|
|||
(421)
العلم بانقضاء عمر البقّ ، لأنه من الشك في المقتضي ، وقد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه.
وعليك بالتأمل التام فيما تمر عليك من الأمثلة ، وتمييز الآثار الشرعية المترتبة على نفس القدر المشترك عن الآثار المترتبة على الخصوصية الفردية ، وتشخيص موارد رجوع الشك فيها إلى الشك في المقتضي أو الشك في الرافع. ثم لا يخفى عليك : أن محل الكلام في استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان نفس المتيقن السابق بهويته وحقيقته مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، كالأمثلة المتقدمة ، وأما إذا كان الاجمال والترديد في محل المتيقن وموضوعه لا في نفسه وهويته فهذا لا يكون من الاستصحاب الكلي (1) 1 ـ أقول : أولا : ما أفاده من الأساس إنما ينطبق على المثال الأول دون الأخيرين ، إذ في الأول منهما يكون الترديد في الوجودين الملازم للترديد في الهوية ظاهرا ، وهكذا الأخير بعد الجزم بعدم إمكان انتقال العرض من محل إلى محل ، إذ حينئذ كل عرض قائم بمحل متقوم بشخص المحل ، ولازمه كون الترديد في عرض المحلين من باب الترديد بين الوجودين الراجع إلى الترديد في الهوية. وثانيا : على فرض تسليم كون الأمثلة بأجمعها من قبيل المثال الأول الغير الراجع إلى الترديد في الهوية ، نقول : إن الشك في المحل موجب للشك في وجود ما هو معلوم الهوية ، فلا قصور في استصحاب شخصه ، بلا احتياج إلى استصحاب الفرد المردد. وثالثا : على فرض عدم جريان الاستصحاب في أمثال المقام لازمه عدم إثبات مانعيته عن الصلاة في صورة حصول العلم بعد التلف كما هو مورد الكلام ، وهو كما ترى !. وكيف كان : الذي يقتضيه التحقيق في المقام هو أن يقال : أولا : إن صرف وجود الشيء القابل للانطباق على أول وجود الشيء محضا وإن كان قابلا لتعلق الحكم التكليفي وبعض الأحكام الوضعية الأخرى كالملكية. وأما بالنسبة إلى الطهارة والنجاسة : فحالها حال الاعراض الخارجية الغير القابل تعلقها بالطبيعة الصرفة ، بل لابد في عروضها عليها من ملاحظة الطبيعة في ظرف وجودها خارجا وانطباقها على الفرد ، لأنها من سنخ القذارات الخارجية المحسوبة من الاعراض الطارية على الموجودات الخارجية. وثانيا : أن الأثر الشرعي المصحح لاستصحاب الشيء تارة من لوازم وجود الشيء بنحو مفاد كان التامة ، وأخرى من لوازم وجوده بنحو مفاد كان الناقصة ، فمن الأول مانعية (422)
بل يكون كاستصحاب الفرد المردد الذي قد تقدم المنع عن جريان الاستصحاب فيه عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، فلو علم بوجود الحيوان الخاص في الدار وتردد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل أن يكون الحيوان تلف بانهدامه أو علم بوجود درهم خاص لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر ثم ضاع أحد الدراهم واحتمل أن يكون هو درهم زيد أو علم بإصابة العباء نجاسة خاصة وتردد محلها بين كونها في الطرف الأسفل أو الاعلى ثم طهر طرفها الأسفل ، ففي جميع هذه الأمثلة استصحاب بقاء المتيقن لا يجري ، ولا يكون من الاستصحاب الكلي ، لان المتيقن السابق أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه ، وإنما الترديد في المحل والموضوع (1) فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد ، وليس من الاستصحاب الكلي. ومنه يظهر الجواب عن الشبهة العبائية المشهورة (2).
الحدث للصلاة أو النجاسة لها القائمة بصرف وجودها ، ومن الثاني نجاسة الملاقي ، فإنه من آثار كون الملاقى نجسا بحكم سراية النجاسة من الملاقى ( بالفتح ) إلى الملاقي ، وحينئذ بالنسبة إلى المانعية لا بأس باستصحاب جامع النجاسة المرددة في تطبيقه على القطعة الزائلة أو الباقية. وأما بالنسبة إلى نجاسة الملاقي ( بالكسر ) فلا مجال لاستصحاب جامع محكوم بالنجاسة بنحو مفاد كان الناقصة ، لان النجاسة ليست من آثار جامع القطعتين ، كما تقدم ، واستصحاب نجاسة هذه القطعية الشخصية المرددة داخل في استصحاب الفرد المردد ، ووجود نجاسة القطعتين بنحو مفاد كان التامة ليس من آثار نجاسة الملاقي ، كما أشرنا كما لا يخفى ، فتدبر فيه تعرف قدره. 1 ـ أقول : لا إشكال في المثال الأول في عدم الترديد في هويته ، ولكن لا شبهة في الترديد في وجوده ، وهو يكفي في استصحابه. وأما المثالين الأخيرين فلا محيص من الترديد في هويته الفاقد لا محله ، كما أشرنا إليه آنفا ، فتدبر. 2 ـ وهي أنه لو علم بنجاسة أحد طرفي العباء من الأسفل أو الاعلى ثم طهر الطرف الأسفل ، فطهارة الطرف الأسفل يوجب الشك في بقاء النجاسة في العباء ، لاحتمال أن تكون النجاسة المعلومة قد أصابت الطرف الأسفل ، فيجري استصحاب بقاء النجاسة في العباء ، ويلزمه القول بنجاسة الملاقي (423)
القسم الثالث :
من أقسام استصحاب الكلي هو ما إذا كان الشك في بقائه لأجل احتمال قيام فرد آخر مقام الفرد الذي كان الكلي في ضمنه مع القطع بارتفاعه ، كما إذا علم بوجود الانسان في الدار في ضمن وجود زيد وعلم بخروج زيد عن الدار ولكن احتمل قيام عمرو مقامه ، فيشك في بقاء الانسان في الدار ، وهذا القسم من استصحاب الكلي يتصور على وجوه : الأول : ما إذا كان الشك في بقاء الكلي لاحتمال وجود فرد آخر مقارنا لوجود الفرد المعلوم ، كما إذا احتمل وجود عمرو في الدار في حال وجود زيد فيها بحيث اجتمعا في الدار. الثاني : ما إذا كان الشك في بقائه لأجل احتمال وجود فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم ، كما إذا احتمل وجود عمرو في الدار مقارنا لخروج زيد منها ، بحيث لم يجتمع وجودهما في الدار ، وهذا أيضا يتصور على وجهين : الأول : أن يكون الحادث المحتمل فردا آخر مباينا في الوجود للفرد المعلوم وإن اشتركا في النوع أو الجنس ، كالمثال المتقدم. الثاني : أن يكون الحادث المحتمل مرتبة أخرى من مراتب المعلوم الذي لجميع أطراف العباء ، لان ملاقي مستصحب النجاسة في حكم النجس ، مع أن اللازم باطل بالضرورة ، بداهة أنه لا أثر لملاقاة الطرف الأسفل ، للعلم بطهارته ، وملاقاة الطرف الأعلى لا تقتضي النجاسة ، للشك في إصابة النجاسة للطرف الأعلى ، فهو مشكوك النجاسة من أول الامر ، فبناء على نجاسة ملاقي مستصحب النجاسة يلزم في المثال القول بنجاسة ملاقي مقطوع الطهارة ومشكوك النجاسة ، وهو كما ترى !. هذا والتحقيق في جواب الشبهة : هو المنع عن جريان استصحاب النجاسة في العباء ، فتأمل جيدا ( منه ). (424)
ارتفع ، كما إذا احتمل قيام السواد الضعيف مقام السواد الشديد عند ارتفاع السواد الشديد ، وكما إذا احتمل قيام مرتبة أخرى من الشك الكثير مقام المرتبة التي كان المكلف واجدا لها وزالت عنه.
فهذه جملة الوجوه المتصورة في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي. وفي جريان الاستصحاب في الجميع ، أو عدم جريانه في الجميع ، أو التفصيل بين الوجه الأخير والوجهين الأولين ـ ففي الأخير يجري الاستصحاب وفي الأولين لا يجري ـ وجوه ، أقواها التفصيل. أما عدم جريانه في الوجه الأول : فلانه لا منشأ لتوهم جريان الاستصحاب فيه إلا تخيل أن العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج يلازم العلم بحدوث الكلي خارجا ، فبارتفاع الفرد الخاص يشك في ارتفاع الكلي ، لاحتمال قيام الكلي في فرد آخر مقارنا لوجود الفرد الذي علم بحدوثه وارتفاعه ، فلم يختل ركنا الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق بالنسبة إلى الكلي ، كالقسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي. هذا ، ولكن الانصاف : أن فساد التوهم بمكان يغني تصوره عن رده ، بداهة أن العلم بوجود الفرد الخاص في الخارج إنما يلازم العلم بوجود حصة من الكلي في ضمن الفرد الخاص (1) لا أنه يلازم العلم بوجود الكلي بما هو هو ، بل للفرد 1 ـ أقول : لو تم ذلك يلزمه الالتزام في القسم الأول بعين ما التزم في رد استصحاب الفرد المردد ، لان تغاير إحدى الحصتين للآخر موجب لتردد المعلوم بين الحصتين ، فلا يكون شاكا إلا في بقاء أحد الحصتين المردد بين ما هو مقطوع البقاء أو مقطوع الارتفاع. والأولى أن يقال : إن المراد من الكلي ما هو منشأ لانتزاع مفهومه ، وهو ليس إلا الجامع بين الحصص المحفوظ في الخارج بعين وجودها ، كيف ! وبعد مغايرة أحد الحصتين للآخر يستحيل انتزاع مفهوم واحد من المتغايرين ، فلابد من لحاظ الجهة المتحدة بينهما ، وبعد ذلك لابد وأن يكون مركز الشك واليقين هذه الجهة المشتركة ، لأن المفروض أن الأثر مترتب على الجامع بين الحصص لا نفسها ، وحينئذ فتوهم أن العلم بوجود الفرد الخاص يلازم العلم بالحصة مسلم ، وأما عدم ملازمته مع العلم بوجود الطبيعي غلط ، إذ الطبيعي موجود في الخارج بعين وجود (425)
الخاص دخل في وجود الحصة حدوثا وبقاء ، والحصة من الكلي الموجودة في ضمن الفرد الخاص تغاير الحصة الموجودة في ضمن فرد آخر ، ولذا قيل : إن نسبة الكلي إلى الافراد نسبة الآباء المتعددة إلى الأبناء المتعددة ، فلكل فرد حصة تغاير حصة الآخر ، والحصة التي تعلق بها اليقين سابقا إنما هي الحصة التي كانت في ضمن الفرد الذي علم بحدوثه وارتفاعه ، ويلزمه العلم بارتفاع الحصة التي تخصه أيضا ، ولا علم بحدوث حصة أخرى في ضمن فرد آخر ، فأين المتيقن الذي يشك في بقائه ليستصحب ؟ وقياس المقام بالقسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي في غير محله ، بداهة أنه في القسم الثاني يشك في بقاء نفس الحصة من الكلي التي علم بحدوثها في ضمن الفرد المردد ، لاحتمال أن يكون الحادث هو الفرد الباقي فتبقى الحصة بعينها ببقائه ، وأين هذا من العلم بارتفاع الحصة المتيقن حدوثها والشك في حدوث حصة أخرى ؟ كما في القسم الثالث ، فما بينهما أبعد مما بين المغرب والمشرق !! فإنه في القسم الثاني نفس المتيقن الحادث مشكوك البقاء ، وفي القسم الثالث المتيقن الحادث مقطوع الارتفاع وإنما الشك في حدوث حصة أخرى مغايرة للحصة الزائلة ، وهذا بعد البناء على تغاير وجود الكلي بتغاير أفراده واضح مما لا ينبغي التأمل فيه.
أفراده وحصصه ، فلو لم يعلم الطبيعي فلم يعلم ما هو منشأ انتزاع عنوان مأخوذ في موضوع الأثر ، فلا محيص من الالتزام بأن للفرد كان له دخل في وجود الجامع بين الحصتين الذي هو متعلق العلم بلا ترديد في متعلق العلم ، وإنما الترديد في الحصة الموجودة منه ، وحينئذ فليس لك الجواب عن التوهم المزبور بما ذكرت ، بل الأولى أن يقال : إن الطبيعي الجامع بين الحصص بعدما كانت موجودة في الخارج بعين وجود الحصص لا بوجود مغاير معها ، فقهرا يكون وجود الكلي في صمن كل فرد يغاير وجودها في ضمن الآخر ، فكما أن حدوث الكلي في ضمن الفرد ملازم لحدوث الفرد ، كذلك بقائها يلازم لبقاء هذا الفرد ، لان بقاء الشيء عين حدوثه ، ولا يعقل تحققه بوجود فرد آخر ، كما هو ظاهر. ولو أنه قنع المقرر بما أشار إليه أخيرا : من تغاير وجود الكلي بتغاير الافراد ، لكان أولى مما أفاد في صدر كلامه. (426)
ثم إنه لو فرض محالا عدم تغاير وجود الكلي بتغاير الافراد وأن الموجود من الكلي في ضمن جميع الافراد أمر واحد لا تعدد فيه ، فلا إشكال في أن ذلك على فرض إمكانه إنما هو بالنظر الدقي العقلي الذي لا عبرة به في باب الاستصحاب ، وإنما العبرة بنظر العرف ، فان نظره هو المتبع في اتحاد القضية المشكوكة للقضية المتيقنة ـ كما سيأتي بيانه ـ فلو فرض التشكيك في تغاير الحصص وتباين وجود الكلي بتباين الافراد عقلا فلا يمكن التشكيك في ذلك عرفا ، بداهة أن العرف يرى التباين بين ما هو الموجود في ضمن زيد وما هو الموجود في ضمن عمرو ، فتختلف القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عرفا ، فيختل شرط الاستصحاب : من اتحاد القضيتين عرفا ، وذلك واضح لا ينبغي إطالة الكلام فيه أزيد من ذلك.
ومن الغريب ! ما اختاره الشيخ ـ قدس سره ـ من جريان استصحاب الكلي في هذا القسم ، فإنه مضافا إلى اختلاف أركان الاستصحاب فيه يكون الشك في بقاء الكلي دائما من الشك في المقتضي الذي لا يقول بجريان الاستصحاب فيه ؟ فالانصاف : أنه ما كنا نترقب من الشيخ ـ قدس سره ـ اختيار ذلك. ثم : إنه قد يقال : إنه تظهر الثمرة فيما إذا احتمل المكلف الجنابة في حال النوم وبعد الانتباه توضأ ، فإنه لو قلنا بجريان استصحاب الحدث في حقه كان اللازم عدم جواز مس كتابة القرآن ما لم يغتسل ، وإن قلنا بعدم جريان الاستصحاب جاز له فعل كل مشروط بالطهارة ولا يجب عليه الغسل. هذا ، ولكن الظاهر : أنه يجوز للمكلف في المثال فعل كل مشروط بالطهارة وإن لم يغتسل ، سواء قلنا بجريان الاستصحاب في هذا القسم من الكلي أو لم نقل ، لا لان الاستصحاب في المثال ليس من القسم الثالث ، بل لان في المثال خصوصية تقتضي عدم وجوب الغسل وجواز فعل كل مشروط بالطهارة. (427)
وذلك : لان قوله تعالى : « إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم » إلى قوله تعالى : « وإن كنتم جنبا فاطهروا » يدل على وجوب الوضوء على من كان نائما ولم يكن جنبا ، فقد اخذ في موضوع وجوب الوضوء قيد وجودي وهو النوم وقيد عدمي وهو عدم الجنابة. وهذا القيد العدمي وإن لم يذكر في الآية الشريفة صريحا ، إلا أنه من مقابلة الوضوء للغسل والنوم للجنابة يستفاد منها ذلك ، فان التفصيل بين النوم والجنابة والوضوء والغسل قاطع للشركة ، بمعنى أنه لا يشارك الغسل للوضوء ولا الوضوء للغسل ، كما يستفاد نظير ذلك من آية الوضوء والتيمم ، فان قوله تعالى : « فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا » يدل على أن وجدان الماء قيد في موضوع وجوب الوضوء ، وإن لم يذكر في آية الوضوء صريحا إلا أنه من مقابلة الوضوء للتيمم يستفاد ذلك ، لان التفصيل قاطع للشركة ، ومن هنا نقول : إن القدرة على الماء في باب الوضوء تكون شرعية ، لأنها اخذت في موضوع الدليل ، فكأن الآية نزلت هكذا : « إذا قمتم من النوم وكنتم واجدين للماء ولم تكونوا جنبا فاغسلوا وجوهكم الخ ».
والحاصل : أنه يستفاد من الآية الشريفة كون الموضوع لوجوب الوضوء مركبا من النوم وعدم الجنابة ، فيكون المثال المتقدم من صغريات الموضوعات المركبة التي قد أحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها لآخر بالأصل ، فان النائم الذي احتمل الجنابة قد أحرز جزئي الموضوع لوجوب الوضوء وهو النوم بالوجدان وعدم الجنابة بالأصل ، فيجب عليه الوضوء ، وإذا وجب عليه الوضوء لا يجب عليه الغسل ، لما عرفت : من أنه لا يجتمع على المكلف وجوب الوضوء والغسل معا ، لان سبب وجوب الوضوء لا يمكن أن يجتمع مع سبب وجوب الغسل ، فان من أجزاء سبب وجوب الوضوء عدم الجنابة ، فلا يعقل أن يجتمع مع الجنابة التي هي سبب وجوب الغسل ، فإنه يلزم اجتماع النقيضين ، ففي المثال لا يجب على المكلف إلا الوضوء ، فإذا توضأ جاز له فعل كل مشروط بالطهارة حتى مس (428)
المصحف ، فتأمل جيدا.
هذا كله في الوجه الأول من الوجوه الثلاثة المتصورة في القسم الثالث من استصحاب الكلي. وأما الوجه الثاني : وهو ما إذا احتمل حدوث فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المتيقن ، فعدم جريان الاستصحاب فيه أوضح ، فان الوجه الذي تخيل لجريان الاستصحاب في الوجه الأول لا يتمشى في الوجه الثاني ، بداهة أنه لو قلنا محالا بعدم تغاير نحو وجود الكلي بتغاير وجود الافراد فإنما هو في الافراد المجتمعة في الوجود ، كما في الوجه الأول ، وأما الافراد المتعاقبة في الوجود ـ كما في الوجه الثاني ـ فلا يكاد يشك في تغاير نحو وجود الكلي بتغاير وجود الافراد المتعاقبة ، فالقضية المشكوكة تغاير القضية المتيقنة عقلا وعرفا ، فلا مجال لتوهم جريان الاستصحاب فيه. وأما الوجه الثالث : وهو ما إذا احتمل تبدل الفرد المتيقن حدوثا وارتفاعا إلى فرد آخر وكان محتمل الحدوث من مراتب متيقن الحدوث ، فالأقوى : جريان الاستصحاب فيه ، وهذا إنما يكون إذا كان الحادث المتيقن ذا مراتب متعددة تختلف شدة وضعفا ، كالكيفيات النفسية والخارجية ، فان الظن والشك بل العلم ذو مراتب ، وكذا السواد والبياض ونحو ذلك من الألوان الخارجية ، فإذا كان الحادث مرتبة خاصة من السواد كالشديد ثم زالت تلك المرتبة ولكن احتمل أن تكون قد خلفتها مرتبة أخرى من السواد ، فلا مانع من جريان استصحاب الكلي والقدر المشترك بين المرتبة المتيقنة الحدوث والارتفاع والمرتبة المشكوكة الحدوث ، فان تبادل المراتب لا يوجب اختلاف الوجود والماهية ، لانحفاظ الوحدة النوعية ماهية ووجودا في جميع المراتب ، والتبادل إنما يكون في الحد الذي يوجب تشخص المرتبة وتميزها عما عداها ، وإلا فالمرتبة القوية واجدة للمرتبة الضعيفة مسلوبة الحد والتشخص ، فإذا علم بتبدل المرتبة (429)
الشديدة إلى المرتبة الضعيفة فيكون المتيقن بهويته وحقيقته محفوظا ، غايته أنه سلب عنه حد وتلبس بحد آخر ، هذا إذا علم بالتبدل.
وأما إذا احتمل التبدل إلى مرتبة أخرى بعد العلم بزوال المرتبة السابقة ، فيحتمل بقاء المتيقن بهويته وحقيقته ، فيجري فيه الاستصحاب ، لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عقلا وعرفا ، لانحفاظ وجود الكلي في جميع المراتب حقيقة ، لان نحو وجود السواد في السواد الشديد وفي السواد الضعيف واحد لا يختلف ، وليس السواد الشديد والضعيف كزيد وعمرو ، بحيث يكون وجود الانسان في ضمن زيد نحوا يغاير وجوده في ضمن عمرو عقلا وعرفا ، فاستصحاب بقاء الكلي في الوجه الثالث من القسم الثالث يكون كاستصحاب بقاء الكلي في القسم الثاني من حيث وحدة القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة عقلا وعرفا ، وان أبيت عن الاتحاد العقلي فيما نحن فيه مع أنه لا سبيل إليه ، فلا أقل من الاتحاد العرفي وهو يكفي في صحة الاستصحاب. ويتفرع على ذلك استصحاب بقاء كون الشخص كثير الشك عند العلم بزوال ما كان واجدا له من المرتبة والشك في زوال وصف الكثرة بالمرة أو تبدلها إلى مرتبة أخرى أضعف أو أقوى من المرتبة الزائلة ، فيجري استصحاب بقاء الكثرة ويترتب عليه أحكام كثير الشك : من عدم بطلان الصلاة إذا كان الشك في الصلاة الثنائية أو الثلاثية أو الأوليين من الرباعية ومن البناء على الأكثر إن كان في الأخيرتين من الرباعية ، وغير ذلك من الاحكام المترتبة على الشك ، وربما يقف المتتبع على فروع اخر ، فتأمل جيدا. ثم : إنه يلحق بالوجه الثالث من القسم الثالث من أقسام الاستصحاب الكلي الاستصحابات الجارية في الزمان والزمانيات المبنية على التقضي والتصرم ، كالتكلم والحركة ونحو ذلك ، وسيأتي تفصيل الكلام فيه ( إن شاء الله تعالى ). (430)
تذييل :
للفاضل التوني ـ رحمه الله ـ كلام في مسألة الشك في تذكية الحيوان ، قد تعرض له الشيخ ـ قدس سره ـ في المقام بمناسبة. ونحن وإن كان قد استقصينا الكلام فيه في رسالة المشكوك ، إلا أنه لا بأس بالإشارة إليه في المقام تبعا للشيخ ـ قدس سره ـ. فنقول : بناء المشهور على جريان أصالة عدم التذكية عند الشك فيها ويثبت بها نجاسة الحيوان وحرمة لحمه ، وقد خالف في ذلك جماعة منهم الفاضل التوني ـ رحمه الله ـ وقد استدلوا على ذلك بوجهين يمكن تطبيق كلام الفاضل على كل منهما. الأول : أن الموضوع لحرمة لحم الحيوان ونجاسته إنما هو الميتة ، لقوله تعالى : « إنما حرم عليكم الميتة » وهي عبارة عن الحيوان الذي مات حتف أنفه ، كما أن المذكى عبارة عن الحيوان الذي وردت عليه التذكية ، وهو الموضوع للطهارة وحلية اللحم ، فكل من موضوع النجاسة والحرمة والطهارة والحلية أمر وجودي لابد من إحرازه ، فأصالة عدم التذكية لا تثبت كون الحيوان مات حتف أنفه ، لان نفي أحد الضدين بالأصل لا يثبت به وجود الضد الآخر إلا على القول بالأصل المثبت ، بل الأصل من الطرفين يتعارضان ويتساقطان ويرجع إلى الأصل الثالث ، فأصالة عدم التذكية تعارض أصالة عدم الموت حتف الانف لان كلا منهما مسبوق بالعدم ، وبعد تساقط الأصلين يرجع إلى أصالة الحل والطهارة. الوجه الثاني : أنه لو سلم كون الموضوع للحرمة والنجاسة هو نفس عدم التذكية لا الموت حتف الانف ، إلا أنه لا إشكال في أنه ليس الموضوع مطلق عدم التذكية ، بل هو عدم التذكية في حال زهوق الروح ، لان عدم التذكية في (431)
حال الحياة ليس موضوعا للحكم ، بل الذي رتب عليه أثر النجاسة والحرمة هو عدم التذكية في حال خروج الروح ، وعدم التذكية في ذلك الحال ليس له حالة سابقة لكي يستصحب ، بداهة أن خروج الروح إما أن يكون عن تذكية وإما أن لا يكون ، فلم يتحقق في الخارج زمان كان في زهوق الروح ولم يكن معه التذكية ليجري استصحاب عدم التذكية في ذلك الحال.
والحاصل : أن عدم التذكية لازم أعم يتصف بها الحيوان في حالين : حال الحياة وحال خروج الروح ، واستصحاب عدم التذكية في حال الحياة لا يثبت عدمها في حال زهوق الروح ، فإنه يكون من قبيل استصحاب بقاء الكلي لاثبات الفرد ، كما إذا أريد إثبات وجود عمرو في الدار من استصحاب بقاء الضاحك الذي كان في ضمن زيد بعد القطع بخروج زيد عن الدار ، وما نحن فيه يكون بعينه من هذا القبيل ، فإنه بعدما كان عدم التذكية يعم العدم في حال الحياة والعدم في حال زهوق الروح ، فباستصحاب عدم التذكية يراد إثبات خصوص العدم في حال خروج الروح بعد العلم بارتفاع عدم التذكية في حال الحياة ، لان عدم التذكية في حال الحياة متقوم بحياة الحيوان والمفروض أنه مات ، فوصف عدم التذكية في حال الحياة ارتفع قطعا والمشكوك فيه هو وصف عدم الحياة في حال خروج الروح ، واستصحاب عدم التذكية على الوجه الكلي لا يثبت العدم في حال زهوق الروح الذي هو الموضوع للنجاسة والحرمة. هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في كلا الوجهين من النظر. أما في الوجه الأول : فلان الموضوع للحرمة والنجاسة ليس هو الموت حتف الانف ، بل الموت حتف الانف من مصاديق الموضوع ، لا أنه هو الموضوع ، بداهة أنه لم يؤخذ في آية ولا رواية « الموت حتف الانف » موضوعا ، بل الموضوع للحرمة والنجاسة هو الميتة ، وليس معنى الميتة « الموت حتف الانف » لوضوح (432)
أنه لو لم يجتمع في الحيوان شرائط التذكية : من فري الأوداج الأربعة بالحديد مع التسمية مواجها للقبلة مع كون الذابح مسلما ، كان الحيوان ميتة وإن لم يصدق عليه « الموت حتف الانف » كما إذا اجتمع فيه الشرائط ما عدا التسمية ، فان الحيوان ميتة مع أن موته ليس بحتف الانف ، فالميتة عبارة عن « غير المذكى » لا « الموت حتف الانف » فاستصحاب عدم التذكية يكون محرزا لموضوع الحرمة والنجاسة ، لان الموضوع لهما هو الامر العدمي لا الامر الوجودي حتى يتوهم التعارض بين أصالة عدم التذكية وأصالة عدم الموت حتف الانف ، ليرجع إلى أصالة الطهارة والحل ، بل عدم الموت حتف الانف لم يكن موضوعا لحكم حتى يجري الأصل فيه ، فأصالة عدم التذكية لا معارض لها.
وأما في الوجه الثاني : فلان دعوى التغاير بين عدم التذكية في حال حياة الحيوان وبين عدم التذكية في حال زهوق روحه واضحة الفساد ، بداهة أن نفس عدم التذكية في حال الحياة مستمر إلى حال خروج الروح ، وليس حال الحياة وحال زهوق الروح قيدا للعدم لينقلب العدم في حال الحياة إلى عدم آخر ، بل الحياة وخروج الروح من حالات الموضوع لا القيود المقومة له ، فمعروض عدم التذكية إنما هو الجسم والجسم باق في كلا الحالين. وبالجملة : تذكية الحيوان من الأمور الحادثة المسبوقة بالعدم الأزلي ، وهو مستمر إلى زمان خروج الروح ، غايته أن عدم التذكية قبل وجود الحيوان إنما هو العدم المحمولي المفارق بمفاد ليس التامة ، وهذا ليس موضوعا للنجاسة والحرمة ، بل الموضوع لهما هو العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة ، فان معروض الحلية والطهارة والحرمة والنجاسة هو الحيوان المذكى والحيوان الغير المذكى ، فالعدم الأزلي السابق على وجود الحيوان ليس موضوعا للحكم فلا أثر لاستصحابه ، ولكن استمرار العدم الأزلي إلى زمان وجود الحيوان يوجب انقلاب العدم من المحمولية إلى النعتية ومن مفاد ليس التامة إلى مفاد ليس الناقصة. (433)
لا أقول : إن العدم الأزلي يتبدل إلى عدم آخر ، فان ذلك واضح البطلان ، بل العدم في حال حياة الحيوان والعدم الأزلي قبل حياته ، غايته أنه قبل الحياة كان محموليا لعدم وجود معروضه وبعد الحياة صار نعتيا لوجود موضوعه ، ويستمر العدم النعتي في الحيوان من مبدء وجوده إلى انتهاء عمره ، من دون أن يصحل تغيير في ناحية العدم وينقلب عما هو عليه من النعتية ، ومن دون أن يحصل اختلاف في ناحية المنعوت وهو الحيوان ، بل العدم النعتي يستمر باستمرار وجود الحيوان.
فدعوى : أن عدم التذكية في حال الحياة يغاير عدم التذكية في حال خروج الروح والذي يترتب عليه أثر النجاسة والحرمة هو الثاني وهو مشكوك الحدوث واضحه الفساد ، لما عرفت : من أن الأثر رتب على استمرار عدم التذكية إلى زمان زهوق الروح ، فعند الشك في التذكية يجري استصحاب عدمها الثابت في حال الحياة. وتوهم : أن لحكاية الحال دخلا في ترتب الأثر ، فان الموضوع للأثر ليس هو العدم المطلق بل العدم في حال خروج الروح ، فكان لعنوان الحالية دخل في الموضوع ، واستصحاب عدم التذكية إلى حال خروج الروح لا يثبت عنوان الحالية فاسد ، فإنه ليس في الأدلة ما يقتضي اعتبار قضية الحال (1) بل المستفاد 1 ـ أقول : الأولى أن يقال : إن المراد من « الحال » المعبر به في هذه المقامات : من مثل الصلاة في حال الطهارة وأمثال ذلك في ساير المقيدات بشرط ، هو إضافة المشروط بشرط المنتزع لدى العقل من الأعم من الواقع والظاهر ، فلا بأس حينئذ بإحرازها باستصحاب الشرط إلى حين وجود المشروط أو بالعكس ، وإلا ففي المشروطات لا يكون الموضوع مركبا ، بل التركيب من شؤون الجزئية لا الشرطية ، كما لا يخفى. (434)
من الأدلة هو كون الموضوع للحرمة والنجاسة مركبا من جزئين : زهوق روح الحيوان وعدم تذكيته. ويكفي في تحقق الموضوع اجتماع الجزئين في الزمان ، لأنهما عرضيان لمحل واحد ، وسيأتي ( إن شاء الله تعالى ) في بعض المباحث : أن الموضوع المركب من عرضين لمحل واحد أو من جوهريين أو من جوهر وعرض لمحل آخر ـ كوجود زيد وقيام عمرو ـ لا يعتبر فيه أزيد من الاجتماع في الزمان ، إلا إذا استفيد من الدليل كون الإضافة الحاصلة من اجتماعهما في الزمان لها دخل في الحكم ، كعنوان الحالية والتقارن والسبق واللحوق ونحو ذلك من الإضافات الحاصلة من وجود الشيئين في الزمان ، ولكن هذا يحتاج إلى قيام الدليل عليه ، وإلا فالموضوع المركب من جزئين لا رابط بينهما إلا الوجود في الزمان لا يقتضي أزيد من اجتماعهما في الزمان ، بخلاف ما إذا كان التركيب من العرض ومحله ، كقيام زيد وقرشية المرأة ونحو ذلك من الموضوعات المركبة من العرض ومحله ، فإنه لا يكفي فيه مجرد اجتماع العرض والمحل في الزمان ما لم يثبت قيام الوصف بالمحل ، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في رسالة المشكوك ، وسيأتي الإشارة إليه ( إن شاء الله تعالى ).
ففيما نحن فيه بعدما كان الموضوع مركبا من خروج الروح وعدم التذكية وهما عرضيان للحيوان ، فيكفي إحراز أحدهما بالأصل وهو عدم التذكية والآخر بالوجدان وهو خروج الروح ، فمن ضم الوجدان إلى الأصل يلتئم كلا جزئي المركب ويتحقق موضوع حرمة لحم الحيوان ونجاسته. فالأقوى : ما عليه المشهور : من جريان أصالة عدم التذكية عند الشك فيها. ربما يستشكل في جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات المبنية على التقضي والتصرم ، بتوهم : عدم قابلية المتيقن للبقاء والاستمراء ، فكيف يمكن (435)
استصحاب بقائه ؟ هذا ، ولكن التحقيق أنه يصح استصحاب الزمان فضلا عن الزماني ، وينبغي عقد الكلام في مقامين :
المقام الأول : في استصحاب بقاء نفس الزمان. وتحقيق الكلام في ذلك ، هو أن الشك في الزمان كالليل والنهار يمكن فرضه بوجهين : الأول : الشك في وجود الليل والنهار حدوثا وبقاء بمفاد كان وليس التامتين ، أي الشك في أن النهار وجد أو لم يوجد أو الشك في أنه ارتفع أو لم يرتفع. الثاني : الشك في الزمان بمفاد كان وليس الناقصتين ، أي الشك في أن الزمان الحاضر والآن الفعلي هل هو من الليل أو من النهار. ولا إشكال في عدم جريان الاستصحاب إذا كان الشك في الزمان على الوجه الثاني ، فان الزمان الحاضر حدث إما من الليل وإما من النهار ، فلا يقين بكونه من الليل أو النهار حتى يستصحب حاله السابق (1) وإن كان الشك فيه على الوجه الأول : فالاستصحاب يجري فيه ، فان الليل والنهار وإن كان اسما لمجموع ما بين الحدين ، فالليل من الغروب إلى الطلوع والنهار من الطلوع إلى الغروب ، فكان الليل والنهار عبارة عن مجموع الآنات 1 ـ أقول : أمكن أن يقال : إن ذات الشيء إذا كانت تدريجية فالوصف الطاري عليه أيضا تدريجي ، وبعد ذا لا بأس بدعوى : أن اتصاف الآنات التدريجية بالليلية أو النهارية أيضا تدريجي ، وحينئذ لا بأس لبقاء الليلية الثابتة لكل آن تدريجا لمثل هذا الآن المشكوك ليليته مثلا ، وبعبارة أخرى : الليلية التدريجية الثابتة للآنات حادثة بحدوث الآنات وباقية ببقائها ، بملاحظة أن صدق البقاء في الآنات كما أنه بتلاحق بقية الآنات بالآنات السابقة ، كذلك صدق بقاء وصف ليليتها بتلاحق هذه القطعة من الوصف الثابت للبقية ببقية قطعاتها الثابتة سابقا ، فتدبر. |
|||
|