|
|||
(556)
فقهية ، توضيحها موكول إلى محله ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه جيدا لكي لا يشتبه عليك الامر.
قد أجرى بعض استصحاب الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب الارتباطي ، وقد تقدمت الإشارة إليه في تنبيهات الأقل والأكثر وتفصيله : هو أنه ربما يستشكل في جريان الاستصحاب بأن المتيقن السابق كان هو الوجوب المتعلق بجملة العمل الواجد للجزء أو الشرط المتعذر ، وقد علم بارتفاعه بسبب تعذر بعض أجزاء الجملة ، ووجوب ما عدا الجزء المتعذر لم يكن متيقنا سابقا ، بل هو مشكوك الحدوث ، فيختل ركن الاستصحاب. هذا ، وقد ذكر الشيخ ـ قدس سره ـ وجوها ثلاثة لجريان الاستصحاب : الأول : استصحاب وجوب الاجزاء المتمكن منها ، للعلم بتعلق الطلب بتلك الاجزاء ولو في ضمن تعلقه بالكل والشك في ارتفاعه عنها بسبب تعذر بعض الاجزاء ، فلم يختل ركن الاستصحاب : من اليقين السابق والشك اللاحق ، غايته : أن المستصحب إنما يكون هو القدر المشترك بين الوجوب النفسي والوجوب المقدمي ، لان وجوب الاجزاء المتمكن منها كان قبل تعذر البعض مقدميا ، فان الوجوب النفسي إنما كان متعلقا بالكل ، فيكون كل جزء واجبا بالوجوب المقدمي ، وبعد تعذر البعض يكون وجوبها نفسيا ، فإنه على تقدير كون الاجزاء المتمكن منها واجبة واقعا فوجوبها إنما يكون نفسيا ، ولكن تغيير صفة الوجوب لا يمنع عن استصحاب القدر المشترك بين النفسي والمقدمي. هذا حاصل ما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ في الوجه الأول. ولكنه ضعيف ، لما فيه أولا : من أن وجوب الجزء لا يكون مقدميا ، بل الجزء إنما يجب بعين الوجوب النفسي المتعلق بالكل ، ولا يمكن أن يتعلق (557)
الوجوب المقدمي بالجزء ، بل نفس الطلب النفسي المتعلق بالكل ينبسط على الاجزاء ، نظير انبساط البياض على الجسم ، فيكون لكل جزء حظ من الوجوب النفسي ، ومعه لا يمكن أن يكون له وجوب آخر مقدمي ، وقد أشبعنا الكلام في ذلك بما لا مزيد عليه في مبحث المقدمة.
وثانيا : أن استصحاب القدر المشترك بين الوجوب النفسي والغيري لا يجري ، فان الوجوب النفسي يغاير الوجوب المقدمي سنخا ويباينه حقيقة ، وليست النفسية والمقدمية من قبيل الشدة والضعف ، فاستصحاب القدر المشترك في المقام يرجع إلى استصحاب القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، وقد تقدم عدم جريان الاستصحاب فيه ، بل لو فرض أن النفسية والمقدمية يكونان من مراتب الوجوب ـ كالشدة والضعف ـ ولكن لا إشكال في تباينهما عرفا ، فلا يجري استصحاب القدر المشترك. الوجه الثاني : استصحاب شخص الوجوب النفسي الذي كان متعلقا بالاجزاء المتمكن منها ، بدعوى : أن الجزء المتعذر يعد عرفا من حالات متعلق الوجوب النفسي لا من أركانه ومقوماته ، فلا يضر تعذره وفقدانه ببقاء متعلق الوجوب النفسي واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، لان معروض الوجوب النفسي بنظر العرف كان هو بقية الاجزاء المتمكن منها ويحمل عليها بالحمل الشايع الصناعي أنها هي التي كانت متعلق الوجوب النفسي ، ويكون تعذر الجزء منشأ للشك في بقائه ، نظير الماء الذي نقص عنه مقدار بحيث يشك في بقائه على الكرية ، فإنه لا إشكال في استصحاب بقاء الكرية ، لاتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، فليكن تعذر الجزء فيما نحن فيه كنقصان مقدار من الماء في مثال الكر لا يوجب اختلاف القضيتين. وهذا الوجه وإن كان أبعد عن الاشكال من الوجه الأول ، إلا أنه يرد عليه : أن هذا البيان إنما يتم في الموضوعات العرفية والمركبات الخارجية ، فإنه (558)
يمكن فيها تمييز ما يكون من حالات الموضوع عما يكون من مقوماته. وأما المركبات الشرعية : فلا يكاد يمكن معرفة الركن فيها وتمييز المقوم عن غيره إلا من طريق الأدلة. وليس للعرف في ذلك سبيل ، بداهة أن تشخيص كون السورة ليست من أركان الصلاة ومقوماته دون الركوع والسجود لا يمكن إلا بقيام الدليل على ذلك ، فان دل الدليل على كون السورة جزء للصلاة مطلقا حتى في حال عدم التمكن منها كانت السورة ركنا في الصلاة ومقومة لها ، فيسقط الامر بالصلاة عند عدم التمكن منها. وإن قام الدليل على عدم كونها جزء في حال عدم التمكن منها فلا تكون ركنا في الصلاة ، ولا يسقط الطلب ببقية الاجزاء عند تعذر السورة. وإن لم يقم دليل على أحد الوجهين يبقى الشك في سقوط الطلب عن بقية الاجزاء وعدمه على حاله ، للشك في ركنية السورة. ولا مجال للرجوع إلى العرف في معرفة كونها ركنا وغير ركن ، فان تشخيص ذلك ليس بيد العرف. ففي المركبات الشرعية لا يمكن العلم بما يكون من حالات المركب أو مقوماته إلا من طريق السمع.
وهذا الاشكال بعينه يرد على « قاعدة الميسور » أيضا (1) فإنه يعتبر فيها أن تكون الاجزاء الميسورة مما لا تعد عرفا مباينة لمتعلق التكليف ، وذلك إنما يكون إذا كان الباقي ركن المركب وبه قوامه ، وهذا المعنى في المركبات الشرعية لا يمكن تشخيصه ، وقد تقدم تفصيل ذلك في تنبيهات الأقل والأكثر. فظهر : أن الوجه الثاني لاستصحاب بقاء الوجوب عند تعذر بعض الاجزاء يتلو الوجه الأول في الضعف. الوجه الثالث : استصحاب الوجوب النفسي المردد بين كونه متعلقا سابقا بالواجد للجزء المتعذر مطلقا حتى مع تعذره ( ليسقط التكليف عن الفاقد للجزء 1 ـ أقول : قد تقدم الكلام في هذا الاشكال في محله ، وما ذكر هناك تحرير في المقام أيضا ، فراجع وتأمل. (559)
المتعذر ) وبين كونه متعلقا بالواجد له مقيدا بحال التمكن منه ( ليبقى التكليف بالفاقد ) فيستصحب بقاء التكليف ويثبت به اختصاص جزئية الجزء المتعذر بحال التمكن منه.
وهذا الوجه أضعف الوجوه الثلاثة التي ذكرها الشيخ ـ قدس سره ـ في تقريب استصحاب بقاء الوجوب عند تعذر بعض أجزاء المركب ، فإنه يكون من أردء أنحاء الأصل المثبت. فالانصاف : أنه لا سبيل إلى الاذعان بشيء من الوجوه الثلاثة. نعم : يمكن تقريب الاستصحاب بوجه آخر لعله يسلم عن الاشكال (1) وهو أن جزئية المتعذر لو كانت ثبوتا مختصة بحال التمكن والاختيار كان التكليف بما عدا الجزء المتعذر باقيا على ما كان عليه ـ أي كان التكليف به بعين التكليف المتعلق بالكل الواجد للجزء المتعذر قبل تعذره من دون أن يرتفع ذلك التكليف ويحدث تكليف آخر يتعلق بخصوص الاجزاء المتمكن منها بل هو ذلك التكليف ـ غايته أنه قبل تعذر الجزء كانت دائرة متعلق التكليف أوسع ، لانبساط التكليف عليه ، وبعد تعذر الجزء تتضيق دائرة متعلق التكليف ويخرج الجزء المتعذر عن سعة دائرة المتعلق مع بقاء الباقي على حاله ، نظير البياض الذي كان منبسطا على الجسم الطويل فصار قصيرا ، فإنه لا إشكال في أن البياض الباقي في الجسم القصير هو عين البياض الذي كان في 1 ـ أقول : ما أفيد في غاية المتانة لتقريب احتمال بقاء التكليف ، فلابد حينئذ في قباله احتمال آخر وهو كون التكليف بالاجزاء الباقية مرتبطا بالتكليف بالبقية ثبوتا وسقوطا ، وهذا الارتباط لا يمكن إلا أن يكون التكليف من الأول بالواحد للمتعذر حتى مع تعذره ، قبال الصورة الأولى : من كون التكليف متعلقا بالواجد في خصوص حال التمكن ، فيرجع حينئذ إلى الوجه الثالث الذي جعله أردء الوجوه. مع أن المقصود من استصحاب التكليف في المقام إثبات وجوب البقية ، لا إثبات كون معروضه الواجد مقيدا بحال التمكن ومن غير هذه الجهة لا نفهم وجه المثبتية ، فتدبر. (560)
الجسم الطويل ، من دون أن ينعدم ذلك البياض ويحدث بياض آخر ، غايته أنه تبدل حده وكان قبل قصر الجسم محدودا بحد خاص وبعد قصره يكون محدودا بحد آخر ، والتكليف المنبسط على جملة المركب يكون كالبياض المنبسط على الجسم الطويل ، فلو تعذر بعض أجزاء المركب يبقى التكليف بالبقية على ما كان ، من دون أن يرتفع ذلك التكليف ويحدث تكليف آخر بالبقية ، وذلك واضح لا ينبغي التأمل فيه. هذا في مقام الثبوت.
وأما في مقام الاثبات : فان قام الدليل على اختصاص جزئية الجزء المتعذر بحال التمكن والاختيار فلا إشكال في وجوب الباقي ، كما لا إشكال في عدم وجوبه إذا قام الدليل على إطلاق جزئية الجزء المتعذر وعدم اختصاصها بحال التمكن. وإن لم يقم دليل على أحد الوجهين وشك في إطلاق الجزئية وعدمه فيشك في بقاء التكليف ببقية الاجزاء المتمكن منها ويجري استصحاب التكليف ، فالمستصحب هو شخص التكليف النفسي الذي كان متعلقا بالاجزاء المتمكن منها قبل تعذر الجزء ، والتعذر إنما يكون منشأ للشك في بقاء التكليف بالبقية ، لاحتمال اختصاص جزئيته بحال التمكن والاختيار ، وقد عرفت : أنه على هذا التقدير يكون شخص التكليف الذي كان منبسطا على البقية في حال انبساطه على الكل باقيا ، فالمستصحب ليس هو القدر المشترك بين التكليف النفسي والغيري ، بل هو شخص التكليف النفسي الذي كان متعلقا بالاجزاء المتمكن منها. فإن قلت : بناء على هذا ينبغي عدم الفرق بين أن يكون الباقي معظم الاجزاء أو بعض الاجزاء. فلو فرض أنه تعذر جميع أجزاء الصلاة ما عدا التشهد يلزم القول بجريان استصحاب وجوب التشهد ، لأنه لو كان التشهد في الواقع واجبا كان وجوبه بعين وجوب الكل ولم يحدث فيه وجوب آخر عند تعذر (561)
ما عداه ، فينبغي أن يستصحب وجوبه ، مع أن ظاهر الاعلام : التسالم على اعتبار أن يكون الباقي معظم الاجزاء.
قلت : نعم وإن كان وجوب الباقي هو عين الوجوب السابق الذي كان متعلقا بالكل حقيقة ، إلا أن القضية المشكوكة لو لم يكن الباقي معظم الاجزاء تباين القضية المتيقنة عرفا ، فان وجوب التشهد مثلا يكون مندكا عرفا في ضمن وجوب البقية ويكون الطلب المتعلق به طلبا تبعيا ضمنيا ، فيكون وجوبه قبل تعذر بقية الاجزاء نحوا يغاير وجوبه بعد تعذرها عرفا وإن كان هو هو حقيقة ، وهذا بخلاف ما إذا كان الباقي معظم الاجزاء ، فان وجوبه في حال تعذر الجزء عين وجوبه السابق عقلا وعرفا ، فيجري الاستصحاب إذا كان الباقي معظم الاجزاء ، ولا يجري إذا كان بعض الاجزاء ، فتأمل جيدا. تتمة : يظهر من كلام الشيخ ـ قدس سره ـ عدم الفرق في جريان الاستصحاب بين تعذر الجزء بعد دخول الوقت وتنجز التكليف أو قبله ، لان المستصحب هو الوجوب الكلي المنجز على تقدير اجتماع الشرائط ، لا الوجوب الشخصي المتوقف على تحقق الشرائط فعلا. أقول : المراد من استصحاب الحكم الشخصي هو استصحاب الحكم الجزئي الفعلي الذي يجري في الموارد الجزئية ويشترك في إعماله المقلد والمجتهد ، فيكون اليقين والشك من كل مكلف موضوعا له (1) ولا إشكال في أنه يعتبر في جريانه فعلية الخاطب وتحقق الشرائط خارجا. وأما استصحاب الحكم الكلي : فهو الذي يكون من وظيفة المجتهد إعماله ولاحظ 1 ـ أقول : هذه الكلمات أيضا مبنية على البناء على عدم جريان الاستصحاب التعليقي ، وإلا فلا يصل النوبة إلى تشكيل هذا التنبيه والتتمة. (562)
للمقلد فيه ، وهو وإن لم يتوقف على فعلية الخطاب وتحقق الشرائط خارجا ، إلا أنه لابد من فرض تحقق الشرائط خارجا واختلال بعضها ليمكن فرض حصول الشك في بقاء الحكم الكلي ، بداهة أنه لولا فرض تحقق الشرائط واختلال بعضها لا يمكن حصول الشك في بقائه ، كما في استصحاب بقاء نجاسة الماء المتغير الزائل عنه التغير ، فإنه وإن كان لا يتوقف على وجود الماء المتغير خارجا ، إلا أنه لابد من فرض وجوده في مقام الاستصحاب ـ وقد تقدم توضيح ذلك في الاستصحاب التعليقي ـ فاستصحاب بقاء التكليف بالمركب عند تعذر بعض أجزائه وإن كان وظيفة المجتهد ولا يتوقف إعماله على تنجز التكليف وتحقق الشرائط خارجا ، إلا أنه لابد من فرض فعلية التكليف بتقدير وجود الموضوع بما له من الشرائط خارجا ليجري استصحاب بقاء التكليف على هذ التقدير ، ولكن فرض وجود الموضوع لا يتوقف على فرض تمكن المكلف من الجزء في أول الوقت وطرو العجز بعد انقضاء مقدار من الوقت ، فان المفروض : أن التمكن من الجزء المتعذر ليس من مقومات الموضوع وإلا لم يجر الاستصحاب رأسا ، فالذي يحتاج إليه في المقام هو فرض دخول الوقت مع كون المكلف واجدا لشرائط التكليف ، فيستصحب وجوب بقية الاجزاء عند تعذر البعض ولو في أول الوقت.
ولا يتوهم : أنه مع عدم فرض طرو التعذر بعد الوقت يرجع إلى الاستصحاب التعليقي ، فإنه إنما يرجع إليه إذا كان وجود الجزء المتعذر من مقومات المتعلق وأركانه ، لا من خصوصياته وحالاته. نعم : بالنسبة إلى فرض دخول الوقت لابد منه ، وإلا يرجع إلى الاستصحاب التعليقي ، فتأمل. ثم لا يخفى عليك : أن التمسك بالاستصحاب أو ب « قاعدة الميسور » إنما ينفع في غير باب الصلاة ، وأما في الصلاة فلا أثر للاستصحاب أو « قاعدة الميسور » لقيام الدليل على أن « الصلاة لا تسقط بحال » إلا في صورة فقدان الطهورين. (563)
المراد من « الشك » الذي اخذ موضوعا في باب الأصول العملية وموردا في باب الامارات ليس خصوص ما تساوى طرفاه ، بل يشمل الظن بالخلاف فضلا عن الظن بالوفاق ، فالمراد من « الشك » في قوله ـ عليه السلام ـ « لا تنقض اليقين بالشك » هو خلاف اليقين ، لأنه من أحد معانيه ـ كما هو المحكي عن الصحاح ـ مضافا إلى ما تقدم في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي : من أن الشك إنما اخذ موضوعا في الأصول العملية من جهة كونه موجبا للحيرة وعدم كونه محرزا وموصلا للواقع ، لا من جهة كونه صفة قائمة في النفس في مقابل الظن والعلم ، فكل ما لايكون موصلا ومحرزا للواقع ملحق بالشك حكما وإن لم يكن ملحقا به موضوعا ، كما أن كل ما يكون موصلا للواقع ومحرزا له ملحق بالعلم حكما وإن لم يكن ملحقا به موضوعا ، فالظن الذي لم يقم دليل على اعتباره حكمه حكم الشك ، لاشتراكهما في عدم إحراز الواقع وعدم إيصالهما إليه.
وحينئذ لا حاجة إلى دعوى : كون رفع اليد عن اليقين السابق بسبب الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره يرجع إلى نقض اليقين بالشك للشك في اعتبار الظن ، فيندرج في قوله : « لا تنقض اليقين بالشك ». مع أن في هذه الدعوى مالا يخفى ، فان متعلق الشك هو حجية الظن ومتعلق الظن هو الواقع ، فلا يمكن أن يكون رفع اليد عن اليقين عند الظن بالواقع نقضا لليقين بالشك ، بل هو نقض لليقين بالظن ، فنحتاج إلى إثبات كون الظن ملحقا بالشك حكما أو موضوعا. هذا تمام الكلام في تنبيهات الاستصحاب. (564)
خاتمة
ينبغي ختم الكلام في الاستصحاب بذكر أمور :
يعتبر في الاستصحاب اتحاد متعلق الشك مع متعلق اليقين ، فان الحكم المجعول في الاستصحاب ـ من البناء العملي على بقاء المتيقن وجر المستصحب في الزمان ـ يقتضي اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة موضوعا ومحمولا ، سواء قلنا : باعتبار الاستصحاب من باب التعبد أو من باب إفادته الظن أو من باب بناء العقلاء ، فإنه على جميع التقادير يتوقف حقيقة الاستصحاب على اتحاد متعلق الشك مع متعلق اليقين ، فلو اختلف المتعلقان خرج عن الاستصحاب. ولعمري ! إن ذلك بمكان من الوضوح ، فإنه من القضايا التي قياساتها معها ، فلا يحتاج إلى الاستدلال عليه بما ذكره الشيخ ـ قدس سره ـ من أنه « لولا اتحاد المتعلقين يلزم بقاء العرض بلا موضوع أو انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، وكل منهما بمكان من الاستحالة » فان الاستدلال بذلك تبعيد للمسافة بلا موجب (1) لما عرفت : من أن حقيقة الاستصحاب والحكم المجعول 1 ـ أقول لو بنينا على إمكان انتقال العرض أو بقائه بلا معروض لا يكفي مجرد عدم اتحاد الموضوع في حال الشك مع الموضوع في حال اليقين لمنع جريان الاستصحاب ، لان المعتبر فيه الشك في بقاء المستصحب بما له من الخصوصية الثابتة له حال حدوثه ، ومنها خصوصية معروضه ، ومن المعلوم : ان هذا المعنى على ما ذكر من المبنى محفوظ حتى مع احتمال تبدل الموضوع حين الشك ، إذ حينئذ لا قصور في صدق الشك في بقاء شخص العرض القائم بالمحل السابق ، فيشمله حينئذ دليل التعبد ، بخلاف ما لو (565)
فيه لا يعقل تحققه إلا باتحاد القضيتين ولابد من إحراز الاتحاد ، فلا يجري الاستصحاب مع الشك فيه ، لأنه يكون من التمسك بالعام في الشبهات المصداقية ، كما لا يخفى.
ولا فرق في ذلك بين الاستصحابات الحكمية وبين الاستصحابات الموضوعية ، كما لا فرق بين المحمولات الأولية وبين المحمولات المترتبة ، غايته أنه في المحمولات الأولية يكون الموضوع نفس الماهية المعراة عن الوجود والعدم ، وفي المحمولات المترتبة يكون الموضوع الماهية المقيدة بالوجود أو العدم. وتوضيح ذلك : هو أن الشك تارة : يكون في المحمولات الأولية من الوجود والعدم. وأخرى : يكون في المحمولات المترتبة من القيام والقعود والكتابة والعدالة ونحو ذلك من المحمولات التي لا يصح حملها على الماهية إلا بعد وجودها ، سواء كان بلا واسطة كالقيام والقعود ، أو كان مع الواسطة كحركة الأصابع ، فان الشخص إنما يكون متحرك الأصابع بتوسط الكتابة. فان كان الشك في المحمول الأولي : فالموضوع في القضية المشكوكة والقضية المتيقنة نفس الماهية المجردة عن الوجود والعدم ، فإنه لا يمكن الشك في وجود الشيء بقيد كونه موجودا ، بل لابد من فرض الشيء ، بما له من التقرر الذهني معرى عن الوجود والعدم ، ليستصحب وجوده إن كان مسبوقا بالوجود ، أو عدمه إن كان مسبوقا بالعدم ، ولا إشكال في بقاء الموضوع واتحاد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة في استصحاب الوجود والعدم ، فان الشيء الذي يشك في بقاء بنينا على الاستحالة ، فإنه بملاحظة احتمال تبدل الموضوع وإن يشك في العرض ، ولكن هذا الشك يلازم مع الشك في استعداد المستصحب للبقاء ، فبناء على اعتباره ـ على مختاره ـ فلا مجال لاستصحابه. وإلى ذلك نظر شيخنا العلامة في إقامة البرهان ، فلا مجال لرده بأنه من باب تبعيد المسافة ، إذ الكلام في البقاء التعبدي لا الحقيقي ، وان البرهان يناسب الأول لا الثاني ، فلا يكون في المقام محل لهذا البرهان ، كما تخيل بعض من الأساطين. (566)
وجوده أو عدمه هو عين الشيء الذي كان متيقن الوجود أو العدم ، وذلك واضح.
وإن كان الشك في المحمول المترتب ـ كالشك في بقاء عدالة زيد ـ فالمحمول الأولي يكون جزء للموضوع ولابد من إحرازه في مقام استصحاب المحمول المترتب. فان كان الموضوع محرزا بالوجدان وكان الشك متمحضا في بقاء المحمول المترتب ـ كما إذا علم بوجود زيد وشك في بقاء عدالته ـ فلا إشكال في جريان الاستصحاب ، لبقاء الموضوع واتحاد القضيتين (1) فان الشك إنما هو في عدالة من كان متيقن العدالة ، فيتحد متعلق الشك واليقين. وإن لم يكن الموضوع محرزا بالوجدان بل تعلق الشك بكل من الموضوع والمحمول الثانوي ـ كما إذا شك في وجود زيد وعدالته ـ فتارة : يكون الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع بحيث لو أحرز الموضوع كان المحمول المترتب محرزا أيضا ، كما إذا شك في مطهرية الماء لأجل الشك في بقاء إطلاقه أو شك في نجاسة الماء لأجل الشك في بقاء تغيره. وأخرى : لا يكون الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع ، بل كان كل منهما متعلقا للشك مستقلا عن منشأ يخصه ، كما إذا شك في حياة زيد لاحتمال موته وعدالته لاحتمال فسقه ، بحيث لو كانت الحياة محرزة كانت عدالته مشكوكة أيضا. 1 ـ أقول : لولا البرهان السابق : من امتناع بقاء العرض بلا موضوع ، أو قلنا : بعدم لزوم إحراز الاستعداد في المستصحب وقلنا : بحجية الاستصحاب حتى مع الشك في المقتضي ، لا نحتاج في استصحاب المحمولات الثانوية بنحو مفاد كان التامة إلى إحراز وجود الموضوع ، بل الاستصحاب جار حتى مع الشك في الموضوع. نعم : بنحو مفاد كان الناقصة يحتاج إلى وجوده ، لان إثبات شيء لشيء ولو تعبدا فرع ثبوت المثبت له. ثم في هذا الفرض لا يكفي استصحاب الموضوع لاثبات المحمول ، لعدم كون الترتب شرعيا ، فينبغي له حينئذ ان يتعرض هذا الشق أيضا. (567)
فان كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في الموضوع فلا إشكال في أن جريان الأصل في الموضوع يغني عن جريانه في المحمول المترتب ، لأنه رافع لموضوعه إذا كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك في بقاء الموضوع بعد العلم بحقيقته بحدوده وقيوده بحيث كان الشك متمحضا في بقاء الموضوع.
وأما لو كان الشك في المحمول مسببا عن الشك في حقيقة الموضوع ـ لتردده بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع ، كما إذا شك في أن موضوع النجاسة ومعروضها هو ذات الكلب بما له من المادة الهيولائية المحفوظة في جميع التبدلات والانقلابات حتى في حال انقلابه ملحا ، أو أن موضوع النجاسة هو الكلب بصورته النوعية الزائلة عند انقلابه ملحا ـ فلا يجري الاستصحاب ، لا في ناحية الموضوع ، ولا في ناحية المحمول إذا صار الكلب ملحا (1). أما في ناحية المحمول : فللشك في موضوعه ، لاحتمال أن يكون موضوع النجاسة هو الكلب بصورته النوعية. وأما في ناحية الموضوع : فلان الموجود في الحال يباين الموجود سابقا ، لان تمايز الأشياء إنما يكون بالصور النوعية ، والملح يباين الكلب بما له من الصورة النوعية ، فالمتيقن السابق انعدم قطعا بانقلاب الكلب ملحا ، والموجود في الحال لم يكن موجودا سابقا ، فلا يجري فيه الاستصحاب ، بل الاستصحاب في المقام يكون أسوء حالا من استصحاب بقاء المعلوم بالاجمال عند خروج بعض أطرافه عن مورد الابتلاء بتلف أو امتثال أو نحو ذلك ، وقد تقدم في بعض مباحث الأقل والأكثر عدم جريان الاستصحاب فيه. هذا إذا أريد استصحاب ذات الموضوع. 1 ـ أقول : والأولى ان يقال : إنه بناء عليه يرجع استصحاب الموضوع إلى استصحاب الشخص المردد بنحو الاجمال بين الباقي والزائل. (568)
وإن أريد استصحاب الموضوع بوصف كونه موضوعا للنجاسة فهو يرجع إلى استصحاب النجاسة ، وقد عرفت : أنه لا يجري ، للشك في موضوعها.
فتحصل : أن الشك في المحمول المترتب إن كان مسببا عن الشك في بقاء الموضوع بعد العلم به فجريان الأصل في ناحية الموضوع يغني عن جريانه في ناحية المحمول إذا كان الأصل السببي واجدا للشرائط المعتبرة في الشك السببي والمسببي ، على ما تقدمت الإشارة إليه. وإن كان الشك في المحمول المترتب مسببا عن الشك فيما هو الموضوع فالاستصحاب لا يجري ، لا في ناحية الموضوع ولا في ناحية المحمول. هذا كله إذا كان الشك في المحمول مسببا عن الشك في الموضوع. وإن كان كل من الموضوع والمحمول متعلقا للشك في عرض واحد ، فتارة : يكون الموضوع مما يتوقف عليه وجود المحمول عقلا ، كتوقف العدالة على الحياة. وأخرى : مما يتوقف عليه شرعا ، كتوقف الكرية العاصمة على إطلاق الماء ، فان الكرية لا تتوقف على كون الماء مطلقا ، لتحقق الكرية مع إضافة الماء ، إلا أن الشارع اعتبر في الكرية إطلاق الماء ، فيكون دخل الاطلاق في الكرية شرعيا (1) بخلاف دخل الحياة في العدالة فإنه عقلي. فان كان التوقف شرعيا : يجري الاستصحاب في كل من الموقوف والموقوف عليه ، ويثبت بالاستصحابين الأحكام الشرعية المترتبة على وجود المستصحبين ، 1 ـ أقول : في المثال عصمة الماء يتوقف على القيدين شرعا بلا قيام أحد القيدين بالآخر. نعم : في المثال الثاني يكون العدالة متقوما بالحياة وقائما بالوجود ، فمع الشك في الحياة لا مجال لاستصحاب العدالة ، لما تقدم من البرهان ، والعدالة على تقدير الحياة الحقيقي أيضا غير مثمر في ترتيب الأثر ، لعدم ترتب الأثر إلا على العدالة الفعلية ، واستصحاب الحياة أيضا لا يفي لاثبات التقدير كما لا يفي لاثبات اثر العدالة الفعلية ، لكونه مثبتا ، كما لا يخفى ، فتدبر. وحينئذ فما أفيد في مثله : من إحراز القيدين بالاستصحاب غير صحيح ، خصوصا بملاحظة ما أفيد : من أن القيدين عرضان لمحل واحد ، فتدبر. (569)
ففي المثال يجري استصحاب كل من إطلاق الماء وكريته ويثبت به كون الماء عاصما لا يحمل خبثا ، فان استصحاب إطلاق الماء كما يجدي في الآثار المترتبة على إطلاق الماء : من كونه رافعا للحدث والخبث ، كذلك يجدي في دخله في الكرية ، لكونه شرعيا ، وهذا المقدار من الدخل الشرعي يكفي في صحة الاستصحاب. ولا إشكال في بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كل من استصحاب الكرية والاطلاق.
وإن لم يكن التوقف شرعيا : كالحياة والعدالة ، فقد يستشكل في استصحاب الحياة والعدالة. أما في العدالة : فللشك في موضوعها. وأما في الحياة : فلعدم كون دخله في العدالة شرعيا ، فمن حيثية دخله في العدالة لا يجري فيه الاستصحاب وإن كان يجري فيه الاستصحاب من حيث الآثار الشرعية المترتبة على نفس الحياة ، كحرمة تزويج زوجته وعدم تقسيم أمواله ونحو ذلك ، وليس الكلام فيه ، وإنما الكلام في استصحاب الحياة من حيث ترتب العدالة عليه ، مع أن ترتب العدالة على الحياة عقلي. هذا ، ولكن الانصاف : أنه لا وقع لهذا الاشكال ، فان استصحاب الحياة إنما يجري من حيث إن للحياة دخلا في الحكم الشرعي المترتب على الحي العادل ، كجواز تقليده والاقتداء خلفه ونحو ذلك من الأحكام الشرعية المترتبة على حياة الشخص وعدالته ، ولا حاجة إلى استصحاب الحياة من حيث دخله في العدالة حتى يقال : إن دخله في العدالة عقلي ، فإنه لا ملزم إلى استصحاب الحياة من هذه الحيثية. وبالجملة : بعدما كان الموضوع لجواز التقليد مركبا من الحياة والعدالة وهما عرضان لمحل واحد ، فلابد من إحراز كلا جزئي المركب ، إما بالوجدان وإما بالأصل. فإذا كانت الحياة محرزة بالوجدان : فالاستصحاب إنما يجري في العدالة ، (570)
ويلتئم الموضوع المركب من ضم الوجدان بالأصل. وإن كانت الحياة مشكوكة : فالاستصحاب يجري في كل من الحياة والعدالة ، ويلتئم الموضوع المركب من ضم أحد الأصلين بالآخر ، لان كلا منهما جزء الموضوع ، فلكل منهما دخل في الحكم الشرعي.
وإن كان دخل أحدهما في الآخر عقليا : فلا مانع من استصحاب الحياة واستصحاب العدالة. نعم : لا يجري استصحاب عدالة الحي ، لعدم إحراز الحياة ، وإنما يجري استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، وهذا التقدير يحرز باستصحاب الحياة. وليس المقصود إثبات الحياة من استصحاب العدالة على تقدير الحياة ، بل في نفس الحياة أيضا يجري الاستصحاب ، لبقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة في كل من استصحاب الحياة واستصحاب العدالة ، لان الموضوع في كل منهما هو الشخص ، فيثبت كلا جزئي الموضوع لجواز التقليد. وإلى ذلك يرجع ما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ في المقام بقوله : « لكن استصحاب الحكم كالعدالة مثلا لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد ، لان موضوع العدالة زيد على تقدير الحياة الخ ». فتحصل : أن في جميع أقسام الشك في المحمولات الأولية وفي المحمولات المترتبة يجري الاستصحاب بعد بقاء الموضوع واتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة ، فتأمل جيدا. إذا عرفت ذلك فاعلم : أن الشك في المحمول الأولي أو المحمول المترتب لا يحصل غالبا ـ بل دائما ـ مع بقاء القضية المتيقنة على ما كانت عليها من الخصوصيات المحتفة بها ، |
|||
|