بذل ذليل ... (1). وقال في موضع آخر : وفي هذه دلالة على صحّة نبوّة نبيّنا محمد ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لأنّه سبحانه قد أشهر دينه على جميع الأديان بالاستعلاء والقهر واعلاء الشأن كما وعده ذلك في حال الضعف وقلّة الأعوان. روى عباية : أنّه سمع أمير المؤمنين يقول : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ) أظهر بعد ذلك؟ قالوا : نعم ، قال : كلا ، فوالذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلاّ وينادى فيها شهادة أن لا إله إلاّ اللّه بكرة وعشياً (2). نعم يمكن أن يقال : المراد من الظهور معناه الجامع العام أي الظهور والغلبة أعم من الغلبة بالبرهان والحجة والغلبة بالقدرة والسيطرة ، ثم الظهور أعم من الظهور على الشرك والوثنية السائدة في الجزيرة العربية يوم نزول الآية ، والظهور على الشرائع كلها ، في مشارق الأرض ومغاربها ، فللظهور مراتب ودرجات تحقق بعضها في عصر الرسول والبعض الآخر بعده ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) والدرجة العليا منها إنّما تتحقق بظهور المهدي من آل محمد « عجل اللّه تعالى فرجه ». على أنّ هنا آيات تنبّأت بمستقبل الإسلام ونجاحه نجاحاً باهراً مثل قوله سبحانه : ( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الحَقَّ وَالبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَ أَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ ) ( الرعد ـ 17 ). فتنبّأ بأنّ الإسلام سيخلد ويبقى ، وأنّ الباطل والوثنية سيذهب جفاء ، أخبر بذلك في الوقت الذي كان فيه المسلمون في مكة مضطهدين مستضعفين يخافون أن يتخطّفهم الناس ، وقريب منه قوله سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَة طَيِّبَة أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَ فَرْعُهَا فِي السَّماءِ * تُؤْتِي اُكُلَهَا كُلَّ حِين بِإِذْنِ رَبِّهَا وَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( إبراهيم : 24 ـ 25 ) فالمراد من الكلمة الطيبة ، هي كلمة التوحيد وما يتفرّع عنها من أحكام وفروع ، فالاعتقاد باللّه سبحانه ووحدانيته هو
1 ـ مجمع البيان ج3 ص 24. 2 ـ مجمع البيان ج 5 ص 280.
(372)
الأصل الثابت والمحفوظ من كل تغير وزوال ، ومن طروء أي بطلان عليه ، وتتفرّع عنها أحكام ونسك وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيى بها الانسان ، ويعمّر بها المجتمع ، وتعطي اُكلها وثمارها التي هي عبارة عن صلاح المجتمع الانساني وتكامله كل حين. فالآية تشير إلى أنّ العقائد الحقّة وما يتفرع عنها من الأحكام ، كشجرة طيبة فكما هي تضرب عروقها في الأرض وتعلوا أغصانها إلى السماء ، ويتظلّل بها الناس ، ويستفيد من ثمارها القريب والبعيد ، فهكذا الدين الحق والكلمة الطيبة التي هي كلمة التوحيد والإسلام ، سوف تستقر في قلوب الناس ، وتضرب عروقها في ضمائرهم وقلوبهم ، وترفع أغصانها في مظاهر حياتهم ، يتظلّل بها العرب والعجم ويستفيد من آثارها الداني والقاصي ، وبها يستقر السلام العام وتأمن سعادة الناس ، وبها يتكامل المجتمع البشري في مراحل الحياة ومظاهرها ، فتبقى دائمة على مرّ الليالي والأيام. فهذه الآية تنبّىء عن مستقبل الإسلام ونجاحه نجاحاً باهراً في وقت لم يكن من بواسم الآمال ما يلقى ضوءً على نجاح هذا الدين ، ولم يكن عند النبي من العوامل ما يجعله يثق بهذا النجاح ، وليس النبي بشهادة تاريخ حياته ورجاحة عقله واتزانه ودقته ، من الذين يلقون القول على عواهنه غير متريّثين بما يقولون بل كان يثبت في كلامه ، ويتحرّى في مقاله حتى اشتهر بالصدق والأمانة ، ومع ذلك فقد أخبر بلغة الواثق فيما يقول ، عن نجاح دينه في المستقبل وأنّه سوف يضرب بجرانه خارج مكة بل خارج الجزيرة العربية إلى أقاصي الدنيا. وأعطف على ذلك تنبّؤ القرآن بكل وعود تدل على نجاح الرسل والمؤمنين في ميادين الحياة ومعارك التنازع ، كقوله سبحانه : ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُونَ * وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ ) ( الصافات : 171 ـ 173 ) وقوله سبحانه : ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ يَوْمَ يَقُومُ الأشْهَاد ) ( غافر ـ 51 ) وقوله سبحانه : ( وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
(373)
دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَاُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ) ( النور ـ 55 ) (1). فهذه الوعود المؤكدة الكريمة وإن وردت بصورة عامة ، لكنّها تعم النبي الأكرم والذين آمنوا به ، فقد نصر النبي وجنده وغلبهم على مخالفيهم وأعدائهم ، ومكّن الذين آمنوا وعملوا الصالحات في أرضه واستخلفهم فيها ، وبدل خوفهم أمناً حتى استطاعوا أن يعبدوه آمنين غير خائفين إلى يومنا هذا. « إنّ الإسلام لقى من ضروب العنت مراراً وتكراراً في أزمان متطاولة وعهود مختلفة ، ما كان بعضه كافياً في محوه وزواله ولكنّه على رغم أنف هذه الأعاصير العاتية بقي ثابتاً ، يسامي الجبال ، شامخاً يطاول السماء ، على حين انّ سجّلات التاريخ لا تزال تحفظ بين طياتها ، ما يشيب الوليد من ألوان الاضطهاد والأذى الذي أصاب الرسول وأتباعه في مكة والمدينة وقد رمتهم العرب بقوس واحدة ، عندما نزلوا المدينة وكانوا لا يبيتون إلاّ بالسلاح ولا يصبحون إلاّ فيه ، وقد وعدهم بالنصر والغلبة وهم يضطهدون ، وما أعجل تحقق هذا الوعد الإلهي ، رغم هذه الأحوال المنافية في العادة لما وعد ، فدالت الدولة لهم واستخلفهم في أقطار الأرض وأورثهم ملك كسرى وقيصر ، ومكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وأبدلهم بعد خوفهم آمناً ، يا لها نبوءة تأبى عادة أن يتحدّث بها إلاّ من يملك تحقيقها ويخرق إن شاء عادات الكون ونواميسه من أجلها ، ( إِنْ تَنْصُرُوا اللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم ) ( وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّهَ لَقَوِيٌ عَزِيزٌ ) »
(2). كيف وهو لم يكتف بهذا بل تنبّأ في الوقت الذي لم يكن فيه من بواسم الآمال ، ما يوجب اطمئنانه بنجاحه ونجاح دينه وبأنّه سيعود إلى معاده وموطنه في حين أنّ المسلمين كانوا بمكة في أذى وغلبة من أهلها ، وكان هو بالجحفة أثناء هجرته إلى المدينة
1 ـ راجع ما أسلفاه حول الآيات المتقدمة من عمومية المعنى وأوسعيته وكونه ذا مراتب فلا ينافي تأويلها بخروج الإمام المنتظر. 2 ـ مناهل العرفان ج2 ص 270 ـ 271 بتصرف.
(374)
وقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالهُدَى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلال مُبِين ) ( القصص ـ 85 ) فأخبر عن رجوعه إلى معاده من غير شرط ولا استثناء وجاء المخبر مطابقاً للخبر (1). وانّك لتجد في سبرك الذكر الحكيم آيات اُخرى غير ما ذكرناه تبشر بنجاح الإسلام والمسلمين ، وتعبّر عن غلبتهم على أعدائهم ، وهذه الآيات الكثيرة الواردة في هذا القسم من المغيبات ، قد تحققت كلها ولم تتخلّف منها واحدة ولو تخلّفت منها واحدة لزمرت وطبّلة على تلك السقطة أعداؤه وطفقوا يرقصون فرحاً بالخلاف الذي وجدوه في كتابه الذي به تحدّاهم فهدم كيانهم وسفه أحلامهم. ولا بأس بذكر بعض ما يناسب المقام من الآيات التي تنبّأت بانتصار الرسول والمسلمين على أعدائهم وأنّهم سوف يدخلون مكة بل يفتحونها. قال سبحانه : ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرؤيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) ( الفتح ـ 27 ) ، روى أصحاب السير والتاريخ : « إنّ اللّه تعالى أرى نبيّه في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية ، انّ المسلمين دخلوا المسجد الحرام ، فأخبر بذلك أصحابه ، وأنّهم سوف يدخلون مكة ، فلمّا خرجوا من المدينة وبلغوا الحديبية ، خرج منها رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في عدد من أصحابه حتى إذا كان بذي الحليفة بعث النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) عيناً ، وجاء فأخبره بأنّ كعب بن لؤي وعامر بن لؤي ، قد جمعوا لك الأحابيش طليعة ، وبعد محادثات جرت بين المسلمين وقريش اصطلحوا على أن يضعوا الحرب عشر سنين وأن يرجع رسول اللّه ومن معه من أصحابه في عامه هذا فلا يدخل مكة إلاّ من العام القابل ، فيقيم بها ثلاثاً ومعه سلاح الراكب والسيوف في القرب ، ولا يدخلها بغيره ، فلمّا أنصرف رسول اللّه ومن معه من أصحابه ، قال المنافقون : ما حلقنا ولا قصرنا ولا دخلنا المسجد الحرام ، فأنزل اللّه هذه الآية وأخبر أنّه أرى رسوله الصدق في منامه ، لا
1 ـ مجمع البيان ج4 ص 269.
(375)
الباطل وأنّهم يدخلونه وأقسم على ذلك وقال : ( لتدخلن المسجد الحرام ) أي العام القابل وكان بين نزول الآية والدخول مدة سنة ولعلّ التقييد بالمشيئة لعلمه سبحانه بأنّ منهم من يموت قبل السنة أو يمرض فلا يدخلها ، فأدخل الاستثناء لأنّ لا يقع في الخبر خلف (1). ونختم هذا القسم بتنبّؤين : 1 ـ تنبّؤ القرآن بانتصاره على أعدائه من قريش وفتحه عاصمة الوثنيين ودخول الناس في دين الإسلام فوجاً بعد فوج ، قال سبحانه : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَ الفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ * إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) ( النصر : 1 ـ 4 ) فأظفره اللّه على أعدائه وفتح مكة ودخل الناس في دين الإسلام زمرة بعد زمرة ، ولأجل ذلك النصر العظيم أمره سبحانه بتنزيه اللّه عمّا لا يليق به ، وليست هذه هي المرة الوحيدة التي تنبّأ فيها القرآن الكريم بفتح مكة ، بل تنبّأ بفتح مكة مرة اُخرى وهو قوله سبحانه : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) ( الفتح ـ 1 ) فقد روي أنّ المسلمين رجعوا عن غزوة الحديبية وقد حيل بينهم وبين نسكهم فهم بين الحزن والكآبة إذ أنزل اللّه عزّ وجلّ : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) فأدرك الرسول السرور والفرح ، ما شاء اللّه ، ففتحت مكة بعد عامين من نزول السورة ، ومعنى قوله : ( إنَّا فتحنا ) إنّا قضينا لك بالفتح. وقال سبحانه : ( وَ اُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِن اللّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ ) ( الصف ـ 13 ) والمراد من « فتح قريب » أمّا فتح مكة أو فتح بلاد الفرس والروم (2). 2 ـ تنبّؤالقرآن بأنّه لا يضر ارتداد من ارتد ممّن آمن به فانّ اللّه يأتي بقوم رحماء على المؤمنين أشدّاء على الكافرين ، يجاهدون في سبيل اللّه لاعلاء كلمة اللّه وإعزاز دينه ، حيث قال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْم 1 ـ سيرة ابن هشام ج2 ، ص 308 ـ 322 ، مجمع البيان ج5 ص 126. 2 ـ مجمع البيان ج5 ص 108 ـ 109 و 282.
(376)
يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِم ذِلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَ اللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) ( المائدة ـ 54 ). وروي أنّ النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) سئل عن هذه الآية ، فضرب بيده على عاتق سلمان فقال : هذا وذووه ... ثم قال : لو كان الدين معلّقاً في الثريّا لتناوله رجال من أبناء فارس ، ونقلت في هدف الآية أقوال اُخر (1).
8 ـ التنبّؤ بأحداث جزئية : ومن غرائب التنبّؤات الإخبار عن أحداث جزئية ، تحققت بعد الإخبار كما أخبر ، فأخبر بأنّ أبا لهب وامرأته يموتان على الكفر ، ولا يحظيان بسعادة الإسلام الذي يكفّر عنهما آثام الشرك ويحط أوزارهما ، فماتا على الكفر ، كما أخبر به اخباراً حتمياً وذلك في قوله سبحانه : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِ ـ ى لَهَب وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيُصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَب * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَّسَد ) ( المسد : 1 ـ 5 ) ، فأخبر بأنّه يدخل ناراً عنيفة الاشتعال تلتهب عليه ، وهي نار جهنم وجاء المخبر كما أخبر. كما أخبر عن الوليد بن المغيرة ومصير أمره وعاقبة حياته ، وأنّه يموت على الكفر ، وأنّه سبحانه يدخله في عذاب لا راحة فيه ، وذلك عندما اتهم النبي بأنّه ساحر ، فأنزل اللّه سبحانه فيه الآيات التالية : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَ بَنِينَ شُهُوداً * وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزْيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لاِيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاّ قَوْلُ البَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرْ * وَمَا أَدْرَيكَ مَا سَقَر * لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر ) ( المدثر : 11 ـ 30 ).
1 ـ مجمع البيان ج2 ص 208.
(377)
روي أنّ قريشاً اجتمعت في دار الندوة فقال الوليد لهم أنّكم ذووا أحساب وذووا أحلام ، وأنّ العرب يأتوكم ، فتنطلقون من عندكم على أمر مختلف ، فاجمعوا أمركم على شيء واحد ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا : إنّه شاعر ، فعبس وقال : قد سمعنا الشعر فما يشبه قوله الشعر ، فقالوا : إنّه كاهن ، قال : إذا تأتونه فلا تجدونه يحدث بما تحدث به الكهنة ، قالوا : إنّه لمجنون ، فقال : إذا تأتونه فلا تجدونه مجنوناً ، قالوا : إنّه ساحر ، قال : وما الساحر؟ فقالوا : بشر يحبب بين المتباغضين ويبغض بين المتحابين ، قال : فهو ساحر ، فخرجوا فكان لا يلاقي أحد منهم النبي إلاّ قال : يا ساحر يا ساحر ، واشتد ذلك فأنزل إليه هذه الآيات (1). وهذا التنبّؤ صدر عنه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في مكة وكان في وسع الرجل أن يقلب حاله ويصلح باله ولكنّه بقي على ما كان عليه من كفره وعدائه للنبي والإسلام. وقد تنبأ القرآن به بصورة اُخرى وهو أنّه سنجعل له علامة على أنفه يعرف بها ، حيث قال سبحانه : ( وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّف مَهِين * هَمَّاز مَشَّاء بِنَمِيم * مَنَّاع لِلْخَيْرِ مُعْتَد أَثِيم * عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم * أَنْ كَانَ ذَا مَال وَ بَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الخُرْطُومِ ) ( القلم : 10 ـ 16 ) وقد حضر الرجل في معركة بدر الكبرى فخطم أنفه بالسيف ، وبقي أثر هذه الضربة سمة وعلامة له كما هو أحد الوجوه في تفسير قوله : ( سنسمه على الخرطوم ) (2). ولا ينحصر تنبّؤ القرآن بعدم إيمان عمّه أو الوليد بل تنبأ في آية اُخرى عن عدم إيمان ثلة كبيرة من الكافرين فقال سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة : 6 ). وقال سبحانه : ( وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون ) ( يس ـ 10 ).وليس المراد عموم الكافرين لبطلانه بالضرورة لدخول كثير منهم في الإسلام بل
1 ـ مجمع البيان ج1 ص 387. 2 ـ الكشاف ج4 ص 258.
(378)
المراد هم الذين كانوا يظاهرون بعدوانه. قال الطبرسي : تدل الآية على أنّه يجوز أن يخاطب اللّه تعالى بالعام والمراد به الخاص لأنّا نعلم أنّ في الكفّار من آمن وانتفع بالانذار (1). ومثله تنبّؤ القرآن بأنّ عدو النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ( العاص بن وائل السهمي هو الأبتر ) وأنّ اللّه سبحانه سيرزق نبيّه ذرية كثيرة حتى يصير نسبه أكثر من كل نسب ، قال سبحانه : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَر ) (2). قال في تفسير الفخر : إنّ هذه السورة إنّما نزلت رداً على من عابه ( عليها السَّلام ) بعدم الأولاد ، فالمعنى أنّه يعطيه نسلاً يبقون على مر الزمان ، فانظر كم قتل من أهل البيت ثم العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بني اُمية في الدنيا أحد يعبأ به ، ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا ( عليهم السَّلام ) والنفس الزكية وأمثالهم. كل ذلك دليل على أنّه لا مصدر لهذه التنبّؤات والإخبارات الغيبية إلاّ اللّه سبحانه علاّم الغيوب.
9 ـ تنبّؤ القرآن في مكّة بما سيصيب كفّار قريش : تنبّأ القرآن بالمستقبل الأسود الذي كان ينتظر قريشاً ، وذلك عندما دعا النبي على قومه لما كذبوه بقوله : اللّهمّ اجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف ، فأجدبت الأرض فأصابت قريشاً المجاعة ، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان ، وأكلوا الميتة والعظام ، ثمّ جاءوا إلى النبي وقالوا : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم ، وقومك قد هلكوا فسأل اللّه تعالى لهم بالخصب والسعة ، فكشف عنهم ثم عادوا إلى الكفر (3) وإلى ذلك يشير قوله سبحانه :
1 ـ مجمع البيان ج1 ص 43. 2 ـ لاحظ مجمع البيان ج5 ص 540 ومفاتيح الغيب ج8 ص 498. 3 ـ مجمع البيان ج5 ص 63 ، البرهان ، ج4 ، ص 160.
(379)
( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَان مُبِين * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * رَبَّنَا ااكْشِفْ عَنَّا العَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ * أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَ قَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قَالُوا مَعَلَّمٌ مَجْنُونٌ * إِنَّا كَاشِفُوا العَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ ) ( الدخان : 10 ـ 16 ). فقد تنبّأ في هذه الآيات السبع عن عدة مغيبات هي : 1 ـ الإخبار عن القحط الذي يقع بهم ، وشدة الجوع الذي يغشاهم ، إلى حد يتصوّر الرجل السماء كالدخان ، لما به من شدة الجوع ، حيث قال سبحانه : ( وارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين ) . 2 ـ الإخبار بابتهالهم وتضرّعهم إلى اللّه سبحانه ، عندما تلم بهم هذه الأزمة ، ويحل بهم الجوع والغلاء ، قال سبحانه : ( ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون ) . 3 ـ الإخبار برفع العذاب وكشفه عنهم قليلاً ، قال سبحانه : ( إنّا كاشفوا العذاب قليلاً ). 4 ـ الإخبار بعودهم إلى ما كانوا عليه من الكفر والإنكار ، قال سبحانه : ( إِنّّكم عائدون ). 5 ـ الإخبار بأنّ اللّه سينتقم منهم يوم البطشة الكبرى ، وهو يوم بدر الكبرى حيث انتقم منهم وقتل من صناديد قريش ، سبعون رجلاً وأسر منهم مثله وفرّ الآخرون. وهذه الكثرة الوافرة من الأنباء الغيبية لم تتخلّف واحدة منها ، بل تحققت كما أخبر بها ، ولو لم يتحقق لنقل لتوفر الدواعي على نقله وتواتره. نعم قيل إنّ الدخان الوارد في الآية من أشراط الساعة (1) ، وهو بعد لم يأت وإنّما يأتي قبل يوم الساعة ، وتكون الأرض كلّها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص ، ويستمر ذلك أربعين يوماً. ولا يخفى أنّ المعنى الأوّل أظهر وأنسب لقوله سبحانه : ( أنّى لهم 1 ـ مجمع البيان ج5 ص 62.
(380)
الذكرى وقد جاءهم رسولٌ مبينٌ * ثمّ تولَّوا عنه وقالوا معلَّمٌ مجنونٌ ) إذ لو كان الدخان الوارد في الآية من أشراط الساعة ، لغشي الناس جميعاً ، ولم يختص بكفار قريش وعند ذاك لا يصح لوم الجميع بقوله : ( أنّى لهم الذكرى وقد جاءهم رسولٌ مبينٌ * ثمّ تولَّوا عنه وقالوا معلَّمٌ مجنونٌ ) فإنّ كثيراً من المحشورين في يوم القيامة ، ليسوا من اُمّة نبيّنا « محمد » ولم يتولّوا عنه ولم يتّهموه بأنّه معلّم مجنون. ثمّ إنّ القرآن كما تنبّأ في مكة بما يصيب كفار قريش لم يزل يتنبّأ أيضاً بعدما هبط النبي في المدينة وأخذ يتنبّأ بما سيصيب الكفار من المشركين واليهود ويخبر عن مؤامراتهم ضد الإسلام فقال : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ المِهَاد ) ( آل عمران ـ 12 ) فالآية أمّا نازلة في حق اليهود أو في مشركي مكة ، وعلى كلّ حال فالآية صادقة في حق كلتا الطائفتين (1) وسيوافيك بيانها. ومثل الآية قوله سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ) ( الأنفال ـ 36 ) ، والآية تخبر عن مؤامرة المشركين وانفاق أموالهم في معصية اللّه ، ثم ينكشف لهم من ذلك الانفاق ما يكون حسرة عليهم من حيث إنّهم لا ينتفعون بذلك الانفاق ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يكون وبالاً عليهم ثم يغلبون في الحرب ، فقد روى أنّها نزلت في أبي سفيان بن حرب الذي استأجر يوم أُحد ألفين من الأحابيش يقاتل بهم النبي ، سوى من استأجرهم من العرب. وروي أيضاً غير ذلك (2).
1 ـ مجمع البيان ج1 ص 413. 2 ـ مجمع البيان ج 2 ص 541.