في اللّه عزّوجلّ ، قلنا : صدق اللّه ، وقالوا : كذب
اللّه. فنحن وإيّاهم الخصمان يوم القيامة » . (1) والإمام فسر الآية
بالتنبيه على المصداق الواضح. وعلى هذا جروا في تفسيرهم للآيات القرآنية ، فهم
يفسّرونها بمصاديق واضحة ، وجزئيّات خاصّة ، ولا يريدون انحصار مفهومها فيه.
4. سئل عن معنى قول اللّه
: « وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ » (2) فقال عليه السَّلام : « أمر النبيّ أن
يحدّث بما أنعم اللّه به عليه في دينه » . (3) وقد لفت الإمام في هذا
التفسير نظر السائل إلى أظهر مصاديق النعمة وأكملها ، بما ربما يغفل عنه
الإنسان ، ويتصوّر أنّ النعم التي يجب التحدّث بها هي النعم الدنيويّة ، مع
أنّها ضئيلة في مقابل النعم الأُخرويّة ، فقد قلنا : إنّ هذا النمط من التفسير
في كلامهم كثير ، وهذا التفسير هو ما يسمّيه العلاّمة الطباطبائي بالجري
والتطبيق. ولا يراد انحصار الآية في المصداق الخاصّ ، وربما يتصوّر الجاهل بأنّ
هذا النوع من التفسير تفسير بالرأي أو تفسير بالباطن ، غافلاً عن أنّه تفسير
بالمصداق والتطبيق ، لأنّ إعطاء الضابطة بالمثال أوقع في النفوس ، وأقرب إلى
ترسيخها فيها ، خصوصاً إذا كان المصداق ممّا يغفل عنه المخاطب.
هذه نماذج ما روي عن
الإمام السبط الشهيد ، حسين الإباء والعظمة أبي الشهداء ، سلام اللّه عليه
سلاماً لا نهاية له.
زين العابدين ( عليه السّلام ) والتفسير الإمام زين العابدين ، إمام
العارفين ، وقائد الزاهدين ، وسيّد الساجدين ،
1 ـ بلاغة الحسين : 87.
2 ـ الضحى : 11.
3 ـ تفسير الصافي : 368/3 ؛ و
نور الثقلين : 476/3 ، نقلاً عن الخصال.
رابع أئمّة العصمة والطهارة ، ولد بالمدينة
المنورة سنة ستّ وثلاثين من الهجرة يوم فتح البصرة ونزول النصرة على أبي
الأئمّة ، وتوفّي فيها سنة خمس وتسعين مسموماً ، ودفن بالبقيع ، وعاش مع جدّه
عليّ أربع سنين ، ومع عمّه الحسن عشر سنين ، ومع أبيه كذلك ، إلى أن استلم الوصاية
والولاية من أبيه.
ومن آثاره الباقية أدعيته
المعروفة بالصحيفة السجاديّة ، وقد بلغت في جزالة اللفظ ، وبلاغة التعبير ، وجودة
السبك ، ورقة المعاني ، ولطافة المفاهيم مبلغاً ، لا يدرك شأوه. كما روي عنه ( عليه السّلام ) أحاديث وافرة في مجال
التفسير ، ونأتي بنماذج قليلة منها ليكون مثالاً لما لم ننقله عنه :
1. كان التقشّف سائداً على
زهاد عصره ، فيتخيّلون أنّ الزهد في ترك ملاذّ الحياة وملابسها ، ولبس الثوب
الخشن ، وأكل الطعام الجشب ، مع أنه من مظاهر الزهد لا من مقوماته وحقيقة الزهد
يرجع إلى أن لا يملك الإنسان شيء ، فجاء رجل ، فسأله عن الزهد ، فقال : إنّ الزهد
كلّه في آية من كتاب اللّه : « لِكَيْلا تَأْسوا
عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ
مُخْتالٍ فَخُورٍ » (1)(2) فكان يشتري كساء الخزّ بخمسين ديناراً ، ويقول : « مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللّهِ الّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ » . (3)(4) وعلى هذا مشى الأئمّة فكان
الحسن السبط ـ كما عرفت ـ إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه ، فقتل الحسين
وعليه جبّة خزّ ، وكان للإمام الصادق عليه السَّلام جبّة خزّ وطيلسان خزّ ، فإذا
سئل عن لبسه قرأ قوله سبحانه : « قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زينَةَ1 ـ الحديد : 23.
2 ـ مجمع البيان : 240/5.
3 ـ الأعراف : 32.
4 ـ المصدر نفسه : 413/4 ؛
ورواه الآلوسيّ في روح المعاني : 111/8.
(323)
اللّهِ الّتي
أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ » . (1) فالجاهل ينظر إلى الصور
والظواهر ، ويغترّبها ، ويتخيّل أنّ كلّ متقّشّف خشن الثوب والطعام زاهد ، وإن ملأ
قلبه حبُّ الدنيا والرئاسة. والمؤمن ينظر إلى النيّات والبواطن ، فمن كان قلبه
فارغاً عن كلّ شيء إلا حبّه سبحانه ، فهو زاهد بتمام معنى الكلمة ، ولكن من علّق
قلبه بثوب خلق ، وعصاًبالية ، فهو راغب غير زاهد.
2. سئل علي بن الحسين عن
قوله سبحانه : « وَرَتِّلِ القُرآنَ تَرْتيلاً » فقال : « معناه بيّنه تبياناً ، ولا تنثره نثر البقل ،
ولا تهذّه هذّا الشعر (2) فقفوا عند عجائبه ، لتحرّكوا به القلوب ، ولا
يكون همّ أحدكم آخر السورة » . (3) 3. قال سعيد بن جبير : سألت
عليّبن الحسين عليهما السَّلام عن قول اللّه تعالى : « قُلْ لا أَسْأَلُكمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا المَوَدَّةَ فِي
القُربى » ، قال : « هي قرابتنا أهل
البيت » . (4). إنّ الآيات القرآنيّة تشهد على أنّ شعار الأنبياء في
طريق دعوتهم كان دائماً هو رفض الأجر ، وعدم طلبه من الأُمّة ، وكلّهم يهتفون
بهذا « إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلى رَبِّ
العالَمين » . (5) وعند ذلك كيف يصحّ للنبيّ
أن يبدّل هذا الشعار ، ويجعل مودّة أقربائه أجراً على رسالته ؟! والجواب عن هذا
السؤال واضح. فإنّ المراد هي الأُجور
1 ـ المصدر نفسه : 412/4.
2 ـ الهذّ : القطع بسرعة.
3 ـ نوادر الراوندي : ص 30 ،
طبع مع غيبة الشيخ المفيد.
4 ـ أحكام
القرآن : 475/3.
5 ـ الشعراء : 109 ، 127 ، 145 ،
164 ، 180.
(324)
الدنيوية التي كان بإمكان البشر تقديمها إلى
الرسل. وأمّا مودّة أهل بيتهم وولائهم فليس أجراً دنيويّاً ، بل الاتّصال بهم من
خلال هذه المودّة ذريعة لتكامل الأُمّة في المراحل الفكريّة والعمليّة ،
فعندئذٍ تنتفع بها الأُمّة الإسلاميّة قبل أن تنتفع بها العترة ، وفي هذه
الصورة لا تكون المودّة في القربى أجراً ، وإن أُخرجت في الآية بصورة الأجر.
ومن المعلوم أنّ الأُمّة الإسلاميّة إنّما تنتفع ببعض أقرباء النبيّ لا كلّهم ،
وهم أهل بيته الذين طهّرهم اللّه عن الرجس.
4. روى ابن كثير في تفسيره
ذكر ما جرى بين الإمام والرجل الشاميّ ، يوم جيء به أسيراً إلى الشام ، وقال له
عن جهل بالإمام : الحمد للّه الذي قتلكم ، فقرأ عليّ بن الحسين عليه آيات من
القرآن ومنها هذه الآية ، وقال : « نحن قرابته » . (1)
الإمام محمّد الباقر ( عليه السّلام ) والتفسير الإمام محمّد الباقر ( عليه السّلام ) من أعلام أئمّة أهل البيت
( عليهم السّلام ) ، وأفذاذ العترة
الطاهرة ، قام بالإمامة والقيادة الروحيّة بعد أبيه زين العابدين ، ولد عام
( 57 هـ ) ولبّى دعوة ربّه عام ( 114 هـ ) ، وقد وقف حياته كلّها لنشر العلم والحديث
بين الناس ، ولم يعرف التاريخ له مثيلاً إلا ولده البارّ جعفر الصادق ، وقد غذّى
رجال الفكر ، وروّاد العلم بعلمه ، وأرسى مدرسة كبيرة علميّة ، زخرت بكبار الفقهاء
والمحدّثين والمفسّرين ، يقف عليها من درس رجال الحديث في الشيعة ، كما صرف قسماً
كبيراً من عمره في تفسير القرآن ، وقد تخرّج عليه لفيف من المفسّرين.
فهذا أبو الجارود زياد بن
المنذر فسّر القرآن من أوّله إلى آخره.
1 ـ تفسير ابن
كثير : 112/4.
(325)
يقول النجاشي : له كتاب
تفسير القرآن ، رواه عن أبي جعفر ( عليه السّلام ). (1) وقال ابن النديم في
« الفهرست » ، عند عرضه للكتب المؤلّفة في تفسير القرآن : « كتاب الباقر محمد بن
علي بن الحسين رواه عنه أبوالجارود ، زياد بن المنذر » (2) قد روي قسم
منه في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي ، وسنوافيك بأسماء لفيف من تلامذته ،
وخرّيجي مدرسته ، ممّن ألّفوا في مجال التفسير كتاباً ، فانتظر.
نماذج من تفسير الإمام الباقر ( عليه السّلام ) 1. سئل الإمام عن معنى
قوله سبحانه : « وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبي
فَقَد ْهَوى » (3) وما هو المراد من غضب
اللّه ؟ فأجاب الإمام : « طرده وعقابه » . (4) وبذلك أعرب الإمام عن أنّ
الصفات الخبريّة ، كالغضب والرضا ، واليد والعين ، وغير ذلك إنّما تجري على اللّه
سبحانه ، مجرّدة عن لوازم المادّة والجسمانيّات ، فلا مناصَ من تفسيره بمظاهر
الغضب ، وهو الطرد والعقاب.
2. سأل بريد العجليّ
الإمام الباقر ( عليه السّلام ) عن
الملك العظيم في قوله تعالى : « فَقَدْ آتَيْنا آلَ
إِبْراهيمَ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » (5) فقال : « الملك العظيم أن جعل فيهم أئمّة
من أطاعهم أطاع اللّه ، ومن عصاهم فقد عصى اللّه ، فهو الملك
العظيم » . (6) فقد نوّه الإمام بتفسيره هذا أنّ الملك العظيم في لسان
الشرع ليس هو السلطة الجبّارة التي تركب رقاب الناس ، من دون أن تكون لها أيّة
مشروعيّة ، وإنّما الملك العظيم من استند في سلطته إلى اللّه سبحانه تكون طاعته
1 ـ رجال النجاشي : 388/1
برقم 446.
2 ـ فهرست ابن النديم : 56.
3 ـ طه : 82.
4 ـ الفصول المهمّة : 227.
5 ـ النساء : 54.
6 ـ البحار : 287/23 ح
10.
(326)
طاعته ، وعصيانه عصيانه.
3. روى جابر الجعفي أنّه
سأل الإمام ( عليه السّلام ) عن
قوله سبحانه : « لَوْلا أَنْ رَأى بُرهانَ
رَبِّهِ » . (1) فقال الإمام : « ما يقول
فقهاء العراق في هذه الآية ؟ » قال جابر : رأى يعقوب عاضاً على إبهامه ، فقال ( عليه السّلام ) : « حدّثني أبي عن جدّي
علي بن أبي طالب ( عليه السّلام ) :
أنّ البرهان الذي رآه أنّها حين همّت به وهم ّبها ، فقامت إلى صنم ، فسترته بثوب
أبيض خشية أن يراها ، أو استحياءً منه. فقال لها يوسف : تستحين من صنم لا ينفع
ولا يضر ولا يبصر ؟ أفلا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كلّ نفس بما كسبت ؟
ثمّ قال : واللّه لا تنالين منّي أبداً ! فهو البرهان » . (2) 4. جلس قتادة المفسّر
المعروف بين يدي الإمام الباقر ( عليه السّلام ) وقال له : لقد جلست بين يدي الفقهاء ، وقدّام ابن عبّاس فما اضطرب
قلبي قدّام واحد منهم ما اضطرب قدّامك. قال له أبو جعفر الباقر ( عليه السّلام ) : « ويحك أتدري أين أنت ؟
أنت بين يدي « بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَنْ تُرْفَعَ
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوِّ وَالآصال * رِجالٌ
لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ
وَإيتاءِ الزَّكاة » (3) فأنت ثمّ ونحن
أُولئك » ، فقال له قتادة : صدقت واللّه ـ جعلني اللّه فداك ـ ما هي بيوت حجارة
ولا طين. (4) 5. روى جابر بن يزيد
الجعفيّ عن الإمام الباقر ( عليه السّلام ) أنّه سئل عن قوله سبحانه : « وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الأَنْعامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ
اللّه » (5) فقال : « المقصود دين
اللّه » . (6) إنّ تفسير « خلق اللّه » بـ « دين اللّه » ليس
1 ـ يوسف : 24.
2 ـ البداية والنهاية :
310/9.
3 ـ النور : 36 ـ 37.
4 ـ الكافي : 256/6.
5 ـ النساء : 119.
6 ـ تفسير العياشي :
276/1.
(327)
بأمر غريب ، كيف لا ؟ وقد أسمى سبحانه دين اللّه
فطرة اللّه ، وقال : « فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ
حَنيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ
اللّهِ ذلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ » . (1) 6. إنّ مذهب الإمام في
صلاة المسافر هو لزوم التقصير ، لا التخيير بينه وبين الإتمام ، كما عليه أئمّة
المذاهب الأُخرى. فسأله بطلان من تلامذته ـ زرارة ومحمد بن مسلم ـ عن معنى
قوله سبحانه : « وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْتَقْصروا مِنَ الصَّلاةِ » (2) وقالا : كيف صار التقصير في السفر
واجباً واللّه سبحانه يقول : « فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ » . ولم يقل : افعَلُوا ؟ ( فالإمام فسر الآية
بأُختها ) ، فقال : أو ليس قال اللّه : « إِنَّ
الصَّفا وَالمَروة من شعائِر اللّه فَمَنْ حَجَّ البَيتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا
جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَوَّفَ بِهِما » (3) ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض ،
وأنّ اللّه عزّ وجلّ ذكره في كتابه ، وصنعه نبيّه ، وكذلك التقصير في السفر شيء
صنعه النبيّ وذكره اللّه تعالى في كتابه. (4) 7. اختلفت كلمة الفقهاء في
وجوب استيعاب الرأس عند المسح أو كفاية البعض ، فقد سأل زرارة الإمام الباقر
( عليه السّلام ) عن ذلك ، قال : قلت
لأبي جعفر ( عليه السّلام ) : ألا
تخبرني من أين علمت ، وقلت ، إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك ، فقال : يا
زرارة قاله رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) ، ونزل به الكتاب من اللّه عزّوجلّ ، لأنّ اللّه عزّوجلّ
قال : « فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ » فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن
1 ـ الروم : 30.
2 ـ النساء : 101.
3 ـ البقرة : 158.
4 ـ تفسير البرهان :
410/1.
(328)
يُغسل ، ثمّ قال : « وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرافِق »
فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ، فعرفنا أنّه ينبغي لهما ، أن يُغسلا إلى
المرفقين ، ثمّ فصل بين الكلام فقال : « وَامْسَحُوا
بِرءُوسِكُمْ » فعرفنا حين قال : « برءُوسكم » أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء ،
ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه ، فقال : « وَأَرجُلَكُمْ إلى الكَعبين »
فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ، ثمّ فسّر ذلك رسول اللّه ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) للناس
فضيّعوه .... (1)
الإمام جعفر الصادق ( عليه السّلام ) و التفسير الإمام أبو عبد اللّه جعفر
الصادق ( عليه السّلام ) من أبرز
أئمّة المسلمين ، ولد في حجر الرسالة ، ونشأ في بيت النبوّة ، وترعرع في ربوع
الوحي ، وتربّى بين جدّه زين العابدين ، وأبيه الإمام الباقر ( عليه السّلام ) ولد عام ( 83 هـ ) ، واستشهد
في خلافة المنصور عام ( 148 ). نشأ في عصر تنازعت فيه الأهواء ، واضطربت فيه
الأفكار ، وتلاطمت أمواج الظلم والإرهاب. فبينما كان القوم يتنازعون في
الرئاسة ، والتسنّم على عرش الخلافة ، واشتعلت نيران الحرب بين الأمويّين
والعباسيّين ، اغتنم ( عليه السّلام ) الفرصة وأعطى للأُمّة دروساً خالدة ، وغذّى تلاميذه بروح العلم
والتفكير ، وغرس في قلوبهم بذور المعارف الإلهية ، وشحذ أذهانهم ، وأرهف طباعهم ،
فتخرّج من مدرسته أعلام يستضاء بأنوارهم.
وقد نقل المؤرّخون أنّه
« نقل الناس عن الصادق ( عليه السّلام ) من العلوم ما سارت به الركبان ، و انتشر ذكره في البلدان ، ولم
ينقل عن أحد من أهل بيته ( صلَّى اللّه عليه وآله وسلَّم ) العلماء ما نقل عنه ، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار
ونقلة الأخبار ، ولا نقلوا عنهم مثلما
1 ـ وسائل الشيعة : 290/1 ـ 291 ،
الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث 1.
نقلوا عن أبي عبد اللّه ، فإنّ أصحاب الحديث قد
جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات ، على اختلافهم في الآراء والمقالات ، فكانوا
أربعة آلاف رجل » (1) وهم بين فقيه بارع ، يفتي الناس في مسجد المدينة ،
كأبان بن تغلب (2) و مفسّر متضلّع ، ومحدّث واعٍ ، إلى غير ذلك ، حفظ
التاريخ والرجال أسماءهم وللإمام خطوات واسعة في التفسير ، وآثار خالدة جمعها
بعده تلامذته ، وسنشير إليها عند البحث عن مفسري الشيعة في القرون الإسلامية.
وإليك نزراً يسيراً من تفسيره ، حتى يكون نموذجاً من الينبوع المتفجّر ، ونمير
علمه الصافي :
1. لقد كانت الزنادقة في
عصر الصادق ( عليه السّلام ) بصدد
التشكيك في العقائد ، وبذر الشُّبه في الأوساط. وممّا كان تلوكه أشداقهم هو ما
سأله ابن أبي العوجاء ، هشام بن الحكم فقال له : فأخبرني عن قول اللّه عزّوجلّ :
« فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فَواحِدَة » (3) أليس هذا فرض ؟ قال هشام : بلى. وقال :
فأخبرني عن قوله عزّ وجلّ : « وَلَنْ تَسْتَطيعُوا
أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ
المَيْلِ فَتَذَرُوها كَالمُعَلَّقَة »
(4) فقال ابن أبي العوجاء أيّ حكيم يتكلّم بهذا ؟
فرحل هشام إلى المدينة ، و
قصد دار الإمام الصادق ( عليه السّلام ) ، فقال : « يا هشام في غير وقت حجّ ولا عمرة ؟ » قال : نعم ـ جعلت
فداك ـ لأمر أهمّني. إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة ، لم يكن عندي فيها
شيء قال : وما هي ؟ قال : فأخبره بالقصّة ، فقال الإمام : « فأمّا الآية الأُولى
فهي في النفقة ، وأمّا الآية الثانية فإنّما
1 ـ إرشاد المفيد : 289 ، طبع
إيران.
2 ـ لاحظ الفهرست لابن
النديم : 322 ، ط مصر مطبعة الاستقامة ؛ رجال النجاشي : 73/1 برقم 6 ، ط بيروت ، وكلّما ننقله فهو من هذه الطبعة.
3 ـ النساء : 3.
4 ـ النساء : 129.
(330)
عنت المودّة ، فإنّه لا يقدر واحد أن يعدل بين
امرأتين في المودّة » . فقدم هشام بالجواب وأخبره. قال ابن أبي العوجاء : واللّه
ما هذا من عندك. وفي حديث آخر قال : هذا حملته من الحجاز. (1) 2. إنّ قوله سبحانه :
« وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَمَ مِنْ
ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِم ألَسْتُ
بِرَبِّكُمْْ قالُوا بَلى » (2) ممّا
اضطرب فيه كلمات المفسّرين في تبيينها ، وذهب كلّ إلى مذهب ورأي. ولكنّ الإمام
الصادق عليه السَّلام فسّرها بوجه واضح ينطبق على ظاهر الآية ، فعندما سأل عبد
اللّه بن سنان عن قول اللّه عزّوجلّ : « فِطْرَةَ
اللّهِ الّتي فَطَرَ الناسَ عَلَيها »
(3) ما تلك الفطرة ؟ قال : « هي الإسلام ، فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم
على التوحيد ، قال : « أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ » وفيه المؤمن والكافر » . وقد فسّر الإمام آية الذرّ
بآية الفطرة ، وبيّن أنّه لم يكن هناك أيُّ كلام عن الاستشهاد والشهادة
اللفظيّين.
وجاء في رواية أُخرى رواها
أبو بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) كيف أجابوا وهم ذرّ ؟ قال : « جعل فيهم ما إذا سألهم
أجابوه » . (4) وبذلك أعرب الإمام عن مفاد
الآية ، و بيّن أنّ الآيتين تهدفان إلى معنى واحد ، وهو أنّ كلّ إنسان في بدء
تكوّنه وظهوره ، ينطوي فطريّاً تكوينيّاً على السرّ الإلهي ، أعني : التوحيد ، منذ
أن كان موجوداً ذرّياً صغيراً في رحم أُمّه ، وكأنّ أوّل خلية إنسانيّة تستقرّ
في رحم الأُمّ تنطوي على هذه الوديعة الإلهيّة ، وهي الشعور الطبيعيّ باللّه ،
والانجذاب إليه ، وكأنّ جينات الخليّة لدى كلّ إنسان تحمل بين
1 ـ تفسير
البرهان : 420/1.
2 ـ الأعراف : 172.
3 ـ الروم : 30.
4 ـ تفسير البرهان :
47/2.