(16)
يملك المال الكافي للوصول إلى النجف .... فبقي في طهران ..
ولكن الله إذا أراد شيئاً هيأ اسبابه ... فبينما كان الشيخ جالساً في غرفته يفكر بحل يوصله إلى غايته ، وفي يوم من أيام سنة 1278 هـ دخل عليه زميله المولى عبد الرسول واخبره بأن لدى متولي المدرسة ( مدرسة الصدر ) وجوهاً شرعية تتعلق بالصلاة والصوم ويمكن للشيخ أن يستفيد منها لمواصلة سفره بعد تأدية الواجب الشرعي .. وكان المبلغ مائة تومان ، وتعهّد الشيخ أن يصوم ويصلي مقابل هذه المائة تومان عن عشرين عاماً.
وهنا ارتاح بال الشيخ « ومن يخطب الحسناء لم يغله المهر ! ».
النجف الأشرف
مهوى أفئدة المؤمنين ، وغاية آمال المُحصلين .. الحوزة الكبرى للعلوم الشرعية ، مجمع فطاحل العلماء واكابر الزهاد والاتقياء ، الحصن الحافظ لعلوم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ).
كل هذا نابع من مرقد باب علم مدينة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ووصيه وحبيبه وأخيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : هذا النجم المتلألىء الذي تتعشقه العيون وتهفوا إليه القلوب وترتاح إلى تربته الأجساد ..
النجف .. أصبح في متناول يد الشيخ ، ولو استطاع ان يطير إليه بجناح لفعل !
لقد توجه الشيخ إلى النجف وقلبه أمام الركب ، ووصل الشيخ وحطّ رحاله عند عتبة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وذلك في زمان زعامة الشيخ الأعظم الأنصاري قدس سره.
الحوزة ومنهجيتها العلمية :
تمتاز الحوزات العلمية عن الدراسات الحديثة بالمنهجية المنفتحة الحرة ، حيث يُعطى الطالب مُنتهى الحرية في اختيار موضوع الدرس أو الكتاب الدراسي .. وكذلك
(17)
في اختيار الأستاذ واختيار وقت الدرس.
فكل كتاب له أسلوبه وطريقته الخاصة به ، والأساتذة كل له أسلوبه الخاص ونَفَسَه في التدريس ، فللطالب ان يختارالمدرس الذي يرتاح إلى طريقته.
والوقت .. الوقت في الحوزات مطلق لأن العلم لا يحدّ بزمان ولا بمكان فللطالب أن يختار الوقت الذي يكون في أنشط ، وتقبله للدرس أكثر.
فعلاقة الطالب بالعلم في الحوزة علاقة حب وشوق ... علاقة مقدسة ، فهو يدرس ويتعلم لانه يرى ان العلم واجب ديني يخدم أهدافه في طاعة الله وإرشاد عباده ، وليس العلم وسيلة إلى شهادة أو وظيفة للارتزاق.
فالعالم موظف ـ واقعاً ـ ولكن تابع لله ، وللرسول الأعظم ، ولآل بيته عليهم السلام.
وهكذا كان .. فقد بدأ الشيخ رحمه الله دراسته في النجف عند علامة عصره ووحيد دهره الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري ، ولازمه مدة عامين من الزمن حاضراً أبحاثه متأثراً بآرائه وأفكاره حتى وفاته عام 1281 هـ.
وقد كان الشيخ الأعظم يحبه حباً كثيراً ويقر به إليه ويستمع لإشكالاته.
تلقيبه بالآخوند
نقل عن السيد هبة الدين الشهرستاني ، ان الشيخ الآخوند كان يسافر إلى كربلاء لزيارة الإمام الحسين عليه السلام في أيام حياة أستاذه الشيخ الأنصاري وفي أحد الأيام وبعد إتمام الزيارة رأى الآخوند الأردكاني جالساً على منبر التدريس والكل مصغون إليه فجلس الشيخ محمد كاظم الخراساني يستمع ويصغي بما يملي الأردكاني على تلاميذه ومن ثم ذكر مسألة للشيخ الأنصاري وأورد عليه إشكالين ثم أنهى درسه. وقد رأى الشيخ الخراساني بان اشكالات الآخوند الأردكاني صحيحة ومتينة.
وعندما رجع إلى النجف وحضر درس أستاذه الأعظم الأنصاري ذكر له القصة
(18)
كاملة. فقبل الأستاذ الأشكال الأول ورّد الثاني ، ولكن الخراساني أصرّ على صحة الأشكال الثاني وان الحق مع الأردكاني .. واستمرت المناظرة مدة طويلة حتى انتبه أحد الطلاب ليقول إلى صديقه .. أنظر لهذا الآخوند كيف يؤيد أقوال ذلك الأخوند. وقال طالب خر .. قرت عيوننا بهذا الآخوند بعد ذاك الآخوند.
فهكذا صار « الآخوند » لقباً ملازماً للشيخ محمد كاظم الخراساني حتى كاد يطغى على الإسم.
وبعد وفاة الشيخ الأعظم الأنصاري حضر الآخوند مجالس الأمير السيد علي التستري في الفقه وكذلك تتلمذ على يد العلامة الشيخ راضي المتوفى عام 1290 هـ.
وإضافة لهؤلاء لازم مجلس درس الميرزا محمد حسن المجدد الشيرازي الذي انعقدت له زعامة الشيعة بعد وفاة شيخها الأنصاري.
وكان الشيخ الآخوند يقول « إنني اتخذت المحقق الأنصاري أول ما حللت النجف شيخاً لنفسي ، واتخذت سيدنا الميرزا حسن الشيرازي أستاذاً ، فكنت أختلف إلى سيدي الأستاذ وأحضر أبحاثه الخصوصية والعمومية ثم بصحبته نحضر معاً درس شيخنا الأنصاري فنكمل استفادتنا من بياناته .. ».
وقد لازم الآخوند السيد المجدد أكثر من عشر سنوات ملازمة الظل فكان يحضر أبحاثه إلى ان سافر اليسد المجدد إلى كربلاء ومن ثم إلى سامراء ليستقر فيها عام 1292 هـ فسافر معه إلى سامراء للارتشاف من معين علمه الصافي ، ولكنه لم يطل المكث هناك حيث أمره السيد الشيرازي بالرجوع إلى النجف لإدارة الحوزة ورعاية الطلاب وقضاء حوائجهم.
ورجع الآخوند إلى النجف وتصدى للتدريس ولإمتيازه في محاضراته الأصولية ببساطة النظر في الأفكار العالية الفلسفية والإيجاز في البحث باسقاط زوائده وغض النظر عن التفريعات غير المجدية ، وبذلك فقد استطاع الآخوند رحمه الله ان يكون هو المدرس الأول في الحوزة العلمية بالرغم من وجود علمين كبيرين من أعلام
(19)
الطائفة هما الميرزا حبيب الله الرشتي والشيخ هادي الطهراني.
يقول السيد الأمين واصفاً هذه الميزة من ميزات درس المترجم له : « وتميز عن جميع المتأخرين بحب الإيجاز والاختصار وتهذيب الأصول والاقتصار على لباب المسائل وحذف الزوائد مع تجديد في النظر وإمعان في التحقيق » (1).
وقد انتشر صيت الآخوند في إرجاء المعمورة ودوى أسمه في الآفاق ، ونال من المنزلة الرفيعة والمقام الشامخ العلمي مما اضظر للإذعان به أكابر علماء المسلمين حتى « حضر لديه في تلك السنين حاكم النجف الأشرف من آل الآلوسي فعرض لحضرته ان بعض الأفاضل المؤلفين كتب إليه من الأستانه كتاباً يقول فيه : بلغني ان عالماً خراسانياً ظهر في النجف وجدد معالم فن الأصول وأنه في هذا العصر كالعضدي في زمانه فأرسل ترجمته وأحواله بقدر ما تستطيع » (2).
وقد تجاوزت شهرته في العلم وبراعته في التدريس آفاق النجف بل آفاق العراق « حتى وصل خبر ذلك إلى جميع ارجاء الدولة العثمانية ، واشتاق علماء ذلك الديار للحضور في مجلس درس هذا العالم العيلم حتى قام شيخ الإسلام بنفسه لرؤية الشيخ الآخوند والارتشاف من نمير عمليه بحجة انه يروم السفر إلى قبر أبي حنيفة في بغداد.
ومن ثم عرج من بغداد إلى النجف ليشاهد الحوزة التي مضى عليها حوالي الألف عام وكان الشيخ الآخوند يدرس في مسجد الطوسي ، ودخل شيخ الإسلام بدون سابق إنذار ، وبمجرد دخوله حدثت همهمة بين الطلاب وفسحوا له المجال ليجلس في المكان المناسب له بالقرب من المنبر.
وهنا ظهرت براعة الآخوند وفراسته ، فانه بمجرد ان رأى شيخ الإسلام ـ وقد عرفه من ملابسه ومن هيئة المحيطين به ـ فنقل البحث إلى قول أبي حنيقة بأن « النهي
1 ـ أعيان الشيعة 9 : 5 ـ 6 ، والمصلح المجاهد : 32.
2 ـ مجلة العلم : العدد الثامن السنة الثانية أول صفر 1330 هـ ص 341.
(20)
في وجوب والحرمة دليل الصحة لا الفساد » وشرع في بيان هذا الدليل وما يؤيده على أحسن ما يرام وببيان جذاب ، فاندهش شيخ الإسلام من تسلط الآخوند على مباني أبي حنيفة وغيره من أئمة السنة ، وغرق في بحر التأملات ، وكيف ان هذا العلم قد وصل في النجف إلى ما وصل !!.
ثم انبرى الآخوند يذكر الاشكالات الواحد تلو الآخر على قول أبي حنيفة المذكور فما كان من شيخ الإسلام إلا التصديق والإذعان لما يقوله الآخوند.
واستمر الآخوند في ذكر أقوال العلماء حتى وصل إلى الرأي الفصل وهو رأي أستاذه الأكبر الشيخ الأنصاري بأن « النهي في الوجوب والحرمة دليل على فساد ذك الحكم ».
وعندما وصل في بحثه إلى هذا الحد قال : الظاهر ان القادم هو شيخ الإسلام العثماني واحتراماً لمقدمهِ أنزل عن المنبر ليفيض علينا من بعض علومه.
ولكن شيخ الإسلام الذي بهرته معلومات الشيخ الآخوند ، ولكثرة حضار مجلس الدرس الذي تجاوز عددهم الألف أبى ان يصعد المنبر وآثر الجلوس مع الشيخ برهة من الزمان.
ويقال ان جلّ حديثهِ في سفره عند رجوعه إلى بلده كان يدور حول شخصية الآخوند ومكانته العلمية .. (1)
وقد كان الشيخ الآخوند الخراساني ذا صوت جهوري بحيث يستطيع سماعه ـ وهو في أيام الصيف على سطح مسجد الطوسي ـ كل من كان يحيط به بالمسجد من خارجه ، فكان الطلاب يسمعون محاضراته على بعد بكل وضوح ، كل ذلك أدّى إلى إتساع دائرة تلامذته وكثر حضار درسه.
وأما عدد الحاضرين لدروسه فقد تضاربت فيه الأقوال :
يقول الشيخ اغا بزرك الطهراني : « وقد سمعت ممن أحصى تلاميذ الأستاذ
1 ـ تاريخ روابط إيران وعراق : 265.
(21)
الأعظم المولى محمد كاظم الخراساني في الدورة الأخيرة في بعض الليالي بعد الفراغ من الدرس انه زادت عدتهم على الألفين والمائتين ، وكان كثير منهم يكتب تقريراته (1).
ويقول الشيخ اقا ضياء العراقي : ان عددهم تعدى الألف والسبعمائة نفر في اللية.
وأما السيد هبة الدين الشهرستاني فيقول : عددّنا حضار درس الشيخ فكان في احدى الليالي ألف وخمسمائة وأربعون شخصاً.
وأما الشيخ علي الشرقي فقد بالغ في ذلك فقال ان حوالي 3000 شخص كانوا يحضرون درس الشيخ الآخوند.
وعلى كل حال فقد كان الآخوند كما يقول السيد الامين « وعمّر مجلسه بمئات من الأفاضل والمجتهدين ».
آثاره :
أهتم الشيخ الآخوند إلى جانب التدريس الذي برز فيه حتى أصبح المدرس الأول في الحوزوات العلمية ، وإلى جانب المرجعية وما تقتضيه من جهود مضنية .. أهتم إلى جانب هذا كله بالتأليف والتصنيف فخلّف لنا مؤلفات قيمة لاقت الرواج والشيوع لدى الأوساط العلمية لمالها من أصالة وتجديد ، وبما حفلت به من تدقيق وتنقير في علمي الأصول والفقه.
لقد خلّف ( قدس سره ) من رشحات قلمه :
1 ـ الحاشية القديمة على الرسائل تأليف أستاذه العلامة الشيخ الأنصاري وتعد هذه الحاشية من أدق الحواشي المكتوبة هذا الكتاب القيم.
1 ـ الذريعة 4 : 367.
(22)
2 ـ الحاشية الجديدة على الرسائل وهي المسماة ( درر الفوائد ) وقد انتهى من تأليفها عام 1315 هـ.
3 ـ الحاشية على مكاسب أستاذه الأعظم الشيخ الأنصاري.
4 ـ حاشية على أسفار صدر المتالهين الشيرازي.
5 ـ حاشية على منظومة السبزواري.
6 ـ رسالة في المشتق.
7 ـ رسالة في الوقف.
8 ـ رسالة في الرضاع.
9 ـ رسالة في الدماء الثلاثة.
10 ـ رسالة في الإجارة ، غير تامة.
11 ـ رسالة في الطلاق ، غير تامة.
12 ـ رسالة في معنى العدالة.
13 ـ رسالة في الرهن.
وهذه الرسائل الثمانية مطبوعة في جلد واحد.
14 ـ القضاء والشهادات اكمله نجله الآية الميرزا محمد.
15 ـ روح الحياة رسالة عملية طبعت عام 1327 هـ.
16 ـ تكملة التبصرة طبعت عام 1328 هـ وهي تلخيص تبصرة العلامة وإضافة بعض الملاحظات عليها.
17 ـ ذخيرة العباد في يوم المعاد ، رسالة عملية للمقدلين باللغة الفارسية.
18 ـ اللمعات النيرة في شرح تكملة التبصرة.
19 ـ الفوائد وتحتوي على خمسة عشر فائدة.
20 ـ كفاية الاُصول ، وهو الكتاب الماثل بين يديك.
(23)
وفاته :
اخترمت على حين غفلة حياة شيخنا العلامة الرباني آية الله الخراساني يوم الثلاثاء 20 من شهر ذي الحجة 1329 قبل طلوع الشمس بساعة وطوى سجل حياته القدسية بعدما قطع 74 من بيداء العمر عن آثار عظمى ومآثر لا تعد.
حيث كان عازما على الرحيل إلى ايران بعد اتفاقه مع بقية اعلام الدين لحفظ ثغور الإسلام من عساكر الرؤس والانكليز ، وقد صلى المغرب والعشاء على عادته ، ورجع إلى داره لتمشية بعض الأمور والتوكيل في الأمور الأخرى الى من يصلح للتوكيل.
وقد توجه إلى الحاضرين في مجلسه الشريف وقال : اُريد ان اُصلي صلاة الصبح في الحرم المطهر ، ومن ثم أودع الإمام عليه السلام مسافراً إلى إيران ، لأن الوداع عصراً يكون مع ازدحام الزوار ، ولا يطيب لي وداع الأمير ( عليه السلام ) إلا في الصباح.
وانفض المجلس وكان الموعد يوم غد وفي الحرم المطهر وكما بات في غرفة الاستقبال كل من الشيخ علي الشاهرودي والشيخ أحمد الرشتي على أمل القيام في الصباح الباكر والذهاب مع الآخوند إلى الحرم للصلاة والزيارة.
وكان النجف الأشرف يعيش في حالة من الذهول والوجوم والناس في حيرة من أمرهم ولا يشغلهم شاغل إلا البحث عن سفر الآخوند.
وأما كيفية وفاته كما يرويها العلامة الآية السيد هبة الدين الشهرستاني في مجلة العلم بقوله :
وعندما ذهب ربع الليل تفرق الناس عنه إلى دورهم لأن أكثر الناس مثله كانوا متأهبين إلى الرحيل معه لكنه لم يزر عينيه الكرى بعد مفارقة الناس إياه وأخذه شبه الضعف في منتصف الليل فعالجوه حتى خفت الوطأة وعرق عرقاً كثيراً ، فقالوا له : مرنا ان نحل أوزار المسير إلى يوم آخر حتى يستقيم مزاجك وتصفو لك الأمور ، فقال : كلا ، إنني راحل غداً إن شاء الله إلى مسجد السهلة ، فان الاستجارة
(24)
فيها إلى الله تعالى محمودة ليلة الأربعاء ، فسيروا غداً إليها ولو أشرفت على الموت لئلا يستوهن عزم المهاجرين معي ثم أخذ يوصي بما يجب ويرتب صورة مسيره إلى دفع الكفار حتى انفلق عمود الفجر وحيث قد بين في أول الليلة لاصحابه قائلاً : « إنني اشتهي ان أزور حضرة الإمام عليه السلام لأودعه فاني لا أظن بنفسي الرجوع بعد هذا ونصلي صلاة الصبح في حضرته ».
قيل له : إن ضعف مزاجك لا يسوغ لك الآن حركة ، فصل الصبح هاهنا وخذ لنفسك بالمنام راحة إذ لم تنم ليلك ولا نهارك ثم زر الإمام عندما تنوي الخروج من النجف.
فاستحسن هذا القول وصلى الصبح فريضة ونافلة ثم اشتكى من حدوث انقباض في قلبه وأنّ أنّه رقيقة ومدد كالمغمى عليه وتوفى هنيئة كما عاش عيشة شريفة ، فجاءوا بدكتور الحكومة فلما لمسه وامتحنه عزى اهله وصحبه بوفاة والد الاُمة وضج الحاضرون وذاع الخبر فاصبحت النجف ضجة واحدة وخرج الناس حيارى وسكارى لا يصدقون نعيه علماً منهم بكمال صحته واستقامته فتسلمته أيدي المنون على غرة في العالمين وانتشلته من صفوف الأحياء وهم في ذهول عنه وغفلة (1).
وكان يوم وفاته يوماً عظيماً على المسلمين وحدثاً كبيراً في العالم الإسلامي بأسره فترى الناس حيارى من أمرهم لا يملكون حولاً ولا قوة ولا يتمالكون أنفسهم من البكاء والعويل مكفوفة طباعهم عن الأكل والشرب.
وشيع جثمانه الطاهر تشييعاً عظيماً ، واستترت شمس جثته في اُفق اللحد قبل المغرب بثلاث ساعات في مقبرة العلامة الآية حجة الإسلام ميرزا حبيب الله الرشتي الواقعة عن يمين من يخرج من باب ساعة الصحن العلوي على مشرّفه السلام.
وإنما دفن هناك لرغبة كان يظهرها في ذلك أثناء حياته وما دفن هناك وحده بل دفن التقى والعلم والجود والسؤدد والاخلاص معه.
1 ـ مجلة العلم : المجلد الثاني العدد السابع : 290 ـ 297.
(25)
وقد رثاه جمع من الشعراء منهم الشيخ حسن رحيم قال راثياً ومؤرخاً :
وفريد قد حظى الترب به
ايتم العلم بل الدين معاً
ونعى جبريل أرخ « هاتفاً
| |
ليتنا كنا له نمضي فدا
كاظم للغيظ ينعاه الندا
هدمت والله أركان الهدى »
|
1329 هـ.
ورثاه الشاعر الشيخ محمد رضا الشبيبي بقصيدة نونية مطلعها :
الدين فيك المعزى ولو ثوى فينا
بالأمس كنت بعز الدين تضحكنا
كانت عليك أمانينا مرفرفة
| |
لكنهم فقدوا في فقدك الدينا
واليوم صرت بذل الدين تبكينا
حسب المنايا فقد خابت أمانينا
|
نحن والكتاب :
يعد كتاب كفاية الاُصول للمحقق الآخوند الخراساني من أجود وأمتن وأدق المتون الأصولية المدونة خلال القرن الرابع عشر الهجري.
وقد تمكن بفضل جزالة عباراته وعمق مطالبه ان يفرض سيطرته على الحوزة العلمية ويهيمن على الأبحاث العالية ، ولينهي بذلك دور الكتب الاُصولية التي سبقته ـ ما عدا الفرائد ـ كالقوانين والفصول.
وليكون هو المحور الذي تدور عليه رحى أبحاث الخارج ، فقلما تجد مدرساً اُصولياً أو فقيهاً متبحراً لا يكون هذا السفر الجليل مدار بحته ودرسه.
ولذا يقول العلامة الآية الشيخ اغا بزرك الطهراني في ذريعته ما نصه : كفاية الاُصول ، متن جامع في أصول الفقه ليشخنا الآخوند المولى محمد كاظم الهروي الخراساني المتوفى سنة 1329 ، وقد أدخل المسائل الفلسفية في الأصول أكثر ممن قبله من مؤلفي الرسائل والفصول والقوانين ، وهو المتداول تدريسها إلى اليوم في جوامع النجف ، ولهذا فقد كثرت الحواشي عليها من تلاميذ المصنف (1).
1 ـ الذريعة 2 / 118 و 6 / 186.
(26)
وتعد الشروح والحواشي المكتوبة على الكفاية بالعشرات ، وقد أحصى الأستاذ عبد الرحيم محمد علي ستين منها في كتابه المصلح المجاهد ، ومن أهم تلك الشروح والحواشي ما كتبه أصحاب السماحة آية الله الشيخ ميرزا أبو الحسن المشكيني والشيخ علي القوجاني من أجلاء تلاميذ المصنف والمرزا علي الإيرواني والشيخ محمد حسين الاصفهاني والشيخ عبد الحسين الرشتي والشيخ مهدي الخالصي والسيد محسن الحكيم.
وبما ان كتاب كفاية الاُصول كان مدار البحث والتدريس في الحوزة العلمية منذ حياة المؤلف فقد كثرة نسخه المخطوطة قبل الطبع ، وطبع ثلاث مرات في عهد المؤلف على الحجر وبالحروف.
التحقيق ... عمل شاق وجهد مثير ومتواصل دؤوب قلما تجد أحداً ينحو نحوه لما فيه من مصاعب كثيرة.
فمن تقويم للنص يستلزم جهداً كبيراً ومن مقابلة للنسخ الخطية التي تتطلب الدقة والأمعان وكذا استخراج الأقوال المذكورة في المتن التي تستدعي وقتاً طويلاً.
فلقد بذل محققو هذا السفر القيم وهم أصحاب السماحة حجج الإسلام الشيخ جواد الروحاني والشيخ محمد الأِرفي والسيد صالح المدرسي كل ما في وسعهم لإخراج هذا الكتاب إلى حيز الوجود بحلة منقحة مصححة فللّه درهم وعليه أجرهم.
فبالإضافة إلى تقويم النص وتقطيعه الذي يتطلب جهداً لايستهان به اعتمدوا في تحقيقهم للكتاب على نسختين معتبرتين.
1 ـ النسخة الاولى : النسخة المحفوظة في مكتبة مجلس الشورى برقم 14117 وهي بخط المؤلف الآخوند الخراساني وتقع النسخة في 132 ورقة وعليها حواشٍ وتعليقات وبحجم 9 × 16 سم ورمز لها بـ « أ ».
1 ـ مجلة العلم العدد التاسع السنة الثانية : 389.
(27)
ولكنها صعبة القراءة لما فها من الشطوب والتصويبات ، ما لا تخلو منه صفحة واحدة ، بل ربّما نجد في الصفحة حذف عدّة أسطر ، وإضافة غيرها ، ممّا أوجد ارتباكاً في المخطوطة.
2 ـ النسخة الثانية : وهي النسخة التي تفضل بها علينا مشكوراً حفيد المؤلف سماحة حجة الإسلام الشيخ عبد الرضا الكفائي ، وهي نسخة مطبوعة في زمان المؤلف وعليها تصحيحات نجله المرحوم الآية الشيخ محمد اقا زادة على أساس النسخة التي درّسها الآخوند عدة مرات وفيها ملاحظات فيمة وردت في الحواشي ، ومز لها بـ « ب ».
كما استفاد المحققون كثيراً من الكفاية المطبوعة في متن كتابي حقائق الأصول ومنتهى الدراية.
وبذلوا جهداً كبيراً لإستخراج المصادر التي ذكرها الآخوند من مظانها المعتبرة.
كما سعوا لإستخراج الأقوال التي فيها نوع من الإبهام ونسبتها لأصحابها ففي ( قيل ) و ( توهم ) وما شاكلها ، تمكنوا من نسبة ذلك بعد جهد جهيد إلى أصحابه.
وختاماً .. أبتهل إلى العلي القدير أن يوفقنا لطبع المزيد من الكتب التراثية التي تخدم علوم أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام وإخراجها إلى النور بحلّة منقّحة مصحّحة محقّقة.
وما توفيقنا إلا بالله عليه توكّلنا وإليه أنبنا.
جواد الشهرستاني
17 ربيع الأول 1409 هـ. ق
(28)
(29)
(30)
(31)
|