كفاية الاصول ::: 121 ـ 135
(121)
    بقي شيء وهو أن ثمرة القول بالمقدمة الموصلة ، هي تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب ، بناء على كون ترك الضد مما يتوقف عليه فعل ضده ، فإن تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا ، ليكون فعلها محرما ، فتكون فاسدة ، بل فيما يترتب عليه الضد الواجب ، ومع الاتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب ، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا ، فلا يكون فعلها منهيا عنه ، فلا تكون فاسدة.
    وربما أورد (1) على تفريع هذه الثمرة بما حاصله بأن فعل الضد ، وإن لم يكن نقيضا للترك الواجب مقدمة ، بناء على المقدمة الموصلة ، إلا أنه لازم لما هو من أفراد النقيض ، حيث أن نقيض ذاك الترك الخاص رفعه ، وهو أعم من الفعل والترك الآخر المجرد ، وهذا يكفي في إثبات الحرمة ، وإلا لم يكن الفعل المطلق محرما فيما إذا كان الترك المطلق واجبا ، لان الفعل ايضا ليس نقيضا للترك ، لانه أمر وجودي ، ونقيض الترك إنما هو رفعه ، ورفع الترك إنما يلازم الفعل مصداقا ، وليس عينه ، فكما أن هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل ، فكذلك تكفي في المقام ، غاية الامر أن ما هو النقيض في مطلق الترك ، إنما ينحصر مصداقه في الفعل فقط ، وأما النقيض للترك الخاص فله فردان ، وذلك لا يوجب فرقا فيما نحن بصدده ، كما لا يخفى.
    قلت : وأنت خبير بما بينهما من الفرق ، فإن الفعل في الاول لا يكون إلا مقارنا لما هو النقيض ، من رفع الترك المجامع معه تارة ، ومع الترك المجرد أخرى ، ولا تكاد تسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه ، فضلا عما يقارنه أحيانا.
    نعم لابد أن لا يكون الملازم محكوما فعلا بحكم آخر على خلاف حكمه ، لا أن يكون محكوما بحكمه ، وهذا بخلاف الفعل في الثاني ، فإنه
1 ـ مطارح الانظار / 78.

(122)
بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه ، لا ملازم لمعانده ومنافيه ، فلو لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما ، لكنه متحد معه عينا وخارجا ، فإذا كان الترك واجبا ، فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا ، فتدبر جيدا.
    ومنها : تقسيمه إلى الاصلي والتبعي ، والظاهر أن يكون هذا التقسيم بلحاظ الاصالة والتبعية في الواقع ومقام الثبوت ، حيث يكون الشيء تارة متعلقا للارادة والطلب مستقلا ، للالتفات إليه بما هو عليه مما يوجب طلبه فيطلبه ، كان طلبه نفسيا أو غيريا ، وأخرى متعلقا للارادة تبعا لارادة غيره ، لاجل كون إرادته لازمة لارادته ، من دون التفات إليه بما يوجب إرادته ، لا بلحاظ الاصالة والتبعية في مقام الدلالة والاثبات (1) ، فإنه يكون في هذا المقام ، تارة مقصودا بالافادة ، وأخرى غير مقصود بها على حدة ، إلا أنه لازم الخطاب ، كما في دلالة الاشارة ونحوها.
    وعلى ذلك ، فلا شبهة في انقسام الواجب الغيري إليهما ، واتصافه بالاصالة والتبعية كليهما ، حيث يكون متعلقا للارادة على حدة عند الالتفات إليه بما هو مقدمة ، وأخرى لا يكون متعلقا لها كذلك عند عدم الالتفات إليه كذلك ، فإنه يكون لا محالة مرادا تبعا لارادة ذي المقدمة على الملازمة.
    كما لا شبهة في اتصاف النفسي أيضا بالاصالة ، ولكنه لا يتصف بالتبعية ، ضرورة أنه لا يكاد يتعلق به الطلب النفسي ما لم تكن فيه مصلحة نفسية ، ومعها يتعلق الطلب بها مستقلا ، ولو لم يكن هناك شيء آخر مطلوب أصلا ، كما لا يخفى.
    نعم لو كان الاتصاف بهما بلحاظ الدلالة ، اتصف النفسي بهما أيضا ،
1 ـ كما هو مذهب صاحبي القوانين والفصول ( قدس سرهما ). القوانين 1 / 101 ـ 102 ، في مقدمة الواجب ، المقدمة السادسة والسابعة. الفصول / 82.

(123)
ضرورة أنه قد يكون غير مقصودة بالافادة ، بل أفيد بتبع غيره المقصود بها ، لكن الظاهر ـ كما مر ـ أن الاتصاف بهما إنما هو في نفسه لا بلحاظ حال الدلالة عليه ، وإلا لما اتصف بواحد منهما ، إذا لم يكن بعد مفاد دليل ، وهو كما ترى.
    ثم إنه إذا كان الواجب التبعي ما لم يتعلق به إرادة مستقلة ، فإذا شك في واجب أنه أصلي أو تبعي ، فبأصالة عدم تعلق إرادة مستقلة به يثبت أنه تبعي ، ويترتب عليه آثاره إذا فرض له آثار شرعية (1) ، كسائر الموضوعات المتقومة بأمور عدمية.
    نعم لو كان التبعي أمرا وجوديا خاصا غير متقوم بعدمي ، وإن كان يلزمه ، لما كان يثبت بها إلا على القول بالاصل المثبت ، كما هو واضح ، فافهم.
    تذنيب : في بيان الثمرة ، وهي في المسألة الاصولية ـ كما عرفت سابقا ـ ليست إلا أن تكون نتيجتها صالحة للوقوع في طريق الاجتهاد ، واستنباط حكم فرعي ، كما لو قيل بالملازمة في المسألة ، فإنه بضميمة مقدمة كون شيء مقدمة لواجب يستنتج انه واجب.
    ومنه قد انقدح ، أنه ليس منها مثل برء النذر بإتيان مقدمة واجب ، عند نذر الواجب ، وحصول الفسق بترك الواجب بمقدماته إذا كانت له مقدمات كثيرة ، لصدق الاصرار على الحرام بذلك ، وعدم جواز أخذ الاجرة على المقدمة.
    مع أن البرء وعدمه إنما يتبعان قصد الناذر ، فلا برء بإتيان المقدمة لو قصد الوجوب النفسي ، كما هو المنصرف عند إطلاقه ولو قيل بالملازمة ، وربما
1 ـ في نسختي « أ و ب » : آثار شرعي.

(124)
يحصل البرء به لو قصد ما يعم المقدمة ولو قيل بعدمها ، كما لا يخفى.
    ولا يكاد يحصل الاصرار على الحرام بترك واجب ، ولو كانت له مقدمات غير عديدة ، لحصول العصيان بترك أول مقدمة لا يتمكن معه من الواجب ، ولا يكون ترك سائر المقدمات بحرام أصلا ، لسقوط التكليف حينئذ ، كما هو واضح لا يخفى.
    وأخذ الاجرة على الواجب لا بأس به ، إذا لم يكن إيجابه على المكلف مجانا وبلا عوض ، بل كان وجوده المطلق مطلوبا كالصناعات الواجبة كفائية التي لا يكاد ينتظم بدونها البلاد ، ويختل لولاها معاش العباد ، بل ربما يجب أخذ الاجرة عليها لذلك ، أي لزوم الاختلال وعدم الانتظام لولا أخذها ، هذا في الواجبات التوصلية.
    وأما الواجبات التعبدية ، فيمكن أن يقال بجواز أخذ الاجرة على إتيانها بداعي امتثالها ، لا على نفس الاتيان ، كي ينافي عباديتها ، فيكون من قبيل الداعي إلى الداعي ، غاية الامر يعتبر فيها ـ كغيرها ـ أن يكون فيها منفعة عائدة إلى المستاجر ، كي لا تكون المعاملة سفهية ، وأخذ الاجرة عليها أكلا بالباطل.
    وربما يجعل (1) من الثمرة ، اجتماع الوجوب والحرمة ـ إذا قيل بالملازمة ـ فيما كانت المقدمة محرمة ، فيبتني على جواز اجتماع الامر والنهي وعدمه ، بخلاف ما لو قيل بعدمها ، وفيه :
    أولا : إنه لا يكون من باب الاجتماع ، كي تكون مبتنية عليه ، لما أشرنا إليه غير مرة ، إن الواجب ما هو بالحمل الشائع مقدمة ، لا بعنوان المقدمة ، فيكون على الملازمة من باب النهي في العبادة والمعاملة.
1 ـ نسب إلى الوحيد البهبهاني ، مطارح الانظار / 81.

(125)
    وثانيا : (1) إن الاجتماع وعدمه لا دخل له في التوصل (2) بالمقدمة المحرمة وعدمه أصلا ، فإنه يمكن التوصل (3) بها إن كانت توصلية ، ولو لم نقل بجواز الاجتماع ، وعدم جواز التوصل (4) بها إن كانت تعبدية على القول بالامتناع ، قيل بوجوب المقدمة أو بعدمه ، وجواز التوصل (5) بها على القول بالجواز كذلك ، أي قيل بالوجوب أو بعدمه.
    وبالجملة لا يتفاوت الحال في جواز التوصل (6) بها ، وعدم جوازه أصلا ، بين أن يقال بالوجوب ، أو يقال بعدمه ، كما لا يخفى.
في تأسيس الاصل في المسألة
    إعلم أنه لا أصل في محل البحث في المسألة ، فإن الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة وعدمها ليست لها حالة سابقة ، بل تكون الملازمة أو عدمها أزلية ، نعم نفس وجوب المقدمة يكون مسبوقا بالعدم ، حيث يكون حادثا بحدوث وجوب ذي المقدمة ، فالاصل عدم وجوبها.
    وتوهم عدم جريانه ، لكون وجوبها على الملازمة ، من قبيل لوازم الماهية ، غير مجعولة ، ولا أثر آخر مجعول مترتب عليه ، ولو كان لم يكن بمهم ها هنا ، مدفوع بأنه وإن كان غير مجعول بالذات ، لا بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التامة ، ولا بالجعل التأليفي الذي هو مفاد كان الناقصة ، إلا أنه
1 ـ قد حذف المصنف ( قدس سره ) إشكالا آخر من نسختي « أ و ب » ، وجعل الثالث مكانه ، وهذا يشعر بإضرابه عن الايراد الثاني وهو قوله : ( لا يكاد يلزم الاجتماع أصلا ، لاختصاص الوجوب بغير المحرم ، في غير صورة الانحصار به ، وفيها اما لا وجوب للمقدمة ، لعدم وجوب ذي المقدمة لاجل المزاحمة ، واما لاحرمة لها لذلك ، كما لا يخفى ).
2 ـ في « أ » : التوسل.
3 و 4 و 5 و 6 ـ في « أ و ب » : التوسل.


(126)
مجعول بالعرض ، ويتبع جعل وجوب ذي المقدمة ، وهو كاف في جريان الاصل.
    ولزوم التفكيك بين الوجوبين مع الشك لا محالة ، لاصالة عدم وجوب المقدمة مع وجوب ذي المقدمة ، لا ينافي الملازمة بين الواقعيين ، وإنما ينافي الملازمة بين الفعليين ، نعم لو كانت الدعوى هي الملازمة المطلقة حتى في المرتبة الفعلية ، لما صح التمسك بالاصل ، كما لا يخفى.
    إذا عرفت ما ذكرنا ، فقد تصدى غير واحد من الافاضل (1) لاقامة البرهان على الملازمة ، وما أتى منهم بواحد خال عن الخلل ، والاولى إحالة ذلك إلى الوجدان ، حيث أنه أقوى شاهد على أن الانسان إذا أراد شيئا له مقدمات ، أراد تلك المقدمات ، لو التفت إليها بحيث ربما يجعلها في قالب الطلب مثله ، ويقول مولويا ( أدخل السوق واشتر اللحم ) مثلا ، بداهة أن الطلب المنشأ بخطاب ( أدخل ) مثل المنشأ بخطاب ( إشتر ) في كونه بعثا مولويا ، وأنه حيث تعلقت إرادته بإيجاد عبده الاشتراء ، ترشحت منها له إرادة أخرى بدخو السوق ، بعد الالتفات إليه وأنه يكون مقدمة له ، كما لا يخفى.
    ويؤيد الوجدان ، بل يكون من أوضح البرهان ، وجود الاوامر الغيرية في الشرعيات والعرفيات ، لوضوح أنه لا يكاد يتعلق بمقدمة أمر غيري ، إلا إذا كان فيها مناطه ، وإذا كان فيها كان في مثلها ، فيصح تعلقه به أيضا ، لتحقق ملاكه ومناطه ، والتفصيل بين السبب وغيره والشرط الشرعي وغيره سيأتي بطلانه ، وأنه لا تفاوت في باب الملازمة بين مقدمة ومقدمة.
    ولا بأس بذكر الاستدلال الذي هو كالاصل لغيره ـ مما ذكره الافاضل (2)
1 ـ انظر مطارح الانظار / 83 ، في أدلة القائلين بوجوب المقدمة.
2 ـ المصدر السابق / 83 ـ 84 ، الفصول / 84 ، هداية المسترشدين / 205 ، نهاية الاصول / 88 ، في المبحث الاول من الفصل الخامس في أحكام الوجوب.


(127)
من الاستدلالات ـ وهو ما ذكره أبو الحسن [ الحسين ] (1) البصري (2) ، وهو أنه لو لم يجب المقدمة لجاز تركها ، وحينئذ ، فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق ، وإلا خرج الواجب المطلق عن وجوبه.
    وفيه : ـ بعد إصلاحه بإرادة عدم المنع الشرعي من التالي في الشرطية الاولى ، لا الاباحة الشرعية ، وإلا كانت الملازمة واضحة البطلان ، وإرادة الترك عما أضيف إليه الظرف ، لا نفس الجواز ، وإلا فمجرد الجواز بدون الترك ، لا يكاد يتوهم [ معه ] (3) صدق القضية الشرطية الثانية ـ ما لا يخفى ، فان الترك بمجرد عدم المنع شرعا لا يوجب صدق إحدى الشرطيتين ، ولا يلزم أحد المحذورين ، فإنه وإن لم يبق له وجوب معه ، إلا أنه كان ذلك بالعصيان ، لكونه متمكنا من الاطاعة والاتيان ، وقد اختار تركه بترك مقدمته بسوء اختياره ، مع حكم العقل بلزوم إتيانها ، إرشادا إلى ما في تركها من العصيان المستتبع للعقاب.
    نعم لو كان المراد من الجواز الترك شرعا وعقلا ، يلزم أحد المحذورين ، إلا أن الملازمة على هذا في الشرطية الاولى ممنوعة ، بداهة أنه لو لم يجب شرعا لا يلزم أن يكون جائزا شرعا وعقلا ، لامكان أن لا يكون محكوما بحكم شرعا ، وإن كان واجبا عقلا إرشادا ، وهذا واضح.
    وأما التفصيل بين السبب وغيره ، فقد استدل (4) على وجوب السبب ،
1 ـ ما أثبتناه هو الصواب ، راجع المعتمد في أصول الفقه 1 / 94 ، لابي الحسين البصري.
2 ـ هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق الاشعري من نسل أبي موسى الاشعري ولد في البصرة سنة 260 ه‍ ، تلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم ، ثم رجع وجاهر بخلافهم ، وأسس مذهب الاشاعرة ، بلغت مصنفاته ثلاثمأة كتاب ، توفي ببغداد سنة 326 ه‍ ( اعلام الزركلي 4 / 263 ).
3 ـ زيادة تقتضيها العبارة.
4 ـ بدائع الافكار / 353 ، القول الثالث في وجوب المقدمة.


(128)
بأن التكليف لا يكاد يتعلق إلا بالمقدور ، والمقدور لا يكون إلا هو السبب ، وإنما المسبب من آثاره المترتبة عليه قهرا ، ولا يكون من أفعال المكلف وحركاته أو سكناته ، فلابد من صرف الامر المتوجه إليه عنه إلى سببه.
    ولا يخفى ما فيه ، من أنه ليس بدليل على التفصيل ، بل على أن الامر النفسي إنما يكون متعلقا بالسبب دون المسبب ، مع وضوح فساده ، ضرورة أن المسبب مقدور المكلف ، وهو متمكن عنه بواسطة السبب ، ولا يعتبر في التكليف أزيد من القدرة ، كانت بلا واسطة أو معها ، كما لا يخفى.
    وأما التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره ، فقد استدل (1) على الوجوب في الاول بأنه لولا وجوبه شرعا لما كان شرطا ، حيث أنه ليس مما لا بد منه عقلا أو عادة.
    وفيه ـ مضافا إلى ما عرفت من رجوع الشرط الشرعي إلى العقلي ـ أنه لا يكاد يتعلق الامر الغيري إلا بما هو مقدمة الواجب ، فلو كانت مقدميته متوقفة على تعلقه بها لدار ، والشرطية وإن كانت منتزعة عن التكليف ، إلا أنه عن التكليف النفسي المتعلق بما قيد بالشرط ، لا عن الغيري ، فافهم.
    تتمة : لا شبهة في أن مقدمة المستحب كمقدمة الواجب ، فتكون مستحبة ـ لو قيل بالملازمة ـ وأما مقدمة الحرام والمكروه فلا تكاد تتصف بالحرمة أو الكراهة ، إذ منها ما يتمكن معه من ترك الحرام أو المكروه اختيارا ، كما كان متمكنا قبله ، فلا دخل له أصلا في حصول ما هو المطلوب من ترك الحرام أو المكروه ، فلم يترشح من طلبه طلب ترك مقدمتهما ، نعم ما لا يتمكن معه من الترك المطلوب ، لا محالة يكون مطلوب الترك ، ويترشح من طلب تركهما طلب ترك خصوص هذه المقدمة ، فلو لم يكن للحرام مقدمة لا يبقى
1 ـ المصدر المتقدم / 354 ، القول الرابع في وجوب المقدمة.

(129)
معها اختيار تركه لما اتصف بالحرمة مقدمة من مقدماته.
    لا يقال : كيف ؟ ولا يكاد يكون فعل إلا عن مقدمة لا محالة معها يوجد ، ضرورة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد.
    فإنه يقال : نعم لا محالة يكون من جملتها ما يجب معه صدور الحرام ، لكنه لا يلزم أن يكون ذلك من المقدمات الاختيارية ، بل من المقدمات الغير الاختيارية ، كمبادئ الاختيار التي لا تكون بالاختيار ، والا لتسلسل ، فلا تغفل ، وتأمل.
فصل
    الامر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده ، أو لا ؟
    فيه أقوال ، وتحقيق الحال يستدعي رسم أمور :
    الاول : الاقتضاء في العنوان أعم من أن يكون بنحو العينية ، أو الجزئية ، أو اللزوم من جهة التلازم بين طلب أحد الضدين ، وطلب ترك الآخر ، أو المقدمية على ما سيظهر ، كما أن المراد بالضد هاهنا ، هو مطلق المعاند والمنافي وجوديا كان أو عدميا.
    الثاني : إن الجهة المبحوثة عنها في المسألة ، وإن كانت أنه هل يكون للامر اقتضاء بنحو من الانحاء المذكورة ، إلا أنه لما كان عمدة القائلين بالاقتضاء في الضد الخاص ، إنما ذهبوا إليه لاجل توهم مقدمية ترك الضد ، كان المهم صرف عنان الكلام في المقام إلى بيان الحال وتحقيق المقال ، في المقدمية وعدمها ، فنقول وعلى الله الاتكال :
    إن توهم توقف الشيء على ترك ضده ، ليس إلا من جهة المضادة والمعاندة بين الوجودين ، وقضيتها الممانعة بينهما ، ومن الواضحات أن عدم


(130)
المانع من المقدمات.
    وهو توهم فاسد ، وذلك لان المعاندة والمنافرة بين الشيئين ، لا تقتضي إلا عدم اجتماعهما في التحقق ، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله ، بل بينهما كمال الملاءمة ، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدم أحدهما على الآخر ، كما لا يخفى.
    فكما أن قضية المنافاة بين المتناقضين لا تقتضي تقدم ارتفاع أحدهما في ثبوت الآخر ، كذلك في المتضادين ، كيف ؟ ولو اقتضى التضاد توقف وجود الشيء على عدم ضده ، توقف الشيء على عدم مانعه ، لاقتضى توقف عدم الضد على وجود الشيء توقف عدم الشيء على مانعه ، بداهية ثبوت المانعية في الطرفين ، وكون المطاردة من الجانبين ، وهو دور (1) واضح.
    وما قيل (2) في التفصي عن هذا الدور بأن التوقف من طرف الوجود فعلي ، بخلاف التوقف من طرف العدم ، فإنه بتوقف على فرض ثبوت المقتضي له ، مع شراشر شرائطه غير عدم وجود ضده ، ولعله كان محالا ، لاجل انتهاء عدم وجود أحد الضدين مع وجود الآخر إلى عدم تعلق الارادة الازلية به ، وتعلقها بالآخر حسب ما اقتضته الحكمة البالغة ، فيكون العدم دائما مستندا إلى عدم المقتضي ، فلا يكاد يكون مستندا إلى وجود المانع ، كي يلزم الدور.
    إن قلت : هذا إذا لوحظا منتهيين إلى إرادة شخص واحد ، وأما إذا كان كل منهما متعلقا لارادة شخص ، فأراد مثلا أحد الشخصين حركة شيء ، وأراد الآخر سكونه ، فيكون المقتضي لكل منهما حينئذ موجودا ، فالعدم ـ لا محالة ـ يكون فعلا مستندا إلى وجود المانع.
1 ـ راجع هداية المسترشدين / 230 عند قوله : ثانيها.
2 ـ المتفصي هو المحقق الخوانساري ( قدس سره ) على ما في مطارح الانظار / 109.


(131)
    قلت : هاهنا أيضا مستند إلى عدم قدرة المغلوب منهما في إرادته ، وهي مما لابد منه في وجود المراد ، ولا يكاد يكون بمجرد الارادة بدونها لا إلى وجود الضد ، لكونه مسبوقا بعدم قدرته ـ كما لا يخفى ـ غير سديد ، فإنه وإن كان قد ارتفع به الدور ، إلا أنه غائلة لزوم توقف الشيء على ما يصلح أن يتوقف عليه على حالها ، لاستحالة أن يكون الشيء الصالح لان يكون موقوفا عليه [ الشيء ] (1) موقوفا عليه ، ضرورة أنه لو كان في مرتبة يصلح لان يستند إليه ، لما كاد يصح أن يستند فعلا إليه.
    والمنع عن صلوحه لذلك بدعوى : أن قضية كون العدم مستندا إلى وجود الضد ، لو كان مجتمعا مع وجود المقتضي ، وإن كانت صادقة ، إلا أن صدقها لا يقتضي كون الضد صالحا لذلك ، لعدم اقتضاء صدق الشرطية صدق طرفيها ، مساوق (2) لمنع مانعية الضد ، وهو يوجب رفع التوقف رأسا من البين ، ضرورة أنه لا منشأ لتوهم توقف أحد الضدين على عدم الآخر ، إلا توهم مانعية الضد ـ كما أشرنا إليه ـ وصلوحه لها.
    إن قلت : التمانع بين الضدين كالنار على المنار ، بل كالشمس في رابعة النهار ، وكذا كون عدم المانع مما يتوقف عليه ، مما لا يقبل الانكار ، فليس ما ذكر إلا شبهة في مقابل البديهة.
1 ـ أثبتناها من « ب ».
2 ـ مع أن حديث عدم اقتضاء صدق الشرطية لصدق طرفيها ، وإن كان صحيحا ، إلا أن الشرطية ـ هاهنا ـ غير صحيحة ، فإن وجود المقتضي لضد ، لا يستلزم بوجه استناد عدمه إلى ضده ، ولا يكون الاستناد مترتبا على وجوده ، ضرورة أن المقتضي لا يكاد يقتضي وجود ما يمنع عما يقتضيه أصلا كما لا يخفى ، فليكن المقتضي لاستناد عدم الضد إلى وجود ضده فعلا عند ثبوت مقتضي وجوده ، هي الخصوصية التي فيه الموجبة للمنع عن اقتضاء مقتضيه ، كما هو الحال في كل مانع ، وليست في الضد تلك الخصوصية ، كيف ؟ وقد عرفت أنه لا يكاد يكون مانعا إلا على وجه دائر ، نعم إنما المانع عن الضد هو العلة التامة لضده ، لاقتضائها ما يعانده وينافيه ، فيكون عدمه كوجود ضده مستندا إليها ، فافهم ( منه قدس سره ).


(132)
    قلت : التمانع بمعنى التنافي والتعاند الموجب لاستحالة الاجتماع مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه ، إلا أنه لا يقتضي إلا امتناع الاجتماع ، وعدم وجود أحدهما إلا مع عدم الاخر ، الذي هو بديل وجوده المعاند له ، فيكون في مرتبته لا مقدما عليه ولو طبعا ، والمانع الذي يكون موقوفا عليه الوجود هو ماكان ينافي ويزاحم المقتضي في تأثيره ، لا ما يعاند الشيء ويزاحمه في وجوده.
    نعم العلة التامة لاحد الضدين ، ربما تكون مانعا عن الآخر ، ومزاحما لمقتضيه في تأثيره ، مثلا تكون شدة الشفقة على الولد الغريق وكثرة المحبة له ، تمنع عن أن يؤثر ما في الاخ الغريق من المحبة والشفقة ، لارادة إنقاذه مع المزاحمة فينقذ به الولد دونه ، فتأمل جيدا.
    ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين الضد الموجود والمعدوم ، في أن عدمه الملائم للشيء المناقض لوجوده المعاند لذاك ، لابد أن يجامع معه من غير مقتض لسبقه ، بل عرفت ما يقتضي عدم سبقه.
    فانقدح بذلك ما في تفصيل بعض الاعلام (1) ، حيث قال بالتوقف على رفع الضد الموجود ، وعدم التوقف على عدم الضد المعدوم ، فتأمل في أطراف ما ذكرناه ، فإنه دقيق وبذلك حقيق.
    فقد ظهر عدم حرمة الضد من جهة المقدمية.
    وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الوجود ، في الحكم ، فغايته أن لا يكون أحدهما فعلا محكوما بغير ما حكم به الآخر ، لا أن يكون محكوما بحكمه.
    وعدم خلو الواقعة عن الحكم ، فهو إنما يكون بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي ، فلا حرمة للضد من هذه الجهة أيضا ، بل على ما هو عليه ، لولا
1 ـ هو المحقق الخونساري ، راجع مطارح الانظار / 109.

(133)
الابتلاء بالمضادة للواجب الفعلي ، من الحكم الواقعي.
    الامر الثالث : إنه قيل (1) بدلالة الامر بالشيء بالتضمن على النهي عن الضد العام ، بمعنى الترك ، حيث أنه يدل على الوجوب المركب من طلب الفعل والمنع عن الترك. والتحقيق أنه لا يكون الوجوب إلا طلبا بسيطا ، ومرتبة وحيدة أكيدة من الطلب ، لا مركبا من طلبين ، نعم في مقام تحديد تلك المرتبة وتعيينها ، ربما يقال : الوجوب يكون عبارة من طلب الفعل مع المنع عن الترك ، ويتخيل منه أنه يذكر له حدا ، فالمنع عن الترك ليس من أجزاء الوجوب ومقوماته ، بل من خواصه ولوازمه ، بمعنى أنه لو التفت الآمر إلى الترك لما كان راضيا به لا محالة ، وكان يبغضه البتة.
    ومن هنا انقدح أنه لا وجه لدعوى العينية ، ضرورة أن اللزوم يقتضي الاثنينية ، لا الاتحاد والعينية.
    نعم لا بأس بها ، بأن يكون المراد بها أنه يكون هناك طلب واحد ، وهو كما يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا إليه ، كذلك يصح أن ينسب إلى الترك بالعرض والمجاز ويكون زجرا وردعا عنه ، فافهم.
    الامر الرابع : تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة ، وهي النهي عن الضد بناء على الاقتضاء ، بضميمة أن النهي في العبادات يقتضي الفساد ، يتنج فساده إذا كان عبادة.
    وعن البهائي ( رحمه الله ) (2) أنه أنكر الثمرة ، بدعوى أنه لا يحتاج في استنتاج الفساد إلى النهي عن الضد ، بل يكفي عدم الامر به ، لاحتياج العبادة إلى الامر.
1 ـ القائل هو صاحب المعالم ، المعالم / 63.
2 ـ زبدة الاصول / 82 ، مخطوط.


(134)
    وفيه : إنه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى ، كي يصح أن يتقرب به منه ، كما لا يخفى ، والضد بناء على عدم حرمته يكون كذلك ، فإن المزاحمة على هذا لا يوجب إلا ارتفاع الامر المتعلق به فعلا ، مع بقائه على ما هو عليه من ملاكه من المصلحة ، كما هو مذهب العدلية ، أو غيرها أي شيء كان ، كما هو مذهب الاشاعرة ، وعدم حدوث ما يوجب مبغوضيته وخروجه عن قابلية التقرب به كما حدث ، بناء على الاقتضاء.
    ثم إنه تصدى جماعة من الافاضل (1) ، لتصحيح الامر بالضد بنحو الترتب على العصيان ، وعدم إطاعة الامر بالشيء بنحو الشرط المتأخر ، أو البناء على معصيته (2) بنحو الشرط المتقدم ، أو المقارن ، بدعوى أنه لا مانع عقلا عن تعلق الامر بالضدين كذلك ، أي بأن يكون الامر بالاهم مطلقا ، والامر بغيره معلقا على عصيان ذاك الامر ، أو البناء والعزم عليه ، بل هو واقع كثيرا عرفا.
    قلت : ما هو ملاك استحالة طلب الضدين في عرض واحد ، آت في طلبهما كذلك ، فإنه وإن لم يكن في مرتبة طلب الاهم اجتماع طلبهما ، إلا أنه كان في مرتبة الامر بغيره اجتماعهما ، بداهة فعلية الامر بالاهم في هذه المرتبة ، وعدم سقوطه بعد بمجرد المعصية فيما بعد ما لم يعص ، أو العزم عليها مع فعلية الامر بغيره أيضا ، لتحقق ما هو شرط فعليته فرضا.
    لا يقال : نعم لكنه بسوء اختيار المكلف حيق يعصي فيما بعد بالاختيار ، فلولاه لما كان متوجها إليه إلا الطلب بالاهم ، ولا برهان على امتناع الاجتماع ، إذا كان بسوء الاختيار.
    فإنه يقال : استحالة طلب الضدين ، ليس إلا لاجل استحالة طلب المحال ، واستحالة طلبه من الحكيم الملتفت إلى محاليته ، لا تختص بحال دون
1 ـ منهم صاحب كشف الغطاء ، كشف الغطاء / 27 ، البحث الثامن عشر.
2 ـ في « ب » معصية ، وفي بعض النسخ المطبوعة « المعصية ».


(135)
حال ، وإلا لصح فيما علق على أمر اختياري في عرض واحد ، بلا حاجة في تصحيحه إلى الترتب ، مع أنه محال بلا ريب ولا إشكال.
    إن قلت : فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك ، فإن الطلب في كل منهما في الاول يطارد الآخر ، بخلافه في الثاني ، فإن الطلب بغير الاهم لا يطارد طلب الاهم ، فإنه يكون على تقدير عدم الاتيان بالاهم ، فلا يكاد يريد غيره على تقدير إتيانه ، وعدم عصيان أمره.
    قلت : ليت شعري كيف لا يطارده الامر بغير الاهم ؟ وهل يكون طرده له إلا من جهة فعليته ، ومضادة متعلقه للاهم ؟ والمفروض فعليته ، ومضادة متعلقه له. وعدم إرادة غير الاهم على تقدير الاتيان به لا يوجب عدم طرده لطلبه مع تحققه ، على تقدير عدم الاتيان به وعصيان أمره ، فيلزم اجتماعهما على هذا التقدير ، مع ما هما عليه من المطاردة ، من جهة المضادة بين المتعلقين ، مع أنه يكفي الطرد من طرف الامر بالاهم ، فإنه على هذا الحال يكون طاردا لطلب الضد ، كما كان في غير هذا الحال ، فلا يكون له معه أصلا بمجال.
    إن قلت : فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين في العرفيات ؟
    قلت : لا يخلو : إما أن يكون الامر بغير الاهم ، بعد التجاوز عن الامر به وطلبه حقيقة.
    وإما أن يكون الامر به إرشادا إلى محبوبيته وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والغرض لولا المزاحمة ، وأن الاتيان به يوجب استحقاق المثوبة فيذهب بها بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الامر بالاهم ، لا أنه أمر مولوي فعلي كالامر به ، فافهم وتامل جيدا.
    ثم إنه لا أظن أن يلتزم القائل بالترتب ، بما هو لازمه من الاستحقاق في
كفاية الاصول ::: فهرس