مجتمع دون آخر؟ تفيد في إقليم دون إقليم؟ تبلغ بمجتمع خاص إلى قمّة الرقي والحضارة ، وتسف بجماعة أُخرى إلى هوة الضلال والجهل؟! ليت شعري ماذا يريد القائل من كلمته القارصة ، أو فريته الشانئة؟ : « الإسلام دين طائفي ، أو مبدأ إصلاح إقليمي ، لا يصلح لعامة المجتمعات ، ولا يصلح لعامة القارات ، ولا تسعد به الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها ». ليت شعري ماذا يريد منها؟ أيريد معارفه العليا في باب الصانع وصفاته ، وما جاء في ذلك الباب من الحقائق الغيبية ، والكنوز العلمية ، التي لم تحم حولها فكرة انسان قبله ، ولم توجد في زبر الاوّلين مثلها ، أو شبهها. فلو أراد ذلك ، فتلك فرية بيّنة ، إذ الإسلام قد أتى بفلسفة صحيحة وعرفان رصين وتوحيد خالص ، فيه دواء المجتمع البشري في الأقطار كلها. ترى ويرى كل من له إلمام بالإسلام أنّه كافح كل لون من ألوان الشرك ، كافح عبدة الأصنام والأجرام السماوية ، كافح كل تعلّق بغيره سبحانه ، وتخضع لشيء دون الخالق ، وأنقذ المجتمع البشري من مخالب الشرك ، ومصائد الضلال ، ونهاه عن عبادة حجر لا يعقل أو شجر لا يفهم ، أو حيوان لا يدفع عن نفسه ، أو انسان محتاج مثله ، أو غيرها من الأرباب الكاذبة ، فأعاد للانسان كرامته وحريته ومكانته المرموقة سواء في ذلك انسان الجزيرة أم غيره. أيحسب هذا القائل أنّ ذلك التوحيد ، وهذا العرفان مختصان بقوم دون قوم كيف؟ فإذا كان النبي لا يستهدف سوى الواقع ولا يتبنّى غيره ، وبعبارة صحيحة : إذا كان لا يوحى إليه سوى الحقيقة المجردة عن شوب كذب ، فلا وجه لأن يختص بأُمّة دون أُمّة. ودونك سورة الحديد والآيات التي وقعت في صدرها ، فاقرأها بإمعان وتدبّر فهل يعلق الشك بضميرك الحر ، بأنّها تعاليم ومعارف تختص بمنطقة خاصة ولا تصلح للتطبيق في مناطق أُخرى ، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العقائد والمعارف. أم يريد أنّ أحكام الإسلام وتشريعاته في العبادات والمعاملات والأخلاق
(52)
وغيرها ، قوانين إقليمية ، لا تصلح إلاّ لظروف خاصة ، ولا تفيد إلاّ في شبه الجزيرة العربية ، ولا يسعد بها إلاّ انسانها ، دون أُناس المناطق الأُخرى ، إلاّ أنّ تلك فرية بيّنة ليست فيها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق ، فهذه فروعه ودساتيره وفرائضه لا تجد فيها أثراً للطائفية أو أمارة للإقليمية. ضع يدك على النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام في أبواب النكاح والزواج ، وأحكام الأولاد والنشوز والطلاق والفرائض ، وإصلاح حال اليتامى وإنفاذ الوصايا ، والإصلاح بين الناس ، وأداء الأمانة ، وحسن السلوك معهم ، والتعاون والاحسان ، إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في النظام الاجتماعي للإسلام. ضع يدك على النظام الأخلاقي الذي فاق به الإسلام ، كافة الأنظمة الخلقية التي كانت قبله ، أو تأسّست بعده ، فأمر بالصدق وأداء الأمانة ، والصبر والثبات وحسن الظن بالناس ، والعفو والغفران والقرى والضيافة ، والتواضع ، والشكر والتوكل ، والاخلاق في العمل إلى غير ذلك ممّا أمر به ، أو ما نهى عنه كالبخل والاختيال ، والبهتان والغضب ، والاثرة ، والحسد ، والغش والبغي والخمر والميسر ، والجبن والغيبة والكذب ، والاستكبار والرياء ، والعجب والتنابز بالألقاب والانتحار والغدر و ... ضع يدك على نظامه السياسي في باب الحكم والسياسة ، وما أتى به في اصلاح نظام الحرب ، ودفع مفاسدها ، وقصرها على مافيه من الخير للبشر ، وايثار السلم على الحرب ، وعلى الأنظمة والقوانين التي جاء بها في أبواب العقود والمعاملات ، فأوجب حفظ المال عن الضياع والاقتصاد فيه وجعل فيه حقوقاً مفروضة ومندوبة ، وأحلّ البيع وحرّم الربا ، ونهى عن الغش والتطفيف ، إلى غير ذلك ممّا يجده المتعمّق في كتب الفقه والأحكام. قل لي بربّك هل تجد في هذه الأنظمة ، أو في ثنايا هذه الأبواب والأحكام حكماً أو أحكاماً فيها تفكير طائفي أو نزعة اقليمية؟ وإن كنت في ريب فاقرأ الآيات التالية ومئات نظائرها ، تجدها دواء المجتمع الانساني في الأقطار كلها :
(53)
1 ـ ( نَّ اللهَ يَأْمُرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذِي القُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشآءِ وَالْمُنْكَرِ وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون ) ( النحل ـ 90 ). أليست هذه القوانين عماد الاصلاح ، وسناد الفلاح في عامة القارات؟ 2 ـ هلاّ كان منه قوله سبحانه ( إنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الأمانَاتِ إلى أَهلِهَا وإِذَا حَكَمْتُمْ بَينَ النَّاسِ أن تَحْكُمُوا بِالعَدلِ ) ( النساء ـ 58 ). وقد ندد الله باليهود لتجويزهم خيانة الاُميين ، يعني العرب المشركين ومن ليس في دينهم ، وقال : ( وَمِنْهُم مَنْ إن تَأْمَنْهُ بدينار لا يُؤَدِّهِ إليكَ إلاّ ما دُمْتَ عليهِ قائِماً ذلِكَ بأنَّهُمْ قالُوا ليسَ عَلَينَا في الاُمِّيِّين سبيلٌ ويقولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران ـ 75 ). وليس هذا إلاّ لأنّ دينهم على زعمهم كان طائفياً ، فالحرام عندهم هو خيانة يهودي ليهودي مثله لا غير ، وأمّا الإسلام فلمّا كان ديناً عالمياً غير مختص بطائفة دون أُخرى ، فحرّم الخيانة مطلقاً على المسلم والكافر ، وذلك آية كونه عالمياً لا طائفياً ولا إقليمياً. 3 ـ أو ليس منه قوله سبحانه : ( وَلْتَكُن منكُمْ اُمَّةٌ يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ ) ( آل عمران ـ 104 ). وقد عرضنا هذه الآيات على سبيل التنويه ، فليس معنى هذا ، أنّ ما جاء به الإسلام في طريق إصلاح المجتمع ، محصور في هذا النطاق ، فإنّ في كثير من الآيات التي لم نأت بها تنويهاً بمختلف الأخلاق الفاضلة الإنسانية ، والشخصية والاجتماعية من صدق ، وعدل ، وبر ، وأمانة ، وصلة رحم ، ولين جانب ، ووفاء عهد ، ووعد ، ورحمة للضعيف ، ومساعدة للمحتاج ، ونصرة للمظلوم ، وصبر ، ودعوة إلى الخير ، وتواص بالحق ، وعدم اللجاج فيه ، والانفاق لله ، والدعوة إلى الله بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالتي هي أحسن ، والتعاون على البر والتقوى ، والرغبة في السلم. كما احتوت آيات كثيرة تنديداً بمختلف الأخلاق السيئة والخصال المذمومة من
(54)
كذب ، وظلم ، وبغي ، واثم ، وقتل نفس ، وارتكاب فاحشة ، وانتهاك عرض وافك وزور ، وعربدة سكر ، وإسراف وتبذير ، وخيانة ونكث غدر ، وخديعة ، وقطع رحم ، وأكل أموال الناس بالباطل ، وجبن ، وشح وأمر بمنكر وغلظة قلب ، وفظاظة خلق ، ورياء ومكابرة وانتقام باغ ، وتناقض بين القول والعمل وغرور ، وصد عن الحق ، إلى غير ذلك من مساوئ الأخلاق ومحاسنها التي تجد نصوصها مبثوثة في القرآن الكريم. وتسهل عليك مراجعتها والاهتداء والتدبّر في معانيها إذا لا حظت كتاب « تفصيل آيات القرآن الكريم » (1) ، « والمعجم المفهرس » (2) وغيرهما من الكتب والمعاجم. هذا وقد عاشت الأُمّة الإسلامية بل الانسانية جمعاء (3) في ظل هذه الدساتير ونظائرها الوافرة في أجيال متتابعة ، وفي حقب من الزمان والمكان ، فلو كانت مختصة بإقليم خاص ، لأدّت إلى التناحر والاندحار في الأقاليم الأُخر ، لا إلى الرقي والحضارة (4).
الدعوة إلى الفطرة ، أساس الأحكام الإسلامية : لقد بنى الإسلام أحكامه وتوجيهه في العلم والعمل على الفطرة الإنسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد ، فدعا إلى التوحيد المطلق ، وقرّر مبادئ العدالة والحرية والمواساة والاخاء بين الناس كافة والديمقراطية الحقة ، ونشر العلم والحضارة
1 ـ تأليف المسيو جول لابوم ، وقد وضع كتاباً باللغة الفرنسية ، جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها ، ووضع كلا منها في باب أو أبواب خاصة ، حسب ما فهم منها ، ولكنّه أخطأ في كثير من معانيها ، فإنّه اكتفى في ترتيبه وتنسيقه بما فهمه من ظواهر الآيات حسب اللغة العربية وقواعدها ، من دون أن يرجع إلى أسباب النزول ، وسنّة النبي وسيرته والأئمّة من بعده. 2 ـ تأليف محمد فؤاد عبد الباقي المصري. 3 ـ اعترف به المستشرق غوستاف لوبون في آخر كتابه. 4 ـ نعم كل اُمّة ركنت إلى الدعة والراحة ، وحنت إلى تقليد عادات الأجانب في معترك الحياة ، ونسيت مكانتها ورسالتها وقوانينها وأخذت بغيرها ، رجعت إلى ورائها القهقرى وعلى هذا الأساس تعيش الأُمّة الإسلامية في هذا العصر في أنحاء العالم ، فتراها متفرقة الكلمة ممزّقة ، تأكلها حثالات الأرض.
(55)
وقضى على الرذائل والمنكرات ، والشهوات الجامحة ، والتقاليد البالية ، والخرافات الكاذبة ، والرهبانية المبتدعة ، وأمر بالفضائل والصدق في القول والوفاء بالعهد ، والاجتناب عن العزوبة بنكاح الحرائر إلى غير ذلك من الوف الأحكام والتشريعات التي أشرنا إلى كثير منهاوتعتبر بمجموعها دعائم الاصلاح في العالم كله ، ولا تنازع الفطرة بل تطابقها ولا تتخلّف عنها قدرشعرة. فإذا كانت الفطرة الإنسانية واحدة في الجميع ، وكانت الأحكام الإسلامية مبنية عليها في جانب التشريع ، فلا وجه لأن تختص بقوم دون قوم ، وهذا بحث لطيف سوف نرجع إليه إن شاء الله عند البحث عن كون نبي الإسلام خاتم النبيين ، ودينه خاتم الأديان وبه نجيب على الاشكال الدارج على ألسنة بعض المستهترين ممّن لا يؤمن بصريح القرآن في مسألة الخاتمية ويقول : « انّ النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة محدودة ، وحوادث الناس ومقاصدهم متجددة ومتغيّره ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث المتجددة الطارئة » فارتقب حتى يأتيك الجواب والبيان.
الإسلام يكافح المبادئ الرجعية : وأدل دليل على أنّ الإسلام رسالة عالمية ، أنّه يكافح النزعات الاقليمية والطائفية ولا يفرق بين اللون والجنس والعنصر ولا يفضّل أحداً إلاّ بالتقوى ، ويزيّف كل مقياس سواه ويقول : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وأُنثى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتقكُمْ ) ( الحجرات ـ 13 ) كفى له فخراً أنّه أوّل من حارب العصبية والنعرات الطائفية ودعا إلى الاخوة الانسانية ، والزمالة البشرية ، والانضواء تحت لواء واحد وهو لواء التوحيد المطلق. أجل حارب العصبية ، والنعرات الطائفية في ظل وحدات ثمان ، وهو أوّل من أسّسها وأشاد بنيانها ، أعني : وحدة الأُمّة ، وحدة الجنس البشري ، وحدة الدين ، وحدة التشريع ، وحدة الاخوة الروحية ، وحدة الجنسية الدولية ، وحدة القضاء ، بل وحدة اللغة
(56)
الدينية. (1) وقد بلغت بها الأُمّة الإسلامية في العصور السالفة المزدهرة ، الذروة من المجد والعظمة ، فأصبحت ساسة البلاد وحكّام العباد. أو ليس الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهو قائل تلكم الكلم الدرية التالية ، القاضية على كل نعرة طائفية ، والانتماء إلى فئة خاصة والاتجاه إلى نجاح شعب خاص ، فكيف ترمى شريعته بالطائفية وانقاذ جماعة معينة دون
غيرها؟ 1 ـ قال ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « أيّها الناس أنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها ألا بآبائها إنّكم من آدم وآدم من طين ، ألا إنّ خير عباد الله ، عبد إتقاه ». (2) 2 ـ « ألا إنّ العربية ليست بأب والد ، ولكنّها لسان ناطق ، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه ». (3) 3 ـ « انّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا ، مثل أسنان المشط ، لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لأحمر على أسود إلاّ بالتقوى » (4). 4 ـ « إنّما الناس رجلان : مؤمن تقي ، كريم على الله; وفاجر شقي ، هيّن على الله ». (5) وللدكتور حسن إبراهيم حسن هنا كلمة قيّمة ، يقول : « ينكر بعض المؤرخين أنّ الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون ديناً عالمياً برغم هذه الآيات البيّنات ومن بينهم « وليم ميور » إذ يقول : « إنّ فكرة عموم الرسالة جاءت فيما بعد ، وأنّ هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها ، لم يفكر فيها محمد نفسه ، وعلى فرض أنّه فكّر فيها ،
1 ـ كل ذلك دليل على عالمية تشريعه ، وسعة نطاق رسالته ، ويجد الباحث في الذكر الحكيم والأحاديث الإسلامية دلائل واضحة على كل واحدة من هذه الوحدات ، فلا نقوم بذكرها لئلاّ يطول بنا المقام وقد بحثنا عنها في الجزء الثاني. 2 ـ 3 ـ 4 ـ 5 ) راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات : روضة الكافي ، ص 248 ، سيرة ابن هشام ج 2 ، ص 412 ، بحار الأنوار ، ج 21 ، ص 105 ، والشرح الحديدي ، ج 17 ، ص 281 ، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.
(57)
كان تفكيره تفكيراً غامضاً ، فإنّ عالمه الّذي كان يفكّر فيه إنّما كان بلاد العرب كما أنّ هذا الدين الجديد لم يهيأ إلاّ لها ، وأنّ محمداً لم يوجّه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلاّ للعرب دون غيرهم ، وهكذا نرى أنّ نواة عالمية الإسلام قد غرست ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فاّنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج ». وكذلك شك « كيتاني » في أن يكون النبي قد تخطّى بفكره حدود الجزيرة العربية ليدعو أُمم العالم في ذلك الوقت إلى هذا الدين. ومن الغريب أن يشك « وليم ميور » في صحة دعوى عموم الرسالة ، وأن يبني شكه هذا على أنّ محمداً ما كان يعرف غير الجزيرة ، وأنّها كانت عالمه الذي لم يفكّر في سواه ، وأنّ هذا الدين لم يهيأ إلاّ لتلك البلاد ، وأنّ محمداً منذ بعث إلى أن مات لم يوجّه دعوته إلاّ للعرب دون غيرهم ، فهل خفيت على ذلك المؤرّخ صلة قريش بدول ذلك العهد ، وما أتاحته لها التجارة من دراية وخبرة بشؤون هذه الأُمم وأحوالهم ، وأنّ محمداً بوجه خاص قد سافر غير مرة للتجارة إلى بلاد الشام ، فقد سافر وهو صبي مع عمه « أبي طالب » في تجاراته حتى إذا بلغ خديجة ما بلغها عن خبرته وأمانته ، ألقت بمالها بين يديه ، فكان من مهارته وحذقه ما جعلها تعرض عليه الزواج منها ، ثم ظل يشتغل بالتجارة حتى بعث ، فبعد ذلك يمكن أن يقال عن محمد أنّه كان لا يعرف غير بلاد العرب وهو رجل عصامي لم يكسب مركزه الممتاز في مكّة قبيل البعثة إلاّ من ذكاء عقله وكفاية مواهبه. هل يستبعد على محمد الذي خرج من مكة ناجياً بنفسه ونفس صاحبه أن يتخطفها الناس لائذاً بأهل المدينة الذين آووه ونصروه ، ثم صبر وصابر حتى عاد إلى مكة بعد ثماني سنين وهو السيد الآمر فيها وفي الجزيرة ، تحوم حول شخصه مائة ألف من القلوب أو تزيد ، ومن ورائهم كثيرون من أرجاء الجزيرة العربية يدينون له بالطاعة يقدم عليه رؤساؤها وأكابرها هل يبعد على هذا الرجل أن يرنو بناظره إلى ما وراء الجزيرة ليبسط عليه سلطانه ، إن كان من محبي السلطة والحكم أو ليفيض عليها من
(58)
الذي غمر الجزيرة وملأها عدلا وأمناً ودعة وحبّاً؟ لو قيل أنّ الاسكندر المقدوني كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالم القديم كلّه وتجعله يلتف حول هذا الشاب الإغريقي لصدقنا ، ولو قيل أنّ « نابليون » كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالمين القديم والجديد ، ليجلس على عرشها الفتي لصدقنا. أمّا إذا قيل أنّ محمد بن عبد الله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فكّر في أن يدعو خلق الله المتاخمين لجزيرة العرب والمتّصلين بقريش ـ اتصالا تعيش عليه قريش و ينبني على أساسه كلّ شيء في البنية القرشية ـ فذلك أمر يعز على البحث النزيه والعقل الحر ( بزعم « وليم ميور » ) أن يقبله إلاّ أن يكون تفكير ذلك النبي في هذا الأمر تفكيراً على نحو غامض. وأمّا القول بأنّ ذلك الدين لم يهيأ إلاّ لبلاد العرب ، فإنّ ذلك لم يمنع محمداً من التفكير في تعميم دينه ، لأنّ هذا التفكير سواء أتحقق أم لم يتحقق ، إنّما يعتمد على اعتقاده أن دينه صالح لذلك ، وقد ثبت من القرآن أنّه كان يعتقد أنّ الإسلام قد هيّئ لكلّ حالة ، وأنّ القرآن قد تكفّل بتبيان كلّ شيء ، إذ يقول الله تعالى لرسوله في غير آية : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيكَ الكِتبَ تِبياناً لِكُلِّ شيء وهدىً ورَحْمَةً وبُشرى للمُسلِمِينَ ) ( سورة النحل ـ 89 ). ويؤيد دعوى عموم الرسالة للجنس البشري قول محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّ بلالا أوّل ثمار الحبشة ، وأنّ صهيباً أوّل ثمار الروم ، وكذلك ما قاله عن سلمان الذي كان أوّل من أسلم من الفرس ، فكان عبداً نصرانياً بالمدينة اعتنق هذا الدين الجديد في السنة الاُولى من الهجرة ، وهكذا صرّح الرسول في وضوح وجلاء ، أنّ الإسلام ليس مقصوراً على الجنس العربي قبل أن يدور بخلد العرب أي شيء يتعلّق بحياة الفتح والغزو بزمن طويل ، ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم في تلك الآيات البينات » (1) 1 ـ تاريخ الإسلام السياسي ـ الطبعة الخامسة ـ ج 1 ، ص 167 ـ 170 ، وذكر في المقام بعض الآيات التي تدل على عمومية رسالته.
قد عرفت ما هو الحق في المقام بأنّ القرآن الكريم والسنّة النبوية ، وسيرتها تدل بوضوح على عمومية رسالته لكل من في الأرض جميعاً. غير أنّ هناك آيات ربّما يستشم منها عدم عمومية رسالته ، وقد وقعت هذه الآيات سنداً للخصم ، فنحن نذكر تلك الآيات ونوضح المقصود منها.
1 ـ آيات الانذار : انّ بعض الآيات في هذا الصدد توجه انذار النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) إلى قومه وربّما تشعر باختصاص الرسالة ودونك هذه الآيات : 1 ـ ( وَلَكِنْ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ لِتُنذِرَ قُومَاً مَا أَتاهُمْ من نذِير مِن قَبْلِكَ ) ( القصص ـ 46 ). 2 ـ ( بَلْ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمَاً مَا أَتاهُمْ مِن نَذِير مِن قَبلِكَ ) ( السجدة ـ 3 ). 3 ـ ( لِتُنْذِرَ قَوْمَاً مَا أُنْذِرَ ءَابَآؤهُمْ فَهُمْ غَ ـ فِلُونَ ) ( يس ـ 6 ). 4 ـ ( فَإِنَّمَا يَسَّ ـ رْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمَاً لُدّاً ) ( مريم ـ 97 ).
(60)
فهذه الآيات ونظائرها تخص انذار النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بقوم خاص ، وبذلك تضيق دائرة الدعوة. الجواب : انّ الإجابة على الاستدلال بهذه الآيات سهلة بعد الوقوف على ما ذكرنا من الآيات المصرحّة بعمومية الرسالة. لأنّها أوّلاً : لا تخرج من حد الاشعار الضعيف الذي لا يعتمد عليه في مقابل الآيات المصرّحة بأشد التصريح بعمومية الدعوة. وثانياً : انّ هناك آيات بهذا الصدد تصرّح بعمومية الانذار ، ففي سورة يس التي ورد فيها : ( لِتُنذِرَ قَومَاً مَا اُنذِرَ آباؤهُمْ ) قوله سبحانه : ( لِيُنذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَفِرينَ ) ( يس ـ 70 ). فهذه الآية تشعر بأنّ دائرة الانذار تشمل كلّ حي يعقل ويخاطب به وهو يعم كلّ مستعد للهداية سواء أكان من قومه وممن يعيش في الجزيرة العربية أم لا. وقال سبحانه أيضاً : ( وَيُنذِرَ الّذِينَ قَالُوا اِتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً ) ( الكهف ـ 4 ). وهم يعم اُمّة الكليم والمسيح الذين قالوا : اتّخذ اللّه ولداً. فاليهود قالوا بأنّ اللّه اتّخذ عزيراً ولداً. والنصارى قالوا : بأنّ اللّه اتّخذ المسيح ولداً. وبذلك يظهر أنّ كلّ ما ورد في هذا الصدد من آيات الانذار لا يدل على التخصيص بل هو خطاب بمقتضى المقام. فقد تقتضي البلاغة توجيه الكلام إلى قسم خاص كما تقتضي المصلحة في مقام آخر توجيه الكلام لكلّ من بعث لانذاره فلاحظ الآيات التالية حيث يقول سبحانه : ( قُلّ إنَّما اُنْذِرُكُمْ بِالوَحْيِ ولا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إذا مَا يُنذَرُونَ ) ( الأنبياء ـ 45 ).