمئناني لا ينافي كلية النتيجة ، فإنه ينحل به العلم الإجمالي ويجوز الرجوع إلى الأصل النافي للتكليف في المورد الذي لم يرد فيه خبر ثقة ، فلا نحتاج في أخذ النتيجة إلى إعمال مقدمة أخرى وراء نفس دليل الانسداد ، وسيأتي توضيح ذلك.
إذا عرفت ذلك فاعلم : أن منشأ الاختلاف في كون النتيجة كلية أو مهملة ، هو أن ما تقدم في المقدمة الثالثة : من عدم جواز الاحتياط والرجوع إلى البراءة (1) هل هو في كل مسألة من مسائل الفقه ؟ أو هو في مجموع المسائل ؟ 1 ـ أقول : عمدة المدرك في تعميم النتيجة وإهماله والاحتياج إلى معمم خارجي : هو كون نتيجة الانسداد إن كان حجية الظن ومرجعيته في مقام الإثبات بحكومة من العقل ، فلا محيص من كون النتيجة من حيث الإثبات مطلقة. نعم : من حيث المراتب أمكن اقتصار العقل بأقوى المراتب لو كان وافيا ، لأنه المتيقن لدى العقل. وإن كان مرجعية الظن بكشف جعل شرعي فلا وجه لعموم النتيجة بنفسه ، بل يحتاج إلى معمم خارجي ، إما لعدم الترجيح ، وإما باجراء مقدمات الانسداد مرة أو مرارا إلى أن ينتهى إلى ظن واحد أو ظنون متساوية الأقدام ، أو بالرجوع إلى الاحتياط في دائرة الطرق المعلومة ، على الخلاف في كون النتيجة الطريق الواصل أو بطريقه أو طريق لم يوصل ، كما أشرنا إليه سابقا. وما أفيد من المدرك في وجه التعميم والإهمال غير تام ، إذ لو فرض كون بطلان الاحتياط وبطلان البراءة في مجموع المسائل ، فبعد لا بدية حكم العقل بمرجعية الظن بحكم المقدمة الرابعة لا يفرق بين الأسباب والأشخاص والأزمنة. نعم : بالنسبة إلى المراتب قضية القدر المتيقن بل المقدمة الرابعة ـ بمناط الأخذ بأقرب الطرق إلى الواقع الوافي به ـ هو الأخذ بالمرتبة الأقوى من بين الظنون أيضا. وإن قلنا بأن النتيجة هي حجية الظن بجعل شرعي ، فلا محيص من كون النتيجة مهملة ولو بنينا بعدم مرجعية الاحتياط بمعنى عدم وجود مقتضى له من طريق آخر إجمالي أو غيره في كل واحد واحد من المسائل ، كما أن بطلان البراءة أيضا لو فرض ثبوته من إجماع أو غيره في كل واحد واحد من المسائل. وعمدة نكتة الإهمال حينئذ هو أن هذه المقدمات بعد كشفها عن الجعل الشرعي لا يكون مناط جعله بيد العقل ، كي يحكم به تعميما أو غيره ، بل لابد حينئذ من استفادة التعميم من المعممات الخارجية ، على التفصيل في المشار إليها. نعم : لو تم الإجماع المدعى على وجوب الأخذ بكل محتمل بعنوان وجوبه فعلا أو تركا كان لما أفيد وجه ، ولكن تمام الكلام من أول دليل الانسداد إلى هنا في صحة ذلك الدعوى. إذ غاية ما استفيد من الكلمات قيام الإجماع على بطلان الاحتياط ولو في كل مسألة مسألة ، وأما كون ذلك من جهة عدم المقتضى له من وجود منجز إجمالي أو تفصيلي أو أنه من جهة قيام الإجماع على ما أفيد ، فغير (298)
فان قلنا بعدم جواز الاحتياط والرجوع إلى البراءة في كل مسألة على حدة مع قطع النظر عن انضمام ساير المسائل إليها كانت النتيجة كلية من الجهات الثلاث موردا ومرتبة وسببا. وإن قلنا بعدم جواز الاحتياط والرجوع إلى البراءة في مجموع المسائل والوقايع المشتبهة كانت النتيجة مهملة ، إما من الجهات الثلاث ، وإما من بعض الجهات ـ كما سيأتي بيانه ـ ولابد من تعيينها عموما أو خصوصا من التماس معين آخر وراء مقدمات الانسداد.
وقد ذهب المحقق القمي (ره) إلى كلية النتيجة من الجهات الثلاث ، لأن بنائه على بطلان الاحتياط في كل مسألة مسألة وعدم جواز الرجوع إلى البراءة كذلك. ويظهر ذلك أيضا عن المحكى عن صاحبي « المعالم » و « الزبدة ». وقد أورد عليهم الشيخ ( قدس سره ) بما لفظه « لكنك قد عرفت مما سبق : أنه لا دليل على منع جريان البراءة وأصالة الاحتياط أو الاستصحاب المطابق لأحدهما في كل مورد من مواردها بالخصوص (1) إنما الممنوع جريانها في جميع المسائل ، للزوم المخالفة القطعية الكثيرة ، وللزوم الحرج من الاحتياط ، وهذا المقدار لا يثبت الا وجوب العمل بالظن في الجملة ، دون تعميمه بحسب الأسباب ولا بحسب الموارد ولا بحسب مرتبة الظن » انتهى. وأنت خبير بما فيه ، لأن بطلان الاحتياط في الوقايع المشتبهة لا ينحصر دليله بالعسر والحرج ، حتى يقال : إن العسر والحرج إنما كان يلزم من الاحتياط في مجموع الوقايع لا في كل واقعة واقعة ، بل لو انحصر دليله في ذلك معلوم ، والقدر المتيقن هو الأول ، فلا يكاد يستفاد من الإجماع على بطلان الاحتياط الإجماع المدعى المخرب لأساس السابقين واللاحقين ، فتدبر. 1 ـ أقول : بل لو فرض قيام دليل على عدم مرجعية الاحتياط أو الاستصحابات المثبتة في كل مسألة شخصية ، لنا أن نقول بالإهمال ، بملاحظة عدم التفات العقل بمناطه شرعا ، فلا يحتاج ردهم إلى هذا البيان ، كما لا يخفى. (299)
كان اللازم هو التبعيض في الاحتياط وكان دليل الانسداد عقيما لا تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة كشفا أو حكومة (1) بل يقف الدليل على المقدمة الثالثة ، كما تقدم بيانه.
فالعمدة في بطلان الاحتياط إنما كان هو الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الإتيان بالمحتملات وامتثال التكاليف على سبيل الاحتمال وأنه لابد من امتثال كل تكليف بعنوانه الخاص ، وقيام الإجماع على هذا الوجه هو الذي كان يقتضي الانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة ، ولذلك بنينا على الكشف وأبطلنا الحكومة ، لأن قيام الإجماع على هذا الوجه يلازم جعل الشارع حجية الظن ونصبه طريقا إلى التكاليف ، كما اعترف هو ( قدس سره ) بذلك فيما تقدم من قوله : « قلت : مرجع الإجماع قطعيا كان أو ظنيا الخ » ومفاد هذا الإجماع بطلان الاحتياط في كل مسألة مسألة لا في مجموع المسائل ، فان كل تكليف في كل واقعة يقتضي الإتيان به بعنوانه الخاص ، فلا يجوز الاحتياط ولو في مسألة واحدة. وأما عدم جواز الرجوع إلى البراءة في الوقايع المشتبهة : فالدليل فيه أيضا لا ينحصر بلزوم المخالفة القطعية الكثيرة المعبر عنها بلزوم الخروج عن الدين ، حتى يقال : إن المخالفة الكثيرة إنما تلزم من الرجوع إلى البراءة في مجموع الوقايع 1 ـ أقول : مقتضى التبعيض في الاحتياط بحكم العقل هو التخيير بين المحتملات في الاحتياط التبعيضي ، وهذا التخيير من جهة عدم مرجح في البين ، فإذا فرض وجود المقدمة الرابعة فهي معينة في خصوص الظنون ، من دون فرق بين كون هذا التبعيض بمناط منجزية العلم الإجمالي ، أو بمناط منجزية الاحتمال في كل مسألة. نعم : فرق بين الصورتين في أنه على فرض منجزية العلم فمرجعية الظن بحكم المقدمة الرابعة إنما هو في مقام إسقاط التكليف لا إثباته ، بخلافه على فرض منجزية الاحتمال في كل مسألة ، فان المقدمة الرابعة تعين الظن في الحجية. نعم : بناء على الأول لا يكون مقدمات الانسداد نتيجة لحجية الظن إثباتا ، وهذا موجب لحجيته كشفا أم حكومة ، فيحتاج إلى المقدمة الرابعة على كل حال. (300)
لا في كل واقعة واقعة مع قطع النظر عن الرجوع إليها في ساير الوقايع ، بل لزوم المخالفة الكثيرة كان أحد الوجوه الثلاثة المتقدمة في المقدمة الثانية.
وأما الوجه الثالث ـ وهو العلم الإجمالي ـ فهو يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة ، لأن الأصول النافية للتكليف لا تجري في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي ، وحيث إن كل مسألة مسألة من أطراف العلم الإجمالي ، فلا تجرى فيها أصالة البراءة. بل يمكن تقريب الوجه الأول ـ وهو الإجماع ـ على وجه يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل واقعة واقعة ، بدعوى : أن انعقاد الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة ليس لقيام دليل تعبدي عند المجمعين عليه ، بل لأجل ما استقل به العقل من قبح الاعتماد على البراءة قبل الفحص واليأس عن الظفر بمراد المولى (1) لأن من وظيفة العبد التفحص عن الأحكام ، وقبل الفحص يستقل العقل باستحقاقه للعقوبة وصحة مؤاخذته على تفويته لمرادات المولى ، وليس له الاعتذار بعدم العلم بها ، كما يستقل العقل بعدم استحقاقه للعقاب وقبح مؤاخذته وصحة الاعتذار منه بعد الفحص واليأس عن الظفر بالأحكام أو بما يكون قاطعا للعذر من الحجة القائمة عليها ، فلا يجوز للعبد الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة مع قطع النظر عن كونها من أطراف العلم الإجمالي ، 1 ـ أقول : هذا إنما يتم عند التمكن عن الفحص ، وفي ظرف الانسداد كيف يتمكن من الفحص عن الدليل ؟ وتوهم : أن فحصه في المقام بتتميمه بقية المقدمات إلى أن ينتهى إلى الدليل ، ظاهر الفساد إذ المقدمات المزبورة إنما تنتج مرجعية الظن في ظرف عدم جريان البراءة ، فهو أيضا من مقدمات هذه النتيجة ، فكيف يعقل كون ترتب النتيجة من موانعه ؟ كما لا يخفى. نعم : الأولى أن يقال في وجه عدم جريان البراءة : بأن مجرى البراءة في فرض الشك في تكليف لم يحرز من الخارج شدة الاهتمام بحفظه حتى في ظرف الجهل ، وأما مع إحراز هذا الاهتمام لا يستقل العقل بالبرائة ، بل يرى نفس احتماله منجزا ، كما هو الشأن في حكمه بوجوب النظر في المعجزة ، بل جعلنا هذه الجهة من وجوه منجزية أوامر الطرق ـ وتقدم شرحه في بابه ـ وعليه ففي ما نحن فيه لا شبهة في أن الشك في التكليف في المقام من قبيل الثاني لا الأول ، فلا مجرى فيه للبرائة أصلا ، كما لا يخفى. |
|||
|