مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 161 ـ 170
(161)
وَعُقْبَى الْكافِرينَ النّارُ ). (1) من الاَمثال.
    ولكن الظاهر انّه ليس من باب التمثيل ، لاَنّه فرع وجود مشبه ومشبه به مع أنّ الآية هي بصدد بيان جزاء المتقين والكافرين ، فقال : إنّ جزاء المتقين هو انّهم يسكنون الجنة التي تجري من تحتها الاَنهار وأُكلها وظلها دائم.
    وهذا بخلاف الكافرين فانّ عقباهم النار ، وليست هاهنا أُمور أربعة بل لا تتجاوز الاثنين ، وعلى ذلك فيكون المثل بمعنى الوصف ، أي حال الجنة ووصفها التي وعد المتقون هو هذا.
    نعم ذكر الطبرسي وجهاً ربما يصح به عدّ الآية مثلاً ، فلاحظ. (2)
    1 ـ الرعد : 35.
    2 ـ مجمع البيان : 3/296.


(162)
سورة إبراهيم
22
التمثيل الثاني والعشرون
    ( مَثَلُ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرّيحُ في يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمّا كَسَبُوا عَلى شَىءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيد ). (1)
    تفسير الآية
    « العصف » : شدة الريح ، يوم عاصف أي شديد الريح ، وإنّما جعل العصف صفة لليوم مع أنّه صفة للريح لاَجل المبالغة ، وكأنّ عصف الريح صار بمنزلة جعل اليوم عاصفاً ، كما يقال : ليل غائم ويوم ماطر.
    انّه سبحانه يشبّه عمل الكافرين في عدم الانتفاع به برماد في مهب الريح العاصف ، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرق ، فكذلك هوَلاء الكفار لا يقدرون مما كسبوا على شيء فلا ينتفعون بأعمالهم البتة.
    وقال سبحانه في آية أُخرى : ( وَقَدِمْنَا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً ). (2)
    والمراد من أعمالهم ما يعد صالحاً في نظر العرف كصلة الاَرحام وعتق
    1 ـ إبراهيم : 18.
    2 ـ الفرقان : 23.


(163)
الرقاب وفداء الاَُسارى وإغاثة الملهوفين ، لاَنّهم بنوا أعمالهم على غير معرفة الله والاِيمان به فلا يستحقون شيئاً عليه.
    وأمّا الاَعمال التي تعد من المعاصي الموبقة ، فهي خارجة عن مصبّ الآية لوضوح حكمها.والآية دليل على أنّ الكافر لا يثاب بأعماله الصالحة يوم القيامة إذا أتى بها لغير وجه الله.
    نعم لو أتى بها طلباً لرضاه ورضوانه فلا غرو في أن يثاب به ويكون سبباً لتخفيف العذاب.


(164)
سورة إبراهيم
23
التمثيل الثالث والعشرون
    ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيّبَة أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُوَْتي أُكُلَهَا كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رِبّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الاََمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ). (1)
    تفسير الآيات
    انّه سبحانه تبارك و تعالى مثل للحق و الباطل ، أو الكفر والاِيمان بتمثيلات مختلفة ، وقد جاء التمثيل في هذه الآية بأنّ مثل الاِيمان كشجرة لها الصفات التالية :
    أ : انّها طيبة : أي طاهرة ونظيفة في مقابل الخبيثة ، فانّ الشجر على قسمين : منها ما هو طيب الثمار كالتين والنخل والزيتون وغيرها ، ومنها ما هو خبيث الثمار كالحنظل.
    ب : أصلها ثابت ، أي لها جذور راسخة في أعماق الاَرض لا تزعزعها العواصف الهوجاء ولا الاَمواج العاتية.
    ج : فرعها في السماء ، أي لها أغصان مرتفعة ، فهي بجذورها الراسخة تحتفظ بأصلها وبفروعها في السماء و تنتفع من نور الشمس والهواء والماء.
    1 ـ إبراهيم : 24 ـ 25.

(165)
وهذه الفروع والاَغصان من الكثرة بحيث لا يزاحم أحدها الآخر ، كما أنّها لا تتلوث بما على سطح الاَرض.
    د : ( تعطى أُكلها كل حين ) أي في كلّ فصل وزمان ، لا بمعنى كلّ يوم وكل شهرحتى يقال بأنّه ليس على وجه البسيطة شجرة مثمرة من هذا النوع.
    وبعبارة أُخرى : انّ مثل هذه الشجرة لا تبخس في عطائها ، بل هي دائمة الاَثمار في كل وقت وقّته الله لاثمارها.
    هذا حال المشبه به ، وأمّا حال المشبه ، فقد اختلفت كلمتهم إلى أقوال لا يدعمها الدليل ، والظاهر انّ المراد من المشبه هو الاعتقاد الحقّ الثابت ، أعني التوحيد والعدل وما يلازمهما من القول بالمعاد.
    فهذه عقيدة ثابتة طيبة لا يشوبها شيء من الشرك والضلال ولها ثمارها في الحياتين.
    والذي يدل على ذلك هو انّه سبحانه ذكر في الآية التالية ، قوله : ( يُثَبّتُ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّابِتِ فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ ) (1) ، وهذا القول الثابت عبارة عن العقيدة الصالحة التي تمثلها كلمة التوحيد والشهادة بالمعاد وغيرهما ، قال السيد الطباطبائي :
    القول بالوحدانية والاستقامة عليه ، هو حقّ القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كلّ تغير وزوال وبطلان ، وهو الله عزّ اسمه أو أرض الحقائق ، و له فروع نشأت ونمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية وأخلاق زاكية وأعمال صالحة يحيا بها الموَمن حياته الطيبة ويعمر بها العالم الاِنسانى
    1 ـ إبراهيم : 27.

(166)
حق عمارته ، وهي التي تلائم سير النظام الكونى الذي أدى إلى ظهور الاِنسان بوجوده المنظور على الاعتقاد الحق والعمل الصالح. (1)
    ثمّ إنّه سبحانه ختم الآية بقوله : ( وَيَضْرِبُ اللهُ الاََمْثال للنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون ) ، أي ليرجعوا إلى فطرتهم فيتحقّقوا من أنّ السعادة رهن الاعتقاد الصحيح المثمر في الحياتين.
    وبذلك يعلم انّ ما ذكره بعض المفسرين بأنّ المراد كلمة التوحيد لا يخالف ما ذكرنا ، لاَنّ المراد هو التمثل بكلمة التوحيد لا التلفظ بها وحده حتى أنّ قوله سبحانه : ( إِنَّ الّذينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوفٌ عََلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون ) (2) تلا يراد منه التحقّق بقوله ( ربّنا الله ) لا التلفظ بها ، وقد أشار سبحانه إلى العقيدة الصحيحة ، بقوله : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (3)
    فالكلم الطيّب هو العقيدة ، والعمل الصالح يرفع تلك العقيدة.
    وبذلك يعلم أنّ كلّ عقيدة صحيحةلها جذور في القلوب ، ولها فروع وأغصان في حياة الاِنسان ولهذه الفروع ثمار ، فالاعتقاد بالواجب العادل الحكيم المعيد للاِنسان بعد الموت يورث التثبت في الحياة والاجتناب عن الظلم والعبث والفساد إلى غير ذلك من العقائد الصالحة التي لها فروع.
    إلى هنا تمّ المثل الاَوّل للموَمن والكافر أو للاِيمان والكفر.
    1 ـ الميزان : 12/52.
    2 ـ الاَحقاف : 13.
    3 ـ فاطر : 10.


(167)
وربما يقال : الرجال العظام من الموَمنين هم كلمة الله الطيبة ، وحياتهم أصل البركة ، ودعوتهم توجب الحركة ، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم ... وحتى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية.
    ولكن سياق الآيات لا يوَيده ، لاَنّه سبحانه يفسر الكلمة الطيبة بما عرفت ، أعني قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ).
    والمراد من القول الثابت هو الكلمة الطيبة ، وقلب الموَمن هو الاَرض الطيبة التي ترسخ فيها جذور تلك الشجرة.


(168)
سورة إبراهيم
24
التمثيل الرابع والعشرون
    ( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ منْ فَوْقِ الاََرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَار ). (1)
    تفسير الآية
    مثّل سبحانه تبارك وتعالى للعقيدة الصالحة بالمثل السابق ومقتضى الحال أن يمثل للعقيدة الباطلة بضد المثل السابق ، فهي على طرف النقيض مما ذكر في الآية السابقة ، وإليك البيان :
    فالكفر كشجرة لها هذه الاَوصاف :
    أ : انّها خبيثة مقابلة الطيبة ، أي لا يطيب ثمارها كشجرة الحنظل.
    ب : ( اجتثت من فوق الاَرض ) في مقابل قوله ( أصلها ثابت ) وحقيقة الاجتثاث هي اقتلاع الشيء من أصله ، أي اقتطعت واستؤصلت واقتلعت جذورها من الاَرض.
    ج : ( ما لها من قرار ) أي ليس لتلك الشجرة من ثبات ، فالريح تنسفها وتذهب بها ، وبالتالي ليس لها فروع وأغصان أو ثمار.
    1 ـ إبراهيم : 26.

(169)
هذا هو المشبه به ، وأمّا المشبه فهو عبارة عن العقيدة الضالة الكافرة التي لا تعتمد على برهان ولا دليل ، يزعزعها أدنى شبهة وشك.
    فينطبق صدر الآية التالية على التمثيل الاَوّل ، وذيله على التمثيل التالى ، أعني : قوله : ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ) هذا هو المنطبق على التمثيل الاَوّل
    وأمّا المنطبق على التمثيل الثاني فهو قوله : ( وَيُضِلُّ الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ) أي يضل أهل الكتاب بحرمانهم من الهداية ، وذلك لاَجل قصورهم في الاستفادة عن الهداية العامة التي هي متوفرة لكل إنسان ، أعني : الفطرة ودعوة الاَنبياء.
    وقوله : ( يفعل الله ما يشاء ) بمعنى انّه تعلّقت مشيئته بتثبيت الموَمنين وتأييدهم وإضلال الظالمين وخذلانهم ، ولم تكن مشيئته عبثاً وإنّما نابعة من حكمة بالغة.


(170)
سورة إبراهيم
25
التمثيل الخامس والعشرون
    ( وَأَنذِرِ النّاسَ يَوم يَأْتِيهِمُ العَذَابُ فَيَقُولُ الّذينَ ظَلَمُوا رَبّنَا أَخّرْنَا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الاََمْثالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لتَزُولَ مِنْهُ الجِبال ). (1)
    تفسير الآيات
    إنّ الآية تمثل حال قوم شاهدوا نزول جزء من العذاب والبلاء فعادوا يظهرون الندم على أعمالهم البغيضة ويطلبون الاِمهال حتى يتلافوا ما فاتهم من الاِيمان والعمل الصالح ، كما يحكي عنه سبحانه ، ويقول : ( وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ) أي مشاهدة نزول العذاب في الدنيا بشهادة استمهالهم ، كما في قوله تعالى : ( فَيَقول الذين ظلموا ربّنا أخّرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل ).
    فيرد دعوتهم بأنّ هذا الطلب ليس طلباً صادقاًوإنّما ألجأهم إليه روَية
    1 ـ إبراهيم : 44 ـ 46.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس