|
|||
(46)
وهم ودفع :
أما الوهم : فهو أنه كيف يمكن انحلال العلم الاجمالي بالأصل المثبت للتكليف في البعض مع أن قوام جريان الأصل المثبت هو العلم الاجمالي ؟ بداهة أن المنشأ لسقوط الأصول النافية للتكليف ووصول النوبة إلى الأصل المثبت له إنما كان هو العلم الاجمالي ، إذ لولاه لم تقع المعارضة بين الأصول النافية لتسقط ، ولولا سقوط الأصول النافية لم تصل النوبة إلى الأصل المثبت ، فلو كان الأصل المثبت للتكليف يقتضي انحلال العلم الاجمالي لزم من وجوده عدمه ، لان انحلال العلم الاجمالي يوجب رجوع الأصول النافية لأنه المنشأ لسقوطها ، ورجوع الأصول النافية يوجب عدم جريان الأصل المثبت لأنه محكوم بها ، فيلزم من جريان الأصل المثبت عدم جريانه. وأما الدفع : فحاصله : أن انحلال العلم الاجمالي لا يوجب رجوع الأصول النافية لكي يلزم من رجوعها عدم جريان الأصل المثبت ، فان العلم الاجمالي بما أنه علم ليس علة لسقوط الأصول النافية لترجع عند انحلاله ، بل العلة لسقوطها هي عدم انحفاظ رتبتها ولزوم المخالفة العملية من جريانها ، وهذه العلة كما تقتضي سقوطها عند وجود العلم الاجمالي ، كذلك تقتضي عدم رجوعها عند انحلال العلم الاجمالي. والحاصل : أن الأصول النافية لا ترجع بعد سقوطها ، لأنه يلزم من رجوعها سقوطها لبقاء علة السقوط بعد الرجوع ، فإذا لم ترجع الأصول النافية يبقى الأصل المثبت مستقرا وينحل به العلم الاجمالي ، فتأمل جيدا. تتمة : لو فرض أنه كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله (47)
ولم يكن في الطرف الآخر أصل مثبت للتكليف من غير ناحية العلم الاجمالي ، فالعلم الاجمالي ينحل به أيضا ، كما ينحل بالأصل المثبت للتكليف في بعض الأطراف ، لان الأصل النافي يوجب التأمين عن الطرف الذي يجري فيه ويبقى الطرف الآخر بلا مؤمن.
ولكن فرض أن يكون في أحد الطرفين أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله ولم يكن في الطرف الآخر أصل مثبت له بعيد ، بل الظاهر أنه لا يمكن. نعم : يمكن فرضه في الأصل الجاري في وادي الفراغ وناحية الامتثال ، كما لو علم إجمالا بعد دخول المغرب بفوات إحدى الفرائض الخمس من هذا اليوم وترددت بين كونها الظهر أو المغرب ، فإنه في مثل الفرض تجري قاعدة الشك بعد الوقت النافية للتكليف عن الظهر وينحل بها العلم الاجمالي. هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن المثال ليس مما نحن فيه ، لوجود الأصل المثبت في أحد طرفي العلم الاجمالي وهو أصالة الاشتغال الجارية في صلاة المغرب مع بقاء وقتها ، فالانحلال إنما يكون بالأصل المثبت. وبالجملة : فرض خلو أحد الأطراف عن كل من الأصل المثبت للتكليف والنافي له مما لم نعثر على مثاله. وقد يتوهم : أن العلم بنجاسة أحد الانائين اللذين كان أحدهما متيقن الطهارة قبل العلم الاجمالي دون الآخر يكون مثالا لما نحن فيه ، بتقريب : أن الاستصحاب الطهارة في متيقن الطهارة يعارض أصالة الطهارة الجارية في الطرف الآخر فيسقطان ، وتصل النوبة حينئذ إلى أصالة الطهارة في مستصحب الطهارة ، وهي سليمة عن المعارض لسقوط معارضها في المرتبة السابقة ، وليست أصالة الطهارة في مستصحب الطهارة في مرتبة استصحابها لتسقط بسقوطه ، لأنها محكومة ، فهي في ظرف جريان الاستصحاب لا تجري ، وفي ظرف جريانها لا يكون لها معارض (48)
هذا ، ولكن لا يخفى عليك فساد التوهم ، لان تعارض الأصول إنما هو باعتبار تعارض مؤدياتها وما هو المجعول فيها ، والمؤدى في كل من استصحاب الطهارة وقاعدتها أمر واحد وهو طهارة مشكوك الطهارة والنجاسة ، والمفروض عدم إمكان جعل الطهارة في كل من الانائين ، فكل من مؤدى استصحاب الطهارة وقاعدتها في متيقن الطهارة يعارض مؤدى قاعدة الطهارة في الاناء الآخر ، فتسقط جميعا في عرض واحد (1) وحكومة الاستصحاب على القاعدة لا أثر لها في المقام ، وإنما يظهر أثرها في الشك السببي والمسببي.
والحاصل : أن تعارض الأصول وسقوطها إنما هو باعتبار أن المجعول فيها معنى يؤدي إلى المخالفة العملية ، فلابد من ملاحظة ما هو المجعول في الأصول الجارية في أطراف العلم الاجمالي ، فان كان المجعول فيها معنى يؤدى إلى المخالفة العملية فلا محالة يقع التعارض بينها وتسقط ، ولو فرض أنه كان في أحد الأطراف أصول متعددة وفي الطرف الآخر أصل واحد ، فان الأصل الواحد يعارض جميع تلك 1 ـ أقول : لم يبق أحد شبهة في أن جعل الطهارتين في طرف واحد وفي عرض فارد مستحيل ، كما أنه لا شبهة لاحد أيضا في أن منشأ تعارض الأصول بملاحظة مؤداتها الموجب لطرح العلم الاجمالي ، وإنما الكلام في أنه لم لا يمكن في مقام الثبوت جعل طهارتين طوليين بنحو لا يكاد اجتماعهما في زمان بل ورتبة واحدة ؟ ولو لمصلحة ثبوت المتأخر عند عدم ثبوت السابق ، فينتج في المقام جريان الطهارة في أحد الطرفين بلا معارض ، ومع الاغماض عن هذه الجهة لم لا يمكن جعل الشارع للطهارة الواحدة المجعولة طريقين ؟ أحدهما في مرتبة الدلالة في طول الآخر ، بحيث لا يصل النوبة إلى عموم الثاني الذي هو أحد الطريقين إلا بعد سقوط العموم الأول ولو بالتعارض. ولعمري ! أن الجواب في المقام كالجواب عن التخيير في جريان الأصول النافية ليس إلا مجرد المصادرة ودعوى بلا دليل يعرف البصير الناظر أنه ليس الالتزام بما التزم إلا من باب ضيق الخناق وتشبث الغريق بكل حشيش !. فمن الأول تلتزم بما أسلفناه تستريح من هذه النقوض الواضحة البينة التي تكون في الوضوح ـ لولا انغراس الشبهة ـ كالنار على المنار وكالشمس في رابعة النهار. (49)
الأصول (1) ولا يلتفت إلى ما بينها من الحكومة واختلاف المراتب بعد اتحاد المجعول فيها وعدم اختلافها في المؤدى ، وذلك واضح وإن خفي على بعض الاعلام.
ولا يتوهم : أن ذلك يقتضي عدم جواز العمل بالامارة القائمة على طهارة أحد الانائين ، بتخيل أن مؤدى الامارة يعارض مؤدى أصالة الطهارة الجارية في الاناء الآخر. فان قيام الامارة على طهارة أحد الانائين تدل بلازمها عل نجاسة الآخر ، فيندرج فيما تقدم : من قيام أصل مثبت للتكليف في بعض الأطراف ، وأين هذا من الأصول العملية التي لا عبرة بلوازمها وملزوماتها ؟ فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعية التحريمية في الشك في المكلف به. الأول : لا فرق في تأثير العلم الاجمالي في وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية بين أن يكون متعلق العلم عنوانا معينا ذا حقيقة واحدة كما لو كان المعلوم بالاجمال خصوص نجاسة أحد الانائين أو خصوص غصبية أحدهما ، وبين أن يكون المتعلق عنوانا مرددا بين عنوانين مختلفي الحقيقة كما لو كان المعلوم 1 ـ أقول : وهل الأصل الواحد يعارض أصلا غير جاري في المورد في طرف جريانه ؟ فلا تعارض إلا ما هو الجاري ليس إلا ، وحينئذ عليك باثبات جريان قاعدة الطهارة في عرض الاستصحاب في طرفها ، أو باثبات عدم جريان القاعدة حتى مع عدم الاستصحاب ، لا سبيل لك في الأول ، لان تطبيق موضوعه منوط بعدم الاستصحاب ، فكيف يكون في عرضه ؟ كما أنه لا سبيل إلى الثاني ، إذ لازمه عدم جريان القاعدة ولو مع عدم الاستصحاب ، وهو أيضا رفع اليد عن عموم دليله بلا دليل ، كما لا يخفى (50)
بالاجمال مرددا بين النجاسة والغصبية.
والمحكي عن الحدائق : اعتبار أن يكون المعلوم بالاجمال عنوانا معينا غير مردد ، فالعلم الاجمالي بتحقق أحد العنوانين في أحد الانائين لا يقتضي وجوب الموافقة القطعية ولا حرمة المخالفة القطعية. ولا يخفى ضعفه ، فان تأثير العلم الاجمالي في وجوب الموافقة وحرمة المخالفة إنما هو لأجل كشفه عن الالزام المولوي بعثا أو زجرا ، وتردد المعلوم بالاجمال لا يوجب قصورا في كشفه ، لأنه يعلم بتعلق النهي المولوي عن التصرف في أحد الانائين على كل تقدير ، إما لكونه غصبيا ، وإما لكونه نجسا ، فلابد من الخروج عن عهدة التكليف بترك التصرف في كل من الانائين وترتيب الاحكام الخاصة لكل من النجاسة والغصب إذا كان لكل منهما حكم خاص لا يشاركه الآخر فيه غير الاحكام المشتركة بينهما ، لان العلم بتحقق أحد العنوانين يستلزم العلم بثبوت أحد الحكمين والأصول النافية متعارضة من الجانبين ، فلابد من الموافقة القطعية لكل من الحكمين ، إلا إذا فرض أن لاحد العنوانين حكما يخصه لا يشاركه الآخر فيه ولا يكون للآخر حكم خاص ، فان الأصل النافي للحكم الخاص يجري بلا معارض ، كما لا يخفى. الامر الثاني : إلزام العقل بالاحتياط في أطراف العلم إنما هو للارشاد إلى التخلص عن تبعة مخالفة التكليف المعلوم في البين ، فلا يترتب على مخالفة الاحتياط أزيد مما يترتب على مخالفة الواقع ، وقد تكرر منا الكلام في ذلك ، فلا حاجة إلى إعادته. الامر الثالث : يعتبر في تأثير العلم الاجمالي إمكان الابتلاء بكل واحد من الأطراف ، فلا أثر (51)
للعلم الاجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن مورد الابتلاء
وتوضيح ذلك : هو أن المطلوب في باب النواهي مجرد الترك واستمرار العدم وعدم نقضه بالوجود ، كما أن المطلوب في باب الأوامر هو مجرد الفعل ونقض العدم الأزلي ، ولا إشكال في اعتبار القدرة العقلية على كل من طرفي الفعل والترك في صحة كل من الأمر والنهي وإلا لزم التكليف بما لا يطاق أو بتحصيل الحاصل ، ففي اعتبار القدرة العقلية يشترك الأمر والنهي ، ولكن يختص النهي بقيد زائد ، وهو أنه يعتبر في صحته مضافا إلى القدرة العقلية على الفعل المنهي عنه القدرة العادية عليه ، بحيث يتمكن المكلف عادة من نقض العدم وفعل المنهي عنه ، ولا يكفي في صحة النهي مجرد القدرة العقلية على الفعل ، لاستهجان التكليف بترك مالا يقدر على فعله ، فان الترك حاصل بنفسه. والتكليف المطلق بترك ما يكون منتركا عادة يكون كالتكليف المطلق بترك ما يكون منتركا عقلا من حيث اللغوية والاستهجان ، فلا يصح النهي المطلق عن شرب الخمر الموجود في أقصى بلاد الهند مع عدم إمكان الابتلاء به عادة. نعم : يصح النهي عنه مقيدا بصورة حصول القدرة العادية ولو على خلاف العادة (1) وإنما زيد هذا القيد في خصوص النواهي ولم يعتبر في الأوامر التمكن 1 ـ أقول : بعد النتيجة بحسب المقدمات وخروجها عن حيز العادة ربما يوجب استهجان الخطاب ولو بنحو المشروط ، مثل أن يقال لشخص فقير : بأنك إذا صرت سلطانا لا تحكم بين الناس بظلم ، أو لعنين : إذا صار لك ولد لا تسمه باسم كذا ، مع إمكان صيرورة الولد له بشفائه ، مع بعده عنه عادة لا عقلا. ثم إن مناط استهجان الخطاب إنما هو بعدم صلاحيته للدعوة إلى المتعلق لبعد تمكنه منه عادة ، بحيث يرى العرف مثل هذا الشخص أجنبيا عن هذا الفعل فعلا ، من دون فرق بين كون خطابه أمرا أو نهيا ، وكون الغرض من الامر إيجاده ومن النهي تركه لا يجدي فرقا في رفع استهجان الخطاب إلى من هو أجنبي عن العمل ، ويرونه العرف بحسب العادة غير قادر عليه ، كما لو قيل لشخص قبل تزوجيه : ارفق مع زوجتك ، في ظرف لا يكون له أسباب الزواج مهياء عادة. (52)
العادي من الفعل (1) مضافا إلى التمكن العقلي ، لان الامر بالفعل إنما يكون لأجل اشتمال الفعل على مصلحة لازمة الاستيفاء في عالم التشريع ، ولا يقبح من المولى التكليف بايجاد ما اشتمل على المصلحة بأي وجه أمكن ولو بتحصيل الأسباب البعيدة الخارجة عن القدرة العادية مع التمكن العقلي من تحصيلها.
نعم : للمولى من باب التفضل والتوسعة عدم الامر بالفعل الذي يلزم منه العسر والحرج ، إلا أن ذلك أمر آخر غير قبح التكليف واستهجانه ، فلا يتوقف صحة الامر بالفعل على أزيد من التمكن العقلي من إيجاده. وأما النهي عن الفعل فلا يصح مع عدم التمكن العادي من إيجاد المنهي عنه ، لان الغرض من النهي ليس إلا عدم حصول ما اشتمل عل المفسدة ، ومع عدم التمكن العادي من فعل المنهي عنه لا تكاد تحصل المفسدة فلا موجب للنهي عنه ، بل لا يمكن ، لاستهجانه عرفا. فان قلت : يلزم على هذا عدم صحة النهي عن كل مالا يحصل الداعي إلى 1 ـ لا يخفى أن مقتضى التقابل بين الأمر والنهي ، هو أن يعتبر في صحة الامر القدرة العادية على الترك لا على الفعل ، ولا يبعد اعتبار ذلك في صحة الامر * ( منه ). * أقول : بناء على صحة المايز بين الأمر والنهي ـ من كون الغرض من الامر وجوده لتحصيل مصلحة ومن النهي تركه وأنه إنما يصير عدم القدرة العادية سببا للترك فلا يبقى مجال لأعمال المولوية بخلاف الامر فان سبب إيجاده ليس إلا دعوة أمره بتحصيل الأمور الغير العادية ـ لا يبقى مجال لتشبيه الامر بالنهي ولو من جهة تركه ، فعدم القدرة العادية لا يجدي على كلامه شيئا ، فمع تسليم الكبرى المزبورة لا مجال لهذا الكلام. نعم : الأولى أن يلحق الامر بالنهي ـ بناء على ما ذكر من المناط ـ بصورة الجزم بابتلاء المأمور بالعمل عادة لولا الامر ، فان إحداث الداعي في حقه أيضا لغو ، مع أنه ليس كذلك ، وذلك أيضا يكشف بأن منشأ استهجان الخطاب ليس ما ذكر ، بل العمدة كون البعد عن العمل بمثابة يرى العرف مثل هذا الشخص أجنبيا عنه ، بحيث لا يحسنون توجيه الخطاب نحوه ، من دون فرق بين الأمر والنهي ، كما أشرنا ، فتدبر. (53)
إيجاده ، كما لو فرض أن المكلف بحسب طبعه لا يميل إلى شرب الخمر ولا تنقدح في نفسه إرادته ولو لم يتعلق به النهي ، كما يشاهد ذلك في بعض المنهيات الشرعية بالنسبة إلى بعض الأشخاص ، فان صاحب المروة يأبى عن كشف العورة بمنظر من الناس ولو لم يكن منهيا عنه ، فترك مثل هذا الفعل حاصل بنفسه عادة من صاحب المروة ، فيلزم استهجان التكليف بستر العورة ولغوية النهي عن كشفها ، وذلك مما لا يمكن الالتزام به ، فإنه يلزم قصر النواهي الشرعية بمن تنقدح في نفسه إرادة الفعل ويحصل له الداعي إلى إيجاد المنهي عنه ، يل يلزم قصر الأوامر الشرعية أيضا بمن لم يكن مريدا للفعل بنفسه وخروج من كان يحصل له الداعي إلى إيجاد متعلق الامر من عند نفسه ولو لم يتعلق به الامر ، لاستهجان التكليف بفعل ما يوجده المكلف من عند نفسه ، وهو كما ترى واضح البطلان.
قلت : فرق بين عدم القدرة عادة على الفعل وبين عدم إرادة الفعل عادة (1) فان القدرة من شرائط حسن الخطاب ، ولابد من أخذها قيدا في التكليف لقبح التكليف مع عدم القدرة العقلية واستهجانه مع عدم القدرة العادية ، بالبيان المتقدم. وأما إرادة الفعل فليس لها دخل في حسن الخطاب ولا يعقل أخذها قيدا في التكليف وجودا وعدما ، لان التكليف إنما هو لبعث الإرادة ، فلا يمكن أن يكون التكليف مقيدا بحال وجود الإرادة ولا بحال عدمها لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد ، وهذا بخلاف القدرة ، فإنها بكلا قسميها من العقلية والعادية من الانقسامات السابقة على التكليف التي لابد من اعتبارها في متعلق 1 ـ أقول : إذا كان المانع عن الاقدام تنفر الطبع فلا باس بتقيد الخطاب بعدمه ، وذلك غير تقيده بإرادته ، بل الإرادة من تبعاته كتبيعتها للقدرة العادية ، فلو كان مناط الاستهجان مجرد تركه عادة لا فرق بين الترك لعدم القدرة أو لتنفر الطبع ، فذلك يكشف بأن مجرد ذلك لا يكون مناط استهجان الخطاب ، بل مناطه شيء آخر لا فرق فيه بين الأمر والنهي ، كما لا يخفى. (54)
التكليف ، لما عرفت من قبح التكليف واستهجانه عند عدم القدرة العقلية أو العادية ، فقياس باب القدرة بباب الإرادة ليس في محله ، لعدم استهجان النهي عن فعل مالا يحصل الداعي إلى إيجاده عادة ، واستهجان النهي عن فعل مالا يتمكن من إيجاده عادة ، والذي يدلك على ذلك ملاحظة النواهي في الموالي والعبيد العرفية ، فإنه لا يكاد يشك في عدم حسن النهي عن فعل مالا يقدر على فعله عادة ، وحسن النهي عن فعل مالا يحصل الداعي إلى فعله ، كما لو فرض أن العبد بحسب طبعه لا يميل إلى شرب التتن ولا تنقدح إرادته في نفسه ، فإنه لا ينبغي التأمل في صحة نهي المولى عن شربه ولا يعد لاغيا في نهيه ، بخلاف من لم يقدر على شرب التتن عادة ، كما لو كان في أقصى بلاد الهند ولا تصل يده إليه عادة ، فإنه يقبح النهي عن شربه ويعد لاغيا في نهيه ، وهو واضح لكل من راجع الطريقة المألوفة بين العقلاء في الأوامر والنواهي العرفية.
وقد ظهر مما ذكرنا الوجه في عدم تأثير العلم الاجمالي إذا كان بعض أطرافه خارجا عن مورد الابتلاء لعدم التمكن العادي من الاقتحام فيه. وحاصله : أن العلم الاجمالي إنما يكون مؤثرا إذا كان المعلوم بالاجمال مما يصح النهي عنه في أي طرف كان حتى يعلم بالتكليف على كل تقدير ، ومع خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء لا علم بالتكليف على كل تقدير ، لاحتمال أن يكون متعلق التكليف هو الخارج عن مورد الابتلاء ، فلا يجري فيه الأصل النافي للتكليف ، لأنه لا يترتب عليه أثر عملي ويبقى الطرف الآخر الذي يمكن الابتلاء به جاريا فيه الأصل بلا معارض. ثم إنه قد يشك في إمكان الابتلاء ببعض الأطراف وعدمه ، فان للقدرة العادية مراتب مختلفة يختلف حسن الخطاب وعدمه حسب اختلاف مراتبها ، فان الخمر الموجود في أقصى بلاد الهند أو الابعد منه مثلا مما يقطع بخروجه عن مورد الابتلاء وعدم التمكن العادي منه ، كما أن الخمر الموجود في هذا البلد مما يقطع (55)
بامكان الابتلاء به وحصول القدرة العادية عليه ، فلا إشكال في استهجان النهي عنه في الأول وعدم استهجانه في الثاني ، وأما الخمر الموجود في البلاد المتوسطة بين البعيدة والقريبة فقد يحصل الشك في القدرة العادية عليه وإمكان الابتلاء به ، فان القدرة العادية لا تزيد على القدرة العقلية ، والشك في حصول القدرة العقلية كثيرا ما يقع.
ومن المعلوم : أن الشك في حصول القدرة العادية يستتبع الشك في ثبوت التكليف وعدمه ، فإذا كان المشكوك فيه أحد أطراف العلم الاجمالي ففي وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر الذي يعلم بحصول القدرة عليه وإمكان الابتلاء به وعدمه ، قولان : أقواهما وجوب الاجتناب عنه لوجهين : الأول : هو أن الشك في ذلك وإن كان يستتبع الشك في ثبوت التكليف وتحقق الخطاب ، إلا أنه لمكان العلم بالملاك وما هو المناط لانقداح الإرادة المولوية يجري عليه حكم الشك في المسقط. وتوضيح ذلك : هو أن القدرة بكلا قسميها من العقلية والعادية ليست من الشرائط التي لها دخل في ثبوت الملاكات النفس الامرية ومناطات الاحكام ، بل إنما هي من شرائط حسن التكليف والخطاب ، لقبح التكليف واستهجانه عند عدم القدرة العقلية والعادية ، فالملاك محفوظ في كلتا صورتي وجود القدرة وعدمها ، والعقل يستقل بلزوم رعاية الملاك وعدم تفويته مهما أمكن إذا كان للمولى حكم على طبقه ، غايته أنه عند العلم بعدم القدرة على استيفاء الملاك بكلا قسميها العقل لا يلزم برعاية الملاك ، للعلم بأنه ليس للمولى حكم على طبقه. وأما مع الشك في القدرة فالعقل يلزم برعاية الاحتمال تخلصا عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كما هو الشأن في جميع المستقلات العقلية ، حيث إنه للعقل حكم طريقي في موارد الشك على طبق ما استقل به ، وليس في شيء من الاحكام (56)
العقلية ما يحكم العقل بالبراءة عند الشك في موضوع حكمه ، كما أوضحناه في بعض المباحث السابقة ، فعند الشك في القدرة العقل لا يحكم بالبراءة وترتب آثار عدم القدرة ، بل يستقل بلزوم رعاية احتمال القدرة.
غايته : أن نتيجة حكم العقل بذلك تختلف ، فان النتيجة عند الشك في القدرة العقلية هي وجوب الفحص عنها حتى يظهر الحال ، كما لو علم بتحقق ما هو المناط والملاك في تكليف المولى برفع الحجر عن الأرض وشك في القدرة عليه ، فان ضرورة العقل حاكمة بلزوم الفحص عن القدرة إلى أن يتبين العجز ، وليس للعبد الاتكال على الشك وإجراء البراءة عن التكليف. وأما النتيجة عند الشك في القدرة العادية ، فهي وجوب ترتيب آثار تحقق التكليف في المشكوك فيه ، ولازم ذلك هو أنه لو صار المشكوك فيه طرفا للعلم الاجمالي يكون حاله حال سائر موارد العلم الاجمالي بالتكليف من حيث حرمة المخالفة القطعية ، ولا يجوز إجراء البراءة في الطرف الذي هو داخل في مورد الابتلاء ، بتوهم أن الشك في ثبوت القدرة العادية في أحد طرفي العلم الاجمالي يستلزم الشك في التكليف ، فتجري البراءة في الطرف الذي يعلم بامكان الابتلاء به ، وذلك لما عرفت : من أن العلم بتحقق الملاك يمنع عن الرجوع إلى البراءة ، بل لابد من العلم بما يوجب سقوط الملاك ، فالشك في المقام ينتج نتيجة الشك في المسقط الذي يقتضي الاشتغال لا البراءة (1) 1 ـ أقول : لقد أجاد فيما أفاد : من أنه مع إحراز المقتضى للتكليف العقل [ لا يحكم بالبرائة ] باحتمال الموانع الراجعة إلى قصور العبد عن الامتثال ، وأن مصب قبح العقاب بلا بيان إنما في صورة احتمال قصور في اقتضاء التكليف من ناحية المولى ، وحيث كان كذلك ، فنقول : لا يرد عليه بأن لازمه لزوم الاجتناب عن المبتلى به حتى مع القطع بخروج الطرف عن محل الابتلاء كما توهم ، إذ من المعلوم : أن ما هو موضوع حكم العقل بالاحتياط هو الشك في مثل القدرة الطاري في مورد المصلحة ، وهذا المعنى في الفرض السابق موجود ، بخلافه في الفرض التالي ، إذ في ظرف وجود المصلحة في الخارج (57)
فتأمل (1).
الوجه الثاني : هو ما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ ومن التمسك باطلاقات أدلة المحرمات. وتقريب الاستدلال بها : هو أنه لا إشكال في إطلاق ما دل على حرمة شرب الخمر مثلا وشموله لكلتا صورتي الابتلاء به وعدمه (2) والقدر الثابت من عن محل الابتلاء يعلم بعدم القدرة فيه ، وإنما الشك في مثله من جهة الشك في وجود المصلحة في المقدور ، وحينئذ يصدق على مثله بأنه في ظرف وجود المصلحة في أي طرف ليس لنا شك في القدرة ، بل إما مقدور جزما ، وإما غير مقدور جزما ، وإنما الشك في أن ظرف المناط أيما كان ومرجعه إلى الشك في أصل المناط في المقدور ، لا في ظرف وجود المناط يشك في القدرة ، وما هو موضوع الاحتياط هو ذلك ، لا الفرض الأول. وليس العجب من المتوهم اشتباه الامر عليه ، وإنما العجب من أستاذه كيف قنع بهذا الاشكال ؟!. 1 ـ وجهه : أنه يلزم على هذا وجوب الاجتناب عن أحد طرفي المعلوم بالاجمال مع العلم بخروج الآخر عن مورد الابتلاء ، للعلم بتحقق الملاك أيضا في أحد الطرفين ، لأن المفروض أنه لا دخل للابتلاء وعدمه في الملاك ، فلو كان العلم بثبوت الملاك يقتضي وجوب الاجتناب عن أحد الطرفين مع الشك في خروج الآخر عن مورد الابتلاء فليقتض ذلك أيضا مع العلم بخروج أحدهما عن مورد الابتلاء ، مع أنه قد تقدم أن خروج بعض الأطرف يقتضي عدم وجوب الاجتناب عن الآخر. والسر في ذلك : هو أن مجرد وجود الملاك لا يكفي في حكم العقل بوجوب رعايته ما لم يكن تاما في الملاكية ولم يعلم أن الملاك في الخارج عن مورد الابتلاء يكون تاما في ملاكيته. وعليه لا فرق بين المتيقن خروجه عن مورد الابتلاء والمشكوك خروجه عنه في عدم وجوب الاجتناب عن الآخر. وشيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ قد أسقط الوجه الأول عن الاعتبار بعدما كان بانيا عليه لما أوردت عليه النقض المذكور ( منه ). 2 ـ أقول : قد يستشكل بأن القدرة العادية كالعقلية كما هو شرط للخطاب الواقعي كذلك هو شرط في إيجاب التعبد به ظاهرا ، وحينئذ فكما أن الخطاب الواقعي مشكوك كذلك الخطاب الظاهري الدال على إيجاب التعبد به أيضا مشكوك ، ولذا نقول بعدم حجية الخبر الواحد أو الظاهر في الخارج عن محل الابتلاء ، كما هو الشأن في مفاد الأصول ، ومع هذا الشك من أين يحرز صحة الخطاب كي يثبت به فعلية الحكم الواقعي ؟. وبعبارة أخرى : مرجع حجية شيء إلى جعله طريقا إلى الواقع مقدمة للعمل ، ومع الشك في الأثر (58)
التقييد والخارج عن الاطلاق عقلا هو ما إذا كان الخمر خارجا عن مورد الابتلاء بحيث يلزم استهجان النهي عنه بنظر العرف ، فإذا شك في استهجان النهي وعدمه في مورد الشك في إمكان الابتلاء بموضوعه وعدمه ، فالمرجع هو إطلاق الدليل ، لما تبين في مبحث العام والخاص : من أن التخصيص بالمجمل مفهوما المردد بين الأقل والأكثر لا يمنع عن التمسك بالعام فيما عدا القدر المتيقن من التخصيص وهو الأقل ، بل جواز التمسك بعموم أدلة المحرمات في المقام أولى من غيره ، لان المقيد فيما نحن فيه إنما هو حكم العقل باشتراط كون موضوع التكليف مما يمكن الابتلاء به ، وفي المقيدات اللبية يجوز التمسك بالعام في الشبهات المصداقية فضلا عن الشبهات المفهومية إذا كان الترديد بين الأقل والأكثر كما فيما نحن فيه ، إذ الشك في خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء إنما هو لأجل إجمال القيد مفهوما وتردده بين الأقل والأكثر ، لما عرفت : من أن للقدرة العادية المعبر عنها بامكان الابتلاء مراتب متعددة يختلف حسن التكليف وعدمه حسب اختلاف مراتب القدرة. وقد يشك العرف في حصول القدرة في بعض الموارد المستلزم لحصول الشك في حسن الخطاب واستهجان التكليف وعدمه ، وليس مفهوم القدرة والاستهجان أوضح من سائر المفاهيم العرفية ، مع أنه كثيرا ما يقع الشك في صدقها على بعض المراتب.
وبالجملة : لا ينبغي التأمل في جواز التمسك باطلاق أدلة المحرمات الواردة في الكتاب والسنة في كل ما شك في حصول القدرة العادية وعدمها ، وعليه يكون العملي لا يبقى مجال للقطع بحجيته ، ومع الشك في حجيته كيف يجوز التمسك لاثبات فعلية الحكم الواقعي ؟ وإلى هذا البيان نظر استاذنا العلامة في كفايته ، حيث منع في المقام قابلية المورد للاطلاق ، ومرامه قابلية المحل لحجية الاطلاق عند عدم التقيد بشيء ، لا أن الغرض عدم قابلية الواقع للاطلاق ، كي يجاب بأن شأن إطلاق الخطاب إثبات هذا المعنى ، فتدبر ، فان سوء التعبير ربما يوقع الطرف في الوهم. (59)
حال ما شك في خروجه عن مورد الابتلاء حال ما علم دخوله في مورد الابتلاء في وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر.
فان قلت : المخصص المجمل المتصل بالعام يسري إجماله إلى العام ولا ينعقد له ظهور في جميع ما يحتمل انطباق مفهوم المخصص عليه إذا كان المخصص لفظيا أو عقليا ضروريا ، سواء كان إجماله لأجل تردده بين المتباينين أو بين الأقل والأكثر ، والتفصيل بينهما إنما هو في المخصص اللفظي المنفصل أو ما بحكمه من العقل النظري ، وأما العقل الضروري فحكمه حكم المتصل في سراية إجماله إلى العام وسقوطه عن قابلية التمسك به. والسر في ذلك : هو أن المخصص إذا كان من الضروريات العقلية فبمجرد صدور العام من المتكلم ينتقل الذهن إليه ويكون كالقرينة المحتفة بالكلام يسري إجماله إليه لا محالة ، وهذا بخلاف العقل النظري ، فإنه لا ينتقل الذهن إليه إلا بعد الالتفات إلى المبادي التي أوجبت حكم العقل ، وقد لا تكون المبادي حاصرة في الذهن فلا يمنع عن انعقاد الظهور للعام ، ولا يسري إجماله إليه ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في محله. ومن المعلوم : أن المخصص في المقام إنما يكون من الاحكام العقلية الضرورية ، لان ضرورة العقل قاضية باستهجان النهي عما لا يمكن الابتلاء به ولا يقدر عليه عادة ، فان اعتبار إمكان الابتلاء بموضوع التكليف من المرتكزات عند العرف والعقلاء ، فإذا اشتبه حال المخصص وتردد أمره بين الأقل والأكثر لاجمال مفهومه ، فلا محالة يسري إجماله إلى العمومات والمطلقات الدالة على حرمة المحرمات ، وتسقط عن قابلية التمسك بها في موارد الشك في إمكان الابتلاء واستهجان النهي. قلت : أولا : يمكننا منع كون المخصص في المقام من الضروريات العقلية المرتكزة في أذهان العرف والعقلاء (60)
وثانيا : أن سراية إجمال المخصص اللفظي المتصل أو العقلي الضروري إلى العام إنما هو فيما إذا كان الخارج عن العموم عنوانا واقعيا غير مختلف المراتب وتردد مفهومه بين الأقل والأكثر ، كما لو تردد مفهوم « الفاسق » الخارج عن عموم « أكرم العلماء » بين أن يكون خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعم منه ومن مرتكب الصغيرة ، وأما إذا كان الخارج عن العموم عنوانا ذا مراتب مختلفة وعلم بخروج بعض مراتبه عن العام وشك في خروج بعض آخر ، فإجمال المخصص وتردده بين خروج جميع المراتب أو بعضها لا يسري إلى العام ، لأن الشك في مثل هذا يرجع في الحقيقة إلى الشك في ورود مخصص آخر للعام غير ما علم التخصيص به.
والحاصل : أنه فرق بين التخصيص بما لا يكون ذا مراتب والتخصيص بما يكون ذا مراتب (1) فان إجمال الأول وتردده بين الأقل والأكثر يمنع عن التمسك بالعام إذا كان متصلا به ، وإجمال الثاني وتردده بين أن يكون الخارج مرتبة خاصة من مراتبه وبين أن يكون مرتبتين أو أكثر لا يسري إلى العام ولا يمنع عن التمسك به فيما عدا المرتبة المتيقن خروجها ولو كان المخصص متصلا بالعام ، والتخصيص فيما نحن فيه يكون من قبيل الثاني ، فان بعض مراتب الخروج عن 1 ـ أقول : كل من قال بحجية الألفاظ من باب أصالة الظهور يلتزم بأنه إذا اتصل بالكلام ما يشك ولو بدوا في قرينيته يضر بانعقاد الظهور ، ومن المعلوم : بأن الحكم العقلي الحافة بالكلام لو فرض لم يكن مرددا بين الأقل والأكثر بل كان موجبا للشك في التخصيص بدوا يمنع هذا المقدار في انعقاد أصل الظهور ، بلا احتياج إلى ضم عنوان واقعي كان مفهومه مرددا بين الأقل والأكثر ، مع أن المقام لو كان من قبيل العلم بخروج الخارج عن محل الابتلاء في الجملة وكان الخارج مرددا بين المراتب ، فالامر كما نقول. وأما لو نعلم بأن ما هو في الخارج بحكم العقل مطلق مراتبه الصادق على أول وجوده أيضا وشك في أن أول وجوده يحصل بأي مرتبة من البعد ، ففي هذه الصورة ليس لعنوان المخصص مراتب ، بل ليس له إلا مفهوم واحد مردد بين الأقل والأكثر من حيث البعد إلى المقصد ، فتكون من هذه الجهة نظير الفسق المردد بين مراتب ارتكاب المحرمات من حيث ارتكاب الصغيرة والكبيرة ، فتدبر. |
|||
|