مفاهيم القرآن ـ جلد الراربع ::: 291 ـ 300
(291)
عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (1). ترى أنّه سبحانه يستنكر دعاءهم بقوله : ( لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ) وقوله : ( عباد أمثالكم ) مذكّر بأنّ عقيدتهم في حق هوَلاء عقيدة كاذبة وباطلة ، فإنّ الاَصنام لا تستطيع نصر أحد ، وهذا يكشف عن أنّ الداعين كانوا من جانب النقيض من تلك العقيدة ، وكانوا يعتقدون بتملّك الاَصنام لنصرهم وقضاء حوائجهم من عند أنفسهم.
    وثالثاً : أنّ الدعاء ليس مرادفاً للعبادة وما ورد في الآية والحديث من تفسير الدعاء بالعبادة في ذيلهما لا يدل على ما يرتئيه المستدل ، فإنّ المراد من الدعاء فيهما قسم خاص منه ، وهو الدعاء المقترن باعتقاد الاِلوهية في المدعو والربوبية في المطلوب منه كما عرفت.
    4. الشفاعة حق مختص باللّه سبحانه لا يملكه غيره وعلى ذلك فطلبها من غير مالكها أمر غير صحيح ، قال سبحانه : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَميعاً ). (2)
    والجواب : انّ المراد من قوله سبحانه : ( قل للّه الشفاعة جميعاً ) ليس انّه سبحانه هو الشفيع دون غيره ، إذ من الواضح انّه سبحانه لا يشفع عند غيره ، بل المراد انّ المالك لمقام الشفاعة هو سبحانه وانّه لا يشفع أحد في حق أحد إلاّ بإذنه للشفيع وارتضائه للمشفوع له ، ولكن هذا المقام ثابت للّه سبحانه بالاَصالة والاستقلال ولغيره بالاكتساب والاِجازة ، قال سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (3) فالآية صريحة في أنّ من شهد بالحق يملك الشفاعة ولكن تمليكاً منه سبحانه وفي طول ملكه. وعلى ذلك
    1 ـ الاَعراف : 194.
    2 ـ الزمر : 43.
    3 ـ الزخرف : 86.


(292)
فالآية أجنبية عن طلب الشفاعة من الاَولياء الصالحين الذين شهدوا بالحق وملكوا الشفاعة ، وأُجيزوا في أمرها في حق من ارتضاهم لها.
    هذا وكما أنّ الشفاعة التشريعية مختصة باللّه سبحانه وانّه المالك لها بالاَصالة وانّما يملكها الغير بإذن منه ، هكذا الشفاعة في عالم التكوين وعالم العلل والمعاليل والاَسباب والمسببات ، قال سبحانه : ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمواتِ وَالاََرضَ وَما بَيْنَهما في سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىٍّ وَلا شَفيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) (1) والمراد من الشفيع في الآية هو الشفيع في عالم التكوين بقرينة انّ البحث يدور حول خلق السماوات والاَرض ثم الاستواء على العرش ويعود معنى الآية إلى أنّ الاَسباب والمسببات الخارجية إذا كان بعضها شفيعاً لبعض في تتميم الاَثر ( كالسحاب والمطر والشمس والقمر وغيرها شفعاء للنبات ) فموجد الاَسباب وأجزائها هو الشفيع بالحقيقة التي يتم نقصها ويقيم صلبها فانّه سبحانه هو الشفيع بالحقيقة لا شفيع غيره. (2)
    وإن شئت قلت : إنّ الآية بصدد نقد عقيدة المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّ الاَصنام والاَوثان تملك الشفاعة ، فأراد سبحانه أن يوقظ شعورهم بأنّ مالكية الاَصنام لها فرع كونها ذا عقل وشعور حتى يمكن أن تستفيد من هذا الحق في شأن الشفعاء ، وتلك الآلهة لا تعقل ولا تشعر شيئاً ، كما يدل عليه قوله سبحانه : ( قل أوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون قل للّه الشفاعة جميعاً ).
    5. طلب الشفاعة من الميت أمر باطل ، ولعل هذا آخر سهم في كنانتهم فجعلوا طلب الشفاعة من أوليائه الصالحين أمراً لغواً ، لاَنّهم أموات غير أحياء لا يسمعون ولا يعقلون.
    1 ـ السجدة : 4.
    2 ـ الميزان : 16/258.


(293)
    والاستدلال باطل من وجوه :
    أمّا أوّلاً : فلاَنّ البراهين الفلسفية قد أثبتت تجرد النفس الاِنسانية وبقاءها بعد مفارقة الروح البدن ، وقد أثبت الفلاسفة ذلك بأدلة كثيرة لا مجال لذكرها في هذه الصفحات ، وقد جئنا ببعضها في ما حرّرناه حول الروح في رسالة خاصة ، ولعلّنا نقوم ببيانها عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم.
    وثانياً : أنّ الآيات صريحة في أنّ المقتولين في سبيل اللّه أحياء يرزقون قال سبحانه : ( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحينَ بِما آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَليْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (1) وهل يجد الوهابي مبرراً لتأويل الآية مع هذه الصراحة التي لا تتصور فوقها صراحة حيث أخبرت الآية عن حياتهم ورزقهم عند ربّهم وما يحل بهم من الاَفراح وما يقدمون عليه من الاستبشار بالذين لم يلحقوا بهم ، وما يتفوّهون به في حقهم بقولهم كما يحكيه سبحانه : ( ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون ).
    وعلى ذلك فلو كان الشفيع أحد الشهداء في سبيل اللّه تعالى ، فهل يكون هذا الطلب لغواً؟!
    وثالثاً : أنّ القرآن يعد النبي شهيداً على الاَُمم جمعاء ، ويقول سبحانه : ( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هوَلاءِ شَهِيداً ) (2) فالآية تصرّح بأنّ النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) شاهد على الشهود الذين يشهدون على أُممهم ، فإذا كان النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) شاهداً على الاَُمم جمعاء أو على شهودهم فهل تعقل الشهادة بدون
    1 ـ آل عمران : 169 ـ 170.
    2 ـ النساء : 41.


(294)
الحياة ، أو بدون الاطّلاع على ما تجري بينهم من الاَُمور من الكفر والاِيمان والطاعة والعصيان؟!
    ولا يصح لك أن تفسر شهادة النبي بشهادته على معاصريه ومن زامنوه ، وذلك لاَنّه سبحانه عدّ النبي شاهداً في عداد كونه مبشراً ونذيراً ، وهل يتصوّر أحد أن يختص الوصفان الاَخيران بمن كان يعاصره النبي؟! كلا لا ، فإذن لا وجه لتخصيص كونه شاهداً بالاَُمّة المعاصرة للنبي.
    فعند ذلك يكون طلب الشفاعة من النبي الاَكرم الذي هو حي بنص القرآن أمراً صحيحاً معقولاً ، وأنت إذا لاحظت الآيات القرآنية تقف على أنّها تصرح بامتداد حياة الاِنسان إلى ما بعد موته ، يقول سبحانه في حق الكافرين : ( حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ). (1) فهذه الآية تصرح بامتداد الحياة الاِنسانية إلى عالم البرزخ ، وانّ هذا وعاء للاِنسان يعذّب فيها من يعذّب وينعّم فيها من ينعّم ، أما التنعّم فقد عرفت التصريح به في الآية الواردة في حق الشهداء ، وأمّا العقوبة فيقول سبحانه : ( النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَونَ أَشَدَّ الْعَذابِ ). (2)
    وهناك آيات أُخر تدل على امتداد الحياة إلى ما بعد الموت نرجىَ نقلها إلى مكانها الخاص بل هناك آيات تدل بصراحة على ارتباطهم بنا ، وارتباط بعضنا من ذوي النفوس القوية بهم.
    وأمّا الاَحاديث الواردة في هذا المورد فحدث عنها ولا حرج ، وقد روى المحدّثون قول النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) : « ما من أحد يسلّم عليّ إلاّ رد اللّه روحي حتى أرد عليه
    1 ـ الموَمنون : 99 ـ 100.
    2 ـ غافر : 46.


(295)
السلام ». (1) كما نقلوا قوله : « إنّ للّه ملائكة سياحين في الاَرض يبلّغوني من أُمّتي السلام ». (2)
    وفي الختام نرى أنّه سبحانه يسلم على أنبيائه في آيات كثيرة ، ويقول : ( سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمينَ ) ( سَلامٌ عَلى إِبْراهيمَ ) ( سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ ) ( سَلامٌ عَلى آلِ ياسِينَ ) و ( سَلامٌ عَلى الْمُرْسَلينَ ). (3)
    كما يأمرنا بالتسليم على نبيه والصلوات عليه ويقول بصريح القول : ( إِنَّ اللّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِِوَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (4) ، فلو كان الاَنبياء والاَولياء أمواتاً غير شاعرين بهذه التسليمات والصلوات ، فأي فائدة في التسليم عليهم ، وفي أمر الموَمنين بالصلوات والسلام على النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) ؟ والمسلمون أجمع يسلمون على النبي في صلواتهم بلفظ الخطاب ، ويقولون : السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ، وحمل ذلك على الشعار الاَجوف والتحية الجوفاء ، أمر لا يجترىَ عليه من له إلمام بالقرآن والحديث.
    6. انّ القرآن يصرح بوضوح انّ الموتى لا يسمعون ولا يبصرون قال سبحانه : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمُوتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوا مُدْبِرينَ ) (5) فالآية تعرّف المشركين بأنّهم أموات ويشبههم بها ، ومن المعلوم أنّ صحة التشبيه تتوقف على وجود وجه الشبه في المشبه به بوجه أقوى وليس وجه الشبه إلاّ أنّهم لا يسمعون ، فعند ذلك تصبح النتيجة : انّ الاَموات مطلقاً غير قابلين للاِفهام ويدل
    1 ـ وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى : 4/1349 ، نقله عن أئمّة الحديث مثل أبي داود والبيهقي قال : وقد صدر به البيهقي باب زيارة قبر النبي.
    2 ـ المصدر السابق : 1350 نقلاً عن النسائي وغيره.
    3 ـ الصافات : 79 ، 109 ، 120 ، 130 ، 181.
    4 ـ الاَحزاب : 56.
    5 ـ النمل : 80.


(296)
على ذلك أيضاً قوله سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ) (1) ، والاستدلال بالآيتين على نسق واحد.
    والجواب أوّلاً : أنّ الآية تنفي السماع والاِفهام عن الاَموات المدفونين في القبور ، فإنّهم أصبحوا بعد الموت كالجماد لا يفهمون ولا يسمعون ، وهذا غير القول بأنّ الاَرواح المفارقة عن هذه الاَبدان غير قابلة للاِفهام ولا للاِسماع والآيتان دالتان على عدم إمكان إسماع الاَموات والمدفونين في القبور ، ولا تدلان على عدم إمكان تفهيم الاَرواح المفارقة عن الاَبدان ، العائشة في البرزخ عند ربهم كما دلت عليه الآيات السابقة.
    ومن المعلوم أنّ خطاب الزائر النبي بقوله : يا محمد اشفع لنا عند اللّه ، لا يشير إلى جسده المطهر ، بل إلى روحه الزكية الحية العائشة عند ربّها ، إلى غير ذلك من الصفات التي يضفيها عليه القرآن الكريم وعلى سائر الشهداء.
    والشاهد على ذلك انّا نرى : انّ المسلمين مع وقوفهم على هذه الآيات وتلاوتهم لها كانوا يتوجهون إلى النبي ( صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم ) بعد وفاته حيث روى الطبراني في الكبير عن عثمان بن حنيف انّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان ، في حاجة له ، وكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فلقى ابن حنيف فشكا إليه ذلك ، فقال له ابن حنيف : ائت الميضاة ، فتوضأ ، ثم ائت المسجد فصل ركعتين ، ثم قل : اللّهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة ، يا محمد إن ـ ّي أتوجه بك إلى ربك أن تقضي حاجتي ، وتذكر حاجتك ، فانطلق الرجل فصنع ما قال ، ثم أتى باب عثمان فجاءه البواب حتى أخذ بيده ، فأُدخل على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة فقال : حاجتك؟ فذكر حاجته وقضى له ، ثم قال له : ما ذكرت حاجتك حتى كانت الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها ، ثم إنّ الرجل خرج من
    1 ـ فاطر : 22.

(297)
عنده ، فلقي ابن حنيف ، فقال له : جزاك اللّه خيراً ، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلّمته فيّ ، فقال ابن حنيف : واللّه ما كلّمته ، ولكن شهدت رسول اللّه ، وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبي صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم : « إن شئت دعوت أو تصبر » ، فقال : يا رسول اللّه ، انّه ليس لي قائد وقد شق علي ، فقال له النبي : « ائت الميضاة ، فتوضأ ، ثم صل ركعتين ، ثم ادع بهذه الدعوات » ، قال ابن حنيف : فواللّه ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل ، كأنّه لم يكن به ضر. (1)
    وثانياً : أنّ الاستدلال بالآيتين على ما يرتئيه المستدل غفلة عمّا تهدف إليه الآيتان ، فإنّ الآيتين في مقام بيان أمر آخر ، وهو انّ المراد من الاِسماع هنا هو الهداية ، وهي تتصور على قسمين : هداية مستقلة ، وهداية معتمدة على إذنه سبحانه ، والآيتان بصدد بيان انّ النبي غير قادر على القسم الاَوّل من الهدايتين ، بل هي من خصائصه سبحانه وإنّما المقدور له هو الهداية المعتمدة على إذنه تعالى ، ويدل على ذلك نفس الآية الواردة في سورة فاطر حيث يقول : ( وَما يَسْتَوِي الاََعْمى وَالْبَصيرُ وَلاَ الظُّلُماتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ * وَما يَسْتَوِي الاََحْياءُوَلاَالاََمْواتُ إِنَّ اللّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ ). (2)
    والمستدل أخذ بالجملة الوسطى ، أعني قوله : ( وما أنت بمسمع من في القبور ) وغفل أو تغافل عن الجملتين الحافّتين بها ، فإنّك إذا لاحظت قوله : ( انّ اللّه يسمع من يشاء ) تقف على أنّ المراد من قوله : ( وما أنت بمسمع من في القبور ) هو نفي الاِسماع أو الهداية المستقلة من دون مشيئته سبحانه ، فكأنّه يقول : لست أيّها النبي بقادر على الهداية بل الهادي هو اللّه سبحانه ، ولاَجل ذلك
    1 ـ وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى : 4/1373 ، ورواه البيهقي من طريقين.
    2 ـ فاطر : 19 ـ 23.


(298)
يعود فيصف النبي في الجملة الاَخيرة بأنّه « ليس إلاّ نذير » لا المتصرف في عالم الوجود مستقلاً ومعتمداً على إرادته.
    والحاصل : انّ كون الآية بصدد بيان أنّ النبي ليس بقادر على إسماع الموتى وهدايتهم ، شيء ، وكونها بصدد أنّ النبي لا يقدر على الهداية والاِسماع مستقلاً ومعتمداً على إرادة نفسه ، شيء آخر ، والآية بصدد الاَمر الثاني لا الاَوّل ، والذي يفيد المستدل هو الاَوّل ، ويدل على ذلك قوله سبحانه : ( لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (1) وقال سبحانه : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (2) وقال سبحانه : ( وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبيلَ ) (3) فهذه الآيات قرينة على أنّ الغاية التي تهدف إليها تلك الآية هو سلب استقلال النبي بأمر الهداية وإسماعهم وان كان يقدر على ذلك بإذنه ، بقرينة قوله سبحانه : ( إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُوَْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ) (4) ، وقال سبحانه : ( وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) (5) بل يصفه سبحانه بقوله : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (6) وبذلك تحصل انّ استدلال المستدل غفلة عن هدف الآية.
    وإن شئت قلت : إنّ الظاهر من الآيات انّ النبي الاَعظم صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم كان حريصاً على هداية الناس وكان راغباً في إسعادهم كما يحكي عنه قوله تعالى : ( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (7) ، وقال تعالى : ( وَما أَكْثَرُ النّاسِ
    1 ـ البقرة : 272.
    2 ـ القصص : 56.
    3 ـ الاَحزاب : 4.
    4 ـ النمل : 81 ، والروم : 53.
    5 ـ السجدة : 24.
    6 ـ الشورى : 52.
    7 ـ القصص : 56.


(299)
وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُوَْمِنينَ ) (1) وقال سبحانه : ( ليسَ لكَ مِنَ الاََمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ ) (2) وقال سبحانه : ( لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُو مُوَْمِنينَ ) (3) ، كل هذه الآيات تشهد على إصرار النبي وعلاقته بهداية أُمّته ، وعلى ذلك فيكون المراد من الآيات الناظرة إلى ما يطلبه النبي في أمر الاَُمّة ، هو نفي كون النبي قائماً بذلك الاَمر على وجه الاستقلال ، وعلى نحو الاِطلاق ، سواء أشاء اللّه أم لم يشأ ، بل انّما تنفذ إرادته وعلاقته بهدايتهم إذا وقعت في إطار إرادته سبحانه ومشيئته من غير فرق في ذلك بين الموتى والاَحياء ، بإسماع الموتى وهداية الاَحياء.
    وبذلك يظهر ما تهدف إليه آية سورة النمل ، فإنّ المقصود من قوله : ( إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوا مُدْبِرينَ ) (4) هو انّك لا تقوم بإسماع الميت الواقعي ، أو ميت الاَحياء كالمشركين والمنافقين مستقلاً ، وإنّما المقدور لك هو ما تعلّقت مشيئته سبحانه بهدايتهم ، ولاَجل ذلك يقول : ( وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاّ مَنْ يُوَْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ). (5)
    وقد وقفت في هذا الفصل الذي أفردناه عن الفصول السابقة على الاِشكالات التي نسجتها الاَوهام حول الشفاعة وعرفت ضآلتها بوجه واضح ، وفي ختام هذا الفصل نعطف نظر القارىَ الكريم إلى نكتة ، وهي انّ الشفاعة وما يرجع إليها من الاَبحاث من الاَُمور المسلّمة بين المسلمين ، ولو كان هناك خلاف فإنّما هو في أثر الشفاعة ، وإنّه هل هو رفع العقاب أو ترفيع الدرجة كما أنّه لو كان
    1 ـ يوسف : 103.
    2 ـ آل عمران : 128.
    3 ـ الشعراء : 3.
    4 ـ النمل : 80.
    5 ـ النمل : 81.


(300)
هناك خلاف آخر فإنّما هو في الاِشكال العاشر ، فإنّ الوهابيين يمنعون طلب الشفاعة ممن أُعطي الشفاعة ، والناظر في أبحاثهم وكلماتهم وتحليلاتهم يقف على أنّهم أعداء الاِنسان الكامل ، ولاَجل ذلك يصرفون هممهم للحط من شخصيته ، ومكانته ، ويتصورون أنّ التوحيد لا يتم إلاّ بتنقيصهم ، وكأنّ التوحيد لا يتم إلاّ بحط مكانتهم أو شخصيتهم ومنازلهم المعنوية.
    بقي هنا بحثان يتم بهما بحث الشفاعة :
    الاَوّل : الشفاعة في الاَدب العربي.
    الثاني : الشفاعة في الاَحاديث الاِسلامية.
مفاهيم القرآن ـ جلد الرابع ::: فهرس