|
|||
(301)
وفي هذه الرتبة ـ أي رتبة سقوط البراءة ـ تجرى مقدمات الانسداد ويستقل العقل بلزوم العمل على طبق الظن كشفا أو حكومة ، فلا تصل النوبة إلى جريان البراءة ولو في مسألة واحدة مطلقا ، لا قبل رتبة جريان مقدمات الانسداد ـ لاستقلال العقل بلزوم الفحص عن الحكم فيها ـ ولا بعدها ، لاستقلال العقل بلزوم العمل بالظن مع حصوله فيها.
فظهر : أن العقل بنفسه أيضا يستقل بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة مع قطع النظر عن العلم الإجمالي ، ويمكن أن يكون مدرك قيام الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة هو هذا الحكم العقلي ، وإن أبيت إلا عن أن يكون الإجماع على حكم شرعي تعبدي ، فهذا الوجه بنفسه ـ كالعلم الإجمالي ـ يقتضي عدم جواز الرجوع في كل واقعة واقعة إلى البراءة ، وإن أبيت عن ذلك أيضا ـ بدعوى : أن المفروض انسداد باب العلم والعلمي وعدم التمكن من تحصيل الواقع أو ما يقوم مقامه ومعه يستقل العقل بالبرائة وقبح العقاب بلا بيان في كل مسألة مسألة إلا أن يتشبث بذيل الإجماع التعبدي على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة والرجوع إلى البراءة فيها أو بلزوم الخروج عن الدين أو بالعلم الإجمالي فلو لم تكن هذه الوجوه الثلاثة لم يكن موقع لدليل الانسداد واستنتاج حجية الظن كشفا أو حكومة لاستقلال العقل بالبرائة بعد انسداد باب العلم والعلمي ـ فيكفي في عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل مسألة مسألة نفس العلم الإجمالي. فتحصل : أنه لو كان الوجه في بطلان الاحتياط هو استلزامه العسر والحرج وكان الوجه في عدم جواز الرجوع إلى البراءة في الوقايع المشتبهة هو لزوم المخالفة الكثيرة القطعية ، لم يكن مجال لدعوى كون النتيجة كلية من حيث المورد والسبب والمرتبة (1) لأن أقصى ما يقتضيه العسر والحرج ولزوم المخالفة 1 ـ أقول : قد تقدم إن ذلك صحيح على الكشف ، وإلا فعلى الحكومة : فالأمر بيد العقل ومناطه محرز لديه ، فلا معنى لإهمال حكمه ، كما لا يخفى. (302)
الكثيرة هو بطلان الاحتياط والبرائة في مجموع المسائل والوقايع المشتبهة ، وذلك لا يقتضي اعتبار الظن في كل مسألة مسألة ولا أي مرتبة من مراتبه ولا من أي سبب حصل ، بل أقصى ما يقتضيه : اعتبار الظن في الجملة ، فتكون النتيجة مهملة ، ولابد من تعيينها من حيث العموم والخصوص بمعين آخر وراء مقدمات الانسداد ، وسيأتي الكلام فيه.
وأما لو كان الوجه في بطلان الاحتياط هو قيام الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي وكان الوجه في عدم جواز الرجوع إلى البراءة هو العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقايع ، كانت النتيجة كلية لا محالة ، فإنه لو كان اعتبار الظن في بعض المسائل دون بعض ، ففيما لا يعتبر فيه الظن لا يخلو الحال فيه ، إما من الاحتياط ، وإما من الرجوع إلى البراءة ، والمفروض بطلانهما في كل مسألة مسألة. وكذا الكلام في السبب ، فإنه لو اعتبر الظن من سبب خاص ، فالمسألة التي لا يحصل فيها الظن من ذلك السبب لا يخلو أمرها عن الاحتياط أو البراءة ، والمفروض عدم جواز الرجوع إليها مطلقا ، وقس على ذلك الكلام في المرتبة. وحيث إن قيام الإجماع على لزوم الإتيان بكل تكليف بعنوانه الخاص مما لا محيص عنه في استنتاج النتيجة من مقدمات الانسداد والانتقال من المقدمة الثالثة إلى المقدمة الرابعة وكان العلم الإجمالي بالتكاليف حاصلا في الوقايع المشتبهة ، فالأقوى ما عليه المحقق القمي ( رحمه الله ) : من كون النتيجة كلية والطريق واصلا بنفسه ، لا مهملة ليكون الطريق واصلا بطريقه مطلقا (1) سواء قلنا بالكشف أو الحكومة. أما بناء على الكشف : فواضح ، فان حال الظن المطلق يكون حينئذ حال الظن الخاص الذي قام الدليل بالخصوص على حجيته يتبع في العموم 1 ـ أقول : هذا مبنى على اصطلاحه لا اصطلاح بقية الأساطين ، وإلا فعندهم يكون هذا التقسيم على الإهمال وأن اختلافه موجب لاختلاف المعممات من عدم الترجيح أو إجراء مقدمات أخرى أو الاحتياط في دائر الطرق. (303)
والخصوص دليل اعتباره ، وحيث إن دليل اعتبار الظن المطلق ليس هو إلا مقدمات الانسداد ، فان العقل يستكشف منها جعل الشارع حجية الظن ، وهي لا تقتضي جعله حجة في الجملة وفي بعض الموارد أو من بعض الأسباب أو بعض المراتب ، بل قد عرفت أنها تقتضي جعله حجة مطلقا في جميع الموارد والأسباب والمراتب ، لأن بطلان الاحتياط والبرائة في كل مسألة مسألة يقتضي التعميم بالنسبة إلى المسائل ، والتعميم في المسائل يستلزم التعميم بالنسبة إلى الأسباب والمراتب ـ كما تقدم وجهه ـ فلا محيص من استكشاف العقل من المقدمات حجية الظن مطلقا من الجهات الثلاث.
وأما بناء على الحكومة : فكذلك بحسب الأسباب والمراتب ، فان المدار في الحكومة على حصول الظن بالامتثال ولزوم الخروج عن عهدة التكاليف ظنا بعد تعذر الامتثال والخروج عنها علما ، ولا دخل للأسباب المفيدة للظن في ذلك عند العقل ، فمن أي سبب حصل منه الظن بالامتثال يجزى عقلا ، كما لا دخل للمراتب في ذلك ، إلا إذا أمكن حصول الظن الاطمئناني وكان وافيا بالمعلوم بالإجمال ، فان الظن الاطمئناني مقدم عند العقل على غيره ، لأنه أقرب إلى العلم. وأما بحسب الموارد : فقد يقال : إن العقل لا يستقل بكفاية الامتثال الظني في الموارد التي علم اهتمام الشارع بها على وجه يلزم رعاية الواقع والتحفظ عليه كيف ما اتفق ـ كباب الأعراض والدماء والأموال ـ بل لابد فيها من الامتثال العلمي ولو بالاحتياط ، وهذا لا ينافي ما تقدم من بطلان الاحتياط في كل مورد مورد ، لأن ذلك إنما كان من حيث كون المورد محتمل الوجوب أو الحرمة ، وأما إذا كان المورد بنفسه مما تجرى فيه أصالة الحرمة ، فلا محيص من الاحتياط فيه ولا يكفي فيه الامتثال الظني ، بل يمكن أن يقال : إنه حتى على الكشف لا يكون الظن حجة في هذه الموارد ، لأن العلم باهتمام الشارع بها يمنع عن استكشاف العقل من المقدمات اعتبار الظن فيها شرعا. (304)
ولكن الإنصاف : أنه لا يمكن القول بذلك (1) فإنه قد تقدم في بعض المباحث السابقة : أنه يجب على الشارع ايجاب الاحتياط في الموارد التي يلزم رعاية الواقع فيها لأهمية الملاك والمصلحة التي اقتضت تشريع الحكم على طبقها ، فإنه لا سبيل للعباد إلى تشخيص الملاكات والمصالح النفس الأمرية وأنه في أي مورد يلزم رعاية المصلحة كيفما اتفق وفي أي مورد لا يلزم إلا من طريق السمع وايجاب الاحتياط في الموارد المشتبهة وعدمه. ولابد وأن يكون ايجاب الاحتياط واصلا إلى المكلف ، وإلا فهو لا يزيد على نفس التكليف الواقعي ، فكما أن احتمال التكليف لا يكون ملزما عند العقل ما لم يكن من أطراف العلم الإجمالي كذلك احتمال ايجاب الاحتياط ، فان قام دليل على وجوب الاحتياط في مورد فهو ، ويكون ذلك بمنزلة المخصص لما انعقد عليه الإجماع : من أن بناء الشريعة على امتثال التكاليف بعناوينها الخاصة ـ الذي كان مدرك الكشف ـ وحاكما على ما استقل به العقل من الحكومة وكفاية الامتثال الظني ، ولا كلام فيه حينئذ ، فيكون حال ما دل على ايجاب الاحتياط في بعض الموارد حال ما دل على المنع عن العمل بالظن القياسي ، وسيأتي أنه لا إشكال فيه. وإن لم يقم دليل على ايجاب الاحتياط في مورد ، فهو يكون كسائر الموارد التي انسد باب العلم والعلمي فيها لابد من اعتبار الظن فيه كشفا أو حكومة (2) ولا أثر لمجرد احتمال ايجاب الشارع الاحتياط فيه ، فان حكمه حكم
1 ـ أقول : كم فرق ! بين صورة الشك في التكليف مع القطع باهتمام الشارع به على فرض وجوده وبين الشك في إهتمام الشارع به. وما يحتاج إلى ايجاب الاحتياط هو الأخير ، وهو أيضا مجرى البراءة عقلا ، وما هو مجرى الاحتياط لدى العقل هو الأول ، وفي مثله لا يكون نفي إيجاب الاحتياط رافعا لإلزام العقل ، لاحتمال اتكال إلزامه على حكم العقل به. نعم : لو تم ما ادعاه من الإجماع حتى في مثل المقام ، أمكن دعوى مهملة الظن حتى فيها ، ولكن الكلام في إتمام هذا الإجماع ، كما مر غير مرة. 2 ـ أقول : قد أشرنا بأنه في فرض القطع بالاهتمام على فرض الوجود ـ كما هو الشأن في الدماء والأعراض ـ يستقل العقل بلزوم مراعاته ، وفي مثله لا يلزم على الشارع إيجاب الاحتياط فيه ، لإمكان اتكاله على حكم العقل. وما يلزم على الشارع إيجاب الاحتياط فيه هو صورة الشك في أصل الاهتمام ، إذ هو الذي يستقل العقل فيه بالبرائة لا الأولى ، كما نبهنا على ذلك في بعض الحواشي السابقة. (305)
احتمال التكليف في كل واقعة واقعة من الوقايع المشتبهة ، ولو كان البناء على فتح باب الاحتمال لكان احتمال عدم جعل الشارع حجية مطلق الظنون النافية للتكليف في جميع الموارد أقرب وأولى ، لأنه يمكن أن يتوهم أن مقدمات الانسداد إنما تجرى لإثبات التكاليف المعلومة بالإجمال والخروج عن عهدتها ، فتختص النتيجة بالظن المثبت للتكليف دون الظن النافي له (1) وإن كان هذا التوهم أيضا فاسدا ، فان جعل الظن المطلق طريقا محرزا كجعل الظن الخاص طريقا محرزا ، لا يفرق فيه بين كون المؤدى ثبوت التكليف أو نفيه.
وبالجملة : ليس حال الظن ـ بناء على الكشف ـ إلا كحال سائر الحجج الشرعية التي قام الدليل بالخصوص على اعتبارها من كونه طريقا مثبتا للواقع محرزا له كالعلم على الأصول العملية ، فلو فرضنا أن المورد مما تجرى فيه أصالة الحرمة في حد نفسه كان الظن المستنتج حجيته من دليل الانسداد حاكما عليها ، كحكومته على سائر الأصول العملية مطلقا ، سواء كانت نافية للتكليف أو مثبتة له ، فتأمل (2) (3) 1 ـ أقول : كيف يمكن هذه الدعوى ، إذ من المقدمات الرخصة في مخالفة الموهومات ، ولازمه الأخذ بظن عدم التكليف ، وهذا عمدة الوجه في مرجعية الظن نفيا وإثباتا عند الانسداد ، ولو لم نقل بأن الظن حجة نفيا وإثباتا. 2 ـ وجهه : هو أنه يمكن أن يفرق بين حجية الظن المطلق المستنتج حجيته من دليل الانسداد وبين سائر الحجج الشرعية التي قام الدليل بالخصوص على اعتبارها ، فان حجية سائر الحجج لا تتوقف على بطلان الرجوع إلى الأصول العملية في المرتبة السابقة ، بل نفس حجيتها تقتضي عدم جريان الأصول العملية في موردها ، وهذا بخلاف الظن المطلق ، فان حجيته تتوقف على بطلان الرجوع إلى الأصول العملية أولا التي منها أصالة الحرمة لينتقل إلى المقدمة الرابعة واستكشاف حجية مطلق الظن ، فلا يمكن أن يكون الظن المطلق حاكما على ما يتوقف حجيته عليه ، فالأولى أن يقال : إنه إن قام دليل على أصالة الحرمة في باب الدماء والفروج والأموال ، فهو يكون حاكما على حجية الظن المطلق * وإلا كان الظن حجة مطلقا حتى في الأبواب الثلاثة ، ولا ينفع احتمال إيجاب الاحتياط فيها ( منه ). * ـ أقول : قد تقدم أن ذلك يتم في فرض الجهل باهتمام التكليف المشكوك ، وإلا فمع الجزم به لا يحتاج. 3 ـ أقول : هذا التأمل في محله ، ولقد أجاد المقرر في بيان وجهه ، فراجع. (306)
وبناء على الحكومة فالأمر يدور مدار حصول الامتثال الظني من غير فرق أيضا بين الموارد ، إلا أن يقوم دليل بالخصوص على اعتبار الامتثال العلمي ، فلو ظن كون المرأة خلية يجوز للشخص تزويجها ، لأن احتمال كونها ذات بعل موهوم ، وقد أثبتنا في المقدمة الثالثة أنه لا يجب الاحتياط في الموهومات ، وكذا الكلام في الأموال والدماء.
فتحصل : أنه لو بنينا على بطلان الاحتياط في كل واقعة واقعة ـ كما هو مفاد الإجماع على أن بناء الشريعة ليس على الامتثال الاحتمالي ـ وبنينا على عدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل شبهة شبهة ـ كما هو مقتضى العلم الإجمالي بثبوت التكاليف بين الشبهات ـ كانت النتيجة كلية سببا وموردا ومرتبة مطلقا بناء على الكشف والحكومة ، إلا إذا أمكن تحصيل المرتبة الاطمئناني من الظن وكان وافيا بالمعلوم بالإجمال ، فإنه يكون مقدما إلى غيره مطلقا ، قلنا بالكشف أو الحكومة. وأما لو بنينا على بطلان الاحتياط في مجموع الوقايع ـ كما هو مفاد أدلة نفي العسر والحرج ـ أو بنينا على عدم جواز الرجوع إلى البراءة في مجموع الشبهات ـ كما هو مقتضى لزوم الخروج عن الدين والمخالفة الكثيرة ـ كانت النتيجة مهملة (1). ولا يخفى أنه يكفي في إهمال النتيجة أحد الأمرين : إما من عدم جواز الرجوع إلى البراءة في مجموع الشبهات وإن لم نقل ببطلان الاحتياط في المجموع بل بنينا على بطلانه في كل واقعة واقعة ، وإما من بطلان الاحتياط في المجموع وإن قلنا بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في كل شبهة شبهة ، وحيث إنه لا سبيل في تقديمه على الظن إثبات ايجاب الاحتياط الشرعي ، كما لا يخفى. 1 ـ أقول : ظاهر إطلاقه بقرينة التقابل مع الفرض السابق أنه يشمل الإهمال حتى على الحكومة ، ولقد تقدم ما فيه : من عدم معنى لإهمال حكم العقل بعد كون المناط بيده ، فتدبر. (307)
إلى القول ببطلان الاحتياط في المجموع لأنه يلزم من ذلك التبعيض في الاحتياط ولم تصل النوبة إلى المقدمة الرابعة لأخذ النتيجة (1) فالقائل بإهمال النتيجة لابد وأن يلتزم بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في المجموع لا في كل شبهة شبهة ، مع التزامه ببطلان الاحتياط في كل واقعة واقعة.
والالتزام بعدم جواز الرجوع إلى البراءة في المجموع إنما يمكن بأحد أمرين : إما بقطع النظر عن العلم الإجمالي بالتكاليف الثابتة بين الشبهات وفرض عدم كونه منجزا لها وانحصار المدرك في بطلان الرجوع إلى البراءة بلزوم المخالفة الكثيرة أو الإجماع إن كان مفاده عدم جواز الرجوع إليها في المجموع ، وأما بالبناء على أن العلم الإجمالي لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية وإنما تحرم مخالفته القطعية حتى يصح الرجوع في بعض الشبهات إلى البراءة لتكون النتيجة مهملة. وبعد البناء على إهمالها لابد من تعيينها عموما أو خصوصا (2) والكلام في ذلك تارة : يقع على القول بالكشف ، وأخرى : يقع على القول بالحكومة. أما على القول بالحكومة : فالظاهر أنه لا ينبغي الإشكال في التعميم بحسب الموارد والأسباب ، لأنه لا يتفاوت في حصول الامتثال الظني عند العقل اختلاف الموارد والأسباب ، لاستواء الكل فيما هو المناط : من تحقق الامتثال الظني. ولا ينبغي الإشكال أيضا في وجوب الاقتصار على المرتبة الاطمئناني وإن لم يكن وافيا بالأحكام ، لأنه أقرب إلى العلم. 1 ـ أقول : فيا ليت يبين بأنه على التبعيض لم لا ينتهى النوبة إلى المقدمة الرابعة التي شأنها تعيين دائرة الاحتياط أو مرجعية الطريق في الظن بلا اختصاصه بمقام دون مقام ، كما أشرنا إليه أيضا كرارا. 2 ـ أقول قد أشرنا سابقا : بأن المناسب إخراج فرض الحكومة عن فرض إهمال النتيجة ، بل الإهمال إنما يتصور على الكشف ، وأن المعممات الخارجية جارية على هذا الممشى لا ممشى الحكومة. نعم : في دليل كلامه : من أنه على الحكومة يتصور الإهمال في المرتبة دون غيره ـ وإن كان أقرب إلى الصواب ، ولكنه حقه أن لا يسمى الإهمال أصلا ، إذ على الحكومة المدار على الأخذ بالأقرب الوافي بالفقه ، فإذا فرض ذلك في الاطميناني فهو من الأول متعين نتيجة بلا إهمال في البين كي يحتاج إلى معين خارجي. (308)
ولا يتوهم : أن التعميم بحسب الموارد يقتضي التعميم بحسب المراتب ـ بالبيان المتقدم ـ فان ما تقدم من استلزام التعميم موردا للتعميم مرتبة إنما كان لأجل البناء على بطلان الاحتياط والبرائة في كل مسألة مسألة ، وذلك كان يقتضي التعميم مرتبة كما كان يقتضي التعميم موردا ـ بالبيان المتقدم ـ وأما لو بنينا على بطلان الرجوع إلى البراءة في مجموع الوقايع ـ كما هو مفروض الكلام ـ فالتعميم موردا وسببا لا يلازم التعميم مرتبة ، لأنه في المورد الذي لا يمكن تحصيل الظن الاطمئناني يرجع فيه إلى البراءة ، فعلى القول بالحكومة الإهمال إنما يتصور بالنسبة إلى المرتبة فقط.
وأما على القول بالكشف : فيمكن فرض الإهمال بالنسبة إلى الجهات الثلاث : موردا ومرتبة وسببا (1) ولابد حينئذ من التماس ما يعين النتيجة عموما أو خصوصا. أما بحسب الموارد : فقد ادعى الإجماع على التعميم فيها [ وقد ادعى الإجماع على التعميم بالنسبة إلى الموارد ]. وقد أورد عليه : بأن المسألة من المسائل المستحدثة لا يصح دعوى الإجماع فيها. والأولى التمسك للتعميم بحسب الموارد بما تقدم : من أنه بناء على الكشف يكون الظن المطلق كالظن الخاص الذي قام الدليل بالخصوص على اعتباره لا يفرق فيه بين مسائل الفقه وأبوابه ، فتأمل ، مع أن دعوى الإجماع في 1 ـ أقول : بناء على الكشف لو لم يكن في البين المقدمة الرابعة ـ المستلزم للاتكال في بيان مجعوله إلى حكم العقل بلزوم الأخذ بالأقرب ـ فلا وجه لتعين الحجة في الظن رأسا. وأن كانت مثل هذه المقدمة ـ المستلزم للاتكال إلى حكم العقل بتعين الأقرب في تعيين مجعوله ـ فلا يتصور الإهمال فيه ، إذ العقل لا إهمال في حكمه ولا قصور له في فهم ملاكه ، والمفروض أن الشارع أيضا أوكل في تعيين الحجة إلى العقل ، فيكون باب الكشف من هذه الجهة باب الحكومة ، إذ العقل على الحكومة أيضا إنما يعين الحجة بالمقدمة الرابعة ، وكذلك على الكشف حرفا بحرف بلا تصور إهمال فيه ، وحينئذ لا يكاد يتفصى عن الشبهة في الجمع بين حجية الظن على الكشف وإهماله. (309)
المسائل المستحدثة يمكن توجيهها بما تقدم في دعوى الإجماع على عدم جواز إهمال الوقايع المشتبهة.
وأما بحسب الأسباب : فقد ذكر للتعميم فيها وجوه ثلاثة : الوجه الأول : تساوى الأسباب وعدم رجحان بعضها على بعض ، فلابد من التعميم بحسبها ، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح. وهذا الوجه يتوقف على إبطال ما يصلح لترجيح بعض الظنون على بعض ، وقد ذكر لترجيح بعضها على بعض وجوه ثلاثة : الأول : كون بعض الظنون متيقن الاعتبار بالنسبة إلى غيره ، بمعنى أن بعضها مما يقطع اعتباره في حال الانسداد ، بحيث يعلم أنه لو كان شيء حجة عند انسداد باب العلم لكان هو الحجة ، وهذا يكفي في الترجيح ، فيجب الأخذ بما علم اعتباره. وقد أورد على هذا الوجه بما حاصله : أنه لابد وأن تكون الحجة في حال الانسداد وافية بمعظم الأحكام ، على وجه لا يلزم عن الرجوع إلى الأصول العملية في الموارد التي لم تقم عليها الحجة المحاذير المتقدمة ، وليس في أقسام الظنون ما يكون بهذه المثابة ، فان ما يعلم اعتباره بالإضافة إلى غيره هو الخبر الصحيح الأعلائي ، وهو ما زكى جميع الرواة بعد لين ، ولم يعمل في تصحيح رجاله وتميز مشتركاته في سلسلة السند ما يكون مشتركا بين الثقة والضعف بظن أضعف نوعا من سائر الأمارات ، ولم يكن موهونا بمعارضة بعض الأمارات له وكان مما اعتمد عليه الأصحاب وعملوا به مفيدا للظن الاطمئناني ، فالخبر الواجد لهذه القيود هو الذي يكون متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره من الأمارات في حال الانسداد ، وهو كما ترى ! إذ ليس في ما بأيدينا من الأخبار (310)
ما يكون بهذه المثابة إلا أقل قليل لا يفي بمقدار معتد به من الفقه ، فضلا عن أن يكون وافيا بمعظمه ، على أنه لو فرض كثرته وأنه يفي بمعظم الأحكام ، إلا أنه حيث يعلم إجمالا بثبوت المخصصات والمقيدات له فيما بأيدينا من الأخبار فلا يجوز الاعتماد عليه ، لأنه يكون حينئذ كظواهر الكتاب لا يجوز التمسك بها من جهة العلم الإجمالي بالمخصصات والمقيدات لها.
فان قلت : لو فرض عزة وجود هذا الصنف من الخبر وعدم كونه وافيا بمعظم الأحكام ، لكان المتعين حينئذ هو التعدي عنه إلى ما هو المتيقن بالإضافة إلى غيره مما يكون دون الخبر الصحيح الأعلائي ، فان كان وافيا وإلا يتعدى إلى غيره مما هو المتيقن بالإضافة إلى غيره ، وهكذا إلى أن يحصل فيما بين أصناف الأخبار ما يكون وافيا بمعظم الأحكام ، فعلى هذا لا يجوز التعدي إلى كل أمارة ، ولا موجب لتعميم النتيجة لكل ظن ، مثلا لو فرض أن الخبر المزكى رواته بعدل واحد مع كونه. واجدا لسائر القيود والشروط المتقدمة كان كثير الوجود وافيا بالأحكام ، فالواجب هو الاقتصار عليه ، ولا يجوز التعدي عنه إلى ما دونه مما كان فاقدا لبعض القيود الاخر ، ولو فرض أن هذا الصنف من الخبر أيضا قليل لا يفي بالأحكام ، فاللازم التعدي عنه إلى ما دون ذلك مما يكون فاقدا لشرطين وهكذا ، وبالأخرة لابد وأن ينتهى الأمر إلى وجود ما يكون بقدر الحاجة. قلت : ليس الخبر المزكى رواته بعدل واحد مع اشتماله على سائر الشرائط والأوصاف متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره ، فإنه ليس أولى من غيره مما زكى رواته بعدلين مع كونه فاقدا لبعض القيود الاخر. وبالجملة : الخبر الواجد لجميع الأوصاف المتقدمة هو الذي يكون متيقن الاعتبار بالإضافة إلى غيره في حال الانسداد ، وما عدا ذلك من سائر أصناف الخبر ليس فيما بينها مما يكون متيقن الاعتبار ، فان احتمال الحجية في الخبر المشتمل على بعض الأوصاف الفاقد لبعضها الآخر ليس أقوى من الخبر (311)
الواجد لما فقده غيره والفاقد لما وجده ، هذا.
ولكن الأنصاف : أن دعوى كون المتيقن في المرتبة الأولى هو الخبر الواجد للأوصاف والشروط المتقدمة مما لا شاهد عليها (1) بل الذي يكون متيقن الاعتبار في حال الانسداد هو مطلق الخبر الموثوق به ـ ولو بواسطة عمل الأصحاب به واعتمادهم عليه ـ وإن كان فاقدا للشرائط المتقدمة. نعم : الخبر الواجد للأوصاف إنما يكون متيقن الاعتبار بالنسبة إلى الأدلة الدالة على حجية الخبر الواحد ، فان القدر المتيقن دلالتها على حجية الخبر الواجد للأوصاف لو ادعى عدم إطلاقها لمطلق الخبر ، وأما القدر المتيقن في الحجية في حال الانسداد هو الخبر الموثوق به بعمل الأصحاب ، فإنه لا يمكن أن يكون غيره حجة في هذا الحال ولا يكون هو حجة. فما أفاده الشيخ ( قدس سره ) : من أن المتيقن عند انسداد باب العلم هو الخبر المشتمل على القيود المتقدمة ، يمكن منعه ، وكأنه اشتبه عليه ما هو المتيقن من دلالة أدلة حجية الخبر مع ما هو المتيقن من دليل الانسداد. والخبر الموثوق به بمثابة من الكثرة يفي بمعظم الأحكام ، فلا وجه لتعميم النتيجة إلى مطلق ما يفيد الظن. مع أنه لو سلم أن ما هو متيقن الاعتبار في المرتبة الأولى هو الخبر الواجد للأوصاف ، ولكن نقول : إن ما هو المتيقن في المرتبة الثانية هو مطلق الخبر الموثوق به ، ولا سبيل إلى دعوى أنه إذا لم يكن المتيقن في المرتبة الأولى وافيا بالأحكام فليس في المرتبة الثانية ما يكون متيقن الاعتبار بالإضافة ، مع أنه لو سلم أنه ليس في المرتبة الثانية ما يكون متيقن الاعتبار ، ولكن يوجد في المرتبة 1 ـ أقول : يكفي شاهدا نفس اليقين به من النتيجة ، والتعدي منه إلى غيره محتاج إلى الشاهد. ولقد أجاد « شيخنا الأعظم » في ذلك ، ولا يناسب رمى مثل هذا الخريط في هذه الصنعة بالاشتباه. نعم لا بأس بالحاق مطلق الخبر الموثوق به بعمل الأصحاب بالمرتبة الأعلى ، ولو من جهة وجود متيقن في البين دل على اعتباره ، فتدبر. (312)
الأولى ما يكون واجدا للأوصاف المتقدمة وكان مفاده حجية مطلق الخبر الموثوق به ، فتكون نتيجة دليل الانسداد هو الخبر الموثوق به ، فإنه هو المتيقن في حال الانسداد ، وحيث إنه ـ بحمد الله ـ يفي بمعظم الأحكام ، فلا موجب لتعميم النتجية لمطلق الظن ، فتدبر جيدا.
الوجه الثاني : ( من الوجوه التي ذكروها لترجيح بعض الظنون على بعض ) هو كون بعض الظنون أقوى من بعض ، فيتعين الأخذ بما هو الأقوى ، لأنه يلزم الاقتصار في مخالفة الاحتياط ـ الذي كان هو الأصل في حال انسداد باب العلم ـ على القدر المتيقن ، وهو ما كان الاحتمال الموافق للاحتياط فيه بعيدا. وفيه : أن القوة والضعف من الأمور الإضافية لا يمكن ضبط مرتبة خاصة منها على وجه يمكن الإحالة عليها في تعيين النتيجة ، مع أن تعيين النتيجة المهملة بالقوة الضعف لا يخلو عن إشكال ، إذ من الممكن أن يكون الشارع قد جعل الظن الضعيف حجة ولم يجعل الظن القوى حجة (1). نعم : الترجيح بالقوة والضعف إنما يستقيم بناء على الحكومة ، فان العقل يستقل بلزوم الأخذ بأقوى الظنون في مقام الخروج عن عهدة التكاليف. وأما بناء على الكشف ـ كما هو مفروض الكلام ـ فلا عبرة بالقوة والضعف ، لأن الجعل الشرعي يدور مدار ملاكه الواقعي ، وقد لا تكون القوة ملاكا في نظر الشارع. 1 ـ أقول : بناء على الكشف بأي وجه يتعين في الظن ، مع احتمال كون مناط الحجية في غيره ، وحينئذ فلا محيص على الكشف من الالتزام بايكال الشارع ما هو مجعول لديه إلى حكم العقل بمقتضى المقدمة الرابعة ، وحينئذ لازمه تعيين ما هو الأقرب إلى الواقع من بين الظنون أيضا ، ولا بأس بضبطه بالاطميناني الوافي بمعظم الفقه ـ كما اعترف على الحكومة ـ بل قد أشرنا في بعض الحواشي السابقة : من أنه لا معنى على الكشف للالتزام بالإهمال مع فرض كون النتيجة حجية الظن ، إذ لا يخلو ذلك عن تهافت ، فراجع ما فصلناه هناك. (313)
الوجه الثالث : ( من وجوه الترجيح ) هو أن بعض الظنون مظنون الحجية والاعتبار ، فيكون أولى من غيره ، وقد ذكر للأولوية وجهان :
أحدهما : كون مظنون الحجية أقرب إلى الحجية ، فيجب صرف القضية المهملة إلى ما هو الأقرب إلى الحجية. ثانيهما : انه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع ، لأن الظن بحجية ظن من الأمارات التي تفيد الظن بالواقع ، فيكون ما ظن بحجيته للواقع أقرب إلى الواقع ، وأقرب إلى إدراك مصلحة بدل الواقع على تقدير التخلف ، لأن الظن بحجية ظن يلازم الظن بحصول المصلحة السلوكية على تقدير مخالفته للواقع ، فيكون احتمال فوات الواقع وبدله موهوما في موهوم ، وهذا بخلاف الظن الحاصل من أمارة لم يظن بحجيتها ، فإنه ليس فيه إلا الظن بمطابقة الواقع فقط ، ولا إشكال أنه لو دار الأمر بين العمل بما يظن معه إدراك الواقع أو بدله وبين العمل بما يظن معه إدراك الواقع فقط ، يتعين العمل بما يظن معه إدراك الواقع أو بدله ، فتكون النتيجة خصوص مظنون الحجية لا كل ظن (1). وقد أفاد الشيخ ( قدس سره ) في تضعيف هذا الوجه بما حاصله : أن ما ذكر في الوجه الثاني من وجهي اعتبار مظنون الحجية لا يقتضي تعيين العمل بخصوص مظنون الحجية ، بل أقصى ما يفيده هو أن العمل بما ظن حجيته أولى من العمل بما لا يظن حجيته ، لا أنه يتعين ذلك ، مع أن هذا الوجه يرجع في 1 ـ لا يخفى أن الفرق بين ما تقدم من « صاحب الفصول » و « المحقق » من اعتبار خصوص الظن بالطريق وبين ما قيل في المقام : من اعتبار خصوص مظنون الاعتبار في مقام تعيين النتيجة ـ بناء على كونها مهملة ـ هو أن ما تقدم من المحقق وأخيه كان مبنيا على أن مقدمات الانسداد لا تقتضي إلا خصوص الظن بالطريق ، سواء حصل معه الظن بالواقع أو لم يحصل. وأما ما قيل في المقام : فإنما هو بعد الفراغ عن كون النتيجة هو الظن بالواقع ، ولكن حيث كانت النتيجة مهملة ، فالواجب هو العمل بالظن بالواقع الذي ظن بحجيته واعتباره ، فتكون النتيجة اجتماعهما معا ( منه ) (314)
الحقيقة إلى الترجيح بالقوة والضعف ، وقد تقدم الجواب عنه ، مضافا إلى أنه يلزم على هذا عدم العمل بمطلق مظنون الحجية ، بل يتعين العمل بما يظن حجيته بظن قد ظن حجيته ، لأنه أبعد عن مخالفة الواقع وبدله ، هذا.
ولكن لا يخفى عليك : ضعف ما أفاده أخيرا ، فان الظن بحجية ظن يلازم الظن بادراك بدل الواقع على تقدير مخالفة الظن للواقع ، ولا يحتاج إلى كون الظن بحجية ظن مظنون الحجية بظن آخر ، بل لو فرض حصول الظن كذلك لم يترتب عليه أثر أصلا. وما أفاده الشيخ ( قدس سره ) من أنه يكون أبعد عن مخالفة الواقع وبدله مما لا نعقله (1) فإنه لو فرض حصول ألف ظن لا يحصل من ذلك إلا الظن بادراك الواقع أو بدله ، مثلا لو فرض حصول الظن بالواقع من الشهرة ثم حصل الظن بحجية الشهرة من الخبر الواحد ثم حصل الظن بحجية الخبر عن الاستقراء ثم حصل الظن بحجية الاستقراء من الإجماع المنقول ثم حصل الظن بحجية الإجماع المنقول من أمارة ظنية أخرى ، فهذه الظنون المترتبة لا توجب إلا الظن بحصول الواقع أو بدله ، وهذا حاصل من الظن بحجية الشهرة الحاصل من الخبر الواحد ، والظنون المترتبة الأخرى لا توجب حصول ظن آخر ، بل لا توجب قوة الظن بالواقع أو بدله الذي كان حاصلا في المرتبة الأولى ، فما أفاده ( قدس سره ) بقوله : « مع أن اللازم على هذا أن لا يعمل بكل مظنون الحجية الخ » لا يخلو عن مناقشة. 1 ـ أقول : الظن بالحجية إذا أفاد الظن بالبدل ، فشأنه قلب الوهم بالمصلحة بظن جبرانه ، وحينئذ فكما ترامي الظنون بحجية شيء لا يوجب الظن المتأخر قلب الوهم في المتقدم بظن نفسه ، فكيف لا يتفاوت ترامي الظنون المتأخرة مع عدمه في الظن بالجبران ، إذ الظن الثاني ظن بالجبران ووهم بعدمه فقط ، والظن الثالث يقلب هذا الوهم بالظن بالجبران ، فقهرا يوجب الثالث عدم زوال الظن بالجبران بوهم مخالفه سابقة ، ولئن شئت قلت : إن الظن الثاني ظن بالجبران ووهم بعدمه ، والظن الثالث شأنه سد هذا الوهم وقلبه بالظن بالجبران ، فقهرا يكون أقرب إلى المصلحة وجبرانه ، فتدبر تعرف. (315)
وعلى كل تقدير : الصواب في الجواب عن الترجيح بمظنون الاعتبار ، هو أن يقال : إنه إن كان المراد من الترجيح بمظنون الاعتبار أن مجرد الظن باعتبار ظن ـ وإن لم يقم دليل على اعتبار الظن ـ يكفي في صرف القضية المهملة ويقتضي أن تكون نتيجة دليل الانسداد خصوص الظن الذي ظن باعتباره ، فهو مما لا يمكن المساعدة عليه ، فان تعيين القضية المهملة لابد وأن يكون بمعين قطعي الاعتبار (1) حتى لا يلزم الترجيح بلا مرجح ، فلا يجوز الترجيح بكل مزية ما لم يقم دليل على اعتبارها.
وتوهم : أن رجحان الظن الذي ظن باعتباره على مشكوك الاعتبار وموهومه أمر قطعي وجداني فلابد وأن يكون مرجحا ومعينا للقضية المهملة ، واضح الفساد ، فان رجحان مظنون الاعتبار على أخويه وإن كان وجدانيا قطعيا ، إلا أن كونه مرجحا ومعينا للقضية المهملة ليس قطعيا بعد عدم قيام الدليل على الترجيح به ، لما عرفت : من أنه ليس كل مزية تقتضي الترجيح. 1 ـ أقول : قد أشرنا إليه سابقا أيضا : من أنه لو فرض أقربية المظنون الاعتبار إلى الواقع بجبرانه ، فبذاك المناط الذي يحكم العقل بتعين الأخذ بالظن من بين المحتملات ـ ولو بحكم المقدمة الرابعة ـ لابد وأن يؤخذ بكل ما هو أقرب إلى الواقع بجبرانه وجدانا ، وهو منحصر بمظنون الاعتبار. ولا يحتاج هذا التعيين حينئذ إلى دليل خارجي ، كما لا يخفى. نعم : في المقام شيء ، وهو أن الترجيح بمظنون الاعتبار بالتقريب المتقدم مبنى على كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه ، وإلا فلو احتمل كونها هي الطريق الواصل بطريقه ، فلا يكفي حينئذ الترجيح المزبور لإثبات حجية هذا الظن ولو بإجراء مقدمات الانسداد في تعيين الطريق مرة أو مرارا إلى أن ينتهى إلى ظن واحد أو ظنون متساوية ، كما إنه لو احتمل كون النتيجة الطريق الغير الواصل رأسا ، فلا مجال لإجراء مقدمات الانسداد أيضا ، لأن لازمه عدم إيكال الشارع تعين طريقه إلى حكم العقل بمقتضى المقدمة الرابعة في الانسداد الأولى ولا إليه في الانسداد في الطرق ، فلا محيص إلا من الاحتياط في دائرة الطرق ولو تبعيضا تخييريا بلا تعيين حسب الفرض ، وحينئذ لنا أن نقول : إن النوبة لا تنتهي إلى الاحتياط إلا بعد عدم إيكال الشارع إلى حكم العقل بمقتضى المقدمة الرابعة ، ولازمه أيضا عدم تخصيص الاحتياط في خصوص المظنون ، لما عرفت : أنه من تبعات الايكال ] إلى مقدمات الانسداد ثانيا مع الايكال في سابقه ] إلى المقدمة الرابعة ، والفرض إنه مع ايكاله إليها لا يبقى مجال الاحتياط كما لا مجال لإجراء مقدمات الانسداد ثانيا مع الايكال في سابقه إلى المقدمة الرابعة ، ومع عدمه لا يختص أيضا بما ظن [ في ] حجيته بالانسداد الثاني بخصوص الظنون. |
|||
|