3. الزجرة ( فَإِنّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَة * فَإِذا هُمْ بِالسّاهِرَة ). (1) ومعنى قوله : ( زَجْرَةٌ واحِدَة ) أي صيحة واحدة ، ( فَإِذا هُمْ بِالسّاهِرَة ) أي فإذا هم ملقون على وجه الأرض ، وسميت الأرض بالساهرة لأنّها لا تنام بشهادة أنّها تنبت النبت ليلاً ونهاراً عملاً دؤوباً دون انقطاع. وبما انّها تحكي عن ظهور الناس على الأرض فهي بالنفخ الثاني الذي يحيا فيه الناس أوفق.
4. النقر ( فَإِذا نُقِرَ فِي النّاقُور * فَذلِكَ يَوْمَئِذ يَومٌ عَسير * عَلَى الكافِرينَ غَيْرُ يَسير ). (2) والمراد من النقر : هو النفخة الثانية ، بشهادة ما جاء بعده من إحياء الكافرين وانّه يوم عسير عليهم ، وهذا بخلاف النفخة الأُولى فانّ أهوالها تعمّ المؤمن والكافر ، ولذلك قال سبحانه : ( فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ والأَرضِ ). (3)
5. الراجفة والرادفة يقول سبحانه : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الراجِفَة * تَتْبَعُهَا الرادِفَة ) (4) و « الراجفة » : صيحة عظيمة فيها تردد و اضطراب كالرعد إذا تمخض ، وهي تنطبق على النفخة الأُولى ، و « الرادفة » : كلّ شيء تبع شيئاً آخر فقد ردفه ، ولعلّ المراد النفخة الثانية التي تعقب النفخة الأُولى ، وهي التي يبعث معها الخلق ، والشاهد على أنّ الرادفة
1 ـ النازعات : 13 ـ 14. 2 ـ المدثر : 8 ـ 10. 3 ـ الزمر : 68. 4 ـ النازعات : 6 ـ 7.
(212)
هي النفخة الثانية ، قوله سبحانه : ( قُلُوبٌ يَومَئِذ واجِفَة * أَبْصارها خاشِعَة ) (1) أي : قلوب مضطربة شديدة وأبصار خاشعة ذليلة من هول ذلك اليوم.
ما هي حقيقة النفخ في الصور ؟ إنّ الآيات السالفة الذكر تؤكِّد على أنّه ينفخ في الصور مرتين ، ولكلّ نفخ أثره الخاص ، إنّما الكلام في حقيقة هذا النفخ. أمّا كلمة « نفخ » فمعلوم ، يقال : نفخ نفخاً بفمه أي أخرج منه الريح ، وأمّا الصور فهو القرن الذي ينفخ فيه (2) ، ولعلّ الوسيلة الوحيدة للنفخ في ذلك الزمان كان هو القرن ، فكان ينفخون فيه للإيقاظ ، وقد تطورت الكلمة من حيث المصداق وأصبحت تطلق اليوم على كلّ وسيلة ينفخ فيها بغية إيجاد الصوت لغايات شتى. وعلى أيّة حال فظاهر الآيات يوحي إلى وجود النفخ في الصور قبل يوم القيامة وحينه. لكن هل ثمة صور ونفخ حقيقيان ، أو هما كناية عن إيجاد الصوت المهيب للإماتة والإحياء ؟ والذي يمكن أن يقال إنّ هناك صوتين أحدهما قبل قيام الساعة والآخر بعده ، فالصوت المرعب الأوّل لغاية إماتة الإنسان وإزالة النظام الكوني ، وأمّا الصوت المرعب الثاني فهو لغاية إحياء الإنسان وحشره للحساب. أمّا ما هو حقيقة هذا النفخ والصور ؟ فهما من المسائل الغيبية التي يجب الإيمان بها ، وإن لم نقف على حقيقتها وواقعها ، وللعلامة الطباطبائي كلام في هذا الموضع نأتي بنصه :
1 ـ النازعات : 8 ـ 9. 2 ـ مجمع البيان : 3/496 ، تفسير الآية 99 من سورة الكهف.
(213)
ولا يبعد أن يكون المراد بالنفخ في الصور يومئذ مطلق النفخ أعمّ ممّا يميت أو يحيي ، فانّ النفخ كيفما كان من مختصات الساعة ويكون ما ذكر من فزع بعضهم وأمن بعضهم من الفزع وسير الجبال من خواص النفخة الأُولى ، وما ذكر من إتيانهم داخرين من خواص النفخة الثانية. (1)
سؤال وإجابة ربما يطرح هنا سؤال وهو : ما هو مقدار الفاصل الزماني بين النفختين الذي يحكي عنه تخلّل لفظة « ثمّ » بين النفختين ، يقول سبحانه : ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُون ) ؟. (2) والجواب : انّه غير معلوم لنا مقدار الفاصل الزماني بينهما ، ولعلّه من الأُمور التي استأثر اللّه بعلمها لنفسه ، يقول سبحانه : ( وَعِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَة ). (3) والعلم بالفاصل الزمني يستلزم العلم بزمن وقوع القيامة ، فمثلاً الذي يعلم جميع أشراط الساعة إذا وقف على الفاصل الزمني بين النفختين لعلم بالضرورة زمن وقوع يوم القيامة مع أنّه سبحانه يقول : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاّ هُوَ ). (4) عن ثوير بن أبي فاختة ، عن علي بن الحسين قال : سئل عن النفختين كم بينهما ؟ قال : « ما شاء اللّه ». (5)1 ـ الميزان : 15/400 ، ط بيروت. 2 ـ الزمر : 68. 3 ـ لقمان : 34. 4 ـ الأعراف : 187. 5 ـ بحار الأنوار : 6/324.
(214)
سؤال آخر وإجابة انّه سبحانه يستثني طائفة خاصة من الناس من الصعق عند النفخة الأُولى ، ويقول : ( وَنُفِخَ فِي الصُّور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِوَمَنْ فِي الأَرْض إِلاّ مَنْ شاءَ اللّه ثُمَّ نُفِخَ فيهِ أُخرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنظُرُون ). (1) وعندئذ يطرح السؤال التالي وهو من هم الذين شاء اللّه أن لا يصعقهم عند النفخة ؟ ويمكن الإجابة من خلال التدبّر في الآيات التالية : 1. ( مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَع يَومَئِذ آمِنُون * وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَة فَكبَّت وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ هَل تُجْزونَ إِلاّما كُنْتُمْ تَعْمَلُون ). (2) إنّ قوله سبحانه : ( فكبت وجوههم في النار ) دليل على أنّ المراد من اليوم في قوله : ( وَهُمْ مِنْ فَزَع يَومئذ آمِنُون ) هو يوم القيامة وانّ من جاء بالحسنة يكون آمناً في ذلك اليوم. 2. ( لا يَحْزنهُم الفَزَعُ الأَكْبر وَتَتَلقاهُمُ المَلائِكَة هذا يَومكُمُ الّذي كُنْتُمْ تُوعَدُون ). (3) وهذه الآية تشهد على أنّ هناك طائفة لا يحزنهم الفزع الأكبر يوم القيامة فتتحد الآيتان من حيث المدلول. لكن الكلام في تحديد من جاء بالحسنة ، فهل المراد مطلق من جاء بالحسنة ، وإن كانت حسنة تكتنفها الذنوب ؟ فيلزم أن يكون كلّ من أتى بحسنة مأموناً من الفزع ، وهذا مالا يمكن الإذعان به.
1 ـ الزمر : 68. 2 ـ النمل : 89 ـ 90. 3 ـ الأنبياء : 103.
(215)
أو المراد من جاء بالحسنة المطلقة ؟ أي لا يوجد في كتابه إلاّ الحسنة ، مقابل من لا يوجد في كتابه إلاّ السيّئة. ولذلك يكون مصير الطائفة الثانية هو الانكباب في النار على وجوههم كما يكون مصير الطائفة الأُولى هو الأمن من الفزع ، ومن الواضح انّ هذه الطائفة نادرة. وعلى هذا فالطائفة المستثناة طائفة خاصّة تتميز بعمق الإيمان والاستقامة على الدين حتى صاروا ذوي نفوس مطمئنة لا تزعزعهم الحوادث المرعبة كما كانوا كذلك في الحياة الدنيا ، وليس هؤلاء إلاّ الأنبياء والأوصياء. ويمكن تحديد المستثنى بوجه آخر وهو انّه سبحانه يذكر انّ كلّ من شمله الصعق والفزع في النفخة الأُولى ، يقوم عند النفخة الثانية وينتظر حساب عمله ، قال : ( ثُمَّ نُفِخَ فيهِ أُخرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنظُرون ) (1) وقال في آية أُخرى : ( وَكُلٌّ أَتوه داخرين ). (2) هذا من جانب ، ومن جانب آخر تستثني بعض الآيات المخلصين من الحضور للحساب ، وتقول : ( فَإِذا هُمْ جَميعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ ) (3) وفي آية : ( فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاّعِبادَ اللّه المُخْلَصين ). (4) فالمخلصون من عباده سبحانه لا يحضرون إلى الحساب كما لا يحزنهم الفزع الأكبر ولا تصعقهم وتفزعهم النفخة الأُولى. وأمّا المراد من المخلصين الذين لا يعمهم الفزع الأكبر فتوضحه الآيات
1 ـ الزمر : 68. 2 ـ النمل : 87. 3. يس : 53. 4 ـ الصافات : 127 ـ 128.
(216)
التالية : 1. يحكي سبحانه كلام إبليس ويقول : ( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْر إِنّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحقّ وَوعدتُكُمْ فَأَخلفتكُمْ وما كانَ لي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلطان إِلاّ أَن دعوتكم فاستَجَبتم لي فَلا تَلُومُوني وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ ما أَنَا بِمصرخكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصرِخيَّ إِنّي كَفَرتُ بِما أَشْرَكْتُمُون مِنْ قَبْلُ إِنّ الظّالِمينَ لَهُمْ عَذابٌ أَليم ). (1) إلاّ أنّ الشيطان يعود ويستثني تسلّطه على المخلصين وإغواءهم ويقول : ( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَني لأُزيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْض وَلأُغْويَنَّهُمْ أَجْمَعين * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصين ). (2) وقال : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعين * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصين ) (3) ، ومن خلال ضمّ هذه الآيات بعضها إلى بعض ، يعلم انّ الآمنين من الصعق هم الذين لا يحزنهم الفزع الأكبر ، ولا يحضرون إلى الحساب ، وهم المخلصون الذين لا يتعرض لهم إبليس بالإغواء وليس هؤلاء إلاّ المعصومون من عباد اللّه ، أعني : من الأنبياء والرسل والأئمّة. سؤال ثالث وإجابة دلّت الآيات على أنّه لم يكتب لأحد البقاء في هذه النشأة ، وانّ الناس يموتون حتى الأنبياء والرسل ، قال سبحانه : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُون ). (4) وعندئذ فكيف يصحّ استثناء المخلصين ، إذ يكون معنى الآية انّ كلّ من في
1 ـ إبراهيم : 22. 2 ـ الحجر : 39 ـ 40. 3 ـ ص : 82 ـ 83. 4 ـ الزمر : 30.
(217)
السماوات والأرض لميتون عند النفخة الأُولى إلاّ المخلصين ، مع أنّ أخلص المخلصين هو نبيّنا الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد خوطب بقوله : ( إِنَّكَ مَيِّت ) ؟
والجواب : انّ الصعقة لو كانت بمعنى الفزع والخوف فالاستثناء يرجع إلى ذلك لا إلى الإماتة. نعم لو كان الصعق والفزع في الآيتين بمعنى الموت فلا محيص من القول بأنّ المخلصين لا يموتون لأجل النفخ بل يموتون لأجل عامل آخر.
إنّ من أسماء القيامة ، يوم الحساب (1) أي اليوم الذي يحاسب سبحانه فيه العباد على أعمالهم ، وهذا الأمر بمكان من الوضوح ممّا حدا بالإمام علي ( عليه السلام ) إلى بيان الفرق بين الدارين بتسمية الدار الأُولى ، دار العمل ، والدار الثانية دار الحساب ، وقال : « واليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل ». (2) وقد وردت حول الحساب آيات وروايات ، يجب على المفسّر دراستها بدقّة وإمعان لما فيها من الحقائق الشامخة ، وفيها إجابة عن بعض الأسئلة المطروحة في هذا المضمار ، وإليك عناوين المسائل : 1. ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال ؟ 2. من المحاسِب ؟ 3. ما هي الأعمال التي يُحاسَب عليها ؟ 4. هل الحساب يعمُّ الجميع ؟ 5. ما معنى كونه سبحانه سريع الحساب ؟
1 ـ انظر : سورة إبراهيم : 41; ص : 16 ، 26 ، 53; غافر : 27. 2 ـ نهج البلاغة : الخطبة 42.
(219)
6. ما هو المقصود من سوء الحساب ؟ 7. من هم الذين يحاسبون حساباً يسيراً ؟ 8. اختلاف العباد عند الحساب. 9. إتمام الحجة على العباد عند الحساب. 10. الاعتراف بالذنوب ورجاء العفو والمغفرة. هذه هي العناوين الرئيسية التي سنتناولها في هذا الفصل واحدة تلو الأُخرى.
1. ما هو الهدف من وراء محاسبة الأعمال ؟ لقد اعتاد الإنسان في حياته العملية أن يجري الموازنة بين الدخل والصرف يبغي من وراء ذلك تنظيم حياته على وفقها. واللّه سبحانه عالم بكلّ شيء فلا حاجة له إلى محاسبة الأعمال حتى يقف على خير الأعمال وشرها ونسبة أحدهما إلى الآخر ، يقول سبحانه حاكياً عن لسان لقمان : ( يا بُنَيَّ إِنّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّة مِنْ خَرْدَل فَتَكُنْ في صَخْرَة أَو فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَطيفٌ خَبير ) (1). فلا محيص عن كون الداعي إلى المحاسبة شيئاً آخر ، وهو إراءة عدله وجوده وحكمته عند المحاسبة ، فلو عفا فلجوده وكرمه ، وإن عذّب فلعدله وحكمته. فمحاسبته تبارك وتعالى كابتلاء عباده ، فانّ الهدف من الابتلاء ليس هو الوقوف على ما يَكْمُن في نفوس العباد من الخير والشر ، بل الغاية إكمال العباد وتبديل طاقات الخير إلى فعليته ، يقول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « لا يقولنَّ
1 ـ لقمان : 16.
(220)
أحدكم : « اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة » لأنّه ليس أحد إلاّ وهو مبتل بفتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن ، فانّ اللّه سبحانه يقول : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما أَموالكُمْ وَأَولادكُمْ فِتْنَة ) ومعنى ذلك انّه يختبرهم بالأموال والأولاد ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتَظْهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب ، لأنّ بعضهم يحبُّ الذكور ويكره الإناث ، وبعضهم يحب تثمير المال ، ويكره انثلام الحال ». (1)
2. من المحاسِب ؟ دلّت الأُصول التوحيدية على أنّ في صحيفة الوجود مدبراً واحداً وهو اللّه سبحانه ، والمحاسبة نوع تدبير لهم فلابدّ من صلتها به إمّا مباشرة أو مع الواسطة بإذنه سبحانه. غير أنّ ظاهر كثير من الآيات على أنّ المحاسب هو اللّه سبحانه. قال تعالى : ( إِنّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ ). (2) وقال تعالى : ( فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنا الحِساب ). (3) وقال عزّ من قائل : ( إِنْ حِسابُهم إِلاّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ ). (4) وقال تعالى : ( وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً ). (5) وهذه الآيات صريحة في أنّه تعالى هو المحاسب.
1 ـ نهج البلاغة : من كلماته القصار ، برقم 93. 2 ـ الغاشية : 25 ـ 26. 3 ـ الرعد : 40. 4 ـ الشعراء : 113. 5 ـ النساء : 6 والأحزاب : 38.