|
مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 21 ـ 30 |
|
(21)
ومعناه حفظ الدماء التي كانت عرضة لاَن تسفك بسبب الخلاف في قاتل تلك النفس. (1)
وأنت ترى أنّ هذا التفسير لا ينطبق على قوله : ( فقلنا اضربوه ببعضها ) أي اضربوا النفس المقتولة ببعض جسم البقرة ( كذلك يحيي اللّه الموتى ) فهل كان في غسل الاَيدي على البقرة المكسورة العنق ، ضرب المقتول ببعض البقرة؟! هذا أوّلاً.
وأمّا ثانياً : كيف استند الاَُستاذ ـ في تفسير الآية الحاضرة ـ بما ورد في التوراة ، مع أنّ المشهود منه أنّه يستوحش كثيراً من بعض الروايات التي ربما توافق ما ورد في الكتب المقدسة ، ويصفها بالاِسرائيليات والمسيحيات ، ومع ذلك عدل عن مسلكه واستند في تفسير الذكر الحكيم بالكلم المحرف.
وليس هذا التفسير ـ في حقيقته ـ إلاّ لاَجل ما اتخذه الاَُستاذ من موقف مسبق تجاه المعاجز والكرامات ، وخوارق العادة ، وغير ذلك مما يرجع إلى عالم الغيب.
النموذج الرابع
قال اللّه سبحانه : ( ألَم تَرَ إلى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِم وهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمّ أحياهُم إنّ اللّهَ لذُو فَضْلٍ على النّاسِ ولكنّ أكثَرَ النّاس لا يَشْكُرُون ). (2)
ذهب الجمهور إلى أنّهم قوم من بني إسرائيل فرّوا من الطاعون أو من الجهاد ، فأرسل عليهم الموت ، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم
1 ـ تفسير المنار : 1/345 ـ 350.
2 ـ البقرة : 243.
(22)
فراراً منه ، فأماتهم اللّه جميعاً وأمات دوابهم ثم أحياهم ، لمصالح وغايات أُشير إليها في الآية.
هذا هو ما ذهب إليه الجمهور ، ولكن الاَُستاذ أنكر ذلك واختار كون الآية مسوقة سوق المثل ، وانّ المراد بهم قوم هجم عليهم أُولو القوة والقدرة من أعدائهم لاستذلالهم واستخدامهم وبسط السلطة عليهم ، فلم يدافعوا عن استقلالهم وخرجوا من ديارهم وهم أُلوف ، لهم كثرة وعزة حذر الموت ، فقال لهم اللّه : موتوا موت الخزي والجهل ، والخزي موت ، والعلم وإباء الضيم حياة ، فهوَلاء ماتوا بالخزي وتمكن الاَعداء ، منهم ، وبقوا أمواتاً ثم أحياهم بإلقاء روح النهضة ، والدفاع عن الحق فيهم ، فقاموا بحقوق أنفسهم ، واستقلّوا في أمرهم. (1)
ولا يخفى على القارىَ الكريم أنّ تفسير الاَُستاذ هذا نابع من موقفه المسبق حول خوارق العادة والكرامات والمعجزات وذلك :
أوّلاً : أنّه لو كانت الآية مسوقة سوق المثل وجب أن تذكر فيه لفظة « المثل » كما هو دأبه سبحانه في الاَمثال القرآنية ، مثل قوله : ( كَمَثَلِ الّذِي استَوْقَدَ ناراً ). (2) وقوله تعالى : ( إنّما مَثَلُ الحياةِ الدُّنيا كماءٍ أنزَلناهُ ). (3) وقوله تعالى : ( مَثَلُ الّذِينَ حُمِّلُوا التّوراةَ ثُمّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِل أسفاراً ). (4)
فحمل الآية على المثل وإخراجها عن كونها وردت لبيان قصة حقيقية ، تفسير بلا شاهد ، وتأويل بلا
دليل.
ثانياً : لو كان المراد من الموت هو موت الخزي والجهل ، ومن الحياة روح النهضة والدفاع عن الحق ، فحيث إنّ المفروض أنّهم قاموا بحقوق أنفسهم
1 ـ تفسير المنار : 2/458 ـ 459.
2 ـ البقرة : 17.
3 ـ يونس : 24.
4 ـ الجمعة : 5.
(23)
واستقلوا بأمرهم ، وجب أن يمدحوا ، ويذكروا بخير ، مع أنّه سبحانه يقول في ذيل الآية ذاماً لهم : ( إنّ اللّه لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ).
والعجب أنّ الاَُستاذ ردَّ نظرية الجمهور بقوله سبحانه : ( لايَذُوقُونَ فِيها المَوتَ إلاّ المَوتَةَ الاَُولى ) (1) قائلاً بأنّه لا معنى لحياتين في هذه الدنيا. (2)
والجواب : أنّ الحياة الدنيا لا تصير بتخلل الموت حياتين ، بل هي حياة واحدة ، أيضاً ، وإلاّ فماذا يقول في أصحاب الكهف الذين ضرب اللّه على أسماعهم ثلاثمائة سنة انقطعوا فيها عن هذه الحياة ثم رجعوا إليها ، والسبات على طائفة بمدة ثلاثمائة سنة ، لا تقصر عن الموت ، بل هو والموت سواسية.
ولو قال بأنّ ظاهر الآية انّ الناس لا يذوقون إلاّ موتة واحدة ، وعلى هذا التفسير فهوَلاء ذاقوا الموت مرتين.
فجوابه : أنّ مشيئته سبحانه هو أن لا يذوق الانسان إلاّ موتة واحدة ، إلاّ إذا كانت هناك مصالح توجب تعدد الموت ، مثل قوله سبحانه : ( رَبَّنا أَمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْن ). (3) وقوله : ( ويَوْمَ نَحْشُ ـ رُ مِنْ كُلِّ أُمّةٍ فَوْجاً ) (4). وليست الآية راجعة إلى يوم البعث ، فإنّه يحشر فيه جميع الناس والاَُمم جمعاء لا فوج منهم.
النموذج الخامس :
قال اللّه سبحانه : ( أو كالّذِي مَرَّ على قَرْيةٍ وهِيَ خاويةٌ على عُرُوشِها قالَ أنّى يُحْيِي هذهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فأماتَهُ اللّهُ مائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ
1 ـ الدخان : 56.
2 ـ تفسير المنار : 2/458 ـ 459.
3 ـ غافر : 11.
4 ـ النمل : 83.
(24)
يَوماً أو بَعْضَ يَومٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مائَة عامٍ فَانظُرْ إلى طَعامِكَ وَشَ ـ رابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهُ وانظُرْ إلى حِمَارِكَ وَلَنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وانظُر إلى العِظامِ كَيفَ نُنشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لحماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أعلَمُ أَنَّ اللّهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدير ). (1)
ذهب الجمهور إلى أنّ الرجل المذكور في الآية كان من الصلحاء عالماً بمقام ربّه ، مراقباً لاَمره ، بل كان شخصاً مكلَّماً كما يحكي عنه قوله سبحانه : ( ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ ) فخرج من داره قاصداً مكاناً بعيداً عن قريته التي كان بها ، والدليل على ذلك خروجه مع حمار يركبه وحمله طعاماً وشراباً يتغذى بهما ، فلما صار إلى ما كان يقصده مرّ بالقرية التي ذكر اللّه أنّها كانت خاوية على عروشها ، ولم يكن قاصداً نفس القرية ، وإنّما مرّ بها مروراً ثم وقف معتبراً بما شاهده من القرية الخربة قائلاً كما يحكيه عنه سبحانه : ( أنّى يُحْيِي هذهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِها ) مستعظماً ـ بذلك ـ الاِحياء بعد طول المكث في القبور ورجوعهم إلى حياتهم الاَُولى ، فأماته اللّه سبحانه ثم بعثه.
وقد كانت الاِماتة والاِحياء في وقتين مختلفين من النهار ، واستفسر عنه سبحانه بقوله : ( كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوماً أو بَعْضَ يَوْمٍ ) فردّ اللّه سبحانه عليه بقوله : ( بَلْ لَبِثْتَ مائة عامٍ ) فرأى من نفسه أنّه شاهد مائة سنة كيوم أو بعض يوم ، فكان في ذلك جواب ما استعظمه من إمكان الاِحياء بعد طول المكث.
ولكن الاَُستاذ فسر « الموت » في الآية بالسبات ، وهو أن يفقد الموجود الحي ، الحس والشعور مع بقاء أصل الحياة مدّة من الزمان ، أياماً أو شهوراً ، أو سنين ، كما أنّه الظاهر من قصة أصحاب الكهف ، ورقودهم ثلاثمائة وتسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة فالقصة تشبه القصة. (2)
1 ـ البقرة : 259.
2 ـ تفسير المنار : 3/49 ـ 50.
(25)
وأنت تعرف أنّ تفسير الموت بـ « السبات » ناشىَ من موقف مسبق في هذا النوع من الموضوعات ، مع كونه خلاف ظاهر ( فأماتَهُ اللّهُ ) وهو ظاهر في الموت الحقيقي المتعارف دون السبات الذي ابتدعه الاَُستاذ ، وقياسه على أصحاب الكهف قياس مع الفارق ، حيث إنّه سبحانه يصرح هناك بالسبات بقوله : ( فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الكَهْفِ سِنينَ عَدَداً ). (1)
ثم إنّه ارتكب مثل هذا التأويل في قوله سبحانه : ( وَانظُرْ إلى حِمَارِكَ وَلَنَجْعَلَكَ آيةً لِلنَّاسِ وَانظُر إلى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً ) ، فمن أراد الوقوف عليه فليرجع إلى تفسيره.
النموذج السادس :
وليس ما ذكر هو الخطأ الاَخير الذي وقع فيه الاَُستاذ في تفسير سورة واحدة ، وهي سورة البقرة ، فقد ارتكب مثل هذا التأويل البارد أيضاً في تفسير قول اللّه سبحانه : ( وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيي الْمَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُوَْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُ ـ رهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِيَنَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ). (2)
فقد ذهب الجمهور إلى أنّ إبراهيم طلب من ربّه أنْ يطلعه على كيفية إحياء الموتى ، فأمره اللّه تعالى بأن يأخذ أربعة من الطير فيقطعها أجزاء ويفرّقها على عدّة جبال هناك ثم يدعوها إليه فتجيئه ، وأنّه ( عليه السلام ) قد فعل ذلك.
ولكن الاَُستاذ اتخذ رأياً خاصّاً نقل عن أبي مسلم أيضاً ، وهو : أنّه ليس في الآية ما يدل على أنّ إبراهيم ( عليه السلام ) فعل ذلك ، وما كل أمر يقصد به الامتثال ، فإنّ
1 ـ الكهف : 11.
2 ـ البقرة : 260.
(26)
من الخبر ما يأتي بصيغة الاَمر لا سيما إذا أُريد زيادة البيان ، كما إذا سألك سائل كيف يصنع الخبز؟ مثلاً فتقول : خذ كذا وكذا وافعل به كذا وكذا يكن خبزاً ، تريد هذه كيفيته ، ولا تعني تكليفه صنع الخبز بالفعل ، وفي القرآن كثير من الاَمر الذي يراد به الخبر ، والكلام ها هنا مثل لاِحياء الموتى.
ثم إنّه جاء بتفسير عجيب للآية ، إذ قال : معناه خذ أربعة من الطير فضمها إليك ، وآنسها بك حتى تأنس ، وتصير بحيث تجيب دعوتك ، فإنّ الطيور من أشد الحيوانات استعداداً لذلك ، ثم اجعل كل واحد منها على جبل ثم ادعها فانّها تسرع إليك ، لا يمنعها تفرّق أمكنتها ، وبعدها عن ذلك ، كذلك أمر ربّك إذا أراد إحياء الموتى ، يدعوهم بكلمة التكوين « كونوا أحياء » فيكونوا أحياء ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الاَرواح إلى الاَجساد على سبيل السهولة. (1)
ثم إنّ الاَُستاذ اختار هذا المعنى قائلاً : إنّ تفسير أبي مسلم هو المختار !!
نحن لا نرد على هذا النظر بما في إمكاننا ، غير أنّا نكتفي في إبطال هذا التفسير بأنّه سبحانه قال في الآية : ( ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزءاً ) ولم يقل : واحداً منها ، وعلى ما ذكره يجب أن يقول : واحداً.
فإذا كان هذا هو مسلك الاَُستاذ الذي كان يعيش في بيئة علمية دينية توَمن بالسنن والصحاح والمسانيد ، وموقفه من المعاجز والكرامات وخوارق العادة ، فكيف يكون يا تُرى موقف الجدد من الكتّاب الذي تأثروا بالحضارة الغربية المادية والاَفكار الاِلحادية الواردة من الشرق والغرب فصاروا إلى تأويل هذه المعاجز والخوارق على هذا النمط ، أسرع وأميل ؟!
1 ـ المنار : 3/54 ـ 56.
(27)
إنّ هذا الاَمر هو الذي دفع بنا إلى أن نجعل البحث في هذا الكتاب حول المعاجز والكرامات الواردة للنبي الاَكرم في القرآن ، وأنْ نشبع الكلام فيه ، وأنْ نقوم في وجه المعاندين الذين جعلوا بعض الآيات القرآنية ذريعة إلى نفي أن يكون لنبي الاِسلام ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) معاجز غير القرآن ، آملين أن ينتفع به الجيل الحاضر كما انتفع بالاَجزاء السابقة ، ويقوى به إيمانه ليكون ممن يشمله قوله : ( الَّذين يُوَمِنُونَ بالغيبِ ) واللّه المستعان.
جعفر السبحاني
قم ـ موَسسة الاِمام الصادق ( عليه السلام )
15 شعبان المعظم من شهور عام 1405 هـ
(28)
(29)
(30)
في هذا الفصل :
1. توضيح المراد من « المودة في القربى » حسب معاجم اللغة العربية ، وفهم السلف من الاَُمّة.
2. التوفيق بين مفاد الآية المثبتة للاَجر للنبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) المطلوب من الاَُمّة ، والآيات النافية له بتاتاً.
3. كيف يعود هذا الاَجر إلى الناس أنفسهم دون النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كما هو صريح قوله سبحانه : ( قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فهو لَكُمْ ) ؟
4. هل المستثنى في الآية هو المستثنى في قوله سبحانه : ( قُل ما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إلاّ مَنْ شاءَ أنْ يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبْيلا ) ؟
5. حال الاَقوال الشاذة التي ربّما يذكرها المفسرون حول الآية.
6. نقل بعض ما رواه الفريقان من المأثورات حول الآية.
|
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس |
|