|
|||
(391)
ولو مجازا ، بخلاف ما إذا كان هناك ، فإنه وإن لم يكن معه أيضا انتقاض حقيقة إلا أنه صح إسناده إليه مجازا ، فإن اليقين معه كأنه تعلق بأمر مستمر مستحكم قد انحل وانفصم بسبب الشك فيه ، من جهة الشك في رافعه.
قلت : الظاهر أن وجه الاسناد هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك ذاتا ، وعدم ملاحظة تعددهما زمانا ، وهو كاف عرفا في صحة إسناد النقض إليه واستعارته له ، بلا تفاوت في ذلك أصلا في نظر أهل العرف ، بين ما كان هناك اقتضاء البقاء وما لم يكن ، وكونه مع المقتضي أقرب بالانتقاض وأشبه لا يقتضي تعيينه لاجل قاعدة ( إذا تعذرت الحقيقة ) ، فإن الاعتبار في الاقربية إنما هو بنظر العرف لا الاعتبار ، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله ، هذا كله في المادة. وأما الهيئة ، فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض بحسب البناء والعمل لا الحقيقة ، لعدم كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار ، سواء كان متعلقا باليقين ـ كما هو ظاهر القضية ـ أو بالمتيقن ، أو بآثار اليقين بناء على التصرف فيها بالتجوز أو الاضمار ، بداهة أنه كما لا يتعلق النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين ، كذلك لا يتعلق بما كان على يقين منه أو أحكام اليقين ، فلا يكاد (1) يجدي التصرف بذلك في بقاء الصيغة على حقيقتها ، فلا مجوز له فضلا عن الملزم ، كما توهم. لا يقال : لا محيص عنه ، فإن النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره ، لمنافاته مع المورد. فإنه يقال : إنما يلزم لو كان اليقين ملحوظا بنفسه وبالنظر الاستقلالي ، 1 ـ فيه تعريض بالشيخ ( قدس سره ) فرائد الاصول / 336 ، عند قوله : ثم لا يتوهم الاحتياج ... الخ. (392)
لا ما إذا كان ملحوظا بنحو المرآتية بالنظر الآلي ، كما هو الظاهر في مثل قضية ( لا تنقض اليقين ) حيث تكون ظاهرة عرفا في أنها كناية عن لزوم البناء والعمل ، بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما ، ولحكمه إذا كان موضوعا ، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل لحكمه شرعا ، وذلك لسراية الآلية والمرآتية من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلي ، فيؤخذ في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه ، مع عدم دخله فيه أصلا ، كما ربما يؤخذ فيما له دخل فيه ، أو تمام الدخل ، فافهم.
ثم إنه حيث كان كل من الحكم الشرعي وموضوعه مع الشك قابلا للتنزيل بلا تصرف وتأويل ، غاية الامر تنزيل الموضوع بجعل مماثل حكمه ، وتنزيل الحكم بجعل مثله ـ كما أشير إليه آنفا ـ كان قضية ( لا تنقض ) ظاهرة في اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية ، واختصاص المورد بالاخيرة لا يوجب تخصيصها بها ، خصوصا بعد ملاحظة أنها قضية كلية ارتكازية ، قد أتي بها في غير مورد لاجل الاستدلال بها على حكم المورد ، فتأمل. ومنها : صحيحة أخرى لزرارة (1) : ( قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من المني ، فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء ، فحضرت الصلاة ، ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت ، ثم إني ذكرت بعد ذلك ، قال : تعيد الصلاة وتغسله ، قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه ، وعلمت أنه قد أصابه ، فطلبته ولم أقدر عليه ، فلما صليت وجدته ، قال عليه السلام : تغسله وتعيد ، قلت : فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا فصليت ، فرأيت فيه ، قال : تغسله ولا تعيد الصلاة ، قلت : لم ذلك ؟ 1 ـ تهذيب الاحكام 1 : 421 الباب 22 ، الحديث 8. قال : لانك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا ، قلت : فإني قد علمت أنه قد أصابه ، ولم أدر أين هو ، فأغسله ؟ قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها ، حتى تكون على يقين من طهارتك ، قلت : فهل علي إن شككت في أنه أصابه شيء أن أنظر فيه ؟ قال : لا ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك ، قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة ، قال : تنقض الصلاة وتعيد ، إذا شككت في موضع منه ثم رأيته ، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا ، قطعت الصلاة وغسلته ، ثم بنيت على الصلاة ، لانك لا تدري لعله شيء أوقع عليك ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك. وقد ظهر مما ذكرنا في الصحيحة الاولى تقريب الاستدلال بقوله : ( فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشك ) في كلا الموردين ، ولا نعيد. نعم دلالته في المورد الاول على الاستصحاب مبني على أن يكون المراد من اليقين في قوله عليه السلام : ( لانك كنت على يقين من طهارتك ) اليقين بالطهارة قبل ظن الاصابة كما هو الظاهر ، فإنه لو كان المراد منه اليقين الحاصل بالنظر والفحص بعده الزائل بالرؤية بعد الصلاة ، كان مفاد قاعدة اليقين ، كما لا يخفى. ثم إنه أشكل على الرواية ، بأن الاعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة [ في النجاسة ] (1) ليست نقضا لليقين بالطهارة بالشك فيها ، بل باليقين بارتفاعها ، فكيف يصح أن يعلل عدم الاعادة بأنها نقض اليقين بالشك ؟ نعم إنما يصح أن يعلل به جواز الدخول في الصلاة ، كما لا يخفى. ولا يكاد يمكن التفصي عن هذا الاشكال إلا بأن يقال : إن الشرط في الصلاة فعلا 1 ـ اثبتنا الزيادة من « ب ». (394)
حين الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها ، ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها ، فيكون قضية استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انكشف وقوعها في النجاسة بعدها ، كما أن إعادتها بعد الكشف يكشف عن جواز النقض وعدم حجية الاستصحاب حالها ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.
لا يقال : لا مجال حينئذ لاستصحاب الطهارة فإنها إذا لم تكن شرطا لم تكن موضوعة لحكم مع أنها ليست بحكم (1) ، ولا محيص في الاستصحاب عن كون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم. فإنه يقال : إن الطهارة وإن لم تكن شرطا فعلا ، إلا أنه غير منعزلة عن الشرطية رأسا ، بل هي شرط واقعي اقتضائي ، كما هو قضية التوفيق بين بعض الاطلاقات ومثل هذا الخطاب ، هذا مع كفاية كونها من قيود الشرط ، حيث أنه كان إحرازها بخصوصها لا غيرها شرطا. لا يقال : سلمنا ذلك ، لكن قضيته أن يكون علة عدم الاعادة حينئذ ، بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة ، هو إحراز الطهارة حالها باستصحابها ، لا الطهارة المحرزة بالاستصحاب ، مع أن قضية التعليل أن تكون العلة له هي نفسها لا إحرازها ، ضرورة أن نتيجة قوله : ( لانك كنت على يقين ... إلى آخره ) ، أنه على الطهارة لا أنه مستصحبها ، كما لا يخفى. فإنه يقال : نعم ، ولكن التعليل إنما هو بلحاظ حال قبل انكشاف الحال ، لنكتة التنبيه على حجية الاستصحاب ، وأنه كان هناك استصحاب مع وضوح استلزام ذلك لان يكون المجدي بعد الانكشاف ، هو ذاك الاستصحاب لا الطهارة ، وإلا لما كانت الاعادة نقضا ، كما عرفت في الاشكال. 1 ـ هذا ما أثبتاه من « ب » المصححة ، وفي « أ » : الضمائر كلها مذكرة. (395)
ثم إنه لا يكاد يصح التعليل ، لو قيل باقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، كما قيل (1) ، ضرورة أن العلة عليه إنما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال الصلاة للاجزاء وعدم إعادتها ، لا لزوم النقض من الاعادة كما لا يخفى ، اللهم إلا أن يقال : إن التعليل به إنما هو بملاحظة ضميمة اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ، بتقريب أن الاعادة لو قيل بوجوبها كانت موجبة لنقض اليقين بالشك في الطهارة قبل الانكشاف وعدم حرمته شرعا ، وإلا للزم عدم اقتضاء ذاك الامر له ، كما لا يخفى ، مع اقتضائه شرعا أو عقلا ، فتأمل (2).
ولعل ذلك مراد من قال (3) بدلالة الرواية على إجزاء الامر الظاهري. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل ، مع أنه لا يكاد يوجب الاشكال فيه ـ والعجز عن التفصي عنه ـ إشكالا في دلالة الرواية على الاستصحاب ، فإن لازم على كل حال ، كان مفاده قاعدته أو قاعدة اليقين ، مع بداهة عدم خروجه منهما ، فتأمل جيدا. ومنها : صحيحة ثالثة لزرارة (4) : ( وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع ، وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين فيبنى عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات ). والاستدلال بها على الاستصحاب مبني على إرادة اليقين بعدم الاتيان 1 ـ راجع فرائد الاصول / 331. 2 ـ وجه التأمل أن اقتضاء الامر الظاهري للاجزاء ليس بذاك الوضوح ، كي يحسن بملاحظته التعليل بلزوم النقض من الاعادة ، كما لا يخفى ( منه قدس سره ) ، أثبتنا هذه التعليقة من « أ و ب ». 3 ـ كما عن بعض مشايخ الشيخ الانصاري. 4 ـ الكافي : 3 / 352 ، الحديث 3. (396)
بالركعة الرابعة سابقا والشك في إتيانها.
وقد أشكل (1) بعدم إمكان إرادة ذلك على مذهب الخاصة ، ضرورة أن قضيته إضافة ركعة أخرى موصولة ، والمذهب قد استقر على إضافة ركعة بعد التسليم مفصولة ، وعلى هذا يكون المراد باليقين اليقين بالفراغ ، بما علمه الامام عليه السلام من الاحتياط بالبناء على الاكثر ، والاتيان بالمشكوك بعد التسليم مفصولة. ويمكن ذبه (2) بأن الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم الركعة المشكوكة ، بل كان أصل الاتيان بها باقتضائه ، غاية الامر إتيانها مفصولة ينافي إطلاق النقض ، وقد قام الدليل على التقييد في الشك في الرابعة وغيره ، وأن المشكوكة لا بد أن يؤتى بها مفصولة ، فافهم. وربما أشكل أيضا ، بأنه لو سلم دلالتها على الاستصحاب كانت من الاخبار الخاصة الدالة عليه في خصوص المورد ، لا العامة لغير مورد ، ضرورة ظهور الفقرات في كونها مبنية للفاعل ، ومرجع الضمير فيها هو المصلي الشاك. وإلغاء خصوصية المورد ليس بذاك الوضوح ، وإن كان يؤيده تطبيق قضية ( لا تنقض اليقين ) وما يقاربها على غير مورد. بل دعوى أن الظاهر من نفس القضية هو أن مناط حرمة النقض إنما يكون لاجل ما في اليقين والشك ، لا لما في المورد من الخصوصية ، وإن مثل اليقين لا ينقض بمثل الشك ، غير بعيدة. ومنها قوله (3) : ( من كان على يقين فأصابه شك فليمض على 1 ـ المستشكل هو الشيخ الانصاري ( قدس سره ) فرائد الاصول 331. 2 ـ الصحيح ما أثبتناه خلافا لما في النسخ. 3 ـ الخصال ، 619. (397)
يقينه ، فإن الشك لا ينقض اليقين ) أو ( فإن اليقين لا يدفع بالشك ) (1).
وهو وإن كان يحتمل قاعدة اليقين لظهوره في اختلاف زمان الوصفين ، وإنما يكون ذلك في القاعدة دون الاستصحاب ضرورة إمكان اتحاد زمانهما ، إلا أن المتداول في التعبير عن مورده هو مثل هذه العبارة ، ولعله بملاحظة اختلاف زمان الموصوفين وسرايته إلى الوصفين ، لما بين اليقين والمتيقن من نحو من الاتحاد ، فافهم. هذا مع وضوح أن قوله : ( فإن الشك لا ينقض ... إلى آخره ). هي القضية المرتكزة الواردة مورد الاستصحاب في غير واحد من أخبار الباب (2). ومنها : خبر الصفار (3) ، عن علي بن محمد القاساني ، ( قال : كتبت إليه ـ وأنا بالمدينة ـ عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان ، هل يصام أم لا ؟ فكتب : اليقين لا يدخل فيه الشك ، صم للرؤية وافطر للرؤية ) حيث دل على أن اليقين ب ( شعبان ) (4) لا يكون مدخولا بالشك في بقائه وزواله بدخول شهر رمضان ، ويتفرع [ عليه ] (5) عدم وجوب الصوم إلا بدخول شهر رمضان. وربما يقال : إن مراجعة الاخبار الواردة في يوم الشك يشرف القطع بأن المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان ، وأنه لابد في وجوب الصوم ووجوب الافطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، وأين هذا من الاستصحاب ؟ فراجع ما عقد في الوسائل (6) لذلك من الباب تجده شاهدا 1 ـ الارشاد ، 159. 2 ـ جامع أحاديث الشيعة 2 / 384 ، الباب 12 من أبواب ما ينقض الوضوء وما لا ينقض. 3 ـ تهذيب الاحكام 4 / 159 ، الباب 41 علامة اول شهر رمضان وآخره. 4 ـ في نسختي « أ » و « ب » بالشعبان. 5 ـ زيادة تقتضيها العبارة. 6 ـ وسائل الشيعة 7 / 182 الباب 3 من أبواب أحكام شهر رمضان. (398)
عليه.
ومنها : قوله عليه السلام : ( كل شيء طاهر حتى تعلم أنه قذر ) (1) وقوله عليه السلام : ( الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس ) (2) وقوله عليه السلام : ( كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام ) (3). وتقريب دلالة مثل هذه الاخبار على الاستصحاب أن يقال : إن الغاية فيها إنما هو لبيان استمرار ما حكم على الموضوع واقعا من الطهارة والحلية ظاهرا ، ما لم يعلم بطروء ضده أو نقيضه ، لا لتحديد الموضوع ، كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شك في طهارته أو حليته ، وذلك لظهور المغيى فيها في بيان الحكم للاشياء بعناوينها ، لا بما هي مشكوكة الحكم ، كما لا يخفى. فهو وإن لم يكن له بنفسه مساس بذيل القاعدة ولا الاستصحاب إلا أنه بغايته دل على الاستصحاب ، حيث أنها ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي ظاهرا ما لم يعلم (4) بطروء ضده أو نقيضه ، كما أنه لو صار مغيى لغاية ، مثل الملاقاة بالنجاسة أو ما يوجب الحرمة ، لدل على استمرار ذاك الحكم واقعا ، ولم يكن له حينئذ بنفسه ولا بغايته دلالة على الاستصحاب. ولا يخفى أنه لا يلزم على ذلك استعمال اللفظ في معنيين اصلا ، وإنما يلزم لو جعلت الغاية مع كونها من حدود الموضوع وقيوده غاية لاستمرار حكمه ، ليدل على القاعدة والاستصحاب من غير تعرض لبيان الحكم الواقعي للاشياء أصلا ، مع وضوح ظهور مثل ( كل شيء حلال ، أو طاهر ) في أنه لبيان حكم الاشياء بعناوينها الاولية ، وهكذا ( الماء كله طاهر ) ، وظهور الغاية في كونها حدا للحكم لا لموضوعه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا. 1 ـ المقنع / 5 ، الهداية ، 13 ، الباب 11 ، مع اختلاف في الالفاظ. 2 ـ الكافي 3 / ص 1 وفيه الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر. 3 ـ الكافي : 5 / 313 الحديث 40 باب النوادر من كتاب المعيشة مع اختلاف يسير. 4 ـ في « أ » : ما لم يعلم بارتفاعه لطروء ضده. ولا يذهب عليك انه بضميمة عدم القول بالفصل قطعا بين الحلية والطهارة وبين سائر الاحكام ، لعم الدليل وتم. ثم لا يخفى أن ذيل موثقة عمار (1) : ( فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك ) يؤيد ما استظهرنا منها ، من كون الحكم المغيى واقعيا ثابتا للشيء بعنوانه ، لا ظاهريا ثابتا له بما هو مشتبه ، لظهوره في أنه متفرع على الغاية وحدها ، وأنه بيان لها وحدها ، منطوقها ومفهومها ، لا لها مع المغيى ، كما لا يخفى على المتأمل. ثم إنك إذا حققت ما تلونا عليك مما هو مفاد الاخبار ، فلا حاجة في إطالة الكلام في بيان سائر الاقوال ، والنقض والابرام فيما ذكر لها من الاستدلال. ولا بأس بصرفه إلى تحقيق حال الوضع ، وأنه حكم مستقل بالجعل كالتكليف ، أو منتزع عنه وتابع له في الجعل ، أو فيه تفصيل ، حتى يظهر حال ما ذكر ها هنا بين التكليف والوضع من التفصيل. فنقول وبالله الاستعانة : لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف والوضع مفهوما ، واختلافهما في الجملة موردا ، لبداهة ما بين مفهوم السببية أو الشرطية ومفهوم مثل الايجاب أو الاستحباب من المخالفة والمباينة. كما لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم الشرعي إلى التكليفي والوضعي ، بداهة أن الحكم وإن لم يصح تقسيمه إليهما ببعض معانيه ولم يكد يصح إطلاقه على الوضع ، إلا أن صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما وصحة إطلاقه عليه بهذا المعنى ، مما (2) لا يكاد ينكر ، كما لا يخفى ، ويشهد به كثرة 1 ـ التهذيب 1 / 285 : الباب 12 ، الحديث 119. 2 ـ في « أ » : كان مما لا يكاد ينكر. (400)
إطلاق الحكم عليه في كلماتهم ، والالتزام بالتجوز فيه ، كما ترى.
وكذا لا وقع للنزاع في أنه محصور في أمور مخصوصة ، كالشرطية والسببية والمانعية ـ كما هو المحكي عن العلامة ـ أو مع زيادة العلية والعلامية ، أو مع زيادة الصحة والبطلان ، والعزيمة والرخصة ، أو زيادة غير ذلك ـ كما هو المحكي عن غيره (1) ـ أو ليس بمحصور ، بل كلما ليس بتكليف مما له دخل فيه أو في متعلقه وموضوعه ، أو لم يكن له دخل مما أطلق عليه الحكم في كلماتهم ، ضرورة أنه لا وجه للتخصيص بها بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها ، مع أنه لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية أو عملية للنزاع في ذلك ، وإنما المهم في النزاع هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا بحيث يصح انتزاعه بمجرد إنشائه ، أو غير مجعول كذلك ، بل إنما هو منتزع عن التكليف ومجعول بتبعه وبجعله. والتحقيق أن ما عد من الوضع على أنحاء. منها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعا أصلا ، لا استقلالا ولا تبعا ، وإن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك. ومنها : ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلا تبعا للتكليف. ومنها : ما يمكن فيه الجعل استقلالا بإنشائه ، وتبعا للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه ، وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ، وكون التكليف من آثاره وأحكامه ، على ما يأتي الاشارة إليه. أما النحو الاول : فهو كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو 1 ـ الآمدي ، الاحكام في أصول الاحكام / 85 ، في حقيقة الحكم الشرعي وأقسامه. (401)
سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه ، حيث أنه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا ، حدوثا أو ارتفاعا ، كما أن اتصافها بها ليس إلا لاجل ما عليها من الخصوصية المستدعية لذلك تكوينا ، للزوم أن يكون في العلة بأجزائها من ربط خاص ، به كانت مؤثرة (1) في معلولها ، لا في غيره ، ولا غيرها فيه ، وإلا لزم أن يكون كل شيء مؤثرا في كل شيء ، وتلك الخصوصية لا يكاد يوجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين ، ومثل قول : دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاء لا إخبارا ، ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له ، من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها أو فاقدا لها ، وإن الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها ، ومعه تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببية للدلوك أصلا.
ومنه انقدح أيضا ، عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده ، لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة. نعم لا بأس باتصافه بها عناية ، واطلاق السبب عليه مجازا ، كما لا بأس بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك ـ مثلا ـ بأنه سبب لوجوبها فكني به عن الوجوب عنده. فظهر بذلك أنه لا منشأ لانتزاع السببية وسائر ما لاجزاء العلة للتكليف ، إلا ما هي عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كل فيه على نحو غير دخل الآخر ، فتدبر جيدا. وأما النحو الثاني : فهو كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية ، لما هو جزء المكلف به وشرطه ومانعه وقاطعه ، حيث أن اتصاف شيء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلا بالامر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي ، ولا يكاد يتصف شيء بذلك ـ أي كونه جزء أو شرطا 1 ـ في « أ » : كان مؤثرا ، وفي « ب » : كانت مؤثرا. (402)
للمأمور به ـ إلا بتبع ملاحظة الامر بما يشتمل عليه مقيدا بأمر آخر ، وما لم يتعلق بها الامر كذلك لما كاد اتصف بالجزئية أو الشرطية ، وإن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية ، وجعل الماهية واختراعها ليس إلا تصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للامر بها ، فتصورها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شيء منها بجزئية المأمور به أو شرطه قبل الامر بها ، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الامر به ، بلا حاجة إلى جعلها له ، وبدون الامر به لا اتصاف بها أصلا ، وإن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصور أو لذي المصلحة ، كما لا يخفى.
وأما النحو الثالث : فهو كالحجية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية والرقية والزوجية والملكية إلى غير ذلك ، حيث أنها وإن كان من الممكن انتزاعها من الاحكام التكليفية التي تكون في مواردها ـ كما قيل ـ ومن جعلها بإنشاء أنفسها ، إلا أنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى ، أو من بيده الامر من قبله ـ جل وعلا ـ لها بإنشائها ، بحيث يترتب عليها آثارها ، كما يشهد به ضرورة صحة انتزاع الملكية والزوجية والطلاق والعتاق بمجرد العقد أو الايقاع ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة التكاليف والآثار ، ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصح إعتبارها إلا بملاحظتها ، وللزم أن لا يقع ما قصد ، ووقع ما لم يقصد. كما لا ينبغي أن يشك في عدم صحة انتزاعها عن مجرد التكليف في موردها ، فلا ينتزع الملكية عن إباحة التصرفات ، ولا الزوجية من جواز الوطئ ، وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والايقاعات. فانقدح بذلك أن مثل هذه الاعتبارات إنما تكون مجعولة بنفسها ، يصح انتزاعها بمجرد إنشائها كالتكليف ، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه. وهم ودفع : أما الوهم (1) : فهو أن الملكية كيف جعلت من الاعتبارات 1 ـ انظر شرح التجريد 216 ، المسألة الثامنة في الملك. (403)
الحاصلة بمجرد الجعل والانشاء التي تكون من خارج المحمول ، حيث ليس بحذائها في الخارج شيء ، وهي إحدى المقولات المحمولات بالضميمة التي لا تكاد تكون بهذا السبب ، بل بأسباب أخر كالتعمم والتقمص والتنعل ، فالحالة الحاصلة منها للانسان هو الملك ، وأين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرد إنشائه ؟
وأما الدفع : فهو أن الملك يقال بالاشتراك على ذلك ، ويسمى بالجدة أيضا ، واختصاص شيء بشيء خاص ، وهو ناشئ إما من جهة إسناد وجوده إليه ، ككون العالم ملكا للباري جل ذكره ، أو من جهة الاستعمال والتصرف فيه ، ككون الفرس لزيد بركوبه له وسائر تصرفاته فيه ، أو من جهة إنشائه والعقد مع من اختياره بيده ، كملك الاراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرد عقد البيع شرعا وعرفا. فالملك الذي يسمى بالجدة أيضا ، غير الملك الذي هو اختصاص خاص ناشئ من سبب اختياري كالعقد ، أو غير اختياري كالارث ، ونحوهما من الاسباب الاختيارية وغيرها ، فالتوهم إنما نشأ من إطلاق الملك على مقولة الجدة أيضا ، والغفلة عن أنه بالاشتراك بينه وبين الاختصاص الخاص والاضافة الخاصة الاشراقية كملكه تعالى للعالم ، أو المقولية كملك غيره لشيء بسبب من تصرف واستعمال أو إرث أو عقد أو غيرها (1) من الاعمال ، فيكون شيء ملكا لاحد بمعنى ، ولآخر بالمعنى الآخر ، فتدبر. إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل ، فقد عرفت أنه لا مجال لاستصحاب دخل ماله الدخل في التكليف إذا شك في بقائه على ما كان عليه من الدخل ، لعدم كونه حكما شرعيا ، ولا يترتب عليه أثر شرعي ، والتكليف وإن كان مترتبا عليه إلا أنه ليس بترتب شرعي ، فافهم. 1 ـ في « أ » : غيرهما. وإنه لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقل بالجعل ، حيث أنه كالتكليف ، وكذا ما كان مجعولا بالتبع ، فإن أمر وضعه ورفعه بيد الشارع ولو بتبع منشأ انتزاعه ، وعدم تسميته حكما شرعيا لو سلم غير ضائر بعد كونه مما تناله يد التصرف شرعا ، نعم لا مجال لاستصحابه ، لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه ، فافهم. ثم إن هاهنا تنبيهات : الاول : إنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين ، فلا استصحاب مع الغفلة ، لعدم الشك فعلا ولو فرض أنه يشك لو التفت ، ضرورة أن الاستصحاب وظيفة الشاك ، ولا شك مع الغفلة أصلا ، فيحكم بصحة صلاة من أحدث ثم غفل وصلى ثم شك في أنه تطهر قبل الصلاة ، لقاعدة الفراغ ، بخلاف من ألتفت قبلها وشك ثم غفل وصلى ، فيحكم بفساد صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشك ، لكونه محدثا قبلها بحكم الاستصحاب ، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي. لا يقال : نعم ، ولكن استصحاب الحدث في حال الصلاة بعد ما ألتفت بعدها يقتضي أيضا فسادها. فإنه يقال : نعم ، لولا قاعدة الفراغ المقتضية لصحتها المقدمة على أصالة فسادها. الثاني : إنه هل يكفي في صحة الاستصحاب الك في بقاء شيء على تقدير ثبوته ، وإن لم يحرز ثبوته فيما رتب عليه أثر شرعا أو عقلا ؟ إشكال من عدم إحراز الثبوت فلا يقين ، ولابد منه ، بل ولا شك ، فإنه على تقدير لم يثبت ، ومن أن اعتبار اليقين إنما هو لاجل أن التعبد والتنزيل شرعا إنما هو في (405)
البقاء لا في الحدوث ، فيكفي الشك فيه على تقدير الثبوت ، فيتعبد به على هذا التقدير ، فيترتب عليه الاثر فعلا فيما كان هناك أثر ، وهذا هو الاظهر ، وبه يمكن أن يذب عما في استصحاب الاحكام التي قامت الامارات المعتبرة على مجرد ثبوتها ، وقد شك في بقائها على تقدير ثبوتها ، من الاشكال بأنه لا يقين بالحكم الواقعي ، ولا يكون هناك حكم آخر فعلي ، بناء على ما هو التحقيق (1) ، من أن قضية حجية الامارة ليست إلا تنجز التكاليف مع الاصابة والعذر مع المخالفة ، كما هو قضية الحجة المعتبرة عقلا ، كالقطع والظن في حال الانسداد على الحكومة ، لا إنشاء أحكام فعلية شرعية ظاهرية ، كما هو ظاهر الاصحاب.
ووجه الذب بذلك ، إن الحكم الواقعي الذي هو مؤدى الطريق حينئذ محكوم بالبقاء ، فتكون الحجة على ثبوت حجة على بقائه تعبدا ، للملازمة بينه وبين ثبوته واقعا. إن قلت : كيف ؟ وقد أخذ اليقين بالشيء في التعبد ببقائه في الاخبار ، ولا يقين في فرض تقدير الثبوت. قلت : نعم ، ولكن الظاهر أنه أخذ كشفا عنه ومرآة لثبوته ليكون التعبد في بقائه ، والتعبد مع فرض ثبوته إنما يكون في بقائه ، فافهم. الثالث : إنه لا فرق في المتيقن السابق بين أن يكون خصوص أحد 1 ـ وأما بناء على ما هو المشهور من كون مؤديات الامارات أحكاما ظاهرية شرعية ، كما اشتهر أن ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم ، فالاستصحاب جار ، لان الحكم الذي أدت إليه الامارة محتمل البقاء لامكان إصابتها الواقع ، وكان مما يبقى ، والقطع بعدم فعليته ـ حينئذ ـ مع احتمال بقائه لكونها بسبب دلالة الامارة ، والمفروض عدم دلالتها إلا على ثبوته ، لا على بقائه ، غير ضائر بفعليته الناشئة باستصحابه ، فلا تغفل ( منه قدس سره ). |
|||
|