|
|||
(391)
بالموضوعات الخارجية ، وذلك وإن كان بمثابة من الوضوح ، إلا أنه لا بأس بزيادة بيان في المقام حسما لمادة الشبهة.
فنقول : إن الأحكام الشرعية الوجوبية والتحريمية بعد ما كان لا محيص عن تعلقها بفعل المكلف الصادر عنه بتحريم عضلاته عن إرادته واختياره ، إما لا يكون لها تعلق بموضوع خارجي ـ كالصلاة حيث إن أجزائها ليست إلا الأفعال والأقوال الصادرة عن جوارح المكلف من دون أن يكون لها تعلق بموضوع خارجي ، وكذا الغناء والكذب ونحو ذلك ، وإما أن يكون لها تعلق بموضوع خارجي ، كوجوب إكرام العالم وحرمة شرب الخمر ، وأمثال ذلك من التكاليف الوجوبية والتحريمية التي لها ربط وتعلق بموضوع خارجي ، سواء كان الموضوع من الموضوعات التي يمكن للمكلف ايجادها في الخارج ويجعلها ثابتة في عالم الأعيان ـ كالخمر الذي يكون صنعه وايجاده من التمر والزبيب بيد المكلف ـ أو كان من الموضوعات التي ليست من صنع المكلف ولا يتمكن من ايجادها في الخارج ـ كحرمة وطي الام ووجوب استقبال القبلة ـ وأمثال ذلك من التكاليف التي لها تعلق بموضوع خارجي لا يتمكن المكلف من ايجاده في الخارج. فان لم يكن للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فلا يعتبر في فعليته سوى وجود شخص المكلف واجدا للشرائط العامة والخاصة المعتبرة فيه ، فعند وجود المكلف يكون التكليف فعليا علم به المكلف أو لم يعلم ، إذ ليس للعلم دخل في فعلية التكاليف ـ كما أوضحناه في محله ـ وبعد العلم به يتنجز وتصح العقوبة على مخالفته (1) وفي هذا القسم من التكاليف لا يتصور تحقق الشبهة الموضوعية. 1 ـ أقول : ذلك كله في التكاليف الوجوبية المطلوب فيها صرف وجوده ، فإنه بمجرد العلم به لا يقنع العقل بالاكتفاء بما هو محتمل المصداقية ، بل يلزم تحصيل الجزم بالفراغ الوجداني أو الجعلي. وأما في التكاليف التحريمية المطلوب فيها ترك الطبيعة السارية ـ بشهادة عدم سقوط النهى عنه بعصيانه مرة مثلا ـ فلا شبهة في أن التكليف فيها انحلالي حسب تعدد مصاديقه ، وبعد ذلك إذا فرض في البين ما شك في كونه صوتا مع الترجيع (392)
وإن كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فيمكن في عالم الثبوت أن يكون التكليف بالنسبة إلى وجود الموضوع مطلقا سواء كان الموضوع موجودا أو لم يكن ـ غايته أنه مع عدم وجوده يجب عليه ايجاده إن كان مما يمكنه ايجاده كسائر مقدمات الواجب المطلق ـ ويمكن أن يكون التكليف بالنسبة إلى الموضوع مشروطا ، ولكن هذا في التكاليف الوجودية المطلوب منها صرف الوجود.
وأما التكاليف العدمية الانحلالية : فالتكليف دائما يكون فيها مشروطا بوجود الموضوع (1) وقد ذكرنا تفصيل ذلك بما لا مزيد عليه في « رسالة المشكوك » نسئل الله تعالى التوفيق لإلحاقها في آخر الكتاب. وعلى كل تقدير : إن كان للتكليف تعلق بموضوع خارجي ، فما لم يعلم المفروض كونه غناء ، فدليل الكبرى لا يشمله ، ومع عدم شموله ـ ولو من جهة الشك في انطباق العنوان عليه ـ لا يصلح لبيانية حكمه ، فيبقى حكم هذه الشبهة الموضوعية تحت « قبح العقاب بلا بيان » إذ مثل هذا البيان كناية الحجة الموجبة لاستحقاق العقوبة ، فمع عدم حجية الخطاب بالنسبة إليه لا قصور في شمول القاعدة لمثله. وما توهم في أمثال ذلك : من عدم تصور الشبهة الموضوعية ، غلط فاحش ، كيف ! وكل خبر لم يعلم كذبه من الشبهة الموضوعية وكل صوت لم يعلم فيه ترجيع من الشبهة الموضوعية ، وقس عليه نظائرها من سائر المحرمات من الزنا واللواط وغيرها. 1 ـ أقول : في التكاليف العدمية التي لها تعلق بموضوع خارجي مثل « لا تشرب الخمر » لو كان حرمة الشرب بفعله منوطا شرعا بوجود الخمر يلزم عدم حرمة مقدمات تحصيل الخمر في ظرف يستتبع الشرب قهرا بحصوله ، ولا أظن التزامه من أحد ، فذلك برهان جزمي بأن حرمة شربه غير منوط بوجوده ، غاية الأمر عند عدم حصوله قهرا يسقط التكليف من جهة العجز ، لا من جهة فقد شرطه شرعا ، كما أنه مع التمكن من تحصيله إذا حصله فمع بقاء القدرة على ترك الشرب لا ضير فيه ، لأن المقصود من التكاليف التحريمية مجرد ترك المبغوض خارجا ، فما دامت القدرة على تفويت الشرب باقية لا بأس بايجاد سائر المقدمات ، وهذا المقدار لا يقتضي اشتراط التكليف بوجود الموضوع ، بل لنا أن نقول : إن في كلية التكاليف التحريمية المتعلقة بالغير لا يكون من باب اشتراطها بوجود المتعلق ، بل وجود المتعلق من حدود المكلف به وقيود موضوعه ، ولازمه ما ذكرناه. ثم إن من نتائج ما ذكرنا هو أن في فرض الشك في المتعلق ـ كالخمر في المثال ـ لا يكون المقام كسائر موارد الشك في شرط التكليف الموجب للشك في أصل توجه التكليف ، بل يكون من باب الشك في مصداق الخطاب المتوجه إلينا جزما ، لكن حيث إن الخطاب انحلالي لا يكون بالنسبة إلى هذا المشكوك حجة ، وحينئذ فالمسلكان مشتركان في عدم حجية الخطاب عند الشك في المتعلق لكن مختلفان في وجه عدم الحجية. (393)
وجود ذلك الموضوع لم تصح العقوبة على مخالفة ذلك التكليف ، فسواء كان الموضوع من الموضوعات التي يمكن للمكلف ايجادها أو كانت خارجة عن قدرة المكلف لا يكاد يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود الموضوع خارجا (1) فان نسبة الموضوع إلى التكليف كنسبة الفاعل والمكلف ، فكما أنه لا يمكن أن يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود المكلف ، كذلك لا يمكن أن يكون الخطاب فعليا إلا بعد وجود الموضوع ، والسر في ذلك واضح ، فان التكاليف الشرعية إنما تكون على نهج القضايا الحقيقية التي تنحل إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها عنوان المحمول ، فلابد من فرض وجود الموضوع في ترتب المحمول (2) فمع العلم بعدم وجود الموضوع خارجا يعلم بعدم فعلية التكليف ، ومع الشك في وجوده يشك في فعليته ، لأن المناط في صحة العقوبة عقلا هو أن يكون التكليف قابلا للباعثية والداعوية ، بحيث يكون محركا ـ في عالم التشريع ـ
1 ـ أقول : هذا التقريب تمام في الواجبات المنوطة ، لا في المحرمات ، كما شرحنا المقال في الحاشية السابقة. 2 ـ أقول : تشكيل القضايا الحقيقية في باب التكاليف منوط بجعل التكليف في كلية المشروطات منوطا بوجود شرطها خارجا ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقية المنوط فيها المحمول بوجوده الحقيقي على وجود الموضوع خارجا وبوجوده الفرضي على فرض وجود موضوعه كذلك. وأما لو بنينا على أن التكاليف طرا فعليتها مشروط بفرض وجود الموضوع في لحاظ الآمر والجاعل ، فلا محيص حينئذ من الالتزام بعدم إناطة فعلية التكليف على وجود الموضوع ، بل وجود الموضوع شرط محركيته وتأثيره في انبعاث المكلف ، لا شرط أصل التكليف وفعليته ، وربما يشهد لذلك أنه لو كان فعلية الإرادة منوطا بوجود الشرط خارجا ، فقبل وجود الشرط لا يكون إرادة أصلا ، وحينئذ فمن أين تجئ إرادة الجاعل بايجاد خطابه مقدمة لحفظ مرامه ؟ فهذه الإرادة الغيرية شاهد جزمي على عدم إناطة إرادة المولى على وجود الشرط خارجا ، مع إنه ربما يكون شرط التكليف مفقودا له ، كباب الوصايا العهدية المنوط إرادتها ببعد الموت ، وكذا فيما لو قال : « إن نمت فافعل كذا » فإنه كيف يمكن الالتزام بأن فعلية الإرادة منوط بنومه أو مماته ؟ فلا محيص من جعل الإرادة في كلية المشروطات منوطا بوجود الشرط لحاظا ، وحينئذ ففي هذه المعلقات نقطع بفعلية التكليف في ظرف فرض وجود الموضوع لا بفعليته فرضا ، كما في القضايا الحقيقية. وعليه : فجعل القضايا في باب التكاليف من القضايا الحقيقية بعيد عن الصواب ، ولا أقول بأنها من القضايا الخارجية الناظرة إلى الموضوعات الخارجية ، بل هي داخلة في القضايا الطبيعية محضا ، كما لا يخفى ، فتدبر. (394)
لعضلات المكلف ، وذلك لا يكون إلا بعد العلم بتحقق الموضوع وانطباق الكبرى المجعولة الشرعية عليه ، فلا أثر للعلم بتشريع الكبرى مع عدم العلم بانضمام الصغرى إليها ، لأن وجود الصغرى خارجا مما له دخل في فعلية الكبرى ، غايته أن التكليف قد يكون على وجه يجب على المكلف ايجاد الصغرى ـ إن كان مما يمكنه ايجاده ـ فتنطبق الكبرى عليها فيكون الحكم فعليا ، وقد يكون التكليف على وجه لا يجب على المكلف ايجاد الصغرى ـ وإن كان يمكنه ايجادها.
ثم لا يخفى أن ما ذكرنا : من أن التكاليف العدمية الانحلالية إنما تكون مشروطة بوجود الموضوع في الخارج ومع الشك في وجود الموضوع لا علم بالتكليف ، إنما هو إذا كان المنهى عنه نفس الطبيعة المطلقة على نحو السالبة المحصلة ، كقوله : « لا تشرب الخمر » حيث ينحل إلى قضايا جزئية حسبما للخمر من الأفراد الخارجية. وأما إذا كانت القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول (1) كأن يقال : 1 ـ أقول مرجع القضية المعدولة إذا كان إلى ربط السلب قبال السالبة الراجعة إلى سلب الربط ، لا شبهة في أن المسلوب في المعدولة هي الطبيعية التي هي متعلق سلب الربط في السالبة ، فهذه الطبيعة إذا كانت بوجودها عين وجود الأفراد ، فلا جرم عدمها أيضا عين عدم الأفراد ، ومجرد وقوع سلبها طرف الربط في القضية لا يوجب المغايرة بين هذا العدم وعدم أفراده ، بل العينية باقية بحاله ، وحينئذ فإذا كان المسلوب الطبيعة السيالة في ضمن الأفراد ، فلا شبهة في أن عدم هذه الطبيعة يختلف قلة وكثرة بقلة الأفراد وكثرتها ، كما أن في وجودها أيضا كذلك ، حيث إنها بالنسبة إلى الأفراد بمنزلة الآباء ، فكلما ازداد الفرد كثرة ازدادت الطبيعة وجودا وقلت عدمها ، وهكذا الأمر بالعكس ، ولازمه مع الشك في فردية شيء لها تردد عدم الطبيعة ـ بل وجوده ـ بين الأقل والأكثر ، وحينئذ فإذا أضيف شيء بمثل هذا العدم كان متصفا بمفهوم مردد بين الأقل والأكثر ، وفي مثله لا يكاد يجرى الاشتغال ، إذ مع تردد المفهوم بين الأقل والأكثر لا يكاد يتم حجية الخطاب بمثل هذا العنوان المردد بالإضافة إلى الفرد المشكوك ، وحينئذ لو قيل « كن لا شارب الخمر » فمع كون « اللاشاربية » مرددا بين الأقل والأكثر ـ حسب ازدياد فرده وقلته ـ كيف يتم حجية هذا الخطاب بالإضافة إلى المرتبة المشكوكة ؟ ومع عدم حجية الخطاب بالنسبة إلى المرتبة المشكوكة من أين يقتضي قاعدة الاشتغال تحصيل الفرد المشكوك ، فتدبر في المقام ، فإنه من مزال الأقدام. (395)
« كن لا شارب الخمر » فحكمها يغاير حكم السالبة المحصلة ، فان متعلق التكليف في مثله قوله : « كن لا شارب الخمر » هو كون المكلف واجدا لوصف « اللاشاربية » ومعنونا بكونه تارك شرب الخمر ، من دون نظر إلى ترك الأفراد الخارجية من الخمر ، وإنما يكون تركها مقدمة عقلية لاتصاف المكلف بوصف « اللاشاربية » بحيث لو فرض محالا اتصافه بهذا الوصف مع عدم ترك شرب الأفراد الخارجية من الخمر لم يكن عاصيا ومخالفا للتكليف ، وبالعكس لو فرض محالا ترك شرب الأفراد الخارجية ولم يتصف بذلك الوصف كان عاصيا ومخالفا للتكليف ، وهذا الفرض وإن كان محالا وبحسب النتيجة لا فرق بين قوله : « كن لا شارب الخمر » وبين قوله : « لا تشرب الخمر » فإنه على كل حال يجب ترك الأفراد الخارجية ، إما لكون تركها مقدمة عقلية لحصول الوصف ، وإما لكونه متعلق النهى ولكن بحسب الأصول العملية تختلف النتيجة ، فإنه لو كان متعلق النهى ترك شرب الأفراد الخارجية وكانت القضية على نحو السلب المحصل ، فعند الشك في خمرية مايع تجرى البراءة ، للشك في تعلق النهى به ـ بالبيان المتقدم ـ وإن كانت القضية على نحو الموجبة المعدولة المحمول ، فالمرجع عند الشك في خمرية مايع قاعدة الاشتغال لا البراءة ، للشك في حصول الوصف مع عدم ترك المشكوك ، فيرجع الشك إلى الشك في الامتثال ، هذا.
والعجب من المقرر ! حيث إنه تارة تخيل بأن ربط سلب الطبيعة يوجب مغايرة هذا السلب لسلب الأفراد خارجا وأن سلب الأفراد مقدمة لهذا السلب والوصف المربوط في القضية ، وأخرى جعل عدم الأفراد من مقدمات الإتصاف بالسلب ، وهو وإن كان له وجه حيث إن العدم إذا قام به الربط والاتصاف كان له نحو تقدم على الربط المزبور ، ولكن لا يجدى له شيئا ، إذ الإتصاف والارتباط بأمر مردد بين الأقل والأكثر لا يوجب الاشتغال في مثله ، من جهة أن الإتصاف بالمردد موجب للترديد في مرتبة نفس الإتصاف ، لأن المعنى الحرفي في القلة والكثرة والتعيين والترديد كالكلية والجزئية تبع للمتعلق ، ولذا لم يتوهم أحد في تقييد شيء بشيء مردد بين الأقل والأكثر جريان قاعدة الاشتغال فيه ، والنكتة هو الذي أشرنا إليه ، فتدبر فيما أفيد ، خصوصا في برهانه الآخر على التغاير الذي هو عين المصادرة. (396)
ولكن لم نعثر في باب النواهي على ما يكون من هذا القبيل ، وإنما يكون ذلك مجرد فرض لا واقع له ، فان ظاهر النواهي الواردة في الكتاب والسنة ، هو أن يكون متعلق النهى نفس الطبيعة باعتبار ما يفرض لها من الأفراد الخارجية ، إما على نحو العام المجموعي ، وإما على نحو العام الأصولي ، بل العام المجموعي أيضا مجرد فرض لا واقع له ، فإرجاع القضية السالبة المحصلة إلى المعدولة المحمول خلاف ما يقتضيه ظاهر النواهي.
ولنطوي الكلام في هذا المقام ونقتصر على هذا المقدار ونحيل تفصيله إلى ما نلحقه بالكتاب من « رسالة المشكوك » إن شاء الله تعالى ، فان استقصاء الكلام في ذلك وجمع أطرافه لا يمكن في المقام ، بل يحتاج إلى رسالة مفردة ، وقد استوفينا البحث عنه في تلك الرسالة ، فانتظر. وعلى كل حال : فقد ظهر مما ذكرنا : أن قاعدة « قبح العقاب بلا بيان » لا تختص بالشبهات الحكمية ، بل تجرى في الشبهات الموضوعية أيضا ، من غير فرق بينهما ، سوى أنه في الشبهات الحكمية تختص القاعدة بما بعد الفحص وفي الشبهات الموضوعية لا يجب الفحص ، إلا على بعض الوجوه يأتي ذكرها في خاتمة الاشتغال. بقى الجواب عن سؤال الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ، وأنه كيف صح التمسك بالأصول العملية في الشبهات الموضوعية ولم يصح التمسك بالأصول اللفظية فيها ؟. ولعمري ! أن الفرق بينهما في غاية الوضوح ، فان الأصول اللفظية إنما تكون كاشفة عن المرادات النفس الأمرية ، وعنوان العام بعد تخصيصه يكون جزء الموضوع وجزئه الآخر عنوان المخصص (1) ولا يمكن أن يتكفل الدليل 1 ـ أقول : قد حققنا في محله : بأن باب التخصيص غير باب التقييد ، وأن ما يخرج العنوان عن تمام الموضوع إلى جزئه هو باب التقييد ، ولذا لا يتوهم أحد الشك بالمطلق عند الشك في مصداق قيده ، وهذا بخلاف (397)
وجود الموضوع ، بل إنما يتكفل بيان الحكم على تقدير وجود الموضوع ، والمصداق المشتبه لم يعلم أنه من مصاديق العام أو من مصاديق الخاص ؟ فلا يجوز التمسك بأصالة العموم لإثبات كونه من مصاديق العام ، وإلا يلزم أن يكون العام متكفلا لوجود مصاديقه.
وهذا بخلاف الأصول العملية فإنها وظايف عملية. والمصداق المشتبه إذا لم يقم دليل على بيان حكمه ، فبحسب الوظيفة لابد وأن ينتهى الأمر إلى أحد الأصول العملية ، ولا أقل من البراءة والاشتغال اللذين تنتهي إليهما الوظيفة العملية عقلا عند فقدان الأصول الحاكمة عليها. هذا تمام الكلام في الشبهة التحريمية بأقسامها الأربعة. وأما الشبهة الوجوبية : فأقسامها أيضا أربعة ـ على حذو الشبهة التحريمية ـ لأن منشأ الشبهة ، إما أن يكون فقدان النص ، وإما أن يكون إجماله ، وإما أن يكون تعارض النصين ، وإما أن يكون لأجل الاشتباه في الموضوع الخارجي ، وهذه الأقسام الأربعة وإن لم يختلف حكمها ، إلا أن الشيخ ( قدس سره ) أفرد البحث عن كل واحد منها ونحن نقتفي إثره. القسم الأول : ما إذا كان منشأ الشك في الوجوب فقدان النص. والأقوى وفاقا لقاطبة الأصوليين ومعظم الأخباريين ـ جريان البراءة فيه وعدم وجوب الاحتياط ، سواء كان طرف احتمال الوجوب الاستحباب أو الإباحة أو الكراهة ، للأدلة المتقدمة في الشبهة التحريمية ، فان تلك الأدلة تعم الشبهات الوجوبية أيضا ما عدا أخبار أصالة الحل ، ولا حاجة إلى إعادة البحث عنها. باب التخصيص ، فإنه من باب إخراج فرد عن تحت حكم العام ، نظير موته الغير المرتبط بعنوان العام ، غاية الأمر يوجب تقليل أفراده مع ما للعام بالإضافة إلى بقية أفراده تمام الموضوع ، ، وهذه الجهة أوقعتهم في باب الشك في فرد المخصص في حيص وبيص ، وتمام الكلام في محله إن شاء الله تعالى. (398)
فالأولى عطف عنان الكلام إلى ما يهم ذكره من التنبيهات التي ذكرها الشيخ ( قدس سره القدوسي ).
التنبيه الأول : لا إشكال في رجحان الاحتياط عقلا في جميع أقسام الشبهة التحريمية والوجوبية الحكمية والموضوعية (1). وفي استحبابه الشرعي من جهة أوامر الاحتياط إشكال ، لاحتمال أن تكون الأخبار الواردة في الباب ـ على كثرتها ـ للإرشاد إلى ما يستقل به العقل من حسن الاحتياط تحرزا عن الوقوع في المفسدة الواقعية وفوات المصلحة النفس الأمرية ، وحكم العقل برجحان الاحتياط وحسنه إنما يكون طريقا إلى ذلك ، لا أنه نشأ عن مصلحة في نفس ترك ما يحتمل الحرمة وفعل ما يحتمل الوجوب ، بحيث يكون ترك المحتمل وفعله بما أنه محتمل ذا مصلحة يحسن استيفائها عقلا. ومن ذلك يظهر : فساد ما ربما يتوهم : من استحباب الاحتياط شرعا 1 ـ أقول : عدم الريب في رجحان الاحتياط يقتضي حسنه حتى مع عدم مصلحة الواقع ، وحينئذ نسئل بأنه ما المناط في حسنه ؟ فان كان بملاحظة حسن الاحتياط مقدمة لحفظ الواقع فهو غلط ، إذ صورة المخالفة مباين مع صورة المصلحة لا مقدمة ولا ملازم. نعم : هو مقدمة للعلم بتحصيل الواقع ، وترشيح حسنه منه فرع حسن تحصيل العلم بالواقع ، وهو أول الكلام ، وحينئذ ما معنى طريقية حسن الاحتياط بالنسبة إلى مصلحة الواقع ؟ فلا محيص حينئذ إما من دعوى إرشادية حكم العقل بالاحتياط لمحض حفظ المصالح بلا حسن فيه ، أو دعوى وجود مناط لحسنه حتى في صورة المخالفة ولو من جهة كونه موجبا لاستحقاق المثوبة ، نظير حسن الإطاعة الناشئة عن هذه الجهة ، وبذلك أيضا منعنا في مثله جريان قاعدة الملازمة ، وحينئذ لا يسمى مثل هذا الحسن طريقيا ، بل هو من شؤون إتيان محتمل الوجوب برجائه ، فيكون من تبعات الوجوب لا مستتبعا له ، كما لا يخفى. نعم : هذا البيان أيضا إنما يصح على المختار من حسن الانقياد ، وإلا فعند من لا يقول بحسن العمل بل غايته أنه يكشف عن حسن سريرة الفاعل ـ كما هو مقالته في التجري ـ فلا يكون لحسن العمل مناط أصلا ، بل لا محيص لمثل « المقرر » إلا من الالتزام بالإرشاد ، كما لا يخفى. (399)
بقاعدة الملازمة ، فان المورد ليس من موارد « القاعدة الملازمة » لما تكرر منا : أن مورد الملازمة إنما هو فيما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة علل الأحكام من المصالح والمفاسد التي تبتنى عليها الأحكام ، وأما إذا كان الحكم العقلي واقعا في سلسلة معلولات الأحكام من الإطاعة والعصيان وما يستتبعهما من الثواب والعقاب ، فلا محل لقاعدة الملازمة ، والحكم العقلي في باب الاحتياط يكون من القسم الثاني (1) لما عرفت : من أنه طريق محض للتخلص عن فوات المصلحة والوقوع في المفسدة النفس الأمرية ، فهو نظير حكمه بحسن الإطاعة وقبح المعصية ، فلا يمكن إثبات استحباب الاحتياط شرعا من طريق قاعدة الملازمة.
نعم : يمكن أن يستفاد استحبابه الشرعي من بعض الأخبار الواردة في الترغيب على الاحتياط كقوله ـ عليه السلام ـ « من ارتكب الشبهات نازعته نفسه أن يقع في المحرمات » (2) وقوله ـ عليه السلام ـ « من ترك الشبهات كان لما استبان له من الاثم أترك » (3) وقوله ـ عليه السلام ـ « من يرتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه » (4) ونحو ذلك من الأخبار التي يمكن أن يستظهر من التعليلات الواردة فيها أنها من قبيل الحكمة لتشريع استحباب الاحتياط ، وإن كان للمنع عن ذلك أيضا مجال. وعلى كل حال : لا شبهة في حسنه العقلي وإمكانه في التوصليات بترك ما يحتمل حرمته وفعل ما يحتمل وجوبه. وأما العبادات : فقد استشكل الشيخ ( قدس سره ) في إمكان 1 ـ أقول : ولقد أجاد فيما أفاد ، ولكن في جعل حسنه طريقيا تأمل قد أشرنا إليه في الحاشية السابقة ، فراجع. 2 ـ لم أعثر عليه بعد التتبع في مظانها ( المصحح ) 3 ـ الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 22 ولفظ الحديث « فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك » 4 ـ الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 39 (400)
الاحتياط فيها ، بل قوى العدم في هذا المقام ، مع أن بنائه في الكتب الفقهية والرسائل العملية على خلاف ذلك ، وقد نقل أن كلمة « أقواهما » لم تكن في نسخة الأصل.
وذلك هو المظنون ، فان النفس تأبى أن يكون مثل الشيخ ( قدس سره ) ينكر إمكان الاحتياط في العبادات ، مع أن ما ذكر في وجه ذلك في غاية الضعف والسقوط ، فان مبنى الإشكال ـ على ما ذكره الشيخ ( قدس سره ) ـ إنما هو اعتبار قصد التقرب والأمر في صحة العبادة (1) وذلك يتوقف على العلم بالأمر تفصيلا أو إجمالا ، وفي الشبهات البدوية لا علم بالأمر فلا يمكن فيها الاحتياط. وبعبارة أخرى : الاحتياط في الشيء عبارة عن الإتيان بكل ما يحتمل دخله فيه على وجه يحصل العلم بعد الاحتياط بتحقق ما احتاط فيه بجميع ما له من الأجزاء والشرائط ، ومن جملة الشرايط المعتبرة في العبادة قصد أمرها والتقرب بها ، فان العمل الفاقد لذلك لا يكون عبادة ، وقصد الأمر والتقرب يتوقف على العلم بتعلق الأمر بالعمل (2) والا كان من التشريع المحرم ، ففي الشبهات البدوية العبادية لا يمكن فيها حقيقة الاحتياط ، هذا. ولكن الإنصاف : أنه ما كان ينبغي أن يجرى هذا الإشكال على قلم « الشيخ » فضلا عن أن يختاره ويقويه ، فإنه قد تقدم منا ـ في مبحث القطع ـ أن للامتثال مراتب أربع : أحدها : الامتثال العلمي التفصيلي ، ثانيها : الامتثال العلمي الإجمالي (3) ثالثها : الامتثال الظني ، رابعها : الامتثال الاحتمالي ، وهذه 1 ـ أقول : لو عبر بقصد التمييز كان أولى ، لأن ما نحيل في الاحتياط هو قصد التمييز ، وإلا فلا قصور في التقرب برجاء الأمر ولا في قصد الوجه ولو رجاء ، كما لا يخفى. 2 ـ أقول : فيه نظر ، لأن رجاء الأمر فيه كاف بلا تشريع ، ولذا قلنا : بأن الأولى جعل المانع قصد التمييز لا غير. 3 ـ أقول : عند من احتمل اعتبار قصد التمييز لابد من عدم هذه المراتب. نعم : لا بأس بالالتزام بها في (401)
المراتب الأربع مترتبة عند العقل حسب ترتبها في الذكر ، بمعنى أنه لا تحسن المرتبة اللاحقة إلا عند تعذر المرتبة السابقة.
وعلى كل حال : بعد تعذر المراتب الثلاث من الامتثال التفصيلي والإجمالي والظني تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي ، والعقل يستقل بحسنه ، ويكون ذلك امتثالا للأمر الواقعي على تقدير وجوده ، ولا يتوقف حقيقة الامتثال على قصد الأمر التفصيلي ، وإلا كان اللازم عدم حصول الامتثال في موارد العلم الإجمالي (1). وتوهم : أن الأمر في موارد العلم الإجمالي مقطوع معلوم فلا يقاس بالشبهات البدوية التي ليس فيها إلا احتمال الأمر ـ فاسد ، فان مجرد العلم بتعلق الأمر بأحد فردي الترديد لا يكفي لو بنينا على اعتبار قصد التقرب والأمر التفصيلي في عبادية العبادة ، فإنه حين الاشتغال بكل واحد من فردي الترديد لا يمكن قصد التقرب به وامتثال أمره ، لعدم العلم بتعلق الأمر به ، لاحتمال أن يكون متعلق الأمر هو الفرد الآخر الذي يأتي به بعد ذلك ، أو الذي أتى به قبل ذلك ، ففي موارد العلم الإجمالي لا يمكن أزيد من قصد امتثال الأمر الاحتمالي بالنسبة إلى كل واحد من العملين اللذين يعلم إجمالا بتعلق الأمر بأحدهما ، فلو كان الامتثال الاحتمالي لا يكفي في صحة العبادة كان اللازم عدم التمكن من الامتثال في موارد العلم الإجمالي ، وهو كما ترى !. وبالجملة : لا ينبغي الإشكال في أن الامتثال الاحتمالي من أحد مراتب الامتثال والعقل يستقل بحسنه وسقوط الأمر به على تقدير ثبوته واقعا (2) نعم : ليس هو في عرض الامتثال التفصيلي بل في طوله. وما أبعد ما بين القول : التوصليات ، حيث لا يعتبر فيها قصد التمييز ولا الوجه ، فيكفي في التقرب بها رجاء أمرها ، كما لا يخفى. 1 ـ أقول : لا قصور في الالتزام بهذا التالي ، ولذا نمنع عن الاحتياط فيما يستلزم التكرار المعلوم اختصاصه بصورة العلم الإجمالي ، كما لا يخفى. 2 ـ أقول : ذلك صحيح في التوصليات ، وإلا ففي التعبديات مجال إشكال ، كما أشرنا. (402)
بأن الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي ، وبين القول : بأن الامتثال الاحتمالي ليس من مراتب الامتثال ولا تصح به العبادة ولا يسقط به الأمر (1) ! مع أنه قد عرفت : أن لازم ذلك عدم كفاية الامتثال الإجمالي (2).
فظهر : أن دعوى عدم إمكان الاحتياط في العبادات في غاية الوهن والسقوط. وقد حاول بعض الأساطين في تصحيح الاحتياط في العبادات بالأوامر الواردة فيه ، كقوله ـ عليه السلام ـ « أخوك دينك فاحتط لدينك » (3) بتقريب : أن الأمر بالاحتياط قد تعلق بذات العمل الذي يحتمل وجوبه ، لا بالعمل بقيد أنه محتمل الوجوب بحيث يكون احتمال ا لوجوب قيدا في المأمور به ، بل متعلق الأمر نفس العمل الذي يحتمل وجوبه توصليا يكفي الإتيان به بلا قصد الأمر المتعلق به وإن كان عباديا ـ أي كان بحيث لو تعلق الأمر به لكان أمره عباديا ـ فلابد من قصد الأمر الذي تعلق به ، وهو الامر بالاحتياط الذي فرض تعلقه بذات العمل ، فينوي التقرب به ويقصد امتثاله ، ولذلك حكى : أن سيرة أهل الفتوى في العصر السابق كانت على الفتوى باستحباب نفس العمل في الشبهات البدوية الحكمية ، من غير تقييد باتيان العمل بداعي احتمال المطلوبية ، بل يطلقون الفتوى باستحباب العمل ، ولو لم تكن أوامر الاحتياط متعلقة بنفس العمل وموجبة لاستحبابه لم يكن وجه لإطلاق الفتوى باستحباب العمل ، بل كان اللازم تقييد الفتوى بإتيان العمل بداعي احتمال الأمر ، كما جرت عليه السيرة بين أهل الفتوى في العصر المتأخر ، هذا. 1 ـ أقول : ولا بأس به أيضا بعد إسقاط اعتبار قصد التمييز ، إذ لا وجه لتقديم الامتثال الجزمي على غيره بعد تساويهما في القرب. 2 ـ أقول : الأولى التشبث بدليل الإطلاقات ـ ولو مقاميا ـ لدفع اعتبار قصد التمييز في العبادة ، وإلا فلا مجال لتوهين هذا الكلام بهذه الشدة. نعم : هو صحيح في الاحتياط في التوصليات. 3 ـ الوسائل : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 41 (403)
وأنت خبير بما فيه ، فان الأمر بالعمل ، إما أن يكون بنفسه عباديا ـ أي كان الغرض من الأمر التعبد والتقرب به ـ كالأمر المتعلق بالصلاة ، وإما أن يكتسب العبادية من أمر آخر لأجل اتحاد متعلقهما ، كوجوب الوفاء بالنذر (1) فان الأمر بالوفاء بالنذر بنفسه لم يكن عباديا ، بل هو كسائر الأوامر التوصلية لا يعتبر في سقوطه قصد الامتثال والتقرب ، ولكن لو تعلق النذر بما يكون عبادة ـ كنذر صلاة الليل ـ يكتسب الأمر بالوفاء بالنذر العبادية من الأمر بصلاة الليل ، كما أن الأمر بصلاة الليل يكتسب الوجوب من الأمر بالوفاء ، والسر في ذلك : هو أن النذر إنما يتعلق بذات صلاة الليل لا بها بما أنها مستحبة بحيث يؤخذ استحبابها قيدا في متعلق النذر ، وإلا كان النذر باطلا لعدم القدرة على وفائه ، فان صلاة الليل بالنذر تصير واجبة ، فلا يمكن بعد النذر فعل صلاة الليل بقيد كونها مستحبة ، فلابد وان يتعلق النذر بذات صلاة الليل ، والأمر الاستحبابي الذي تعلق بها أيضا قد تعلق بذات صلاة الليل لا بوصف كونها مستحبة ، فان هذا الوصف إنما جاء من قبل الأمر بها فلا يمكن أخذه في متعلق
1 ـ أقول : بعد ما كان رجحان متعلق النذر شرط صحة النذر ، فقهرا هذا الرجحان ملحوظ في متعلقه ، ولا يعقل تجريد المتعلق عن هذا الرجحان ، كيف ! ولازم التجريد عدم دخل الرجحان في الصحة ، فإذا كان كذلك فيستحيل اتحاد الأمر الناشئ من قبل النذر مع هذا الرجحان الذي هو شرط الصحة ، فإذا لم يتحدا ، فلا محيص من اعتبار الذات في الرتبتين فرارا عن لزوم اجتماع الضدين ، وحينئذ فلا قصور في إبقاء الذات الملحوظ متعلقا للنذر وموضوعا له على استحبابه ، مع كون الذات الملحوظ في مرتبة الوفاء بالنذر الملحوظ في المرتبة اللاحقة متصفا بالوجوب ، نظير اتصاف الذات في المرتبة السابقة عن اعتقاد العصيان على ما هو عليه من الحكم الواقعي مع اتصاف الذات في رتبة اعتقاد العصيان ـ المسمى بالتجري ـ بالمبغوضية ، بلا تضاد بينهما ، كما لا يخفى. وحينئذ لا يبقى مجال لما أفيد : من اكتساب الأمر بالوفاء بالنذر العبادية عن الأمر بالذات ، إذ هذا الاكتساب فرع التأكد واتحاد أحدهما مع الآخر ، وهذا المعنى في مثل المقام من طولية الحكمين مستحيل ، إذ الطولية موجبة لتخلل الفاء بينهما ، ومع هذا التخلل يأبى العقل عن الحكم بالاتحاد والتأكد بينهما ، كما لا يخفى. وحينئذ ربما يكون باب النذر من تلك الجهة كباب إجارة العبادات. نعم : لو لم نقل بشرطية رجحان المتعلق في النذر كان لما أفيد وجه ، ولكنه ظاهرا خلاف الإجماع ، إلا في بعض الموارد على ما حقق في محله ، فراجع كلماتهم وتدبر فيها. (404)
الأمر ، فيكون كل من الأمر الاستحبابي والأمر بالوفاء بالنذر قد تعلق بذات صلاة الليل ، ولمكان اتحاد متعلقهما يكتسب كل منهما من الآخر ما كان فاقدا له ، فالأمر النذري يكتسب العبادية من الأمر الاستحبابي ، والأمر الاستحبابي يكتسب الوجوب من الأمر النذري ، هذا إذا اتحد متعلق الأمرين.
وأما إذا لم يتحد متعلقهما : فلا يكاد يمكن أن يكتسب أحد الأمرين العبادية مع كونه فاقدا لها من الآخر الواجد لها ، كالأمر بالوفاء بالإجارة إذا كان متعلق الإجارة أمرا عباديا ، كما لو أوجر الشخص على الصلاة الواجبة أو المستحبة على الغير ، فان الأجير إنما يستأجر لتفريغ ذمة الغير ، فالإجارة إنما تتعلق بما في ذمة المنوب عنه ، وما في ذمة المنوب عنه إنما هي الصلاة الواجبة أو المستحبة بوصف كونها مستحبة أو واجبة ، فمتعلق الإجارة إنما تكون الصلاة بقيد كونها مستحبة على المنوب عنه لا بذات الصلاة بما هي هي ، ومتعلق الأمر الاستحبابي إنما هو نفس الصلاة ، فلا يتحد الأمر الاستحبابي مع الأمر الإجاري ، ومع عدم اتحاد المتعلق لا يمكن أن يكتسب الأمر الإجاري العبادية من الأمر الاستحبابي ، كما لا يكتسب الأمر الاستحبابي وصف الوجوب من الأمر الإجاري ، فان الأمر الاستحبابي إنما تعلق بالمنوب عنه والفعل بعد باق على استحبابه بالنسبة إلى المنوب عنه (1) والأمر الوجوبي إنما يتعلق بالأجير ، فلا ربط لأحدهما بالآخر حتى يكتسب أحدهما من الآخر ما يكون فاقدا له. 1 ـ أقول : تصور بقاء استحباب الفعل المنوب عنه إنما يصح في النيابة عن الأحياء ، وإلا ففي الأموات لا معنى له ، كما أن هذا الأمر الاستحبابي لا يكون مناط تقرب النائب إذ لا معنى لجعل أمر الغير داعيا له ، بل المناط كون العمل بنفسه من أبزار العبودية ونحو خضوع ، فالنائب يقصد بعمله هذا كونه خضوعا للمنوب عنه ، نظير تقبيل اليد عن الغير. ولقد حققنا في محله أن قربية العبادات النيابي منحصر بهذا البيان ليس إلا ، وحينئذ لنا أن نقول : إنه لو فرض اتحاد متعلق الحكمين في باب الإجارة لا يكاد يكتسب الأمر الإجاري القرب من غيره ، كيف ! ولازمه تقريب النائب للمنوب عنه ، وحينئذ ليس عدم عبادية الأمر بوفاء الإجارة من جهة صرف تعدد الأمرين ، بل مع فرض اتحادهما أيضا لا يصلح لقربية العمل للمنوب عنه ، فتدبر. (405)
ومن ها يظهر : فساد ما أجاب به بعض الأعلام عن الإشكال المعروف في صحة عبادة الاجراء ـ وهو عدم تمشى قصد التقرب منهم مع أن المحرك والداعي لهم أخذ الأجرة ـ من أن لهم قصد امتثال الأمر الإجاري والتقرب به ، فان الأمر الإجاري وإن كان توصليا إلا أنه يصح التقرب به خصوصا إذا تعلق بما يكون عبادة.
وجه الفساد : هو أن الأمر الإجاري وإن صح التقرب به كسائر الأوامر التوصلية ، إلا أن قصد امتثال الأمر الإجاري لا يوجب صحة العبادة المستأجر عليها (1) فان المعتبر في صحة العبادة قصد أمر نفسها والأمر الإجاري لم يتعلق بذات العبادة ليكتسب العبادية من الأمر المتعلق بها ، وقد استقصينا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في « كتاب القضاء » وفي « المكاسب المحرمة » عند البحث عن أخذ الأجرة على الواجبات. وعلى كل حال : فقد عرفت أن الأمر العبادي ، إما أن يكون بنفسه عبادة ـ أي كان الغرض من الأمر التعبد به ـ وإما أن يكتسب العبادية من أمر آخر ، والأوامر المتعلقة بالاحتياط فاقدة لكلتا الجهتين. أما الجهة الأولى : فواضح ، فان الأمر بالاحتياط إنما يكون توصليا ليس الغرض منه التعبد والتقرب به ، وإلا يلزم بطلان الاحتياط في التوصليات ، ولا سبيل إلى دعوى صيرورة الأمر بالاحتياط عباديا إذا كان الفعل المحتاط فيه عبادة ، وتوصليا إذا كان الفعل المحتاط فيه غير عبادة ، إلا على وجه يأتي بيانه مع فساده. وأما الجهة الثانية : فلأن الأمر بالاحتياط لم يتعلق بذات العمل مرسلا عن قيد كونه محتمل الوجوب ، بل التقييد بذلك مأخوذ في موضوع أوامر 1 ـ أقول : الأولى أن يعلل بأن التقرب بأمر الإجاري إنما يكون للنائب دون المنوب عنه ، والمقصود تقرب المنوب عنه بفعل النائب ، وإلا فلو أغمض عما ذكرنا ، فما أفيد مصادرة محضة. |
|||
|