|
|||
(151)
عما يعم الشروط ، لاتحاد حكم الاجزاء والشروط ، ولكن أفردنا البحث عن الشروط بفصل يخصها لنكتة يأتي التنبيه عليها ( إن شاء الله تعالى ).
وعلى كل حال : فقد اختلفت كلمات الأصحاب في جريان البراءة من وجوب الأكثر على أقوال ثلاثة ، فقيل : بعدم جريان البراءة مطلقا ، وقيل : بجريان البراءة مطلقا ، وقيل : بالتفصيل بين البراءة العقلية والشرعية ، وهو الأقوى. وأضعف الأقوال : هو الأول ، فإنه لا وجه له إلا توهم : أن العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر يقتضي عدم جريان الأصول الشرعية والعقلية النافية للتكليف في كل من طرف الأقل أو الأكثر ، فلابد من الاحتياط بفعل الأكثر تحصيلا للعلم بفراغ الذمة عما اشتغلت به ، هذا ولكن سيأتي ما يظهر منه ضعف هذا الوجه. وأما وجه القول الثاني : فليس هو أيضا إلا تخيل انحلال العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في وجوب الأكثر ، وهذا هو الذي اختاره الشيخ ـ قدس سره ـ. وحاصل ما أفاده في وجه ذلك : هو أن المقتضي لجريان البراءة العقلية والشرعية عن وجوب الأكثر موجود والمانع عنه مفقود. أما وجود المقتضي : فلان الموضوع لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو إلا الشك في التكليف النفسي المولوي الذي يستتبع مخالفته العقاب ، وفيما نحن فيه يشك في تعلق التكليف بالأكثر ، فالعقاب على تركه يكون بلا بيان ، وكذا الموضوع في أدلة البراءة الشرعية هو الجهل بالحكم الواقعي ، والمفروض في المقام هو الجهل بوجوب الأكثر ، فيعمه حديث الرفع ونحوه من الأدلة الشرعية. وأما فقد المانع : فلان المانع المتوهم في جريان البراءة في الأكثر ليس هو إلا العلم الاجمالي بتعلق التكليف بالأقل أو الأكثر ، ولن ينحل العلم الاجمالي إلى (152)
العلم التفصيلي بتعلق التكليف بالأقل والشك البدوي في الأكثر ، فإن المعلوم بالاجمال ليس هو إلا خطابا واحدا نفسيا ، وتعلق هذا الخطاب بالأقل معلوم تفصيلا للعلم بوجوبه على كل حال ، سواء تعلق التكليف بالأكثر أو لم يتعلق.
وما تكرر في كلمات الشيخ ـ قدس سره ـ من أنه يعلم بتعلق التكليف بالأقل على كل تقدير سواء كان نفسيا أو مقدميا ، فليس ظاهره بمراد ، لان وجوب الأقل لا يكون مقدميا على كل حال ولو كان وجوبه في ضمن وجوب الأكثر وبتبع التكليف به ، لان الاجزاء لا تجب بالوجوب المقدمي الغيري ، بل إنما هي تجب بالوجوب النفسي المتعلق بالمركب المنبسط على كل واحد من الاجزاء ، لان المركب ليس إلا الاجزاء بأسرها ، فهي واجبة بعين وجوب الكل ، ومن هنا تصح دعوى العلم التفصيلي بتعلق التكليف النفسي بالأقل والشك في تعلقه بالأكثر ، فينحل العلم الاجمالي لا محالة. هذا حاصل ما أفاده ـ قدس سره ـ في وجه جريان البراءة العقلية والشرعية عن الأكثر ، بتحرير منا. وقد أورد عليه بوجوه : منها : ما حكي عن المحقق صاحب الحاشية ـ قدس سره ـ من أن العلم بوجوب الأقل لا ينحل به العلم الاجمالي ، لتردد وجوبه بين المتباينين ، فإنه لا إشكال في مباينة الماهية بشرط شيء للماهية لا بشرط (1) لان أحدهما قسيم 1 ـ أقول : مرجع الشك في كون الواجب هو الأقل أو الأكثر إلى أن شخص الوجوب المنبسط على الاجزاء محدود بنحو لا يشمل الزائد أو يشمل ، وعلى التقديرين لا يكون الواجب المعروض لهذا الوجوب محدودا في رتبة سابقه عن تعلق وجوبه ، كيف ! وهذه القلة إنما طرء من جهة قصور الوجوب عن الشمول للزائد ، ومثل هذا الحد يستحيل أن يؤخذ في معروض الوجوب. نعم : يمتنع عن إطلاقه في المعروضية حتى مع الزائد ، لان معروض الوجوب هو المحدود بحد القلة ، كما أن اعتبار عدم الانضمام بالزائد خارجا أيضا لم يلحظ فيه ، وإلا فيخرج عن البحث ويدخل في المتبائنين ، كالقصر والاتمام ، فمن هذه (153)
الآخر ، فلو كان متعلق التكليف هو الأقل فالتكليف به إنما يكون لا بشرط عن الزيادة ، ولو كان متعلق التكليف هو الأكثر فالتكليف بالأقل إنما يكون بشرط انضمامه مع الزيادة ، فوجوب الأقل يكون مرددا بين المتباينين باعتبار اختلاف سنخي الوجوب الملحوظ لا بشرط أو بشرط شيء ، كما أن امتثال التكليف المتعلق بالأقل يختلف حسب اختلاف الوجوب المتعلق به ، فان امتثاله إنما يكون بانضمام الزائد إليه إذا كان التكليف به ملحوظا بشرط شيء ، بخلاف ما إذا كان ملحوظا لا بشرط ، فإنه لا يتوقف امتثاله على انضمام الزائد إليه ، فيرجع الشك في الأقل والأكثر الارتباطي إلى الشك بين المتباينين تكليفا
الجهة يكون المعروض لا بشرط محض ، ولكن معنى لا بشرطيته ليس إلا عدم إضرار انضمام الغير بوجوبه ، وإلا فالواجب في ظرف الانضمام وعدمه ليس إلا معنى واحدا ، وهو الذات المهملة المحفوظة في ضمن الانضمام بالغير تارة وعدمه أخرى ، وفي كل تقدير ليس المعروض إلا الذات الملازم لحد القلة لا المقيد به ، لما عرفت : من أن هذا الحد جاء من قبل الحكم والوجوب ، ولا يكون مثل هذا الحد مأخوذا في معروضه ، كما أن حد الكثرة أيضا لا يوجب تقيد الأقل المعروض للوجوب في ضمن الأكثر واشتراطه بكونه منضما بالأكثر ، إذ مثل هذه الضمنية التي هي منشأ ارتباط الاجزاء بالاجزاء إنما جاء من قبل وحدة الامر المتعلق بالجميع ، فيستحيل أخذ مثل هذه الحيثيات الناشئة من قبل الامر في معروض الامر ، فمعروض الامر أيضا ليس إلا ذوات الاجزاء عارية عن التقيد بالانضمام بالغير. نعم : عار عن الاطلاق أيضا ، فالمعروض للوجوب عند وجوب الأكثر أيضا ليس إلا ذات الأقل بنحو الاهمال ، لا المقيد بقيد الانضمام ، وحينئذ فالأقل بقصور الوجوب عن الشمول لغيره وعدم قصوره لا يكاد يختلف معروضيته للوجوب بحد من حدوده ، بل المعروض للوجوب على التقديرين هو الذات المهملة العارية عن الاطلاق والتقييد ، وحينئذ فعند الشك في حد الوجوب بين الأقل والأكثر لا يوجب اختلافا في حد الأقل الواجب مستقلا أم ضمنا ، فما هو واجب ضمنا بعينه هو واجب مستقلا ، وإنما الاختلاف في حد وجوبه من حيث انبساطه على الزائد منه أم لا ، وهذه الجهة غير مربوطة بواجبية الأقل ، فالواجب من الأقل ليس إلا مرتبة واحدة بحد واحد ، ضم إليه غيره في الوجوب أم لا ، وعليه فيستحيل تردد الأقل الواجب بين المتبائنين ، كما أن سعة انبساط الوجوب على الأكثر وعدمه أيضا لا يقتضي إلا اختلافا في حد الوجوب بلا اشتراطه بشيء ولا اختلافا في حقيقته ، كما لا يخفى. (154)
وامتثالا. هذا حاصل ما أفاده المحقق (1) ـ قدس سره ـ بتحرير منا.
ولا يخفى فساده ، فان اختلاف سنخي الطلب لا دخل له في انحلال العلم الاجمالي وعدمه ، بل الانحلال يدور مدار العلم التفصيلي بوجوب أحد الأطراف (2) بحيث يكون هو المتيقن في تعلق الطلب به ولو فرض الشك في كيفية التعلق وأنه طورا يكون لا بشرط وطورا يكون بشرط شئ. وإن شئت قلت : إن الماهية لا بشرط والماهية بشرط شيء ليسا من المتباينين الذين لا جامع بينهما ، فان التقابل بينهما ليس من تقابل التضاد ، بل من تقابل العدم والملكة ، فان الماهية لا بشرط ليس معناها لحاظ عدم انضمام شيء معها بحيث يؤخذ العدم قيدا في الماهية ، وإلا رجعت إلى الماهية بشرط لا ، ويلزم تداخل أقسام الماهية ، بل الماهية لا بشرط معناها عدم لحاظ شيء معها لا لحاظ العدم ، ومن هنا قلنا : إن الاطلاق ليس أمرا وجوديا بل هو عبارة عن عدم ذكر القيد ، خلافا لما ينسب إلى المشهور ـ كما ذكرنا تفصيله في مبحث المطلق والمقيد ـ فالماهية لا بشرط ليست مباينة بالهوية والحقيقة للماهية بشرط شيء بحيث لا يوجد بينهما جامع (3) بل يجمعهما نفسا الماهية ، والتقابل بينهما إنما 1 ـ والعبارة التي وقفت عليها في الحاشية لا تنطبق على ذلك ، بل انطباقها على ما سيأتي من الوجه المختار أولى من انطباقها على المحكي ، فراجع ( منه ). 2 ـ أقول : لو التزمت في المقام باختلاف سنخ الطلب وأن المعلوم بالاجمال هو اللابشرط الجامع بين الوجودين أو المشروط بالخصوصية الزائدة ، فلا محيص لك من الاحتياط ولا يفيدك الانحلال ، لان العلم بوجوب الأقل عين العلم الاجمالي بالجامع [ بين ] الوجوبين ، كما يعترف به بعد ذلك ، ولكن عمدة الكلام في المقام في ذلك من أنه من هذا الباب أو من باب العلم بشخص الوجوب المردد بين الحدين الوارد عليه تبادلا ؟ فإنه حينئذ ليس الجامع اللابشرط جامعا بين الوجودين ، بل هو مجمع بين الحدين ، وفي مثله العلم الاجمالي قائم بين حدي الوجوب لا نفسه ، وهذا العلم لا اعتبار به كما شرحناه في الحاشية الآتية ، فراجع وتدبر. 3 ـ أقول : وببيان أوضح نقول : إن مرجع اللابشرطية في المقام ليس إلى الجامع بين الواجد والفاقد (155)
يكون بمجرد الاعتبار واللحاظ (1).
ففي ما نحن فيه ، الأقل يكون متيقن الاعتبار على كل حال ، سواء لوحظ الواجب لا بشرط أو بشرط شيء ، فان التغاير الاعتباري لا يوجب خروج الأقل عن كونه متيقن الاعتبار ، هذا كله بحسب البرهان. وأما بحسب الوجدان فلا يكاد يمكن إنكار ثبوت العلم الوجداني بوجوب الأقل على كل حال ، كانت الماهيتان. متباينتين أو لم تكن ، فتأمل جيدا. ومنها : ما أفاده المحقق الخراساني ـ قدس سره ـ من أن وجوب الأقل على كل تقدير يتوقف على تنجز التكليف على كل تقدير ، سواء كان متعلقا بالأقل أو بالأكثر ، فإنه لو لم يتنجز التكليف بالأكثر على تقدير أن يكون هو بنحو كان قابلا للانطباق على كل منهما فعلا ، كما هو الشأن في بقية الجوامع بالنسبة إلى أفرادها ، بل المراد كون الواجب معنا محفوظا في أحد الحدين بنحو التبادل ، بمعنى كونه في مرتبة مخصوصة مجتمعة مع وجود شيء زائد عنها منضم بها وعدمه ، بحيث بضم الزائد به وعدمه لا يكاد ينقلب ما هو معروض الوجوب لا بذاته ولا بحده ، ومعلوم : أن هذه المرتبة محفوظة بنفس ذاته في ضمن الأكثر ، كما أنها محفوظة أيضا في ضمن حد القلة بلا دخل لهذا الحد على أي تقدير في عروض الوجوب على القليل ، بل الواجب ليس إلا المحفوظ بين الحدين. نعم : على تقدير كون الواجب هو الكثير ليس امتيازه عن القليل إلا بوجوب الزيادة لا يدخل شيء في معروضية الأقل للوجوب ، وحينئذ من أين يصير الأقل مرددا بين الحدين المتبائنين ؟ كي يجيء في البين العلم الاجمالي في معروض الوجوب ، بل لا يكون في البين إلا علم تفصيلي بمرتبة من الواجب وشك بدوي بمرتبة أخرى. نعم : العلم الاجمالي في المقام ليس إلا بين حدي الوجوب الطاري بالعرض على معروضه أيضا ، ومثل هذا المعنى خارج عن مصب حكم العقل بالامتثال ، كما لا يخفى. ثم العجب من المقرر ! حيث إنه بعين هذا الوجه الذي استشكل على المحقق المحشي في تقريب عدم الانحلال اختار هو في تقريبه ، وأظن أن ذلك من قصور العلم ، فياليت يوضح الفارق بين وجهه وكلام صاحب الحاشية بأزيد من ذلك ! حتى نفهم ! وإن كان ما شرحناه في شرح التردد بين الأقل والأكثر كافيا في الجزم ببطلان تقرير الاحتياط من قبل العلم الاجمالي وعدم الانحلال بأي نحو كان ، كما هو واضح. 1 ـ أقول : بل التقابل بينهما بسعة الوجود وضيقه ، وهو ليس اعتباريا محضا. (156)
متعلق الطلب لم يجب الاتيان بالأقل ، لان وجوبه إنما يكون بتبع وجوب الأكثر ومقدمة لحصوله (1) فلو لم يتنجز الامر بذي المقدمة لا يلزم الاتيان بالمقدمة ، فوجوب الاتيان بالأقل على كل تقدير يتوقف على وجوب الاتيان بالأكثر على كل تقدير ، لأنه بعد فرض عدم تنجز التكليف بالأكثر على تقدير أن يكون هو متعلق التكليف لا يلزم الاتيان بالأقل ، لاحتمال أن يكون وجوبه لأجل كونه مقدمة لوجود الأكثر ، ولا يجب الاتيان بالمقدمة عند عدم وجوب الاتيان بذي المقدمة ، فيلزم من وجوب الأقل على كل تقدير عدم وجوبه على كل تقدير ، وما يلزم من وجوبه عدمه محال. هذا حاصل ما أفاده في الكفاية على طبق ما ذكره في حاشية الفرائد.
ولا يخفى ما فيه ، فإنه يرد عليه : أولا : أن ذلك مبني على أن يكون وجوب الأقل مقدميا على تقدير أن يكون متعلق التكليف هو الأكثر (2) فيستقيم حينئذ ما أفاده : من أن العلم التفصيلي بوجوب أحد طرفي المعلوم بالاجمال مع تردد وجوبه بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الطرف الآخر ـ على تقدير أن يكون هو الواجب المعلوم بالاجمال ـ لا يوجب انحلال العلم الاجمالي ، ألا ترى : أنه لو علم إجمالا بوجوب 1 ـ أقول : ليس نظره من التبعية إلى جهة المقدمية ، كيف ! وهو ملتزم بوجوب الأقل نفسا ، بل نظره إلى تبعية الوجوب الضمني للوجوب المستقل في الفعلية والتنجز ، ومرجع كلامه إلى ملازمه تنجز الأقل لتنجز الأكثر على تقدير الضمنية ، فتدبر. 2 ـ أقول : مجرد نفسية وجوب الأقل في المقام لا يجدي في الانحلال ، إلا على فرض تصور الاستقلال في تنجز الواجب الضمني وانفكاكه مع الأكثر في التنجز ، ونظر استاذنا الأعظم إلى هذه الجهة : من تبعية تنجز الواجب الضمني من الأقل للواجب المستقل من الأكثر ، كان وجوب الأقل نفسيا ضمنيا أو غيريا ، وحينئذ العمدة رفع هذه الشبهة والالتزام بامكان التفكيك بينهما في التنجز ، وهذا الالتزام على مبناه في غاية البعد ، لان التفكيك المزبور فرع صلاحية مجيء الواجب الضمني في العهدة مستقلا ، وهو مناف لضمنية الأقل وارتباطه بالأكثر ، فتدبر. (157)
نصب السلم أو الصعود على السطح وتردد وجوب نصب السلم بين كونه نفسيا أو غيريا متولدا من وجوب الصعود على السطح من باب الملازمة بين وجوب المقدمة وذيها ، فالعلم التفصيلي بوجوب نصب السلم لا يوجب انحلال العلم الاجمالي بوجوب النصب أو الصعود ، فان العلم التفصيلي بوجوبه يتوقف على وجوب الصعود على السطح ، إذ مع عدم وجوب الصعود كما هو لازم الانحلال لا يعلم تفصيلا بوجوب النصب ، لاحتمال أن يكون وجوبه غيريا متولدا من وجوب الصعود ، وذلك كله واضح.
إلا أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لما تقدم : من أن وجوب الأقل لا يكون إلا نفسيا على كل تقدير ، سواء كان متعلق التكليف هو الأقل أو الأكثر ، فان الاجزاء إنما تجب بعين وجوب الكل ، ولا يمكن أن يجتمع في الاجزاء كل من الوجوب النفسي والغيري. وكلام الشيخ ـ قدس سره ـ في المقام وإن أوهم تعلق الوجوب الغيري بالأقل على تقدير وجوب الأكثر ، إلا أنه لابد من تأويل كلامه ، فإن ذلك خلاف ما بنى عليه في مبحث مقدمة الواجب. فدعوى : أن وجوب الأقل على كل تقدير يتوقف على وجوب الأكثر على كل تقدير لاحتمال أن يكون وجوبه مقدميا واضحة الفساد ، لأنه لا يحتمل الوجوب المقدمي في طرف الأقل ، بل يعلم تفصيلا بوجوبه النفسي على كل تقدير ، كان التكليف متعلقا بالأكثر أو لم يكن ، فلا يلزم من انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل المحذور المتقدم ، لان المعلوم بالاجمال ليس إلا تكليفا نفسيا ، وهذا التكليف النفسي ممكن الانطباق على الأقل مع العلم التفصيلي بوجوبه (1) ولا يعتبر في انحلال العلم 1 ـ أقول : الغرض من وجوب الأقل وجوبه عقلا لا شرعا ، فلا يرد عليه ذلك الاشكال. (158)
الاجمالي أزيد من ذلك.
وثانيا : أن دعوى توقف وجوب الأقل على تنجز التكليف بالأكثر لا تستقيم ولو فرض كون وجوبه مقدميا ، سواء أريد من وجوب الأقل تعلق (1) التكليف به أو تنجزه ، فإن وجوب الأقل على تقدير كونه مقدمة لوجود الأكثر إنما يتوقف على تعلق واقع الطلب بالأكثر لا على تنجز التكليف به ، لان وجوب المقدمة يتبع وجوب ذي المقدمة واقعا وإن لم يبلغ مرتبة التنجز ، وكذا تنجز التكليف بالأقل لا يتوقف على تنجز التكليف بالأكثر ، بل يتوقف على العلم بوجوب نفسه (2) فان تنجز كل تكليف إنما يتوقف على العلم بذلك التكليف ، 1 ـ في حاشية الفرائد ما يدفع هذا الاحتمال ، فإنه صرح فيها بعدم توقف تعلق نفس الطلب بالأقل على تنجز التكليف بالأكثر ، بل في الكفاية أيضا ما يدفع هذا الاحتمال ، فراجع وتأمل ( منه ). 2 ـ أقول : وذلك هو العمدة في الاشكال عليه ، ومرجعه إلى منع الملازمة بين التنجيزين ، بشهادة جريان البراءة العقلية في البين ، ولكن نقول : بأنك لو التزمت بأخذ الارتباط في الاجزاء الواجبة في المرتبة السابقة عن الوجوب ، بحيث يكون مأخوذا في الواجب ـ كما هو صريح جملة من كلماتك ـ كيف مجيء الأقل مستقلا في عهدة المكلف بمحض العلم به ؟ مع فرض الواجب هو الأكثر ، إذ اعتبار استقلال وجوده في العهدة بلا ضم غيره به ينافي ارتباطه بغيره ، وحينئذ كيف يعقل تنجز الأقل مستقلا بلا تنجز الأكثر ؟ مع أنه لا نعني من تنجز إلا مجيئه في العهدة واعتبار وجوده فيه ، ولقد عرفت في الحاشية السابقة إرجاع كلمات أستاذنا إلى هذا البيان ، وحينئذ لا يصلح رده إلا ما أشرنا سابقا : بأن جهة الارتباط غير مأخوذ في موضوع الوجوب. وإنما جاء ذلك من قبل وحدة وجوبه الطاري على الاجزاء بأسرها ، فما هو مأخوذ في موضوع الوجوب في الرتبة السابقة عنه ليس إلا نفس الاجزاء بلا ارتباط لأحدهما بالآخر ، وإنما الوحدة والارتباط طاريتان عليها من قبل وحدة حكمه ومصلحته ، وحينئذ لا قصور في مجيء نفس المعروض في العهدة مستقلا بمحض العلم بوجوبه ولو ضمنيا ، ومن المعلوم حينئذ : أن هم العقل أيضا تحصيل الفراغ عما كان في العهدة بايجاده وإن يشك في سقوط وجوبه لقصور في نفس الوجوب عن السقوط ، لا لقصور في وجود متعلقه ، وأن ما قرع سمعك : من أن العقل عند اليقين بالاشتغال لا يكتفي بالشك بالفراغ ، مرجعه إلى عدم قناعته على الشك في إتيان ما جاء في العهدة بملاحظة قصور فيه نفسه ، لا من جهة قصور في سقوط حكمه : من احتمال ملازمة سقوطه مع مالا يتنجز (159)
ولا دخل لتنجز تكليف آخر في ذلك ، فتأمل.
وعلى كل حال : لا يمكن الخدشة في جريان البراءة العقلية وفي انحلال العلم الاجمالي من هذه الجهة بعد البناء على كون الأقل واجبا نفسيا على كل تقدير. وقد أورد على الانحلال بوجوه اخر ، ذكرها الشيخ مع الجواب عنها. فالأولى عطف عنان الكلام إلى بيان المختار في وجه عدم جريان البراءة العقلية ، وعدم كفاية العلم التفصيلي بوجوب الأقل في انحلال العلم الاجمالي عقلا. فنقول : إنه لا إشكال في أن العقل يستقل بعدم كفاية الامتثال الاحتمالي للتكليف القطعي ، ضرورة أن الامتثال الاحتمالي إنما يقتضيه التكليف الاحتمالي ، وأما التكليف القطعي فهو يقتضي الامتثال القطعي ، لان العلم باشتغال الذمة يستدعي العلم بالفراغ عقلا ، ولا يكفي احتمال الفراغ ، فإنه يتنجز التكليف بالعلم به ولو إجمالا ، ويتم البيان الذي يستقل العقل بتوقف صحة العقاب عليه ، فلو صادف التكليف في الطرف الآخر الغير المأتي به لا يكون العقاب على تركه بلا بيان ، بل العقل يستقل في استحقاق التارك للامتثال القطعي للعقاب على تقدير مخالفة التكليف. ففي ما نحن فيه لا يجوز الاقتصار على الأقل عقلا ، لأنه يشك في الامتثال من القطعة المشكوكة. ومن هذا البيان ارتفع شبهة أخرى يتوهم ورودها ، وهي توهم أن الاشتغال بالأقل يقتضي الفراغ اليقيني عن الأقل بعد التسليم الانحلال وعدم المنجزية للعلم الاجمالي ، ومرجع هذا الكلام إلى أن العلم التفصيلي بوجوب الأقل يقتضي الفراغ عنه ، ولا يحصل ذلك إلا بالاتيان بالأكثر. والمقرر لو جعل نظره في وجه لزوم الأكثر إلى هذا الوجه ـ كما كان المترائي من بدو كلامه ذلك ـ لكان أولى ، وكان وجهه حينئذ ممتازا عن كلام المحقق صاحب الحاشية ، فيصلح رده طريقه الاحتياط واختيار ذلك ، ولكن ما قنع بذلك ووجهه بعين ما يرجع إلى كلام المحقق ، وأظن أن ذلك خلط من المقرر ، فتدبر. (160)
والخروج عن عهدة التكليف المعلوم في البين ، ولا يحصل العلم بالامتثال إلا بعد ضم الخصوصية الزائدة المشكوكة.
والعلم التفصيلي (1) بوجوب الأقل المردد بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء هو عين العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر (2) ومثل هذا العلم التفصيلي لا يعقل أن يوجب الانحلال ، لأنه يلزم أن يكون العلم الاجمالي موجبا لانحلال نفسه. ومما ذكرنا يظهر ما في دعوى الشيخ ـ قدس سره ـ من أن التكليف المردد بين الأقل والأكثر يكون من التوسط في التنجيز عقلا ، بمعنى : أن متعلق التكليف إن كان هو الأقل فالتكليف به يكون منجزا عند العقل ، وإن كان هو الأكثر فالتكليف به لا يكون منجزا ، فان هذه الدعوى بمكان من الفساد (3) ضرورة أن التنجيز يدور مدار العلم بالتكليف ولو إجمالا ، والمفروض : أنه قد علم بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر ، فما هو شرط التنجيز عند العقل قد تحقق في كل من الأقل والأكثر. نعم : تصح دعوى التوسط في التنجيز بعد البناء على جريان البراءة الشرعية ورفع التكليف عن الأكثر بأدلة البراءة ـ على ما سيأتي بيانه ـ. وأما لو منعنا عن جريان البراءة الشرعية وكان الامر موكولا إلى نظر العقل فقط ، فالتكليف عند العقل قد تنجز على كل تقدير ، سواء تعلق بالأقل أو 1 ـ أقول : لو لم يكن هذه الضميمة وقنع بالبيان السابق لكان ممتازا عن وجه المحقق ، ومع هذه الضميمة فياليت نفهم الفارق بين مختاره ومختار المحقق الذي كان مردودا ومختاره معقولا. 2 ـ أقول : قد تكرر منا أن ما هو طرف العلم الاجمالي في المقام هو حد التكليف لا نفسه ، وهذا الاحتمال خارج عن مصب حكم العقل ، إذ ليس مصبه إلا ذات التكليف المعلوم تفصيلا المشكوك حدا. 3 ـ أقول : لو تأملت فيما ذكرنا في شرح الأقل والأكثر ترى فساد تلك الكلمات ، لا كلام شيخنا الأعظم. (161)
بالأكثر ، للعلم بوجوب أحدهما ، والمفروض : أن العلم الاجمالي كالتفصيلي في اقتضائه التنجيز ، وقد عرفت ما في دعوى انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل ، فان العلم التفصيلي بوجوب الأقل وإن كان غير قابل للانكار ، إلا أنه في الحقيقة تفصيله عين إجماله ، لتردد وجوبه بين كونه لا بشرط أو بشرط شيء (1) والعلم التفصيلي المردد بين ذلك يرجع إلى العلم الاجمالي بين الأقل والأكثر بل هو عينه ، فلا سبيل إلى دعوى الانحلال.
وبتقريب آخر : الشك في تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة المشكوكة من الجزء أو الشرط وإن كان عقلا لا يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفته من حيث هو ، للجهل بتعلق التكليف به فالعقاب على ترك الخصوصية يكون بلا بيان ، إلا أن هناك جهة أخرى تقتضي التنجيز واستحقاق العقاب على ترك الخصوصية على تقدير تعلق التكليف بها ، وهي احتمال الارتباطية وقيدية الزائد للأقل ، فان هذا الاحتمال بضميمة العلم الاجمالي يقتضي التنجيز واستحقاق العقاب عقلا ، فإنه لا رافع لهذا الاحتمال ، وليس من وظيفة العقل وضح القيدية أو رفعها ، بل ذلك من وظيفة الشارع ، ولا حكم للعقل من هذه الجهة ، فيبقى حكمه بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم والقطع بامتثاله على حاله ، فلابد من ضم الخصوصية الزائدة. فان قلت : الشك في الارتباطية والقيدية إنما يكون مسببا عن الشك في تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة ، وبعد حكم العقل بقبح العقاب على مخالفة التكليف بالخصوصية الزائدة ـ كما هو المفروض ـ لا يبقى مجال للقول بالاشتغال العقلي من حيث الشك في الارتباطية والقيدية ، لأن الشك السببي رافع للشك المسببي ، فالقول بقبح العقاب من حيث الشك في تعلق التكليف 1 ـ أقول : الذي هو مردد هو حد الوجوب لا نفسه ، وهو خارج عن مصب حكم العقل بوجوب الامتثال ، كما عرفت. (162)
بالخصوصية الزائدة المشكوكة يساوق القول بجريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر الارتباطي.
قلت : قيدية الزائد للأقل إنما تتولد من تعلق التكليف بالمجموع من الأقل والزائد ، وليست مسببة عن تعلق التكليف بالخصوصية الزائدة فقط ، فإنه ليست الارتباطية إلا عبارة عن ملاحظة الأمور المتباينة أمرا واحدا يجمعها ملاك واحد ، فالارتباطية إنما تنتزع من وحدة الملاك والامر المتعلق بالمجموع. هذا ، مضافا إلى أن الأصل الجاري في الشك السببي إنما يكون رافعا للشك المسببي إذا كان من الأصول الشرعية ، وأما البراءة العقلية فهي لا ترفع الشك المسببي ولا تمنع من جريان الأصل فيه ، على ما سيأتي وجهه ( إن شاء الله تعالى ) في خاتمة الاستصحاب. فتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا محل للبراءة العقلية في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطي (1). وأما البراءة الشرعية : فلا محذور في جريانها (2) لان رفع القيدية إنما هو من 1 ـ أقول : بعد التأمل فيما ذكرنا ، لا يبقى لك بد من البراءة العقلية. 2 ـ أقول : بعدما كان مفاد أدلة البراءة هو الرفع الظاهري الثابت في المرتبة المتأخرة عن الشك بالواقع لا يصلح مثله لتحديد الامر الواقعي بالأقل بخصوص الفاقد ، لاختلاف رتبتهما ، والمفروض أن ما هو معلوم تعلقه بالأقل ليس إلا الامر الواقعي ، لعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري فيه ، فحينئذ أين أمر يصلح حديث الرفع لاثباته للأقل بنحو يكون الامر به مطلقا ولا بشرط من حيث الانضمام بغيره وعدمه ؟ ولئن اغمض عن ذلك نقول : إن رفع القيد إنما يثبت الاطلاق من حيث الانطباق على مورد القيد وعدمه بنحو التشكيك ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، إذ على فرض وجوب الأقل كان الوجوب متعلقا بأمر محدود ولو بحد وجوبه ، فحينئذ تمامية الاطلاق لا يقتضي هذا التحديد ، وإنما يقتضي انطباق الواجب تشكيكا على الأقل بتمامه وعلى الأكثر كذلك ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، بل من قبيل دوران الوجوب بين حدين متبائنين ، وحينئذ كان مجال دعوى أن رفع الزائد لا يثبت الحد الناقص إلا بالأصل المثبت. (163)
وظيفة الشارع كجعلها ، غايته أن وضعها ورفعها إنما يكون بوضع منشأ الانتزاع ورفعه ، وهو التكليف بالأكثر وبسطه على الجزء المشكوك فيه ، فكما أن للشارع الامر بالمركب على وجه يعم الجزء الزائد ، كذلك للشارع رفعه بمثل قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ « رفع ما لايعلمون » ونحو ذلك من الأدلة الشرعية المتقدمة في مبحث البراءة ، وبذلك ينحل العلم الاجمالي ويرتفع الاجمال عن الأقل ، ويثبت إطلاق الامر به وكون وجوبه لا بشرط عن انضمام الزائد إليه.
ولا يتوهم : أن رفع التكليف عن الأكثر لا يثبت به إطلاق الامر بالأقل إلا على القول بالأصل المثبت. فإنه قد تقدمت الإشارة إلى أن التقابل بين الاطلاق والتقييد ليس من تقابل التضاد لكي يكون إثبات أحد الضدين برفع الآخر من الأصل المثبت ، بل التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، وليس الاطلاق إلا عبارة عن عدم لحاظ القيد ، فحديث الرفع بمدلوله المطابقي يدل على إطلاق الامر بالأقل وعدم قيدية الزائد ، وبذلك يتحقق الامتثال القطعي للتكليف المعلوم بالاجمال ، لما تقدم في المباحث السابقة : من أن الامتثال القطعي الذي يلزم العقل به هو الأعم من الوجداني والتعبدي ، إذ العلم الاجمالي بالتكليف لا يزيد عن العلم التفصيلي به ، ولا إشكال في كفاية الامتثال التعبدي في موارد العلم التفصيلي بالتكليف. ثم إن من العجب ! تشبث الماتن بهذا التقريبات في أدلة البراءة ، وصار همه إثبات وجوب الأقل ، مع أنه في فسحة من ذلك بعد بنائه على جريان الأصل في أحد أطراف العلم بلا معارض ، إذ حينئذ له إجراء أدلة الترخيص على ترك الأكثر ، وإن لم يثبت به وجوب الأقل ظاهرا ، وإنما يحتاج إلى مثل هذا البيان من قال بعلية العلم الاجمالي للتنجز وانتهاء الامر فيه بعد الاشتغال إلى تحصيل الفراغ الأعم من الجعلي والحقيقي ، إذ مثل هذا المشرب لا محيص له من إثبات هذه الجهة في جريان البراءة ، كي يصير الاتيان بالأقل فراغا جعليا ، وحيث نحن قائلين بالعلية وأن مثل أدلة البراءة في باب الأقل والأكثر غير صالحة لاثبات وجوب الأقل ، لا محيص لنا من عدم التفكيك بين البراءة والاحتياط عقليها ونقليها ، وعليك بالتأمل في أطراف الكلام ترى ما فيها من مواقع النظر. (164)
والسر في ذلك : هو أن حكم العقل بلزوم الامتثال إنما هو لرعاية حكم الشارع ، وبعد رفع الشارع التكليف عن الأكثر ولو رفعا ظاهريا يتعين كون المكلف به هو الأقل ، فيحصل الامتثال التعبدي بفعل الأقل ، ولا يجب الزائد عليه.
وبالجملة : دائرة الامتثال تختلف سعة وضيقا حسب سعة متعلق التكليف وضيقه ، ولا إشكال في أنه للشارع رفع التكليف عن الأكثر ، إما واقعا بالنسخ ، وإما ظاهرا بمقتضى الأصول العملية لانحفاظ رتبة الحكم الظاهري في الأكثر ، لعدم العلم بتعلق التكليف به ، فلا مانع من جريان أصالة البراءة الشرعية عن التكليف بالأكثر ، ولا يعارضها أصالة البراءة عن الأقل ، للعلم بوجوبه على كل تقدير ، فلا تكون رتبة الحكم الظاهري محفوظة فيه ، وبعد رفع التكليف عن الأكثر يكون متعلق التكليف بحسب الظاهر هو الأقل ، فيدور الامتثال مدار فعله ، ويتحقق الفراغ والخروج عن عهدة التكليف بالاتيان به ، وليس اشتغال الذمة بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر بأقوى من اشتغال الذمة بالتكليف بأصل الصلاة وأركانها ، فكما أن للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي بالنسبة إلى ذلك ، كموارد الشك بعد الوقت وبعد تجاوز المحل ، كذلك للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي للتكليف المردد بين الأقل والأكثر. والغرض من إطالة الكلام : بيان فساد ما أفاده المحقق الخراساني ـ في حاشية الكفاية ـ من منع جريان البراءة الشرعية في الأقل والأكثر الارتباطي بعد ما اختار جريانها في متنها ، وكأنه جرى على مسلكه : من الملازمة بين حرمة المخالفة القطعية ووجوب الموافقة القطعية (1) وقد تقدم منع الملازمة في أول 1 ـ أقول : إنما جرى استاذنا الأعظم في الحاشية المزبورة الحاضرة عندنا ـ وسمعناه منه ـ على مبناه : من التضاد بين الحكم الفعلي التبعي الواقعي مع الترخيص الظاهري ، ولذا فصل بين العلم بفعلية الخطاب الواقعي على تقدير وجوب الأكثر فلا يجري أدله البراءة ولو في الشبهة البدوية وبين ما علم (165)
مبحث الاشتغال.
ومن الغريب ! ما زعمه : من حكومة حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل على أدلة البراءة الشرعية ، فان ذلك بمكان من الفساد ، ضرورة أن حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل يرتفع موضوعه بأدلة البراءة ، لان احتمال الضرر فرع بقاء التكليف بالأكثر ، وبعد رفع الشارع التكليف عنه لا يحتمل الضرر حتى يلزم دفعه ، سواء أريد من الضرر العقاب أو الملاك ، فالبراءة الشرعية تكون ورادة على حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، بل البراءة العقلية أيضا تكون ورادة على هذا الحكم العقلي فضلا عن البراءة الشرعية ، وقد تقدم تفصيل ذلك كله في الدليل الأول من الأدلة الأربعة التي أقيمت على حجية مطلق الظن وفي مبحث البراءة ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا. تذييل : قد استثنى الشيخ ـ قدس سره ـ من موارد دوران الامر بين الأقل والأكثر مورد الشك في حصول العنوان ومورد الشك في حصول الغرض ، فذهب إلى أصالة الاشتغال وعدم جريان البراءة العقلية والشرعية فيهما ، وقد تقدم ما يتعلق بشرح مرامه في هذا المقام ، ولا بأس بإعادته تتميما لمباحث الأقل والأكثر. فنقول : إن الافعال تختلف بالنسبة إلى الآثار المترتبة عليها ، فان الفعل : تارة : يكون سببا توليديا للأثر من دون أن يتوسط بين الفعل والأثر مقدمة أخرى ، وهذا إنما يكون إذا كان الفعل الصادر عن الفاعل تمام العلة لحصول بثبوت الخطاب الواقعي القابل للحمل على مرتبة الانشاء وإن كان ظاهرا في الفعلية فلا مانع من جريان البراءة ، وبها يكشف شأنيته الواقعي وليس في كلامه الذي عندنا تعرض لقاعدة دفع الضرر المحتمل وتقديمه على البراءة ، كي يرد عليه ما أفيد ، وحينئذ حق الاشكال منع التضاد بين فعلية الاحكام الواقعية والظاهرية ، لا منع الملازمة بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية ، فتدبر في أطراف كلامه. |
|||
|