|
|||
(106)
في ترخيص ترك الأكثر إنما هي الجهل بمتعلق التكليف ، فلا محالة يكون الترخيص في تركه ظاهريا على تقدير أن يكون متعلق التكليف واقعا هو الأكثر ، فالتكليف بالأكثر يكون متوسطا في التنجيز ، بمعنى أنه إن كان المكلف به واقعا هو الأكثر فالتكليف به قد تنجز على تقدير ترك الأقل ، فيعاقب على ترك الأكثر ، وأما مع عدم ترك الأقل فلا يكون التكليف به منجزا ولا يعاقب على تركه ، فبلوغ التكليف بالأكثر إلى مرتبة التنجز يدور مدار فعل الأقل وتركه ، فهو منجز على تقدير وغير منجز على تقدير آخر.
فظهر : أن التكليف في مورد الاضطرار إلى المعين لا يكون إلا من التوسط في التكليف ، وفي مورد الأقل والأكثر لا يكون إلا من التوسط في التنجيز. وأما الاضطرار إلى غير المعين : ففي اقتضائه التوسط في التنجيز أو التوسط في التكليف ، كما اختاره الشيخ ـ قدس سره ـ وجهان ، لأنه قد اجتمع فيه كل من الجهتين ، فان لكل من الجهل والاضطرار دخلا في الترخيص فيه ، إذ لولا الجهل بشخص الحرام كان يتعين على المكلف رفع الاضطرار بغيره ، كما أنه لولا الاضطرار كان يجب الاجتناب عن جميع الأطراف ولم يحصل في البين ما يوجب الترخيص في البعض ، فالترخيص في ارتكاب أحد الأطراف تخييرا يستند إلى مجموع الأمرين : من الجهل والاضطرار. وحينئذ لابد من ملاحظة الجزء الأخير لعلة الترخيص. فإن كان هو الجهل ، فالترخيص فيه يكون ظاهريا لا واقعيا ، ويلزمه التوسط في التنجيز ، والترخيص الظاهري في المقام ـ كسائر موارد الترخيصات الظاهرية المستفادة من أصالة البراءة والحل ـ لا يقتضي أزيد من المعذورية في مخالفة التكليف على تقدير مصادفة ما اختاره المكلف لدفع الاضطرار لموضوع التكليف مع بقاء الواقع على ما هو عليه بلا تصرف فيه ، فان الترخيص الظاهري لا يصادم الواقع ، كما أوضحناه في محله. (107)
وإن كان هو الاضطرار ، فالترخيص فيه يكون واقعيا ويلزمه التوسط في التكليف.
والانصاف : أن لكل من الترخيص الواقعي والترخيص الظاهري وجها قويا. أما وجه كون الترخيص ظاهريا : فهو ما تقدم من أن الاضطرار إلى غير المعين بوجوده لا يصام التكليف الواقعي ولا يمس الموضوع ، بل الموضوع بتمام ماله من القيود الوجودية والعدمية محفوظ ، فالعلة الموجبة للترخيص في ارتكاب الحرام إنما هو الجهل ، إذ لولا الجهل كان يتعين رفع الاضطرار بغير الحرام ، ولذا قلنا : إن الحكم في مورد الاضطرار إلى غير المعين يكون فعليا. وأما وجه كون الترخيص واقعيا : فهو أن الاضطرار بوجوده وإن لم يناف التكليف الواقعي ، إلا أنه في حال الجهل بالموضوع وعدم العلم بشخص الحرام ينافيه ويقع المصادمة بين التكليف والاضطرار ولو في صورة مصادفة ما اختاره لدفع الاضطرار لموضوع التكليف ، فان ارتكاب المكلف للحرام في هذا الحال يكون مصداقا للاضطرار ويحمل عليه بالحمل الشايع الصناعي ، ويصح أن يقال : إن ارتكابه للحرام كان عن اضطرار إليه ، وإن كان يمكن رفع الاضطرار بالطرف الآخر نظير الاتيان بأحد فردي الواجب التخييري ، فان المأتي به يكون مصداقا للواجب ، مع أنه يجوز تركه والآتيان بالفرد الآخر ، وإذا صدق الاضطرار إلى الحرام ، فالترخيص فيه يكون واقعيا. وتوهم : أن الترخيص الواقعي في كل واحد من الأطراف تخييرا ينافي العلم بالتكليف الواقعي تعيينا فاسد ، فإنه إنما ينافي العلم بالتكليف التعييني على كل تقدير وفي كل حال ، وأما العلم بالتكليف على تقدير دون تقدير وفي حال دون حال ، فالترخيص التخييري في كل واحد لا ينافيه ، فتأمل. هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه كون الاضطرار إلى غير المعين يقتضي (108)
الترخيص الواقعي والتوسط في التكليف ، وقد مال إليه شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ بل قواه في ابتداء الامر ، ولكن عدل عنه في فذلكة البحث واختار الترخيص الظاهري والتوسط في التنجيز (1) وهو الذي ينبغي المصير إليه ، والذي يسهل الخطب هو : أنه لا يترتب على الوجهين ثمرة مهمة ، وقد تقدم في دليل الانسداد شطر من الكلام في ذلك ، فراجع.
الامر السادس : لو كانت الأطراف تدريجية الوجود بحيث كان وجود بعضها بعد تصرم الآخر ، ففي تأثير العلم الاجمالي مطلقا ، أو عدمه مطلقا ، أو التفصيل بين ما كان للزمان دخل في الخطاب والملاك وبين ما لايكون له دخل في ذلك ، وجوه. وتفصيل ذلك هو أنه تارة : يكون للزمان الذي هو ظرف وقوع المشتبه دخل في التكليف خطابا وملاكا كالأحكام المترتبة على الحيض ، فان الحيض هو الدم الذي تراه المرأة في أيام العادة ولزمان العادة دخل في ثبوت تلك الأحكام ملاكا وخطابا. وأخرى : لا يكون للزمان دخل في التكليف لا ملاكا ولا خطابا وإنما يكون الزمان ظرفا لوقوع المشتبه خارجا ، من باب أن كل فعل لابد وأن يقع في الزمان من دون أخذه في موضوع التكليف شرعا ، كحرمة الغيبة والكذب والربا ونحو ذلك. وثالثة : يكون للزمان دخل في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف من دون أن يكون له دخل في الملاك والخطاب نظير الواجب المعلق على القول به. ويمكن أيضا أن يكون للزمان دخل في حسن الخطاب من دون أن يكون له 1 ـ أقول : فياليت كان باقيا على ما كان أولا ! لما عرفت من البيان في الحاشية السابقة ، فراجع. (109)
دخل في الملاك. فهذه جملة ما يتصور في اعتبار الزمان في الأحكام الوضعية والتكليفية.
فإن لم يكن للزمان دخل لا في الملاك ولا في الخطاب ، فلا إشكال في تأثير العلم واقتضائه الموافقة القطعية ، فلو علم المكلف بأن بعض معاملاته في هذا اليوم أو الشهر تكون ربوية فيلزمه التحرز عن كل معاملة يحتمل كونها ربوية (1) مقدمة للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به من التكليف بترك المعاملة الربوية ، فان الشخص من أول بلوغه يكون مكلفا بترك المعاملة الربوية صباحا ومساء في أول الشهر وآخره ، والتكليف بذلك يكون فعليا من ذلك الزمان غير مشروط بزمان خاص ، كالنهي عن الغيبة والكذب. وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ بقوله : « والتحقيق أن يقال : إنه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردد بينها إذا كان الابتلاء دفعة » انتهى. فإن الابتلاء دفعة مع عدم وجود المشتبهات فعلا لا يكون إلا لأجل إطلاق النهي وعمومه لجميع الأزمنة 1 ـ أقول : كيف يكون التكليف بالترك في آخر اليوم فعليا في أول يومه ! كي يصدق في حقه العلم الاجمالي في أول الصبح بالتكليف الفعلي ، بل التكليف بالترك في آخر اليوم ـ حسب مختاره : من عدم التفكيك بين ظرف التكليف وظرف المأمور به مقدمة لابطال الواجب المعلق الخارج عن القدرة فعلا حتى بالواسطة ـ ليس إلا مشروطا بزمانه ، فيكون المقام من باب دخل الزمان في أصل الخطاب دون الملاك ، وحينئذ ففي جميع هذه الفروض لابد من إجراء حكم إسراء الزمان في الملاك أيضا ، لان عمدة الاشكال في منجزية العلم هو المنع في كل آن عن العلم بالتكليف الفعلي ، وهذه الجهة على مختاره مشتركة في الجميع من دون خصوصية لدخل الزمان في الملاك أيضا. نعم : هذا التفصيل إنما يصح عند من يجوز الواجب التعليقي ولا يرجعها إلى المشروط ، كما لا يخفى. وإن كان التحقيق هو الذي أفاده : من عدم الفرق بين الواجب المشروط وغيره بعد وجوب حفظ القدرة بحكم العقل من ناحية غير شرط الوجوب ، إذ العلم الاجمالي بمثل هذا التكليف منجز عقلا وملزم بالاتيان بالطرف الفعلي وبحفظ القدرة على الطرف الآخر ، فتدبر. (110)
التي توجد فيها المشتبهات التدريجية.
وقس على ذلك ما إذا كان للزمان دخل في الامتثال من دون أن يكون له دخل في الملاك والخطاب ، كما لو نذر المكلف ترك وطي الزوجة في يوم معين واشتبه بين يومين ، فان التكليف بترك الوطي يكون فعليا بمجرد انعقاد النذر ، والزمان إنما يكون ظرفا للامتثال ، فأصالة عدم تعلق النذر في كل من اليوم الحاضر والغد معارضة بأصالة عدم تعلق النذر بالآخر ، فلابد من ترك الوطي في كل من اليومين مقدمة للعلم بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المنجز بالعلم. وتوهم : أن الوطي في الغد لا يمكن الابتلاء به في اليوم الحاضر فلا تجري في اليوم الحاضر أصالة عدم تعلق النذر به فاسد ، لما عرفت من أنه بمجرد انعقاد النذر يكون التكليف بترك الوطي فعليا مطلقا في كل زمان تعلق النذر به ، ففي اليوم الحاضر تجري أصالة عدم تعلق النذر بترك الوطي في الغد وتعارض بأصالة عدم تعلق النذر بترك الوطي في اليوم الحاضر. ويلحق بذلك ما إذا كان للزمان دخل في حسن الخطاب من دون أن يكون له دخل في الملاك لو فرض أن له موردا فيما بأيدينا من التكاليف ، فان فعلية الملاك يكفي في تأثير العلم الاجمالي ، كما لا يخفى وجهه. وأما إذا كان للزمان دخل في كل من الملاك والخطاب ، ففي تأثير العلم الاجمالي وعدمه وجهان ، اختار الشيخ ـ قدس سره ـ عدم التأثير وجواز المخالفة القطعية ، لان الأصول النافية للتكليف تجري في الأطراف بلا تعارض ، فإنه لو كان أيام الحيض آخر الشهر ، فالتكليف بترك الوطي والصلاة ودخول المساجد ونحو ذلك لا يكون فعليا من أول الشهر ، لان لزمان العادة دخلا في تلك الأحكام خطابا وملاكا ، فأصالة عدم الحيض في آخر الشهر لا تجري من أول الشهر حتى تعارض بأصالة عدم الحيض في أوله ، بل في أول الشهر يجري (111)
الأصل المختص به وفي آخره يجري الأصل المختص به ، ولم يجتمع الأصلان في الزمان حتى يتعارضا ويسقط الأصلان ، لان الحيض في آخر الشهر لا يمكن الابتلاء به من أوله والحيض في أول الشهر لا يمكن الابتلاء به في آخره ، فظرف الابتلاء بكل منهما إنما يكون في ظرف عدم الابتلاء بالآخر ، فالشبهة في كل من أول الشهر وآخره تكون بدوية ويجري فيها الأصل بلا معارض ، فللزوج والزوجة ترتيب آثار الطهر في أول الشهر وآخره ، غايته أنه بعد انقضاء الشهر يعلم بمخالفة الواقع ووقوع الوطي في الحيض ، ولكن العلم بالمخالفة في الزمان الماضي لا يمنع عن جريان الأصول في ظرف احتمال التكليف ، لأنه لا دليل على حرمة حصول العلم بالمخالفة للواقع ، حتى يقال : إنه يجب نرك الوطي في أول الشهر وآخره مقدمة لعدم حصول العلم بالمخالفة فيما بعد ، لان الثابت من حكم العقل هو قبح المخالفة والعصيان إذا كان الفاعل ملتفتا حال العمل أو قبله إلى كون العمل مخالفا للتكليف وعصيانا له ، وأما العلم بتحقق المخالفة لخطاب لم يتنجز في ظرفه فلا قبح فيه لا شرعا ولا عقلا ، وقد تقدم شطر من الكلام في ذلك في دوران الامر بين المحذورين. هذا غاية ما يمكن أن يوجه به كلام الشيخ ـ قدس سره ـ.
ولكن للمنع عنه مجال ، فان الصناعة العلمية وان اقتضت جريان الأصول في الأطراف ، إلا أن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما يؤدي إلى المخالفة وتفويت مراد المولى (1) فان المقام لا يقصر عن المقدمات المفوتة التي يستقل 1 ـ أقول : بعد حكم العقل بحفظ القدرة للطرف في ظرف العلم بوجود شرط الوجوب في موطنه ترى تنجز التكليف من ناحية حفظ القدرة في موطنه ، ومع هذا الحكم كيف يرى العقل طرح التكليف المنجز بالأصل في الطرفين ؟ ومع ذلك كيف يكون جريان الأصلين بمقتضى الصناعة ؟ كما هو ظاهر. ومما ذكرنا ظهر أن فيما نحن فيه مثل باب المقدمات المفوتة يلزم العقل بحفظ القدرة للطرف الآخر المحتمل بضميمة ترك الطرف الآخر المحتمل فعلا بمقتضى العلم الاجمالي بلزوم أحدهما ، فتدبر. (112)
العقل بحفظ القدرة عليها في ظرف عدم تحقق الخطاب والملاك ، بل ما نحن فيه أولى من المقدمات المفوتة ، لأنه يحتمل أن يكون ظرف وقوع الوطي في كل من أول الشهر وآخره هو ظرف تحقق الملاك والخطاب.
والحاصل : أن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما يوجب فوات مطلوب المولى مع العلم بأن للمولى حكما إلزاميا ذا مصلحة تامة ، غايته أن نتيجة حكم العقل بذلك مختلفة ، ففي باب المقدمات المفوتة يلزم حفظ القدرة ، وفيما نحن فيه يلزم ترك الاقتحام في كل واحد من أطراف الشبهة مقدمة لحصول مراد المولى ومطلوبه. فالانصاف : أنه لا فرق في تأثير العلم الاجمالي في حرمة المخالفة ووجوب الموافقة بين أن لا يكون للزمان دخل في الملاك والخطاب وبين أن يكون له دخل فيهما ، غايته أنه إذا لم يكن للزمان دخل فيهما فنفس أدلة المحرمات تقتضي وجوب الاحتياط في الأطراف بضميمة حكم العقل بوجوب الخروج عن عهدة التكاليف ، وإن كان للزمان دخل فيهما فنفس أدلة المحرمات لا تفي بذلك ، بل يحتاج إلى حكم العقل بقبح تفويت مراد المولى ، فتأمل. تذييل : لو بنينا في الموجودات التدريجية على عدم وجوب الموافقة القطعية فلا تحرم المخالفة القطعية أيضا ، لعدم تعارض الأصول ، فيرجع في كل شبهة إلى الأصل الجاري فيها ، ففي مثل الحيض يرجع إلى استصحاب الطهر وأصالة البراءة عن حرمة الوطي ودخول المساجد ونحو ذلك في كلا طرفي الشهر ، وفي مثل المعاملة الربوية يرجع إلى أصالة الحل من حيث التكليف وأصالة عدم النقل والانتقال من حيث الوضع (1) ولا يجوز التمسك بالعمومات لاثبات النقل والانتقال 1 ـ أقول : في جريان أصالة عدم الانتقال على مختاره : من عدم جريان الأصول المحرزة مع العلم (113)
لخروج المعاملة الربوية عنها ، ولا يجوز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية كما فيما نحن فيه ، لأن المفروض العلم بوقوع معاملة ربوية في هذا اليوم أو الشهر والشك في أنها تقع في أوله أو آخره ، وكذا لا يجوز الرجوع إلى أصالة الصحة الجارية في العقود إجماعا الحاكمة على أصالة عدم النقل والانتقال ، لان مورد أصالة الصحة هو العقد الواقع المشكوك في صحته وفساده ، لا العقد الذي لم يقع بعد ، كما في المقام ، لأنه قبل صدور المعاملة في أول النهار وآخره يشك في صحتها وفسادها ، والمرجع في مثل ذلك ليس إلا أصالة عدم النقل والانتقال. ولا ملازمة بين الحلية التكليفية وصحة المعاملة ، لعدم كون الصحة والفساد فيها مسببا عن الحلية والحرمة التكليفية ، ولذا لا تصح المعاملة الربوية من الناسي والجاهل القاصر مع عدم الحرمة التكليفية في حقهما ، فلا منافاة بين أصالة الحل من حيث التكليف وأصالة الفساد من حيث الوضع ، لأنه لا حكومة لاحد الأصلين على الآخر لكي يكون أحدهما رافعا لموضوع الآخر.
وبما ذكرنا ظهر فاسد ما ذكره الشيخ ـ قدس سره ـ أخيرا : من أن العلم الاجمالي بوقوع معاملة ربوية في أحد طرفي النهار كما لا يمنع من جريان الأصول العملية ، كذلك لا يمنع من جريان الأصول اللفظية ، فيصح التمسك بمثل « أحل الله البيع » لصحة كل من البيع الواقع في أول النهار وآخره ، كما لو كانت الشبهة بدوية. ثم ضعفه بإبداء الفرق بين الأصول اللفظية والأصول العملية ، بالانتقاض واقعا ولو لم يكن في البين مخالفة عملية ، إشكال ، وإن كان فيه ما فيه ، كما تقدم. نعم : لا بأس بجريانه على المختار لولا حكومة أصالة عدم اتصاف العقد بالربوية ، بناء على التحقيق : من جريان الأصل في الاعدام الأزلية ، ومع الغض عن ذلك لا بأس بالتفصيل بين صورة صدور المعاملة من الغير فيجري في حقه أصالة الصحة ولو كانت المعاملة مسبوقة بالشك في صحته ، أو صدوره من نفسه فلا يجري في حقه أصالة الصحة إلا في صورة حدوث الشك بعد العمل بمناط قاعدة الفراغ ، كما لا يخفى. (114)
من غير بيان الفارق.
وجه الفساد : هو أنه في مثل المقام لا يجوز التمسك بالعموم في الشبهات البدوية فضلا عن المقرونة بالعلم الاجمالي ، لما عرفت من أن الشبهة فيه مصداقية ، ولا فرق في عدم جواز الرجوع إلى العموم فيها ، بين أن نقول : بأن العلم الاجمالي بالمخصص يمنع عن الرجوع إلى العموم أو لا يمنع ، فان ذلك البحث إنما هو في الشبهات الحكمية. نعم : لو أغمضنا عن كون الشبهة فيما نحن فيه مصداقية أو قلنا بجواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية ـ كما ذهب إليه بعض ـ لكان للبحث عن أن العلم الاجمالي بالمخصص هل يمنع عن الرجوع إلى العموم أو لا يمنع في الموارد التي لا يمنع عن الرجوع إلى الأصول العملية ؟ مجال. والحق : أنه يمنع ، للفرق بين الأصول العملية والأصول اللفظية ، فان المطلوب في الأصول العملية هو مجرد تطبيق العمل على المؤدى ، وربما لا يلزم من جريانها في موارد العلم الاجمالي مخالفة عملية ، وهذا بخلاف الأصول اللفظية ، فان اعتبارها إنما هو لأجل كونها كاشفة عن المرادات النفس الأمرية ، والعلم الاجمالي بالمخصص يمنع عن كونها كاشفة كما لا يخفى (1). ولعله إلى ذلك يرجع ما ذكره الشيخ ـ قدس سره ـ أخيرا من إبداء الفرق بين الأصول العملية والأصول اللفظية ، ولتفصيل الكلام في ذلك محل آخر. 1 ـ أقول : ولكن لازم ذلك أن يفرق على مختاره بين الأصول المحرزة وغيرها ، فلا مجال لاجراء الأصول المحرزة أيضا ، كما أشرنا في الحاشية السابقة ، وأشرنا أيضا أن المدعى باطل حتى في الطرق ، لان العلم الاجمالي لا يمنع عن الكشف النوعي الذي هو مورد تتميم الكشف تعبدا في الطرفين ، إذ لكل طرف جهة كشف وحكاية عن الواقع تفصيلا ، بحيث لا ينافي مع العلم الاجمالي بخلافهما لا وجدانا ولا تعبدا ، كما لا يخفى. (115)
ثم إن شيخنا الأستاذ ـ مد ظله ـ
تنظر فيما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ من عدم الملازمة بين الحلية التكليفية والحلية الوضعية في المعاملات بما حاصله : أن المنهي عنه في باب المعاملات إنما هو إيقاع المعاملة على وجهها ، وليس المنهي عنه هو إيقاع المعاملة بما أنه إيقاع وعقد لفظي ، فإنه لا ينبغي التأمل في عدم حرمة التلفظ بالعقد بما أنه عقد ولفظ ، بل المحرم هو إيجاد النقل والانتقال الحاصل من العقد. وبعبارة أخرى : المنهي عنه هو إيقاع العقد على أن يكون آلة لايجاد المعنى الاسم المصدري من النقل والانتقال ، والمبحوث عنه في باب النهي عن المعاملات من أنه يقتضي الفساد أو لا يقتضيه إنما هو إذا كان النهي عن هذا الوجه ، ضرورة أنه لا يتوهم اقتضاء النهي عن العقد بما أنه لفظ للفساد ، لان حرمة اللفظ لا دخل له بالنقل والانتقال. وبالجملة : لا إشكال في أن المنهي عنه في المعاملة الربوية إنما هو المعنى الاسم المصدري باعتبار صدوره عن العاقد بالعقد اللفظي أو بغيره ، وحرمة المعاملة على هذا الوجه تستتبع الفساد لا محالة ، لخروج المسبب عن تحت سلطنة المالك بالمنع الشرعي ـ كما أوضحناه في محله ـ وكما أن حرمة المعاملة على هذا الوجه تستتبع الفساد ، كذلك حلية المعاملة على هذا الوجه تستتبع الصحة ، وعلى ذلك يبتني جواز التمسك بقوله تعالى : « أحل الله البيع » لنفوذه وصحته ، حتى لو كان المراد من الحلية الحلية التكليفية ـ كما استظهره الشيخ ـ قدس سره في كتاب البيع لان حلية البيع على الوجه المذكور تلازم الصحة والنفوذ ، وحينئذ تصح دعوى التلازم بين حلية المعاملة وصحتها وحرمة المعاملة وفسادها ، فلا مجال للتفكيك بين التكليف والوضع ، بل تكون الحل حاكمة على (116)
أصالة الفساد ، لارتفاع موضوعها بذلك ، كما هو الشأن في كل أصل سببي ومسببي.
هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن فساد المعاملة الربوية ليس لأجل حرمتها التكليفية ، بل لأجل انتفاء شرط من شروط العوضين وهو التساوي بين المالين إذا كانا من المكيل والموزون (1) فتصح دعوى عدم التلازم بين الحلية والصحة ، ولأجل ذلك لا تصح المعاملة الربوية في حق الناسي والجاهل القاصر ، فأصالة الحل في المعاملة لا تنفع في صحتها ، لعدم كون الفساد فيها مسببا عن الحرمة التكليفية ، بل مسببا عن عدم التساوي بين المالين ، فتأمل جيدا. هذا ما كان يهمنا بيانه من التنبيهات المتعلقة بالشبهة المحصورة ، وقد بقي بعض التنبيهات لا يهمنا التعرض لها ، لأنها قليلة الجدوى ، وإن أطال الشيخ ـ قدس سره ـ الكلام في بعضها. المقام الثاني :
وقبل التعرض لحكمها ينبغي بيان الضابط لكون الشبهة غير محصورة.
في الشبهة الغير المحصورة 1 ـ أقول : بعد تسليم أن النهي عن التسبب بالعقد إلى المعاملة يقتضي عدم السلطنة عليه المستتبع لفسادها لا محيص إلا من الالتزام بأن الفساد من آثار هذه الحرمة الوضعية الملازم لعدم القدرة على التسبب ، بل ربما يستفاد شرطية التساوي بين العوضين من مثل هذا النهي. نعم : الذي يسهل الخطب هو أن النهي التكليفي المولوي لا يقتضي إلا عدم القدرة الشرعية كسائر الأفعال المحرمة ، وذلك لا يقتضي نفي القدرة العقلية على التسبب بالعقد إلى المعاملة ، وما هو ملازم للبطلان هو ذلك ، لا الأول ، ولذا نقول : إن النهي عن المعاملة بأي وجه منه لا يقتضي الفساد ، إلا إذا كان للارشاد إلى عدم قدرته على إيجادها حقيقة ، كما لا يخفى ، فتدبر. (117)
وقد اختلفت كلمات الأصحاب في ذلك ، فعن بعض تحديدها ببلوغ الأطراف إلى حد تعسير عدها ، وزاد بعض قيد « في زمان قليل » وعن بعض آخر إرجاعها إلى العرف ، وقد قيل في تحديدها أمور اخر لا تخفى على المتتبع ، مع ما فيها : من عدم الانعكاس والاطراد.
والأولى أن يقال : إن ضابط الشبهة الغير المحصورة هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال : من أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك (1) وهذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالاجمال. فتارة : يعلم بنجاسة حبة من الحنطة في ضمن حقة منها ، فهذا لا يكون من الشبهة الغير المحصورة ، لامكان استعمال الحقة من الحنطة بطحن وخبز وأكل ، مع أن نسبة الحبة إلى الحقة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف. وأخرى : يعلم بنجاسة إناء من لبن البلد ، فهذا يكون من الشبهة الغير المحصورة ولو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف ، لعدم التمكن العادي من جمع الأواني في الاستعمال وإن كان المكلف متمكنا من آحادها. فليس العبرة بقلة العدد وكثرته فقط ، إذ رب عدد كثير تكون الشبهة فيه محصورة ، كالحقة من الحنطة. كما أنه لا عبرة بعدم التمكن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط ، إذ ربما لا يتمكن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضا محصورة ، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب ، بل لابد في الشبهة الغير المحصورة عما تقدم في الشبهة المحصورة من اجتماع كلا الأمرين : وهما كثرة العدد وعدم 1 ـ أقول : لا يخلو هذه الضابطة أيضا عن شبهة ، لأنه ربما يتمكن عادة عن الابتلاء بالجميع بطول الزمان وتدريج المضي من الليالي والأيام ، فلابد من أن يحدد مقدار أيضا بحيث يصدق عليه كون كل واحد محل ابتلائه على وجه لا يصير طول الزمان منشأ لخروجه عنه ، كما لا يخفى. (118)
التمكن من جمعه في الاستعمال ، وبهذا تمتاز الشبهة الغير المحصورة (1) من أنه يعتبر فيها إمكان الابتلاء بكل واحد من أطرافها ، فان إمكان الابتلاء بكل واحد غير إمكان الابتلاء بالمجموع ، والتمكن العادي بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف في الشبهة الغير المحصورة حاصل ، والذي هو غير حاصل التمكن العادي من جمع الأطراف ، لكثرتها ، فهي بحسب الكثرة بلغت حدا لا يمكن عادة الابتلاء بجمعها في الاستعمال ، بحيث يكون عدم التمكن من ذلك مستندا إلى كثرة الأطراف لا إلى أمر آخر.
ومما ذكرنا من الضابط يظهر حكم الشبهة الغير المحصورة ، وهو عدم حرمة المخالفة القطعية وعدم وجوب الموافقة القطعية (2). 1 ـ والظاهر سقوط « عن المحصورة » ( المصحح ) 2 ـ أقول : الأولى أن يقال بعدم انتهاء الامر مع عدم التمكن العادي منه إليه ، لا أنه لا يحرم مخالفته القطعية كما لا يخفى ، وليس نتيجة ذلك إلا عدم التمكن على إتيان البعض الغير ، ومرجع ذلك كله إلى عدم التمكن من الجمع بين المحتملات الراجع إلى عدم التمكن من كل واحد في ظرف وجود البقية ، لا إلى عدم التمكن مطلقا ، وحينئذ ففي ظرف عدم البقية كان كل واحد مقدورا ، ولازمه حينئذ القطع بحرمة مخالفة المعلوم بالاجمال المستتبع لعدم جريان الأصول النافية الموجب عند العقل لوجوب الموافقة القطعية أيضا. وما أفيد : من أن وجوب الموافقة القطعية فرع تعارض الأصول ، فهو على مبناه : من عدم البأس في جريان الأصول في بعض الأطراف ما لم ينته إلى مخالفة قطعية عملية في غاية المتانة ، إذ من جريان الأصول في المقام لا ينتهي الامر إلى مخالفة قطعية عملية أصلا ، ولكن قد مر التحقيق بأن علية العلم للتنجز مانع عن جريان الأصل في أطرافه ولو بلا معارض ما لم يكن في البين جعل بدل أو انحلال ، وحينئذ فلا يصلح عدم التعارض في المقام لاسقاط العلم بالتكليف عن المنجزية ، ولازمه حينئذ عدم جواز الارتكاب في الشبهة التحريمية ما لم يستلزم من تركه حرج ، لا جوازه ، إذ ما نحن فيه حينئذ كشبهة محصورة في حرمة أحد الكأسين ، مع العلم بعدم القدرة على شرب الكأسين ، ولا أظن أحدا يلتزم بجواز ارتكاب واحد منهما ، كيف ! ولو ابتلى بالامرأتين في آن بمقدار يسع جماع أحدهما ، أي شخص يقول بجواز جماع أحدهما أي واحد يختاره ؟ مع علمه إجمالا بكون أحدهما أجنبية ولو في فرض عدم جريان أصالة (119)
أما عدم حرمة المخالفة القطعية : فلان المفروض عدم التمكن العادي منها.
وأما عدم وجوب الموافقة القطعية : فلان وجوبها فرع حرمة المخالفة القطعية ، لأنها هي الأصل في باب العلم الاجمالي ، لان وجوب الموافقة القطعية يتوقف على تعارض الأصول في الأطراف ، وتعارضها فيها يتوقف على حرمة المخالفة القطعية ليلزم من جريانها في جميع الأطراف مخالفة عملية للتكليف المعلوم في البين ، فإذا لم تحرم المخالفة القطعية ـ كما هو المفروض ـ لم يقع التعارض بين الأصول ، ومع عدم التعارض لا يجب الموافقة القطعية. فالتفصيل بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية بحرمة الأولى وعدم وجوب الثانية ـ كما يظهر من الشيخ ـ قدس سره ـ ليس في محله ، لان حرمة المخالفة القطعية فرع التمكن منها ، ومع التمكن لا تكون الشبهة غير محصورة. تنبيه : ما ذكرنا في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية إنما يختص بالشبهات التحريمية ، لأنها هي التي لا يمكن المخالفة القطعية فيها ، وأما الشبهات الوجوبية فلا يتم فيها ذلك ، لأنه يمكن المخالفة القطعية فيها بترك جميع الأطراف ، وحينئذ لابد من القول بتبعيض الاحتياط ووجوب الموافقة الاحتمالية في الشبهات الوجوبية. نعم : لو تم ما ذكره الشيخ ـ قدس سره ـ وجها لعدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة الغير المحصورة : من أن كثرة الأطراف توجب عدم اعتناء العقلاء بالعلم الاجمالي لضعف احتمال الضرر في كل واحد من الأطراف ، لعم ذلك الشبهات التحريمية والوجوبية ، وكذا بعض الوجوه الاخر التي ذكرت في وجه عدم وجوب الموافقة القطعية ، فإنها لو تمت لكانت تعم كلا قسمي الشبهة ، إلا الأجنبية ، خصوصا على مذهبه : من تعارض الأصول التنزيلية ولو كانت مثبتة ، فتدبر. (120)
أن الشأن في صحة الوجوه المذكورة ، فإنها لا تخلو عن ضعف.
أما الوجه الأول ، وهو دعوى الاجماع على عدم وجوب الموافقة القطعية في الشبهة الغير المحصورة ، فالظاهر أنه ليس في المسألة إجماع تعبدي. وأما الوجه الثاني ، وهو دعوى استلزام الموافقة القطعية فيها العسر والحرج غالبا ، ففيه : أن ذلك لا يقتضي عدم وجوب الموافقة مطلقا في جميع الموارد حتى فيما إذا لم يلزم منها العسر والحرج ، بل لابد من الاقتصار على الموارد التي يلزم منها ذلك ، مع أن المدعى عدم وجوب الموافقة القطعية مطلقا ، حتى في الموارد التي لا يلزم منها العسر والحرج. نعم : إذا ثبت أن العسر والحرج في المقام حكمة للتشريع لا علة للحكم ، كان للقول بعدم وجوب الموافقة القطعية مطلقا في جميع الموارد وجه ، لان من شأن الحكمة عدم الاطراد ، إلا أن دون إثبات ذلك خرط القتاد !! فان العسر والحرج في الشريعة إنما يكون علة للحكم لا حكمة للتشريع ، ولذا كانت أدلة نفي العسر والحرج حاكمة على الأدلة الأولية. نعم : قد يتفق في بعض الموارد كون العسر والحرج حكمة للتشريع كما في نجاسة الحديد ، إلا أن ذلك يحتاج إلى دليل بالخصوص ولا يطرد في جميع الموارد ، فتأمل جيدا. وأما الوجه الثالث ، وهو التمسك بمثل قوله ـ عليه السلام ـ « كل شيء لك حلال » ففيه : أن ذلك يختص بالشبهات البدوية ، كما تقدم. وأما الوجه الرابع ، وهو التمسك بما ورد في الجبن من قوله ـ عليه السلام ـ « أمن أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة حرم جميع ما في الأرض ؟ » الخبر (1) فهو وإن كان لا يخلو عن دلالة على عدم وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة الغير 1 ـ الوسائل : الباب 61 من أبواب الأطعمة المباحة الحديث 5. |
|||
|