هاهنا إشكالات مثارة حول الشفاعة ناشئة من قياس الشفاعة الواردة في الشريعة الاِسلامية على الشفاعة الرائجة في الحياة البشرية المادية والتي تسمّى بالوساطة ، ولو كان المستشكلون يعرفون حقيقة الشفاعة التي نص بها القرآن والحديث ، لما تفوّهوا بتلك الاِشكالات التي لا تليق بالبحث والنقد في الكتب العلمية. غير انّ انتشار هذه الاِشكالات بين الشباب دعانا إلى عقد هذا البحث وإفراده عمّا سبق ، وإليك الاِشكالات واحداً بعد واحد ، والاِجابة عنها على نحو الاِجمال :
الاِشكال الاَوّل لا شك أنّ الشفاعة لا تشمل جميع أنواع الجرائم والمعاصي ، وعامة أنواع العصاة والمجرمين ، إذ عندئذ يصير القانون لغواً ، ويعود التكليف بلا أثر ، وانّما الشفاعة في بعض أنواع الجرم ، وفي حق بعض المجرمين دون بعض ، وعندئذ يطرح هذا السوَال : إنّ حقيقة كل جرم هي التجاوز على الحدود ، وكل مجرم يعتدي على حدود
(252)
اللّه ، فما معنى أن يقع بعض أقسام الجرم والمجرمين في إطار الشفاعة دون البعض مع اشتراك الجميع في هدم الحدود ، والتجاوز والعدوان؟ الجواب إنّ ما زعمه المستشكل من استلزام الشفاعة الترجيح بلا مرجح ، والتفريق في القانون إنّما يتم إذا كان جميع ألوان الجرم وأنواع المجرمين في درجة واحدة في الآثار والتبعات والكشف عن النفسيات ، وأمّا إذا كان للجرم مراتب أو كان المجرمون على درجات في النفسيات والروحيات فلا تستلزم الشفاعة ما ذكره المستشكل ، فلا يستوي من أحرق منديل أحد عدواناً ، ومن أحرق مصنعاً كبيراً تعيش به مئات من العمال ، فكلا العملين تجاوز وعدوان ولكن شتان بين الاَوّل والثاني. ولاَجل ذلك تكون العقوبات والتبعات متفاوتة حسب تفاوت مراتب الجرم وحسب كشف العمل عن روحية المجرم ونفسيته. فهناك شاب لا يملك نفسه عن النظر إلى المرأة الاَجنبية نظراً ممزوجاً بالسوء ، وهناك آخر يعتدي بالعنف عليها ، فكلا العملين عدوان على القانون وتجاوز على الحدود وتجاهل للحرمة ولكن تختلف مراتبهما. وعلى ذلك فإذا كان المجرمون مختلفين ومتفاوتين في مراتب الجرم فلا تعد الشفاعة في حق من كان أخف جرماً دون الآخر تفريقاً في القانون. كما أنّ هناك فرقاً بين مجرم قد حافظ على روابطه الاِيمانية مع اللّه ، وعلى علاقاته الروحية مع الشفيع بحيث لا يعد المجرم إنساناً أجنبياً عن كلا المقامين ، ومجرم قد قطع كل علاقاته الاِيمانية والروحية بحيث صار إنساناً أجنبياً عن الشافع والمشفوع عنده ، فتشريع الشفاعة في حق الاَوّل وقبولها في شأنه دون الثاني
(253)
لا يعد تفريقاً في القانون ، وعملاً مخالفاً للتسوية فيه. والذي يوضح ذلك انّه سبحانه قد فرق بين الذنوب وأخبر بأنّ بعضها لا يغفر أبداً إلاّ مع التوبة ، وإنّ بعضها يغتفر بدونها أيضاً ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً ) . (1) فهل يسوغ لنا أن نعترض على عدم التسوية بين المشرك وغيره في غفران ذنوب الثاني دون الاَوّل؟ كلا. فانّ المشرك قد قطع جميع علاقاته مع اللّه سبحانه دون غير المشرك. وعلى الجملة فهذا الاِشكال مبني على الغض عمّا ورد في الكتاب والسنّة من تقسيم الجرائم إلى الكبائر والصغائر ، وما ورد من أنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب غفران الصغائر ، قال سبحانه : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ). (2) وربما يقرر هذا الاِشكال بوجه آخر فيقال : إنّه جرت مشيئة اللّه الحكيمة على إجراء القوانين والسنن على نمط واحد قال سبحانه : ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَحْويلاً ) (3) ، وعلى ذلك فقبول الشفاعة في حق بعض المجرمين نوع تغيير في السنن الحكمية الثابتة. وأنت خبير إنّ هذا الاِشكال هو نفس ما تقدم جوهراً ، وان كان يختلف عنه شكلاً ، فإنّ الاَساس في التقرير الاَوّل انّ الشفاعة تفرقة في القانون ، والاَساس في هذا البيان هو انّ الشفاعة تبديل وتحويل لسنن اللّه التي لا يتطرق إليها التبدّل
1 ـ النساء : 48. 2 ـ النساء : 31. 3 ـ فاطر : 43.
(254)
والتحوّل. والاِجابة عن هذا التقرير واضحة جداً ، فكما انّ العقاب سنّة إلهية ، فكذلك المغفرة والعفو عن الجرم والمجرم في شرائط خاصة سنّة من السنن الاِلهية ، فلا يعد الاعتراف بأحدهما نقضاً لسنته. والقائل جعل العقاب هو الاَصل وتخيل انّ العفو والمغفرة نوع تغيير في سننه. وان شئت قلت : إنّ قوله سبحانه : ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّهِ تَحْويلاً ) (1) لا يهدف إلى أنّه ليس له إلاّ شأن واحد وعمل فارد لا يتجاوز عنه ( وهو عقاب المجرم في كل الاَحايين ) بل هو سبحانه ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ ) (2) ، وقال سبحانه : ( يَمْحُوا اللّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ ). (3) كيف وانّ للّه سبحانه أسماء وصفات ، ولكل واحد منها تجل وظهور في عالم الكون ، فهو بما انّه المحيي والمميت ، فله تجل في الكون بالاِحياء والاِماتة وبما انّه القاهر والمنتقم والروَوف والرحيم ، فله أيضاً تجلّيات في الكون ، ولا يعد كل تجلّ ناقضاً للآخر أو تحويلاً لسنته سبحانه ، وما هذا إلاّ لاَن الكل سنن لا أنّ هناك سنة واحدة وهو الاِحياء حتى تكون الاِماتة ناقضة لها. وهناك قصة قد رواها الاَصمعي لا تخلو من صلة بالمقام ، قال الاَصمعي : كنت في البادية وأقرأ القرآن عن ظهر القلب ، وكانت هناك امرأة من أهلها ، فقرأت قوله سبحانه هكذا : ( وَالسّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ ) (4) ـ واللّه غفور رحيم ـ فاعترضت وقالت بأنّه سبحانه لو كان
1 ـ فاطر : 43. 2 ـ الرحمن : 29. 3 ـ الرعد : 39. 4 ـ المائدة : 38.
(255)
غفوراً ورحيماً لما أمر بقطع أيديهما؟! قال الاَصمعي : ففتحت القرآن فرأيت انّ في قراءتي لحناً والصحيح ( عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ووقفت بأنّ الاَمر بقطع الاَيدي لا يصح أن يقع مظهراً لرحمته وغفرانه ، بل هو مظهر لعزّه وحكمته. هذه المرأة الربيبة في البادية تشير بكلامها إلى ما أدركه الفلاسفة في ضوء البراهين من أنّ للّه سبحانه أسماء وصفات ، ولكّلٍ منها تجلّ خاص ، فكما أنّه يتجلّى في كل مجال من التكوين باسم خاص ، فهكذا عالم التشريع يتجلّى في كل حكم بما يناسبه من الاسم ، فالمناسب لقطع يد السارق هو التجلّي باسم العزة والحكمة لا الغفران والرحمة ، لاَنّ كل تجلّ يتناسب مع اسم خاص. والعجب انّ القائل استدل على ما يهدف إليه من الاِشكال من عدم تطرق التحول والتبدل في سنن اللّه بقوله سبحانه : ( هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقيم * إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغاوِينَ ) (1) مع أنّ الآية تهدف إلى أمر آخر ، ويفسره قوله سبحانه : ( وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ). (2) وكلتا الآيتين تهدفان إلى أنّ طريقه سبحانه صراط مستقيم لا تجد فيه عوجاً ولاأمتا ، وهذا بخلاف ما يدعو إليه الشيطان فإنّ فيه كل الاعوجاج.
الاِشكال الثاني إنّ تشريع الشفاعة يجر إلى التمادي في العصيان والتعدّي والاستمرار في العدوان ، وانّ المجرم حسب اعتقاده بالشفاعة سيستمر على عدوانه رجاء غفران 1 ـ الحج : 41 ـ 42. 2 ـ الاَنعام : 153.
(256)
ذنوبه بالشفاعة. (1) الجواب إنّ هذا الاِشكال ينبع من قياس الشفاعة التي وردت في الكتاب والسنّة ، بالشفاعة الرائجة في أوساط الناس ، ولو كان المستشكل واقفاً على الفرق الجوهري بينهما لما عدّ الشفاعة عاملاً للجرأة ، وذريعة للعصيان ، وذلك لاَنّه مردود نقضاً وحلاً ، أمّا الاَوّل فمن وجوه : 1. لو كان تشريع الشفاعة عاملاً للجرأة لكان الوعد بالمغفرة عاملاً للجرأة أيضاً مع أنّه سبحانه وعد بها في قوله : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ). (2) لاحظ قوله سبحانه : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَديدُ العِقابِ ) (3) فإنّ لفظ ( عَلى ظُلْمِهِمْ ) جملة حالية تبين شمول المغفرة للناس في حال كونهم معتدين ومجرمين ، فلو كان الوعد بالشفاعة عاملاً للجرأة لكان الوعد بالمغفرة في هذه الآيات عاملاً لها أيضاً. 2. انّه سبحانه قد وعد بأنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب التكفير عن بعض السيئات ، قال سبحانه : ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَما تُنْهَونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكمْ 1 ـ وفي كلام الكاتب فريد وجدي إشارة إلى هذا الاِشكال لاحظ : 5/402 ، مادة شفع من دائرة معارفه. وقال الطنطاوي : إنّ الشفاعة بالمعنى الذي يفهمه العامة تقود الاَُمّة إلى الانتكاس على أُمّ الرأس ، ويبقى الدين من أسباب التأخر لا الرقي. لاحظ : 1/69 من تفسيره ، وما ذكره ليس إلاّ خلطاً بين الشفاعة السائدة في المجتمع المادي في الدنيا عند الروَساء والمتنفذين فيهم ، والشفاعة التي جاء بها القرآن الكريم ، وستوافيك الفروق الموجودة بين الشفاعتين. 2 ـ النساء : 48 و 116. 3 ـ الرعد : 6.
(257)
سَيِّئاتِكُمْ ) (1) فهل يجد المستشكل في نفسه انّ هذا التشريع يوجب جرأة العباد على ارتكاب بعض السيئات رجاء غفرانها بالاجتناب عن الكبائر؟ 3. لو كان تشريع الشفاعة مستلزماً لما تخيّله القائل لكان تشريع التوبة من عوامل الجرأة والاَسباب التي تجر العباد إلى العصيان والعدوان ، قال سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً ). (2) هذا وذاك يكشفان عن أنّ المستشكل لم يقف على مغزى الشفاعة وما تهدف إليه الآيات والروايات وإلاّ لما عد الشفاعة الباعثة للاَمل في النفوس ، موجباً للجرأة وسبباً للتمادي في العصيان ، وقد أشرنا ـ فيما سبق ـ إلى بعض الآثار التربوية البنّاءة الموجودة في الشفاعة. هذا كله نقضاً وأمّا حلاً فالاِشكال يتغذى من الشفاعة المتصورة في بعض الاَذهان ، وهو انّ للاِنسان أن يفعل ما يريد تعويلاً على الشفاعة واغتراراً بها. وأمّا الشفاعة المحدودة الشاملة لبعض العباد التي لم تنقطع علاقاتهم باللّه سبحانه ، وبأوليائه فلا تبعث على الجرأة ، بل تبعث أملاً في نفس العاصي ويدفعه إلى أن يرجع عن التمادي في المعصية ، ويصلح حاله فيما يأتي من الزمان ، كما أوضحناه فيما سبق ، فلا نعيد ، ولكن نأتي هنا ببيان آخر ، وهو انّ الشفاعة الموعود بها لو كانت أمراً منجزاً ، مطلقاً ، واضحاً من حيث الجرم ، والمجرم متعيناً من حيث الوقت ونوع العقوبة ، لكان لما تخيله المستشكل وجه ، ولكن الشفاعة الموعود بها لاَجل عمد تنجزها ، واشتراطها بشروط وإبهامها من حيث الجرم والمجرم ، وعدم تعيّنها من حيث الوقت ونوع العقوبة ، فلا يستلزم ذلك ، وإليك توضيح ذلك : إنّ الشفاعة التي نطق بها القرآن ووعد بها ليست أمراً منجزاً ومطلقاً من كل
1 ـ النساء : 31. 2 ـ التحريم : 8.
(258)
قيد وشرط ، فإنّ الشفاعة مقيدة بإذنه سبحانه وكون المشفوع له مرضياً عنده ، قال سبحانه : ( مَنْ ذَا الَّذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِه ) (1) وقال سبحانه : ( ولا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنْ ارْتَضى ) (2) ، وليس من الممكن أن يتيقن المجرم بأنّه ممن يشمله إذنه سبحانه وارتضاوَه. إذ ليس في وسع أحد أن يدّعي أنّه من العباد الذين تشملهم المغفرة الاِلهية يوم القيامة بالاِذن في الشفاعة في حقهم وكونه من العباد المرضيين كيف وقد قال سبحانه : ( فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاّ الْقَومُ الْخاسِرُنَ ) (3). هذا من وجه ، ومن وجه آخر : انّ الشفاعة مبهمة من حيث الجرم والمجرم ، إذ لم يرد أي توضيح في موردها وانّها تشمل أي جرم من الاَعمال الاِجرامية وأي مجرم من أنواع المجرمين فهي مبهمة من تلك الناحية ، وهذا الاِبهام يصد العاصي عن أن يعتمد على الشفاعة المحتملة في حقه ، بل ربّما تدعوه إلى التحفظ عن اقتراف بعض المعاصي لئلاّ يحرم من الشفاعة. هذا وكما انّ الشفاعة مبهمة من تلك الناحية فهي أيضاً مبهمة من ناحية الوقت وأنواع العقوبات ، فإنّ الآيات ناطقة بأنّ يوماً من أيام القيامة يمتد امتداد ألف سنة أو أكثر ، قال سبحانه : ( وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ ) (4) وقال سبحانه : ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) (5) ، وعلى ذلك فللعصاة والطغاة بل العباد كلهم مواقف مختلفة يوم القيامة ، وهي مواقف رهيبة ومخيفة ذات أوضاع تهز القلوب ، ومن المعلوم انّه لم يعين وقت الشفاعة ، وانّه في أي وقت تتحقق في حق المجرم أفبعد هذه
1 ـ البقرة : 255. 2 ـ الاَنبياء : 28. 3 ـ الاَعراف : 99. 4 ـ الحج : 47. 5 ـ المعارج : 4.
(259)
الاِبهامات الثلاثة يبقى مجال لاَن يعول المجرم على الشفاعة أو يتمادى في المعصية؟! إنّ غاية ما في الشفاعة أنّها بصيص من الرجاء ونافذة من الاَمل فتحه القرآن في وجه العصاة حتى لا ييأسوا من روح اللّه ، ورحمته ، وأن لا يغلبهم الشعور بالحرمان من عفوه فيتمادوا في العصيان.
الاِشكال الثالث الشفاعة المعروفة عند الناس هي أن يحمل الشافع المشفوع عنده على فعل أو ترك أراد غيره ـ حكم به أم لا ـ فلا تتحقق الشفاعة إلاّ بترك الاِرادة وفسخها لاَجل الشفيع ، فأمّا الحاكم العادل فإنّه لا يقبل الشفاعة إلاّ إذا تغير علمه بما كان أراده أو حكم به ، كأن كان أخطأ ثم عرف الصواب ورأى أنّ المصلحة أو العدل في خلاف ما كان يريده أو حكم به ، وأمّا الحاكم المستبد الظالم فإنّه يقبل شفاعة المقربين عنده في الشيء وهو عالم بأنّه ظالم وانّ العدل في خلافه ، ولكنّه يفضل مصلحة ارتباطه بالشافع المقرب عنده على العدالة ، وكل من النوعين محال على اللّه تعالى ، لاَنّ إرادته تعالى على حسب علمه وعلمه أزلي لا يتغير. (1) وحاصل الاِشكال : انّ قبول الشفاعة يستلزم أحد أُمور ثلاثة : 1 ـ أمّا أن يكون الحاكم في حكمه الاَوّل جائراً عالماً بذلك. 2. أن يكون الحاكم في حكمه الاَوّل جائراً غير عالم به. 3. أن يكون الحاكم في حكمه الاَوّل عادلاً لكنه يعدل عن هذا الحكم على خلاف المصلحة ونزولاً عند رغبة الشفيع.
1 ـ تفسير المنار :
1/307.
(260)
أمّا الاَوّل ، فيستلزم أن يكون الحاكم جائراً غير عادل. أمّا الثاني ، فهو يستلزم أن يكون الحاكم جاهلاً بحقيقة حكمه. أمّا الثالث ، فيستلزم أن يكون الحاكم ناقضاً للحكم المبني على العدل لاَجل شفاعة الشفيع ، والكل ممتنع في حقه سبحانه. الجواب لو أنّ الاَُستاذ قد أمعن في حقيقة الشفاعة التي نطق بها القرآن الكريم وفسرتها الاَحاديث الاِسلامية ، لما جعل أمر قبول الشفاعة مردّداً بين أحد أُمور ثلاثة ممتنعة في حقه سبحانه ، فإنّ الشفاعة لا ترتبط بأحد هذه الاَُمور ، بل هي من واد آخر نشير إليه بتقديم مقدمة وهي : إنّ الحكم يتبع موضوعه ، فكل موضوع له حكم خاص فمادام الموضوع باقياً على وضعه الاَوّل لا ينفك عنه الحكم ، فإذا تبدّل إلى موضوع آخر يتبدّل حكمه إلى حكم آخر ، أو يصير ذا حكم جديد غير ما حكم به على الموضوع الاَوّل ، مثلاً المائع ما دام كونه خمراً فهو رجس يجب الاجتناب عنه ، فإذا تبدّل إلى الخل يتبدّل حكمه ، أثر تبدّل موضوعه ، فيكون محكوماً بالطهارة ، ولا يعد الحكم الثاني ناقضاً للحكم الاَوّل ، ولا يوجب اختلاف الحكم اختلافاً وتبدّلاً في علم الحاكم بل للحاكم من أوّل الاَمر علمان ، وحكمان ، كل مرتبط بموضوعه ، فقد كان الحاكم عالماً وحاكماً بأنّ الخمر نجس حرام ، وانّ الخل طاهر حلال ، وما حصل من التغيير فإنّما هو تغيير في المعلوم والموضوع لا في العلم. ونظير ذلك العاصي والتائب فإنّ العصيان حالة نفسية في الاِنسان ، فله حكمه الخاص من العقاب لاَجل طغيانه وعدوانه ، كما أنّ التوبة حالة نفسانية مغايرة للحالة الاَُولى فلها حكمها الخاص ، فالاِنسان العاصي محكوم بحكم كما