|
|||
(736)
وقد استبعد الشيخ ـ قدس سره ـ الاحتمال الثاني ، بل أحاله عادة ، لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائن والمخصصات المتصلة واهتمام الرواة إلى حفظها ونقلها ، فمن المستحيل عادة أن تكون مخصصات متصلة بعدد المخصصات المنفصلة وقد خفيت كلها علينا. فيتعين الاحتمال الثالث ، وهو أن يكون مفاد العمومات حكما ظاهريا والحكم الواقعي هو مفاد المخصصات المنفصلة وقد تأخر بيانها لمصالح أوجبت اختفاء الحكم الواقعي إلى زمان ورود المخصصات ، وقدم العام ليعول عليه ظاهرا ، فيكون التكليف الظاهري في حق من تقدم عن زمان ورود المخصصات هو الاخذ بعموم العام ، نظير الاخذ بالبراءة العقلية قبل ورود البيان من الشارع ، بداهة أن بيان الاحكام إنما كان تدريجيا ، فكما أنه قبل ورود البيان كان الحكم الظاهري هو ما يستقل به العقل : من البراءة والاحتياط ، كذلك كان الحكم الظاهري قبل ورود المخصصات هو ما تضمنته العمومات ، والفرق بينهما : هو أنه في البراءة كان عدم البيان وفي العمومات يكون بيان العدم (1).
هذا حاصل ما أفاده الشيخ ـ قدس سره ـ في تقريب الاحتمال الثالث وتبعيد الاحتمال الثاني. رأسا ، بخلاف الجمع ، وهذا المناط غير جار في المقام ، حيث إنه على النسخ لا يلزم طرح السند رأسا ، وليس في البين أيضا تعبد خاص بتقديم التصرف الدلالي على الجهتي ، كي يتعدى به إلى المورد. وحينئذ فلا محيص في المقام من إعمال المعارضة المزبورة بين الجمع والجهة في الخاص المتقدم ، فيجري عليه حكم التخصيص ، كما أشرنا. واما في الخاص المتأخر فيجري التفصيل الذي قلنا فيه سابقا ، كما لا يخفى ، فتدبر في ما قلت. 1 ـ لم يظهر لي وجه عدول الشيخ ـ قدس سره ـ عن التنظير بالبراءة الشرعية إلى البراءة العقلية ، مع أن التنظير بالبراءة الشرعية كان أولى ، فإنه يمكن ان تكون من بيان العدم لا عدم البيان ، فيتحد مفادها مع مفاد العمومات. والحق انه في العمومات أيضا يكون من عدم البيان لا بيان العدم ، فان العام إنما يكون حجة في المؤدى بواسطة جريان مقدمات الحكمة في مصب العموم ، ومن جملتها عدم بيان المخصص ، كما أوضحناه في محله ، فتأمل جيدا ( منه ). (737)
ولكن الانصاف : أن الاحتمال الثاني لو لم يكن أقرب من الاحتمال الثالث فلا أقل من أن يكون مساويا له ، فانا نرى أن كثيرا من المخصصات المنفصلة المروية من طرقنا من الأئمة ـ عليهم السلام ـ مروية عن العامة بطرقهم عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فيكشف ذلك عن اختفاء المخصصات المتصلة علينا ، فلا وجه لاستحالة الوجه الثاني أو استبعاده ، بل يمكن أن يقال : باستحالة الوجه الثالث ، فإنه إن كانت مصلحة الحكم الواقعي الذي يكون مفاد المخصصات المنفصلة تامة فلابد من إظهاره والتكليف به (1) وإن لم تكن تامة ـ ولو بحسب مقتضيات الزمان حيث يكون للزمان دخل في ملاك الحكم ـ فلا يمكن ثبوت الحكم الواقعي حتى يكون مفاد العام حكما ظاهريا ، بل يكون الحكم الواقعي هو مفاد العام إلى زمان ورود الخاص ، ولا محالة يكون الخاص ناسخا لا مخصصا ، ففي الحقيقة الاحتمال الثالث يرجع إلى الاحتمال الأول وهو النسخ. وقد عرفت : أنه لا يمكن الالتزام به ، فلا أقرب من الاحتمال الثاني ، فتأمل جيدا.
وعلى كل حال : لو تردد الخاص بين أن يكون مخصصا أو ناسخا ، فقيل : بتقديم التخصيص لكثرته وشيوعه ، حتى قيل : « ما من عام إلا وقد خص ». 1 ـ أقول : تمامية مصلحة الحكم الواقعي لا يلازم إبرازه فعلا على المكلف ، بل يكفي فيه إيكال إبرازه إلى أوصيائه ـ عليهم السلام ـ مع إعطائه الحجة على خلاف الواقع ، كما لا يخفى. ثم إن الحكم الظاهري في المقام هو مفاد أصالة العموم لا مفاد العام ، وهذا التعبير في كلماته أيضا مبني على المسامحة أو السهو من القلم. ولئن شئت توضيح ما ذكرنا بأزيد مما أشرت إليه ، فاسمع بان الغرض من تمامية مصلحة الواقع ان كان عدم وجود مزاحم له في تنجزه على المكلف وإيصاله إليه ، فلازمه استحالة جعل الطريق على خلافه ، وإن كان الغرض تمامية المصلحة في عالم جعل الحكم واقعا على وفقه ولو لم يصل إلى المكلف فعلا بل اقتضت المصلحة إيصاله إليه بعد حين ، فذلك لا ينافي مع إبداء العام على المكلف في صورة كون الحكم المجعول واقعا على طبق الخاص الموكول إبرازه على وصيه ، كما لا يخفى. (738)
وقيل : بتقديم النسخ ، فإنه لا يلزم من النسخ إلا تقييد الاطلاق ، وهو أولى من تخصيص العام عند الدوران بينهما ، كما تقدم.
وتوضيح ذلك : هو أنه قد اجتمع في العام ظهوران : ظهور في شموله لجميع الافراد حتى الافراد المندرجة تحت عنوان الخاص ، وظهور في استمرار حكمه ودوامه في جميع الأزمنة ، والظهور الأول يستند إلى الوضع ، لان العام بمدلوله الوضعي يعم جميع الافراد ، والظهور الثاني يستند إلى الاطلاق ومقدمات الحكمة ، فان استمرار الحكم لجميع الأزمنة إنما هو بمعونة الاطلاق ومقدمات الحكمة وليس مدلولا لفظيا للعام ، فإذا دار أمر الخاص بين التخصيص والنسخ يقدم النسخ ، لأنه لا يقتضي أزيد من تقييد الاطلاق ، بخلاف التخصيص ، فإنه يلزم منه مخالفة الظهور الوضعي ، وقد عرفت : أنه لو دار الامر بين التصرف في العام الأصولي وبين التصرف في المطلق الشمولي ، يكون الثاني أولى. ولذلك أورد على الشيخ ـ قدس سره ـ من قوله بتقديم التخصيص على النسخ مع التزامه بتقديم تقييد الاطلاق على تخصيص العام. هذا ، ولكن لا يخفى عليك ما في كلا الوجهين من النظر. أما في الوجه الأول : فلان مجرد كون التخصيص أكثر من النسخ لا يوجب حمل الخاص على التخصيص ، لما عرفت : من أنه لا عبرة بالكثرة ما لم تكن قرينة عرفية بحيث توجب ظهور اللفظ في موردها. وأما الوجه الثاني : فلان النسخ يتوقف على ثبوت حكم العام لما تحت الخاص من الافراد ، ومقتضى ما تقدم : من حكومة أصالة الظهور في طرف الخاص على أصالة الظهور في العام ، هو عدم ثبوت حكم العام لافراد الخاص (1) فيرتفع موضوع النسخ. 1 ـ أقول : كيف يكون أصالة الظهور في الخاص حاكما على أصالة العموم بعدما كان ذلك (739)
ودعوى : أن النسخ يكون من قبيل تقييد الاطلاق فيقدم على تخصيص العام ، لا تخلو عن مغالطة ، فان النسخ عبارة عن رفع الحكم الثابت ، وثبوت أحكام الشريعة في جميع الأزمنة ليس من جهة إطلاق الأدلة ، بل من جهة قوله ـ عليه السلام ـ « حلال محمد ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة » (1) ونحو ذلك من الأدلة الدالة على استمرار أحكام الشريعة وعدم نسخها (2) فلو ثبت نسخ الحكم في مورد فإنما هو تخصيص لهذه الأدلة ، لا تقييد لاطلاق الأدلة الأولية المتكفلة لبيان أصل ثبوت الاحكام في الشريعة.
نعم : قد يستفاد استمرار الحكم من إطلاق الدليل بمعونة مقدمات الحكمة ، كقوله تعالى : « أوفوا بالعقود » حيث إنه يلزم لغوية تشريع وجوب الوفاء بالعقد مع عدم استمراره في الأزمنة ، وقد تقدم ( في تنبيهات الاستصحاب » أن العموم الافرادي في الآية الشريفة يستتبع العموم الزماني ، ولكن الاستمرار الذي يستفاد من مقدمات الحكمة غير الاستمرار المقابل للنسخ ، فان الاستمرار المقابل للنسخ عبارة عن استمرار الحكم ودوامه إلى يوم القيامة ، والاستمرار بهذا بالوضع وذاك بالاطلاق على مختاره ؟. 1 ـ أصول الكافي : كتاب فضل العلم ، باب البدع والرأي والمقائيس ، ح 19 2 ـ أقول : هذا الجواب صحيح لو كان المراد من « الاطلاق » إطلاق العام زمانا إلى يوم القيامة ، وهو حينئذ لا يناسب ما أفاد : من تقديم أصالة الظهور في الخاص على أصالة الظهور في العام ، وإلا فلو كان المراد من « الاطلاق » إطلاق دليل الخاص بالنسبة إلى الزمان السابق عنه ـ كما في الخاص المتأخر عن العام ـ فالتمسك في مثله بعموم الحلال والحرام غير صحيح ، إذ ليس شأنه إلا إدامة ما ثبت إلى يوم القيامة ، لا اثبات ما ثبت من الأول ، إذ لا نظر لهذا العام إلا إلى إدامة ما ثبت وليس متكفلا لوقت ثبوته زمانا من حين العام أم بعده. نعم : ما أفيد إشكالا وجوابا صحيح في الخاص المتقدم لا المتأخر ، وهو خلاف ظاهر صدر كلامه الوارد عليه إشكاله بقوله : « ولا يخفى عليك الخ » ولعمري ! ان كلماته في المقام لا يخلو عن اختلال النظام ، فتدبر. والتحقيق الرجوع إلى ما قلناه. (740)
المعنى لا يقتضيه أدلة الاحكام ، بل يحتاج إلى دليل آخر ، بخلاف الاستمرار في مثل الآية الشريفة ، فإنه عبارة عن عدم تحديد الحكم بزمان دون زمان ، وهذا الاستمرار يمكن أن يتكفله دليل الحكم بمعونة مقدمات الحكمة. وبالجملة : الاستمرار المقابل للنسخ غير الاستمرار المقابل لتقييد الحكم وتحديده بزمان خاص.
فدعوى : أن النسخ يكون من تقييد الاطلاق ، واضحة الفساد ، مع أنه لو سلم كونه من تقييد الاطلاق ، فقد عرفت : أنه لا مجال للنسخ إلا بعد ثبوت الحكم ، وظهور الخاص في التخصيص يمنع عن ثبوت حكم العام في أفراد الخاص (1) فيرتفع به موضوع النسخ. فالأقوى : تقديم التخصيص على النسخ لو دار الامر بينهما ، فتأمل جيدا. هذا تمام الكلام فيما إذا كان لاحد المتعارضين مزية في الدلالة تقتضي التصرف في الآخر بحسب المحاورات العرفية. المبحث السادس
إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين
فصوره وإن كانت كثيرة ، إلا أنه نحن نقتصر على ذكر أصولها ويعرف منها حكم سائر الصور (2). 1 ـ أقول : قد تقدم انه يكفي لاثبات الحكم أصالة العموم في العام المتقدم ، وهو يصلح للمعارضة مع أصالة الظهور في الخاص. 2 ـ أقول : قبل الشروع في الفروض ينبغي تنقيح مناط تعارض الظهورين وترجيحه ، فأقول : بعدما كان موضوع الحجية هو الظهور بمعنى الدلالة التصديقية النوعية الذي مرجعه إلى الكشف النوعي الحاصل من وضع اللفظ أو ما هو بحكمه الصادر في حال الإفادة والاستفادة ، فلا محيص من كون هذا (741)
المعنى من الكشف النوعي مناط الحجية ، ولازمه كون ما هو الأقوى ظهورا هو المقدم في الحجية ، ولذا نقول : بان وجه الترجيح في باب الجمع بين الظهورين المنفصلين هو الأقوائية في الظهور الذي هو مناط الحجية. وحينئذ فلو فرض وجود الأقوى في البين ورجحنا جانب الأقوى لا ينثلم المناط في الآخر مع انفصال الراجح ، وعليه : فلو فرض وجود معارض آخري أقوى ظهورا من هذا الظهور أيضا أو مساويا له لا يصلح لتقديم الأضعف على ما هو الأقوى بمحض انقلاب النسبة وصيرورة مقدار حجيته أخص من هذا الظهور ، إذ تقديم أخص الحجتين ليس تحت تعبد مخصوص كي يقال بصدق هذا المعني بينهما في مقدار الحجية ، بل وجه التقديم حسب اقوائية ظهور الأخص من حيث مناط الحجية ، وهذا المعنى لا يكاد ينثلم بمحض عدم حجية العام إلا فيما هو أخص مضمونا من الآخر مع كونه أضعف ظهورا في أصل ظهوره الذي هو مناط حجيته. وتوهم : لزوم ملاحظة النسبة بين الحجتين لا بين الدليلين وبين ما لايكون حجة جزما ، مدفوع : بان ما أفيد في غاية المتانة ، ولكن عمدة الكلام في أن مجرد عمومية النسبة وخصوصيته لا يكون تعبدا مناط الترجيح ، وإنما المناط فيه اقوائية دلالة الأخص مضمونا على الأعم ، وهذا المعنى في المقام غير موجود ، وذلك : لان نتيجة تقديم أحد المنفصلين على الآخر ليس إلا قصر حجيته ببعض مدلوله ورفع اليد عنها عن البعض الآخر ، ومن البديهي : ان قصر حجيته ببعض المدلول لا يوجب اقوائية دلالة الدليل ، لان ظهوره في مقدار الحجية انما هو بعين ظهوره في التمام ، والمفروض : ان هذا الظهور أضعف من غيره ، فكيف يقدم مقدار الحجية حينئذ على ما هو أقوى منه دلالة بمحض أخصية نسبته ؟ نعم : لو كان ذلك الأخصية حاصلة من قرينة متصلة كان لتقديمه على غيره مجال ، لانقلاب أصل الظهور ، وأين هذا والقرائن المنفصلة الغير الكاسرة لصولة الظهور ! وإنما هي كاسرة لحجيته الغير الموجب لتغيير دلالته ، لبقاء الدلالة فيه على ما كان قوة وضعفا ، كما لا يخفى. وحيث اتضح لك المرام ، فنقول : اما الفرع الأول : فحكمه واضح كما أفيد مع اتمامه بأنه لو رجح الخاصين فيطرح العام ويعمل بالخاصين لو لم يكن بينهما معارضة ذاتا ، كما في المثال. ولو رجح العام سندا تقع معارضة عرضية بين الخاصين ، فيحتاج أيضا إلى ترجيح آخر. وإن كان بين الخاصين أيضا معارضة ذاتية ، فلابد من اعمال الترجيح بينهما أولا ، ثم تخصيص العام بالراجح ، ولا وجه لأعمال الترجيح في العام حينئذ ، لأنه فرع معارضة الخاصين معه ، والمفروض : ان وجود الترجيح بينهما توجب قصر الحجية بأحدهما ، فلا يصلح الآخر للمعارضة مع العام ولو بضمه بغيره ، بل المعارض للعام ليس إلا الراجح ، والمفروض : انه (742)
الصورة الأولى : ما إذا ورد عام وخاصان متباينان ، كما إذا قام دليل على وجوب إكرام النحويين ، ودليل آخر على عدم وجوب إكرام الكوفيين من النحويين ، وقام دليل ثالث على عدم وجوب إكرام البصريين منهم ، فان النسبة بين كل من قوله : « لا تكرم الكوفيين » و « لا تكرم البصريين » وبين قوله : « أكرم النحويين » هي العموم المطلق ، والنسبة بين قوله : « لا تكرم الكوفيين » وبين قوله : « لا تكرم البصريين » هي التباين ، ولا إشكال في تخصيص العام بكل من الخاصين إذا لم يلزم منه التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد ، وإلا فيقع التعارض بين العام ومجموع الخاصين ، كما إذا قام دليل على وجوب إكرام العلماء ، وقام دليل آخر على عدم وجوب إكرام فساق العلماء ، وقام دليل ثالث على كراهة إكرام عدول العلماء ، فإنه لو خصص قوله : « أكرم العلماء » بكل من قوله : « لا تكرم فساق العلماء » وقوله : « يكره إكرام عدول العلماء » يبقى العام بلا مورد ، ففي مثل ذلك لابد من معاملة التعارض بين
أقوى دلالة من العام ، فيقدم عليه جمعا. واما الفرع الثاني : ففي الفرض المذكور لا يتصور عدم صلاحية العام لتخصيصهما ، إلا من جهة عدم صلاحية الأعم من الخاصين لتخصيصه ، وإلا فمع صلاحيته فيلازم ذلك لصلاحية الأخص منه للتخصيص أيضا ، ففي مثل هذا الفرض لا محيص من تخصيص العام بالأخص من الخاصين ويرجع إلى المرجحات السندية بين العام والخاص الأعم ، بل وعلى مختاره من الانقلاب لابد وان يلاحظ النسبة بين العام المخصص والأعم من الخاصين. وليس هنا مجال دعوى : ان نسبة العام لكل واحد من الخاصين على السوية ، إذ المفروض : ان العام بالنسبة إلى مقدار مدلول الأعم نص غير قابل للتخصيص ، فما هو قابل له ليس إلا الأخص من الخاصين ، فكيف يلاحظ العام مع مجموع الخاصين كي ينتهي إلى ما ذكر من النتيجة ؟ فما أفيد في المقام حينئذ لا يخلو عن اغتشاش. ومما ذكرنا في الحاشية السابقة أيضا ظهر بطلان توهم مدارية انقلاب النسبة بعد التخصيص بمنفصل آخر ، كما لا يخفى. وحينئذ فقوله في ذيل هذا الفرع : من مرجعية النسبة الحاصلة بعد التخصيص ، كلام ظاهري كما تقدم وجهه مستوفى ، فتدبر. (743)
العام ومجموع الخاصين ، وذلك واضح.
الصورة الثانية : ما إذا ورد عام وخاصان مع كون النسبة بين الخاصين العموم المطلق ، كقوله : « أكر العلماء » و « لا تكرم النحويين منهم » و « لا تكرم الكوفيين من النحويين ». وحكم هذا القسم حكم القسم السابق : من وجوب تخصيص العام بكل من الخاصين إن لم يلزم التخصيص المستهجن أو بقاء العام بلا مورد ، وإلا فيعامل مع العام ومجموع الخاصين معاملة التعارض. وقد يتوهم في هذا القسم : أن العام يخصص بأخص الخاصين ، وبعد ذلك تلاحظ النسبة بين الباقي تحت العام وبين الخاص الآخر ، فقد تنقلب النسبة إلى العموم من وجه بعدما كانت قبل تخصيص العام بأخص الخاصين العموم المطلق ـ كالمثال ـ فإنه بعد تخصيص قوله : « أكرم العلماء » بما عدا الكوفيين من النحويين ـ الذي هو أخص الخاصين ـ تصير النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه ، لان النحوي يعم الكوفي وغيره ، والعالم الغير الكوفي يعم النحوي وغيره ، فيتعارضان في العالم النحوي غير الكوفي. هذا ، ولكن لا يخفى فساد التوهم ، فإنه لا وجه لتخصيص العام بأخص الخاصين أولا ، ثم تلاحظ النسبة بين الباقي تحت العام وبين الخاص الآخر ، مع أن نسبة العام إلى كل من الخاصين على حد سواء ، فاللازم تخصيص العام بكل منهما دفعة واحدة إن لم يلزم منه المحذور المتقدم ، وإلا فيقع التعارض بينه وبين مجموع الخاصين. نعم : لو كان أخص الخاصين متصلا بالعام كانت النسبة بين العام المتصل به الأخص وبين الخاص الآخر العموم من وجه ، كما ورد في المثال قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين من النحويين » فان النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه ، لان النسبة إنما تلاحظ بين الكلامين بما لهما من الخصوصيات المحتفة بهما ، فان لحاظ النسبة إنما يكون بين الظهورات (744)
الكاشفة عن المرادات ، وللخصوصيات دخل في انعقاد الظهور ، فالفرق بين المخصص المتصل والمنفصل مما لا يكاد يخفى.
وكما أن النسبة بين العام المتصل به الأخص وبين الخاص الآخر تكون العموم من وجه ، كذلك تكون النسبة بين العام الفوق الذي لم يتصل به الخاص لو كان وبين الخاص الآخر العموم من وجه ، كما لو فرض أنه قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « أكرم العلماء الغير الكوفيين » ثم قال : « لا تكرم النحويين » فإنه كما يقع التعارض بين قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين » وبين قوله : « لا تكرم النحويين » لان النسبة بينهما العموم من وجه ، كذلك يقع التعارض بين قوله : « أكرم العلماء » وبين قوله : « لا تكرم النحويين » ، فان النحوي الكوفي كما يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء غير الكوفيين من النحويين » كذلك يكون خارجا عن قوله : « أكرم العلماء » فان العام بعد تخصيصه بالمتصل أو المنفصل يخرج عن كون كبرى كلية ويكون معنونا بما عدا الخاص ، فالكوفي من النحوي يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء » لا محالة ، لاتفاق العام المخصص بالمتصل والخاص الآخر على خروجه وعدم وجوب إكرامه ، فلا يمكن أن يبقى عموم قوله : « أكرم العلماء » على حاله ، بل لابد من أن يكون المراد منه العالم الغير الكوفي من النحويين ، فتكون النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه. وتوهم : أن قوله : « أكرم العلماء » كما يكون معنونا بغير الكوفي من النحويين كذلك يكون معنونا بغير النحوي مطلقا ، فان النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم مطلقا ، وإن كانت النسبة بين العام المتصل به الخاص وبين قوله : « لا تكرم النحويين » العموم من وجه فاسد ، فان قوله : « لا تكرم النحويين » لا يمكن أن يعنون قوله : « أكرم العلماء » ويخصصه بما عدا النحوي ، لكونه معارضا بقوله : « أكرم العلماء غير (745)
الكوفيين من النحويين ) والدليل المبتلى بالمعارض لا يمكن أن يعنون العام ويصير مخصصا له. وأما تخصيص العام بما عدا الكوفي من النحويين : فهو مما لا محيص عنه ، لتوافق الأدلة على عدم وجوب إكرامه ، فلا محالة يكون خارجا عن عموم قوله : « أكرم العلماء » فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم النحويين » إلى العموم من وجه.
الصورة الثالثة : ما إذا ورد عام وخاصان وكانت النسبة بين الخاصين العموم من وجه ، كما إذا قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم النحويين » وقال أيضا : « لا تكرم الصرفيين » ولا إشكال في تخصيص العام بكلا الخاصين ، فيكون مجمع تصادق الخاصين وهو الصرفي النحوي موردا لكلا الخطابين (1). الصورة الرابعة : ما إذا ورد عامان من وجه وخاص ، فان كان مفاد الخاص إخراج مورد افتراق أحد العامين تنقلب النسبة إلى العموم المطلق ، كما إذا ورد بعد قوله : « أكرم النحويين ولا تكرم الصرفيين » قوله : « ويستحب إكرام النحوي غير الصرفي » فإنه حينئذ يختص قوله : « لا تكرم النحويين » بالنحويين من الصرفيين ، فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « لا تكرم الصرفيين » إلى العموم المطلق. وإن كان مفاد الخاص إخراج مورد الاجتماع تنقلب النسبة بين العامين إلى التباين ، كما إذا قال في المثال : « ويستحب إكرام الصرفي من النحويين » فإنه على هذا يختص قوله : « لا تكرم الصرفيين » بما عدا النحويين ، ويختص قوله : « لا تكرم النحويين » بما عدا الصرفيين ، فتكون النسبة بينهما التباين. فظهر : أنه إذا كان بين الدليلين العموم من وجه ، فتارة : تنقلب النسبة إلى 1 ـ أقول : ومع عدم إمكان تخصيصه بهما يرجع إلى التفصيل المزبور الذي أشرنا إليه في الفرع الأول. (746)
العموم المطلق إذا قام دليل ثالث على إخراج مادة افتراق أحدهما عن الآخر وأخرى : تنقلب النسبة إلى التباين إذا كان مفاد الدليل الثالث إخراج مادة الاجتماع (1).
الصورة الخامسة : ما إذا ورد دليلان متعارضان بالتباين ، فقد يرد دليل آخر يوجب انقلاب النسبة من التباين إلى العموم المطلق ، وقد يوجب انقلابها إلى العموم من وجه. فالأول : كقوله : « أكرم العلماء » وقوله : « لا تكرم العلماء » ثم ورد دليل ثالث وأخرج عدول العلماء عن قوله : « لا تكرم العلماء » فتنقلب النسبة بينه وبين قوله : « أكرم العلماء » إلى العموم المطلق. ومن هذا القبيل الأدلة الواردة في إرث الزوجة ، فان منها ما تدل على أنها ترث من العقار مطلقا ، ومنها ما تدل على عدم إرثها مطلقا ، ومنها ما تدل على إرثها إن كانت أم ولد. والثاني : ما إذا ورد دليل رابع في المثال وخص قوله : « أكرم العلماء » بالفقهاء ، فان النسبة بين قوله : « أكرم العلماء » بعد تخصيصه بالفقهاء وبين قوله : « لا تكرم العلماء » بعد تخصيصه بما عدا العدول ، هي العموم من وجه. هذا كله في انقلاب النسبة بين الدليلين. ومنه يظهر : انقلاب النسبة بين أكثر من دليلين ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفساق » و « يستحب إكرام الشعراء » فان النسبة بين الأدلة الثلاثة هي العموم من وجه. فقد تنقلب إلى التباين ، كما إذا ورد دليل وأخرج مورد الاجتماع ـ وهو العالم الفاسق الشاعر ـ عن مفاد الأدلة الثلاثة ، فتنقلب النسبة بين الأدلة إلى التباين بلا معارضة. وقد تنقلب النسبة إلى العموم المطلق ، كما إذا أخرج الدليل الرابع مورد الافتراق عن أحد الأدلة الثلاثة ، فتصير النسبة بينه وبين الآخرين العموم 1 ـ أقول : قد عرفت انقلاب هذه النسبة لا يكون مدارا في العمل أصلا. (747)
المطلق. وقد تنقلب النسبة إلى التباين مع المعارضة بينهما ، كما إذا أخرج الدليل الرابع مورد الافتراق عن جميع الأدلة الثلاثة ، فيقع التعارض بينها ، لان مجمع العناوين يكون مورد النفي والاثبات ، فتأمل فيما تمر عليك من الأمثلة وكيفية انقلاب النسبة بينها.
وقد أشرنا إلى الوجه في انقلاب النسبة في مثل هذه الموارد ، وحاصله : أن ملاحظة النسبة بين الأدلة إنما هي لأجل تشخيص كونها متعارضة أو غير متعارضة ، وقد تقدم : أن تعارض الأدلة إنما هو لأجل حكايتها وكشفها عما لا يمكن جعله وتشريعه لتضاد مؤدياتها ، فالتعارض بين الأدلة إنما يكون بمقدار كشفها وحكايتها عن المراد النفس الأمري. ومن الواضح : أن تخصيص العام يقتضي تضييق دائرة كشفه وحكايته (1) فان التخصيص يكشف لا محالة عن عدم كون عنوان العام تمام المراد ، بل المراد هو ما وراء الخاص ، لان دليل الخاص لو لم يكشف عن ذلك يلزم لغوية التعبد به وسقوطه عن الحجية ، فلازم حجية دليل المخصص هو سقوط دليل العام عن الحجية في تمام المدلول وقصر دائرة حجيته بما عدا المخصص. وحينئذ لا معنى لجعل العام بعمومه طرف النسبة ، لان النسبة إنما يلاحظ بين الحجتين ، فالذي يكون طرف النسبة هو 1 ـ أقول : بعد كون المدار في باب الألفاظ على الكشف النوعي بشهادة حجيتها حتى مع الظن الغير المعتبر على الخلاف ، كيف يقتضي تقديم حجة أخرى منفصلة عنه تضيق دائرة كشفه النوعي ؟ إذ غاية ما يقتضيه الحجة الأخرى عدم مرادية المدلول واقعا ، وهذا المعنى لا ينافي مع بقاء كشفه النوعي الحاصل لولا هذا الدليل ، كما أن كسر صولة حجية العام ببعض مدلوله الذي هو نتيجة تقديم دليل آخر عليه لا يقتضي قوة دلالته وكشفه ، لان الحكم بالحجة لا يغير الدلالة قوة وضعفا ، فالمقدار من دلالة الدليل الذي هو تحت الحجية هو الموجود في ضمن تمام الدلالة ، ومن البديهي : ان هذا الموجود الضمني بحجيته وعدمها لا يستفيد قوة وضعفا ، بل يبقى على ما كان عليه من قوته وضعفه قبل الحجية ولولاها ، ولذا قلنا بأنه لا معنى لمدارية انقلاب النسبة بهذا المعنى ، ولعمري ! لو تأملت فيما ذكرنا ترى منتهى الغرابة في كلامك لا كلام الغير !. (748)
الباقي تحت العام الذي يكون العام حجة فيه ، فلو خصص أحد العامين من وجه بمخصص متصل أو منفصل يسقط عن الحجية في تمام المدلول ويكون حجة فيما عدا عنوان الخاص ، فتلاحظ النسبة بينه بمقدار حجيته وبين العام الآخر ، ولا محالة تنقلب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق.
وبالجملة : انقلاب النسبة بين الأدلة إنما يكون من ثمرات تقديم الخاص على العام وحكومة أصالة الظهور فيه على أصالة الظهور في العام. وبذلك يظهر ضعف ما قيل : من أن النسبة بين الأدلة إنما تكون بما لها من الظهورات والمخصص المنفصل لا يزاحم الظهور وإنما يزاحم الحجية ، فالتخصيص بالمنفصل لا يوجب انقلاب النسبة. هذا ، والانصاف : أن هذا الكلام بمكان من الغرابة ، فإنه لا معنى لملاحظة النسبة بين ظهور كلامين لا يجوز العمل على أحدهما ، فالقول بعدم انقلاب النسبة عند التخصيص بالمنفصل يساوق القول بعدم حجية المخصص المنفصل ، فتأمل جيدا. تكملة : ينبغي تتميم البحث في المقام بالإشارة إلى بيان النسبة بين أدلة ضمان العارية ، وقد كثر الكلام فيها. والأدلة الواردة في باب العارية على طوائف أربع : منها : ما يدل بعمومه أو إطلاقه على عدم ضمان العارية مطلقا ، كرواية مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد ـ عليه السلام ـ قال : سمعته يقول : « لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت أو سرقت أو ضاعت إذا كان المستعير مأمونا » (1). 1 ـ الوسائل : الباب 1 من أبواب أحكام العارية ، الحديث 10. (749)
ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية الدراهم ، كرواية عبد الملك عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال : « ليس على صاحب العارية ضمان إلا أن يشترط صاحبها ، إلا الدراهم ، فإنها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط » (1).
ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية الدنانير ، كرواية عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله ـ عليه السلام ـ « لا تضمن العارية إلا أن يكون قد اشترط فيها الضمان ، إلا الدنانير فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانا » (2). ومنها : ما يدل على عدم الضمان إلا في عارية مطلق الذهب والفضة ، كرواية إسحاق بن عمار عنه ـ عليه السلام ـ قال : « العارية ليس على مستعيرها ضمان ، إلا ما كان ذهب أو فضة فإنهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا » (3). وهذه الأدلة قد توافقت على عدم ضمان العارية إذا لم تكن من جنس الذهب والفضة ، إلا أن يشترط فيها الضمان. وأما ما كان من جنس الذهب والفضة : فقد اختلفت فيها الروايات ، فظاهر إطلاق رواية « مسعدة بن زياد » عدم المضان فيهما أيضا ، ولكن لابد من الخروج عن هذا الاطلاق لتطابق بقية الأدلة على الضمان فيهما في الجملة. والنسبة بينها وبين رواية « مسعدة » العموم المطلق ، فلابد من تقييد إطلاق رواية « مسعدة » بما عدا جنس الذهب والفضة في الجملة. وأما النسبة بين بقية الروايات : فهي قد اشتملت على عقد سلبي وعقد إيجابي ، فرواية « الدراهم » تنفي بعموم عقدها السلبي الضمان عما عدا الدراهم حتى الدنانير ، ورواية « الدنانير » تنفي بعموم عقدها السلبي الضمان عما عدا الدنانير حتى الدراهم ، والنسبة بين العقد الايجابي في كل منهما مع العقد السلبي 1 ـ الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام العارية ، الحديث 3. 2 ـ الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام العارية ، الحديث 1. 3 ـ الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام العارية ، الحديث 4. (750)
في الآخر هي العموم المطلق ، فيجب تخصيص عموم العقد السلبي في كل منهما بما عدا مورد العقد الايجابي في الآخر ، فتصير النتيجة عدم الضمان إلا في عارية الدراهم والدنانير ويرتفع التعارض عنهما ، لان الروايتين تكون بمنزلة رواية واحدة تنفي الضمان عما عدا الدراهم والدنانير.
نعم : يبقى التعارض بينها وبين ما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة وإن لم يكونا مسكوكين ، فان مقتضى العقد السلبي في روايتي الدراهم والدنانير هو عدم الضمان في غير المسكوك من الذهب والفضة ، فيعارض مع ما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة. وقد يقال : إن النسبة بينهما العموم المطلق ، فان ما يدل بعمومه على عدم الضمان أعم مطلقا مما دل على الضمان في الدراهم والدنانير ومما دل على الضمان في مطلق الذهب والفضة ، فيندرج المقام فيما تقدم : من أنه لو ورد عام وخاصان يجب تخصيص العام بكل من الخاصين ولو كانت النسبة بين الخاصين العموم المطلق ، كقوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم النحويين » و « لا تكرم الصرفيين من النحويين ». وروايات الباب تكون كذلك ، فان فيها عاما ينفي الضمان عن عموم العارية ، وفيها خاصين : أحدهما : إثبات الضمان في عارية الدراهم والدنانير. وثانيهما : إثبات الضمان في مطلق الذهب والفضة ، فيكون أحد الخاصين أخص من الآخر. ولازم ذلك تخصيص العام بكل من الخاصين ، فتكون النتيجة ضمان عارية مطلق الذهب والفضة سواء كانا من المسكوكين أو من غير المسكوكين. وإلى ذلك يرجع حاصل كلام الشهيد ـ رحمه الله ـ على طوله. |
|||
|