مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: 361 ـ 370
(361)
مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( هود ـ 13 ).
    وقال سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأتُوا بِسُورَة مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ( يونس ـ 38 ).
    ترى في هذه الآيات من التنبّؤ الواثق بعجز الانس والجن عن معارضة القرآن ولكن المستقبل كما يقال « غيب » لا يملكه النبي ولا الوصي ولا أي شخص سواهما غير أنّ النبي صار صادقاً في تنبّؤه هذا ، ولا يزال صادقاً في الحال فعلى أي مصدر اعتمد هو في هذا التحدي الطويل العريض ، غير الإيحاء إليه الذي لم يزل يصدر عنه في اخباره وتشريعه؟

2 ـ التنبّؤ بانتصار الرومان على الفرس :
    قال سبحانه : ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِى أَدْنى الأرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للّهِ الأمْرُ مِنْ قَبلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَومئِذ يَفْرَحُ المؤمِنُونَ * بِنَصرِ اللّهِ يَنْصُرُ مَن يَشاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحيمُ * وعْدَ اللّهِ لا يُخلِفُ اللّهُ وَعْدَهُ ولكنَّ أكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( الروم : 1 ـ 6 ).
    وقد وقع ما أخبرت به الآية بأقل من عشر سنين ، فغلب الروم ودخل جيشهم مملكة الفرس باجماع من أهل التاريخ ، ودونك اجماله : انّ دولة الرومان وهي مسيحية كانت قد انهزمت أمام دولة الفرس وهي وثنية بعد حروب طاحنة بينهما سنة 614 م فاغتمّ المسلمون بسبب أنّها هزيمة لدولة متديّنة أمام دولة وثنية ، وفرح المشركون وقالوا للمسلمين بشماتة : إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب ، وقد غلبهم المجوس ، وأنتم تزعمون أنّكم ستغلبوننا بالكتاب الذي اُنزل عليكم فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم.
    فنزلت الآية الكريمة يبشّر اللّه فيها المسلمين : بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصار للمسلمين في بضع سنين ، أي في مدة تتراوح بين ثلاث سنوات وتسع ، ولم يك مظنوناً وقت هذه البشارة ، انّ الروم تنتصر على الفرس في مثل هذه المدة الوجيزة بل كانت المقدمات والأسباب تأبى ذلك عليها ، لأنّ الحروب الطاحنة انهكتها حتى غزيت في عقر دارها ، كما يدل عليه النص الكريم : ( في أدنى الأرض ) ولأنّ دولة الفرس كانت


(362)
قوية منيعة وزادها الظفر الأخير قوة ومنعة ، ولكن اللّه تعالى أنجز وعده وتحققت نبوءة القرآن سنة 622 م الموافقة للسنة الثانية من الهجرة.
    واحتمل « الزرقاني » أنّ الآية الثانية حملت نبوءة اُخرى وهي البشارة بأنّ المسلمين سيفرحون بنصر عزيز في الوقت الذي ينصر فيه الروم ، وقد صدق اللّه وعده في هذه كما صدقه في تلك ، وكان ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى واقعاً في الظرف الذي ظفر الرومان ، وهكذا تحققت النبوءتان في وقت واحد ، مع تقطع الأسباب في انتصار الروم ، كما علمت ، ومع تقطع الأسباب أيضاً في انتصار المسلمين على المشركين على عهد هذه البشارة ، لأنّهم كانوا أيامئذ في مكة في قلة وذلة يضطهدهم المشركون ولا يرقبون فيهم وإلاًّ ولا ذمة ولكن على رغم هذا الاستبعاد أو هذه الاستحالة العادية ، نزلت الآيات كما ترى تؤكد البشارتين وتسوقهما في موكب من التأكيدات البالغة التي تنأى بهما عن التكهنات والتخرصات (1).
    غير أنّ من المحتمل أن يكون فرح المؤمنين لأجل انتصار الرومان على الفرس تفؤلاً بذلك حيث كان التدين باللّه سبحانه وشرائعه السماوية يجمعهما في أمر واحد لا لأجل انتصار المسلمين على المشركين في غزوة بدر الكبرى.
    نعم الآية محتملة لكل من الوجهين وإن أصر الكاتب على استفادة المعنى الأوّل منها.

3 ـ اخباره عن صيانة النبي عن أذى الناس :
    قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا اُنْرِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَ اللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرينَ ) ( المائدة ـ 67 ).
    أصفقت صحاح السنّة (2) ، وأحاديث الشيعة المتواترة (3) على أنّ الآية نزلت يوم
    1 ـ مناهل العرفان ج2 ص 266.
    2 ـ راجع الغدير ج1 ص 194 ـ 217.
    3 ـ راجع غاية المرام ص 335.


(363)
الغدير ، حينما أمره سبحانه أن ينصب علياً ( عليها السَّلام ) إماماً للناس ، وكان النبي على حذر من الناس في تنصيب علي للخلافة ، فأخبره اللّه سبحانه بأنّه سيعصمه من أذى الناس وشرّهم ، ولا يصلون إليه بقتل ولا يتمكنون من اغتيال شخصه الشريف وتحققت نبوءة القرآن وصدّق الخبر الخبر.
    ولو فرضنا صحاح القوم ولم نعتقد بما أثبته المتواتر من الروايات ، وقلنا إنّ المراد من الناس هم المشركون وأعداء الإسلام ، الذين أضمروا في أنفسهم عداء لقائده ، فالآية متضمنة للتنبّؤ بالغيب أيضاً ، إذ لم يتمكن أحد من أعداء الإسلام أن يقتله ، مع كثرة عددهم ووفرة استعدادهم ، وكانوا يتربصون به الدوائر ، ويتحيّنون به الفرص ، للايقاع به والقضاء عليه ، وعلى دعوته وهو أضعف منهم استعداداً وأقل جنوداً ، فمن الذي يملك هذا الوعد إذن ، إلاّ اللّه الذي يغلِب ولا يغلَب.
    وقال سبحانه : ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَينكَ المُسْتَهْزِءِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ( الحجر : 94 ـ 96 ) أخبر سبحانه عن أنّه يكفيه عن أذى المستهزئين ومؤامراتهم ، وقد كفاه اللّه أشرف كفاية لم تكن تتعلق بها الآمال بحسب العادة ، وقد بان للمشركين وعلموا ما في قوله سبحانه في آخر الآية : ( فسوف تعلمون ) .
    روى البزاز والطبراني عن أنس بن مالك أنّها نزلت عند مرور النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) على أناس بمكة فجعلوا يغمزون في قفاه ، ويقولون هذا الذي يزعم أنّه نبي ومعه جبرئيل (1) فأخبرت الآية عن ظهور دعوة النبي ، وانتصاره على أعدائه ، وخذلانه للمشركين الذين ناووه واستهزأوا بنبوّته واستخفّوا بأمره ، وكان هذا الإخبار في زمان لم يخطر فيه على بال أحد من الناس ، اندحار قريش ، وانكسار شوكتهم وظهور النبي عليهم.
    قال الطبرسي : أي كفيناك شر المستهزئين واستهزاءهم بأن أهلكناهم وكانوا
    1 ـ لباب العقول ص 133.

(364)
خمسة نفر من قريش أو ستة ثم ذكر أسماءهم وكيفية هلاكهم (1).
    قال سبحانه : ( وَلَو لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُصِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء ) ( النساء ـ 113 ) والمراد من الإضرار هو القتل فاللّه سبحانه حافظه وناصره.

4 ـ تنبّوءات حول المنافقين والمخلّفين من الأعراب :
    تجد في سورة التوبة والفتح والحشر نماذج من هذا القسم ، يقول سبحانه : ( فإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إلى طائِفَة مِنْهُمْ فاسْتَئذَنُوكَ لِلخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَ ـ تِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّة فَاقْعُدُوا مَعَ الخَ ـ لِفينَ ) ( التوبة ـ 83 ).
    فأخبر عن قعودهم ، وعدم خروجهم مع النبي ، فقوله سبحانه : ( فَقُل لَّن تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً ) معناه لن يكون لكم شرف صحبة الإيمان ، بالخروج معي إلى الجهاد في سبيل اللّه ، ولا إلى غيره من النسك أبداً ما بقيت : ( وَلَن تُقَ ـ تِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً ) من الأعداء لا بالخروج والسفر إليهم ، ولا بغير ذلك.
    ويتلوه ما جاء فيه من التنبّؤ بما يحلف به المنافقون كقوله سبحانه : ( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة ـ 42 ).
    فأخبر عن حلفهم في المستقبل القريب ، وعن كذبهم في حلفهم هذا. قال : الطبرسي وفي هذه دلالة على على صحة نبوّة نبيّنا إذ أخبر أنّهم سيحلفون قبل وقوعه فحلفوا وكان خبره على ما أخبر به (2).
    ومثله قوله سبحانه : ( سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ
    1 ـ مجمع البيان ج3 ص 346.
    2 ـ مجمع البيان ج3 ص 33.


(365)
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) ( التوبة ـ 95 ) وفي هذه السورة شيء كثير من هذا الضرب من التنبّؤ ، فتدبّر في آياتها ومضامينها تجدها مملوءة من الإخبارات الغيبية ، وقد نزلت في حق المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك.
    ونظير تلكم الآيات ما ورد في سورة الفتح من التنبّؤ حول الأعراب الذين تخلّفوا عن النبي في الخروج إلى الحديبية ودونك بعض الآيات : ( سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوالُنَا وَ أَهْلُونَا فَاسْتَغْفِر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) ( الفتح ـ 11 ).
    وقوله سبحانه : ( سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إلاّ قَليلاً ) ( الفتح ـ 15 ).
    وفي هاتين الآيتين إخبارات غيبية عن كثير مما تفوّه به المخلفون وعن ما يضمرون في أنفسهم ، وما يصيبهم في المستقبل ، يظهر ذلك لكل من أمعن الن ـ ظر في مفاد الآيتين ودونك تفسيرهما :
    لمّا أراد النبي المسير إلى مكة عام « الحديبية » معتمراً وكان في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، استنفر من حول المدينة من القبائل إلى الخروج معه ، وهم « غفار » و« أسلم » و « مزينة » و« جهينة » و « أشجع » و« الدئل » ، حذراً من قريش أن يتعرضوا له بحرب أو بصد وهو أحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنّه لا يريد حرباً ، فتثاقل عنه كثير من الأعراب ، فتخلّفوا عنه ، واعتلوا بالشغل ، فأخبر سبحانه عن العذيرة التي سوف يتشبّثون بها ، عند رجوع النبي وأصحابه عن الحديبية بقوله : ( شغلتنا أموالنا وأهلونا ) كما أخبر عن أنّهم سوف يطلبون من النبي أن يستغفر لهم والحال أنّهم كاذبون في معذرتهم التي تمسّكوا بها ، وفي ما يطلبون من النبي الأكرم ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من الاستغفار لهم ، وهم لا يبالون استغفر لهم النبي أم لم يستغفر.
    ثمّ أخبر سبحانه عن أنّ النبي بعد منصرفه عن الحديبية بالصلح ، سوف يتوجّه


(366)
إلى « خيبر » ويأخذ من أهلها مغانم ، وأنّ هؤلاء المتخلّفين يطلبون من النبي أن يتبعوه حتى يشاركوا المسلمين في ما يأخدون من المغانم ، وأنّ النبي يجيبهم بأنّكم : ( لن تتبعونا كذلكم قال اللّه من قبل ) ولأجل ذلك خص النبي مغانم « خيبر » لمن شهد الحديبية.
    ويظهر من قوله سبحانه : ( كذلكم قال اللّه ) أنّ اللّه سبحانه كان قد أخبر نبيّه عن تخلفهم في الحديبية ، أيضاً كما أخبره عن تخلّفهم في غزوة خيبر.
    ونظير ما سبق قوله سبحانه : ( قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَونَ إِلى قَوم اُولي بَأْس شَدِيد تُقَاتِلونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) ( الفتح ـ 16 ).
    فأخبر المتخلّفين عن غزوة الحديبية بأنّهم سيدعون إلى معركة عنيفة تدور بينهم وبين قوم اُولي بأس شديد ، فدعاهم النبي بعد سنتين إلى المقاتلة مع قبائل هوازن وحنين وثقيف ، وكانوا أقواماً ذوي نجدة وشدة حسب مانقرأه في السير والتاريخ ، ثم أخبر سبحانه عن أنّهم يأخذون مغانم كثيرة بقوله : ( وَ مَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَ كَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمُ اللّهُ مَغَانِمَ كَثِيرةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلُمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً ) ( الفتح : 19 ـ 20 ).
    فقد أخذوا بعد غنائم خيبر التي أشارإليها بقوله : ( فعجّل لكم هذه ) غنائم كثيرة في محاربة قبائل حنين وهوازن.
    ثمّ إنّه أخبر عمّا أضمره المنافقون وأسرّوه من الكفر والعصيان وأنهم ليعدون وعداً ثم يخالفونه قال سبحانه :
    ( أَلَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ اُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ) ( الحشر : 11 ـ 12 ).


(367)
    وحاصل الآيات : أنّه سبحانه يخاطب النبي ويقول : ألم تر يا محمد إلى الذين نافقوا فأبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان يقولون لأخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب يعني يهود بني النضير لئن اخرجتم من دياركم وبلادكم لنخرجن معكم مساعدين لكم ولا نطيع في قتالكم وفي مخاصمتكم أحداً أبداً أي محمداً وأصحابه ، بل وعدوهم النصر بقولهم : وإن قوتلتم لننصرنكم ، ثم كذبهما اللّه في ذلك بقوله : ( واللّه يشهد إنّهم لكاذبون ) فإنّه لو خرج أهل الكتاب لا يخرج المنافقون معهم ، ولئن قوتلوا لا ينصرهم هؤلاء المنافقون ، ولئن نصروهم ليولنّ الأدبار وينهزمون.
    وقد نقل المفسرون أنّ الآية نزلت قبل إخراج بني النضير واُخرجوا بعد ذلك فلم يخرج معهم منافق ولم ينصرونهم (1).
    وقال سبحانه في بني النضير من اليهود ومن مال إليهم من المنافقين : ( لايُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَة أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) ( الحشر ـ 14 ).
    أخبر سبحانه عن أحوال المنافقين مخاطباً للمؤمنين ، بأنّهم لا يقاتلونكم إلاّ في قرى محصّنة لا يبرزون لحربكم وإنّما يقاتلونكم متحصّنين بالقرى أو من وراء جدر يرمونكم من ورائها بالنبل والحجر بأسهم بينهم شديد ، فعداوة بعضهم لبعض شديدة فليسوا بمتّفقي القلوب تحسبهم جميعاً متجمعين في الظاهر وقلوبهم شتى ، خذلهم اللّه باختلاف كلمتهم ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون.
    والآية تنطبق كل الانطباق على بني النضير ، فلاحظ سيرة ابن هشام ج 2 ص191.

5 ـ الإخبار عن القضاء على العدو قبل المعركة :
    قال سبحانه : ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ
    1 ـ مجمع البيان ج5 ص 263.

(368)
الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَ يَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَ يُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ * إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف مِنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ * وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إلاّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ إنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * ... إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان ) ( الأنفال : 7 ـ 12 ).
    الآية نزلت في وقعة « بدر » ، وقد وعد اللّه فيها المؤمنين بالنصر على عدوهم ويقطع دابرهم ، والمؤمنون على ما هم عليه من قلة العدد والعدة ، حتى أنّ الفارس فيهم كان المقداد أو هو والزبير بن العوام ، والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوة ، وقد وصفتهم الآية بأنّهم ذو شوكة ، وأنّ المؤمنين اشفقوا من قتالهم ، ولكن اللّه يريد أن يحق الحق بكلماته ، وقد وفى للمؤمنين بوعده ، فنصرهم على أعدائهم وقطع دابر الكافرين.
    « قال رسول اللّه سيروا على بركة اللّه فإنّ اللّه عزّ وجلّ قد وعدني ( إحدى الطائفتين ) ولن يخلف اللّه وعده ، واللّه لكأنّي أنظر إلى مصرع أبي جهل بن هشام وعتبة ابن ربيعة وشيبة بن ربيعة وفلان وفلان ، وأمر رسول اللّه بالرحيل وخرج إلى بدر » (1).
    فأخبر سبحانه بقوله : ( ويقطع دابر الكافرين ) عن هزيمة المشركين وقتل أعوانهم واستئصال شأفتهم ومحق قوّتهم ، فإنّ دابر القوم آخرهم الذي يأتي في دبرهم ويكون من ورائهم ، ولن يصل إليه الهلاك إلاّ بهلاك من قبله من الجيش ، وهكذا كان الظفر ببدر فاتحة الظفر لما بعدها إلى أن قطع اللّه دابر المشركين بفتح مكة (2).
    وليس تنبّؤ القرآن بالقضاء على مشركي قريش في معركة بدر منحصرة بهذه الآية بل تنبّأ بذلك في آية اُخرى وهي قوله سبحانه : ( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ
    1 ـ مجمع البيان ج4 ص 522.
    2 ـ المنار ج9 ص 601 ، والناظ ـ ر الدقيق المتأمّل في مفاد هذه الآيات السبع يجد فيها تنبّؤات كثيرة تحقّقت كلّها في غزوة بدر ، فاقرأ سيرة النبي الأكرم ولاحظ مفاد هذه الآيات.


(369)
الجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُر ) ( القمر : 44 ـ 45 ) فأخبر عن انهزام جمع الكفار وتفرّقهم وقمع شوكتهم ، وقد وقع هذا في يوم « بدر » أيضاً حين ضرب أبا جهل فرسه وتقدم نحو الصف الأوّل قائلاً : نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه ، فأباده اللّه وجمعه وأنار الحق ورفع مناره ، وأعلى كلمته فانهزم الكافرون وظفر المسلمون عليهم حينما لم يكن يتوهّم أحد بأنّ ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً ليس لهم عدة يظفرون فيها بجمع كبير تام العدة وافر العدد ، وكيف يستفحل أمر اُولئك النفر القليل على هذا العدد الكثير ، حتى تذهب شوكته كرماد اشتدت به الريح (1).

6 ـ التنبّؤ بصيانة القرآن عن التحريف :
    تنبّأ القرآن بأنّه سيبقى مصوناً عن التحريف بعامة معانيه ، فمع أنّ القرآن بل التاريخ يقصّان علينا تحريف الكثير من كتب اللّه ووحي السماء ، ومع أنّ المستقبل مليء بشتيت الحوادث المرة والليالي حبالى مثقلات ، جاء القرآن يخبر بوضوح بأنّ الأيدي الجائرة لا تتمكن من التلاعب به حيث قال : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر ـ 9 ) والمراد من « الذكر » بقرينة قوله سبحانه : ( وَ قَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُون ) ( الحجر ـ 6 ) هو القرآن لا النبي كما احتمله بعضهم ، وبما أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يكن من الذين يطلبون المجد عن طريق الأحلام المكذوبة والآمال المعسولة ويسيرون على الخيال ، فلا مناص من أن تكون صادرة عن وحي سماوي ، معبّرة عن رأي من يملك الأرض والسماء والماضي والمستقبل.
    نعم نوقش في دلالة الآية على صيانة القرآن عن التحريف بوجوه زائفة لا قيمة لها في ميزان الانصاف (2).
    1 ـ البيان ص 52 ـ 53.
    2 ـ راجع في الوقوف على تلكم الشبهات وأجوبتها ، تفسير البيان ص 144 ـ 146.


(370)
7 ـ الاخبار عن نجاح الإسلام والرسول :
    قال سبحانه : ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ يَأْبَى اللّهُ إلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَ دِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 32 ـ 33 ويقرب منهما ما ورد في سورة الصف 8 ـ 9 ، باختلاف يسير ) فأظهره على الدين كلّه أعزّ اظهار ، اُرغمت به آناف المشركين ، وقبض ولحق بالرفيق الأعلى ، ولم يبق في الجزيرة العربية وثن ولا وثني ، ولأعلام التفسير حول الآية كلمات تفسر الآية بغير ما ذكرناه.
    قال صاحب المنار بعد ما حقّق وفصل أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يصلح لأن يكون عالمياً ، ويظهر على الدين كلّه ، وأنّه صح عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : « أنّ اللّه زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك اُمتي ما زوى لي منها » ، قال : ومن العلماء من يقول إنّ بعض البشارات هذه لا يتم إلاّ في آخر الزمان عند ظهور المهدي وما يتلوه من نزول عيسى بن مريم ( عليها السَّلام ) من السماء وإقامته لدين الإسلام (1).
    وفسّر الطبرسي « الظهور » بالغلبة بالحجة والقهر معاً ، وقال أي ليظهر دين الإسلام على جميع الأديان بالحجة والغلبة والقهر لها حتى لا يبقى على وجه الأرض دين إلاّ مغلوباً ، ولا يغلب أحد الإسلام بالحجة وأهل الإسلام يغلبون أهل سائر الأديان بالحجة ، وأمّا الظهور بالغلبة فهو أنّ كل طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك ولحقهم قهر من جهتهم.
    وقيل : أرادعند نزول عيسى بن مريم فانّه لا يبقى أهل دين إلاّ أسلم أو أدّى الجزية ، وقال أبو جعفر ( عليها السَّلام ) إنّ ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمد فلا يبقى أحد إلاّ أقرّ بمحمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، وقال المقداد بن الأسود سمعت رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) يقول : لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلاّ أدخله اللّه كلمة الإسلام أمّا بعزّ عزيز وأمّا
    1 ـ المنار ج10 ص 460.
مفاهيم القرآن ـ جلد الثالث ::: فهرس