والرسالة عن امتداد تلك الرسالة إلى اليوم الذي تنطوي فيه صحيفة حياة الانسان في هذه السيارة ، وأنّ أجله وأجلها واحد.
الاكذوبة التي نسبها إلى رسول اللّه : هلم نسأله ، عن مصدر الاكذوبة التي نسبها الكاتب إلى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وقال : أنّه بعد ما نزلت آية : ( ولكل اُمّة أجل ) طفق أصحابه يسألونه عن أجل الاُمّة الإسلامية ، فأجابه بقوله : إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن لم تصلح فلها نصف يوم (1). فقد أعتمد الكاتب في نقله على نقل الشعراني ، وليس في لفظه ما يدل على سؤال أصحابه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عن أجل الاُمّة الإسلامية بعد نزول الآية ، وإنّما هو اكذوبة نحتها الكاتب ونسبها إلى رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) (2). نعم تفسير اليوم بألف عام ، كما نقله الشعراني عن تقي الدين رجم بالغيب إذ كما يمكن تفسيره بألف مستند إلى قوله سبحانه : ( وَاِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِمّا تَعُدُّون ) ( الحج ـ 47 ) يمكن تفسيره بخمسين ألف سنة ، استناداً إلى قوله سبحانه : ( تَعْرُجُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ في يَوْم كانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَة ) ( المعارج ـ 4 ). وأمّا ما رواه العلاّمة المجلسي ، مسنداً عن كعب الأحبار ، على نحو يشعر بكون تفسير اليوم بألف عام ، من الحديث ، فمما لا يقام له وزن ، فإنّ كعب الأحبار وضّاع
1 ـ الفرائد صفحة 17 الطبعة الحجرية. 2 ـ ودونك نص الشعراني في كتابه اليواقيت والجوهر التي ألّفها عام 955 هـ قال في بيان أنّ جميع أشراط الساعة حق : انّه لابد أن يقع كلّها قبل قيام الساعة وذلك كخروج المهدي ( عج ) ثمّ الدجال ، ثمّ نزول عيسى ، وخروج الدابة و ... حتى لو لم يبق من الدنيا إلاّ مقدار يوم واحد ، فوقع ذلك كلّه ، قال الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور في عقيدته : وكل ذلك تقع في المائة الأخيرة ( هذا تخرص من الرجل وتنبؤ منه ، أعاذنا اللّه منه ) من اليوم الذي وعد به رسول اللّه بقوله في اُمّته : إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم ، يعني من أيام الرب المشار إليه بقوله تعالى : ( وانّ يوماً عند ربِّكَ كألف سنة ممَّا تعدون ) لاحظ اليواقيت ج 2 ص 160 ونقل عن بعض العارفين أنّ أوّل الألف محسوب من وفاة علي بن أبي طالب.
(192)
كذّاب مدلس ، لم تخرج اليهودية من قلبه ، تزيا بزي الإسلام فأدخل الإسرائيليات والقصص الخرافية ، في أحاديث المسلمين فلا يقام لحديثه وزن ولا قيمة ، فلنضرب عنه صفحاً. أضف إليه أنّ الرجل لم يسنده إلى الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ولا إلى الولي ، فكيف يكون حجّة؟ ثم إننا نسأل صاحب الفرائد (1) ومن مشى مشيه ، ونقول : إنّ رسول اللّه قال ( بزعمكم ) : إن صلحت اُمّتي فلها يوم ... فهل صلحت الاُمّة الإسلامية في هذه القرون العشرة ومشت سبل الصلاح والسلام ، وازدهر فيهم العدل والإحسان ، أو شاع فيهم الجور والطغيان والقتل الذريع وسفك الدماء وحبس أبرياء الاُمّة واعتقالهم ونهب أموالهم ... وعند ذاك يلزم انتهاء أمد الإسلام بإنقراض خمسمائة عام ، التي هي نصف يوم ، من اليوم الربّاني ، لأنّه لم تصلح الاُمّة بعد لحوق الرسول بالرفيق الأعلى ولكن الكاتب لا يرضى به لأنّه لا يوافق ما يدعيه ويرتئيه. وأعجب من ذلك أنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ( ألف عام ) العام الذي تمّت فيه غيبة ولي اللّه الأعظم ، الحجة بن الحسن العسكري ( عجل اللّه فرجه ) لا عام بعثة الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أو هجرته أو وفاته ، أو سنة صدور الحديث. أوما كانت الاُمّة العائشة في هذين القرنين ونصف من الاُمّة الإسلامية؟! ( سله أنا لا أدري ولا المنجّم يدري ) أظنّك أيها القارئ الكريم لا يفوتك سر هذا الجعل ، وإنّه لماذا جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ، عام غيبة الولي ، أعني عام 260 من الهجرة النبوية ، ذلك العام الذي غاب فيه خاتم الأوصياء عن الأبصار إلى الوقت الذي لا يعلمه إلاّ هو سبحانه ، فقد عمد بذلك إلى أن ينطبق مبدأ خروج الباب (2) على اختتام ألف عام (3). فقد خرج « الباب » وادّعى ما ادّعى ، مفتتح عام 1260 من الهجرة النبوية.
1 ـ أبو الفصل الجرفادقاني. 2 ـ المراد منه « علي محمد » الشيرازي الملقّب بالباب ، عند الفرق الضالّة البابية والازلية والبهائية. 3 ـ فالرجل قد وضع فكرة معينة ، ثمّ أراد تصيّد الأدلّة لاثباتها ، ولكن الباحث المخلص يتجرّد عن كلّ هوى وميل شخصي ، ويتابع النصوص ومفادها ، فما أدت إليه بعد التمحيص ، تكون هي النتيجة التي ينبغي عليه اعتبارها حقيقة راهنة.
(193)
الشبهة الرابعة : استدل صاحب « الفرائد » بآية رابعة ، زعم دلالتها على عدم انقطاع الوحي والرسالة بعد رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وهي قوله سبحانه : ( يَوْمَئِذ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِين ) ( النور ـ 25 ). قال : إنّ صيغة « يوفيهم » تبشّر عن دين حق يوفيه سبحانه على من يشاء من عباده في الأجيال الآتية بعد الإسلام ، وليس لك أن تحمله على الإسلام وتفسّره به ، لأنّه قد أكمل نظامه وتمت اُصوله وفروعه عام حجة الوداع بنص الذكر الحكيم ، كما قال سبحانه : ( اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِيناً ) ( المائدة ـ 3 ) وهو سبحانه يخبر في هذه الآية عن وقوع الأمر ( توفية الدين الحق ) في الجيل الآتي (1).
الجواب : هذا مبلغ علم الرجل ومقياس عرفانه بالكتاب وغوره في الأدب العربي وقد كان في وسع الرجل أن يرجع إلى أحد التفاسير ، أو إلى ابطال العلم وفطاحل الاُمّة وكانت بيئة مصر (2) تجمع بينه وبين فطاحلها وأعلامها العارفين ، هذا هو أمين الإسلام الطبرسي ، فسّره في مجمعه بقوله : يتم اللّه لهم جزائهم الحق ، فالدين بمعنى الجزاء (3) ، وقال الزمخشري : الحق ، صفة الدين وهو الجزاء (4) لا الطريقة والشريعة.
1 ـ الفرائد صفحة 122 الطبعة الحجرية. 2 ـ فقد ألّف « الفرائد » بمصر ، أيام اقامته هناك ، وفرغ منه عام 1315. 3 ـ مجمع البيان ج7 ص 134. 4 ـ الكشاف ج3 ص 223.
(194)
وليت الكاتب ، أمعن النظر في الظرف ( يوم ) الوارد في الآية المتقدمة أعني قوله سبحانه : ( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ... ) ففي أي يوم تشهد ألسنة المجرمين وأيديهم على أعمالهم الإجرامية ، فهل هذا اليوم إلاّ يوم البعث؟ ففي ذلك اليوم يوفيهم اللّه جزاء الطغاة العصاة المفترين الكذّابين المبدعين ، الجزاء الحق الذي يستحقّونه بأعمالهم. ففي يوم واحد تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ، ويوفي اللّه دينه الحق والجزاء الذي يستحقّونه. على أنّ سياق الآية يوضح المقصود ، فإنّ الآية وردت في الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، فعاتبهم بالآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد ، والعتاب البليغ ، والزجر العنيف ، لإستعظام ما ركبوا من ذلك ، وما أقدموا عليه ، إذ قال سبحانه : ( إِنَّ الذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأْيِدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذ يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ هُوَ الحَقُّ المُبِين ) ( النور : 23 ـ 25 ). ترى أنّه سبحانه حكم على هؤلاء العصاة اللاعبين باعراض الناس وحرماتهم بأحكام ثلاثة : 1 ـ اللعن عليهم في الدينا
والآخرة. 2 ـ شهادة أعضائهم على أعمالهم الإجرامية. 3 ـ توفية جزائهم الحق في ذلك اليوم. ومع ذلك كيف عمي بصر الرجل وبصيرته ، وأرخى قلمه ولسانه ، وفسّر الآية برأيه الباطل؟!
الشبهة الخامسة : قد عرفت ما لدى الكاتب ومن لفّ لفه من شبهات تافهة ، أو تأويلات كاذبة اختلقوها لاغواء السذّج من الناس. هلم معي نقرأ آخر شبهة للقوم ، وهي الاستدلال
(195)
بالآية التالية : ( يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلى الأرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ في يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة ممّا تَعُدُّون ) ( السجدة ـ 5 ). فقد فسّر صاحب الفرائد (1) تدبير الأمر بانزال الشريعة من السماء إلى الأرض وجعل عروجه في يوم كان مقداره ألف سنة ، بإندراس الشريعة تدريجاً طول هذه المدة بابتعاد الناس عن الدين ، ورفضه في مراحل الحياة ، وصيرورة القلوب مظلمة بالمعاصي ، مدلهمّة بالخطايا ، مريضة بشيوع الفساد والفوضى ، فيبعث اللّه عند ذلك رجلاً آخر يجدد الشريعة ويؤسّسها ويذهب بظلمات القلوب ، وعلى هذا فلا تدوم الشريعة أي شريعة كانت إلاّ يوماً ربّانياً ، وهو ألف سنة ممّا تعدون (2).
الجواب : ما ذكره بصورة الشبهة ، لا يصح إلاّ بعد تسليم اُمور ، لم يسلم واحد منها : 1 ـ إنّ التدبير عبارة عن نزول الوحي وبلوغ الشريعة إلى النبي. 2 ـ إنّ الأمر في الآية هو الشريعة والطريقة. 3 ـ العروج هو انتهاء أمد الرسالة وانقضاء استعداد بقاء الشريعة واندراسها بشيوع الفساد والمعصية بين الاُمّة. وليس أي واحد منها صحيحاً ولا قابلاً للقبول : أمّا الأوّل : فلأنّ التدبير في اللغة والكتاب عبارة عن الإدارة على وجه تستوجبه المصلحة ، وتقتضيه الحكمة وأين ذاك عن نزول الشريعة من السماء إلى الأرض ، باحدى
1 ـ الفرائد الطبعة الحجرية. 2 ـ ثمّ إنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني عام غيبة ولي اللّه الأعظم المهدي ( عج ) عن الأبصار حتى يطابق مختتمه مفتتح عام ظهور الباب ، هذا مصداق واضح للتفسير بالرأي ، وكأنّه قد قرر النتيجة أوّلاً ثمّ راح يتفحّص عن دليل يوصل إليها فلم يجد دليلاً ، إلاّ بتحريف كلام اللّه وتأويله السخيف.
(196)
الطرق المقررة في محلها. وإن شئت قلت : التدبير هو التفكير في عاقبة الاُمور ودبرها ، كما قال سبحانه : ( فَال ـ مُدَبِّراتِ أَمْراً ) ( النازعات ـ 5 ) أي الملائكة الموكلة بتدبير الاُمور. وقوله سبحانه : ( أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَمْ على قُلُوب أَقْفَالُها ) ( محمد ـ 24 ). وقوله سبحانه : ( كِتَبٌ أَنزَلنَاهُ إِليَكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّروُا آيَاتِهِ وَلِتَذَكَّرَ اُولُوا الألْبَاب ) ( ص ـ 29 ) إلى غير ذلك. أو ليس تفسير التدبير بالنزول عند ذاك يكون تفسيراً بالرأي الذي نهى عنه رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وأوعد عليه النار وقال : من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار (1). وأمّا الثاني : فلأنّ الأمر في القرآن لم يستعمل بمعنى الشريعة والأحكام الالهية من واجب وحرام ومكروه ومستحب ومباح ، وسائر الأحكام الوضعية الجارية في العقود والايقاعات والسياسات. هؤلاء هم أصحاب المعاجم وأعلام اللغة ، لا تجد أحداً منهم فسر الأمر بالشريعة بل تدور معانية بين الشأن والشيء والتكليف. سؤال : إذا اعترفتم بأنّ التكليف من معانيها ، كما يقال أمرته : إذا كلّفته ، فيصح تفسيره بالشريعة ، إذ الشريعة عبارة عن تكاليف يوجهها الشارع إلى عباده؟ الجواب : انّ حمل الأمر في الآية على الأمر والتكليف التشريعي خلاف مساق آيات السورة ، بل خلاف صريح سائر الآيات الواردة في هذا المضمار فلحاظ السياق يدفعنا إلى أن نحمل الأمر على التكويني الذي هو عبارة عن إرادته الفعلية ومشيئتة التكوينية الجارية في صحيفة الكون والوجود ، فإنّ كل ما يسيطر على العالم ، من نظام وسنن وقوانين ، كلّها بأمر تكويني وإرادة فعلية منه سبحانه كما يصرح به قوله سبحانه : ( إِنَّما أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَ ـ يْء 1 ـ حديث متفق عليه ورواه الفريقان بصور مختلفة.
(197)
وإِلَيْهِ تُرْجَعُون ) ( يس : 82 ـ 83 ).
حصيلة البحث : انّ هنا قرائن ثلاث لابد من البحث عنها ، كي نقرّب إلى الأذهان كيفية حمل لفظ الأمر على الأمر التكويني ، أعني النظم والسنن الجارية في دائرة الكون والقوانين المكتوبة على جبين الدهر ودونك هذه الشواهد : 1 ـ لفظ التدبير ، فقد عرفت أنّه عبارة عن الإدارة على وجه تقتضيه المصلحة والحكمة ، فهو سبحانه يدبر الخلق بعامة أجزائه من السماء إلى الأرض ، على وجه تقتضيه المصلحة ، فسبحان الذي خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ،. ودبرها على وفق الحكمة ، فلا السماء تسقط على الأرض ، ولا الأرض تنخسف بنا ، ولا الشمس تظللنا دائماً ولا الظلمة تحيط بنا سرمداً ، إلى غير ذلك من سنن ونظم ... 2 ـ سياق ما تقدمها من الآيات ، فإنّ محور البحث في سابقها ، هو خلق السماوات والأرض واستوائه سبحانه على العرش ، ودونك الآية المتقدمة عليها : ( اللّهُ الذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِن دُونِهِ مِن وَلِىّ وَلاَ شَفِيع أَفَلاَ تَتَذَكَّرُون ) ( السجدة ـ 4 ). « يدبر الأمر » من السماء إلى الأرض ... أفلا تفهم من تقارن الآيتين أنّ اللام في الأمر إشارة إلى أمر الخلقة ، وأنّ اللّه سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما في أيام وأدوار مخصوصة ولم يكتف سبحانه بأصل الخلقة ، بل استوى على عرش ملكه فدبّر أمرها على وجه توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة ، وأنّه سبحانه يدبّر أمر الخلق ، أي خلق تتصور وينفذه على وجهه ، حتى أنّه سبحانه توخياً للتوضيح شبّه المقام الربوبي الذي ينزل منه التدبير ، ويصدر منه الحكم بعرش الملك البشري الذي يجلس الملك عليه فيصدر منه أوامره لتدبير اُمور الملك ، غير أنّ أوامره طلبات عرفية اعتبارية ، ولكن أوامره سبحانه ، أوامر تكوينية ، لا يقوم بوجهها شيء ، فما قال له كن ، فيكون ، بلا تراخ ولا تمرّد.
(198)
3 ـ الآيات المنزّلة في هذا المضمار ، فإنّ هذه الآية ليست فريدة في بابها فقد ورد في هذا المضمون ( أي تدبير أمر الخليقة ) آيات اُخرى كلها تهدف إلى ما أوضحناه ، وهو أنّ تدبير الخلق بعد إيجاده من شؤونه سبحانه ، من دون نظر إلى الشرائع وتجديدها ، ودونك الآيات : ( إِنَّ َرَبَّكُمُ اللّهُ الذِي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأرْضَ في سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِن شَفِيع إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ( يونس ـ 3 ). وقوله سبحانه : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِنَ السَّمَاءِ والأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصَرَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ ِمَن الميِّتِ وَيُخْرِجُ الميِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّه ) ( يونس ـ 31 ). وقوله سبحانه : ( اللّهُ الذِي رَفَعَ السَّموَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَها ثُمَّ اْسَتَوى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَل مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون ) ( الرعد ـ 2 ). نعم هذه الآيات ساكتة عن عروج الأمر وصعوده في المقدار الذي صرحت به هذه الآية ، ولا يوجب ذلك فرقاً جوهرياً بين أهدافها ومراميها. ومن ذلك تقف على أنّ الأمر في قوله سبحانه : ( أَلاَ لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِين ) ( الأعراف ـ 54 ) هو أمر الخليقة ، أي هو الذي خلق الأشياء كلّها ، وهو الذي صرفها على حسب إرادته فيها ، فما عن بعض أعلام العرفان والفلسفة من تسمية المادي والماديات بعالم الخلق ، والمجردات والابداعيات بعالم الأمر ، استناداً إلى هذه الآية ضعيف جداً ، وإن كان تقسيم الموجود إلى المجرد والمادي ، صحيحاً لا ريب فيه. وأمّا الثالثة : فلأنّ تفسير العروج بإندراس الشريعة ونسخها باطل جداً ، لأنّ العروج عبارة عن ذهاب في صعود كقوله سبحانه : ( تَعْرُجُ المَلاَئِكَةُ والرُّوحُ إِلَيْهِ ) ( المعارج ـ 4 ) وجعله كناية عن انتهاء أمد الشريعة وبطلانها واندراسها من الكنايات البعيدة التي يجب تنزيه القرآن عنها ، إذ لا معنى لعروج الشريعة المنسوخة إليه سبحانه
(199)
إذ لا يفهم من نسخها إنّها تعرج إلى السماء ، بل كل ما يستفاد ، إنّها تعطل عن العمل بها والسير عليها ، لا إنّها تعرج إليه سبحانه. أضف إليه أنّه لو كان مراد المولى سبحانه ، هو الإخبار عن تجديد كل شريعة بعد ألف عام ، لاقتضى ذلك أن يعبّ ـ ر عن مقصوده بعبارة واضحة يقف عليها كل من له إلمام باللغة العربية ، ولماذا جاء بكلام لم يفهم منه مراده سبحانه إلاّ بعد حقب وأجيال إلى أن وصلت النوبة لكاتب مستأجر فكشف الغطاء عن مراده سبحانه وقد خفى على الاُمّة جميعاً ، وفيها نوابغ العربية وفطاحلها ، حتى تفرّد هو بهذا الكشف؟!
مشكلة المفتتح والمختتم : بقيت في المقام مشكلة ، وهي ابتداء تلك المدة واختتامها ، وقد حار فيها فاختار أنّ مبدأها هو عام غيبة الإمام المنتظر ، حتى يتطابق ختم ذلك اليوم الذي مقداره ألف سنة مع ظهور الباب (1) ولما رأى أنّ ذلك تفسيراً منه بالرأي ، اعتذر عن ذلك بأنّ الإسلام لم يكتمل إلاّ عام غيبة الإمام ، حيث حوّل الأمر إلى الفقهاء. وأنت خبير بأنّ ما اعتذر به يتناقض مع صريح القرآن القاضي باكمال الدين بلحوق النبي بالرفيق الأعلى ، فقال سبحانه : ( اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيَنكُمْ وَأَتمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلاَمَ دِينَاً ) ( المائدة ـ 3 ). ولو قال إنّ الآية ناظرة إلى الاكتمال من جانب الاُصول وتدعيم مبادئ الإسلام واُسسه بنصب الولي ، وأمّا الإكتمال من جانب الفروع فقد امتد بعد لحوق النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) بالرفيق الأعلى ، إلى عشرات السنين من عهود الأئمّة وأعصارها إلى غيبة وليّه ، فينتقض كلامه من جانب آخر ، فإنّه فسّر عروج الأمر بالنسخ التدريجي للشريعة ، وجعل النسخ عبارة عن ترك العمل بها واندارسها في مراحل الحياة ، وعلى ذلك يجب أن يكون مبدأ
1 ـ فقد اتفقت غيبة الإمام عام 260 ، وادّعى الباب ما ادّعى ، بعد مضي ألف سنة من ذلك حيث كان خروجه سنة 1260.
(200)
النسخ التدريجي عام فوت الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) فإنّ العصور التي جاءت من بعده ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم تكن عصوراً ازدهر فيها الإسلام بل كانت عهد الجور والعدوان ، حيث تآمرت قريش على تداول الخلافة في قبائلها واشرأبت إلى ذلك اطماعها ، فتصافقوا على تجاهل النص ، وأجمعوا على صرف الخلافة من أوّل يومها عن وليّها المنصوص عليه إلى غير ذلك من الملمّ ـ ات والنوازل. ولو كان ظهور العيث والفساد في المجتمع الإسلامي ورفض الشريعة في مراحل الحياة ، ملازمة للنسخ التدريجي للشريعة ، فليكن عهد يزيد الخمور والفجور من هذه العهود التي أخذت تعربد بلسان قائله :
لعبت هاشم بالملك فلا
خبر جاء ولا وحي نزل
أفلا تعجب من الكاتب ، أنّه جعل تلك العهود المظلمة التي امتدت عشرات السنين وكانت وبالاً على الإسلام من العصور الزاهرة ، مع أنّه أخرج عهود القسط والعدل الموعود بخروج الإمام الثاني عشر ( التي ترفرف فيها أعلام القسط والعدل وتخفق رايات الحق والهداية في كل صقع ) من الأصقاع التي ينمو فيها الإسلام ، ويزدهر. كبرت كلمة تخرج من أفواههم. وأمّا البحث عن هدف الآية وأنّه سبحانه ماذا يريد من قوله : ( يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة ) فله منّا بحث آخر ، وسوف نعطي حقه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم ، فإنّ اليوم الذي يعادل ألف سنة من الآيام الاخروية.
الشبهة السادسة (1) : ينص القرآن على أنّ الإسلام شريعة عالمية ، وأبدية وأنّ بالإسلام أقفل باب الشرائع ، ونسخ جميعها.
1 ـ هذه الشبهة لها صلة بعالمية الإسلام وصلة بخاتميته ولأجل ذلك جعلناها آخر الشبهات وفصّلنا الكلام فيها بما لا يدع لمشكك شك.