هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الاِلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم و انّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل 450 ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الاَرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الاَشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الاَشجار والاَزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الاَشعة. إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الاِنسانية. ولكن الاِسلام حدّد الاِنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الاِسراف في البذل. وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شوَون حياة الاِنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله : ( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الاََصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ). (1) بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الاِنسانية ، فمن جانب يصرح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّ عنوان صحيفة الموَمن حبّ على بن أبى طالب ( عليه السلام ). (2) ومن جانب آخر يقول الاِمام على ( عليه السلام ) : « هلك فىَّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ». (3)
1 ـ لقمان : 19. 2 ـ حلية الاَولياء : 1/86. 3 ـ بحار الاَنوار : 34/307.
(192)
فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الاَصل الاَساس في الاِسلام ، ولعله بذلك سميت الاَُمة الاِسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه : ( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ). (1) وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير الموَمنين ( عليه السلام ) حول الاعتدال نأتي بنصها : دخل الاِمام على العلاء بن زياد الحارثى و هو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال : « ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟ بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ». فقال له العلاء : يا أمير الموَمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله ؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال : « يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على الله من ذلك ». قال : يا أمير الموَمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك! قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! » (2)
1 ـ البقرة : 143. 2 ـ نهج البلاغة ، الخطبة 209.
كأنّهما أطافا به ، فقوله في الآية ( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله : ( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة. « حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ». « الصعيد » يقال لوجه الاَرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه : ( فتركه صلداً ) (1) هذا ما يرجع إلى مفردات الآية. وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للموَمن و الكافر بالله و المنكر للحياة الاَُخروية ، فالاَوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا و يطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالى : قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم و أنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الاِنسان لربه وإطاعته لمولاه. وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه و هوالموَمن منهما فتقرب إلى الله بالاِحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال : ( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لاَنّه كان يملك جنتين من
1 ـ البقرة : 264.
(195)
أعناب ونخل مطيفاً بهما و بين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أُكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء و راح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة. وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة و هذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، و هذا دليل على كرامتي عليه. هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، و عند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة. و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة؟ وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ. فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً. ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك و تعالى. ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو أن
(196)
يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الاَرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله. قالها أخوه و هو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم. فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الاَموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربى ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر. هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الاِيجاز ، بقوله : ( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ). (1) وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أُخرى ، وقال : ( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإِنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ). (2) إلى هنا تبيّ ـ ن مفهوم المثل ، و أمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الاِيجاز.
1 ـ الكهف : 46. 2 ـ الصافات : 51 ـ 55.
(197)
( واضرب لهم ) أي للكفار مع الموَمنين ( مثلاً رجلين جعلنا لاَحدهما ) أي للكافر ( جنتين ) أي بستانين ( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل ( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به ( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها ( لم تظلم ) تنقص ( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما ( و كان له ) مع الجنتين ( ثمر فقال لصاحبه ) الموَمن ( وهو يحاوره ) يفاخره ( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة ( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها. ( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر ( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم ( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك ( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً ( قال له صاحبه و هو يحاوره ) يجادله ( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لاَنّ آدم خلق منه ( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك ( رجلاً ). أمّا أنا فأقول ( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها ( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ). ( إن ترن أنا أقل منك مالاً و ولداً فعسى ربي أن يوَتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) و صواعق ( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم ( أو يصبح ماوَها غوراً ) بمعنى غائراً ( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها ( وأُحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت ( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً ( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته ( وهي خاوية ) ساقطة ( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم ( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه ( لم أُشرك بربي أحداً و لم تكن له فئة ) جماعة ( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و ( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه ( هنالك ) أي يوم القيامة ( الولاية ) الملك ( لله الحقّ ). (1)
1 ـ السيوطى : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.
( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ). (1) تفسير الآيات « الهشيم » : ما يكسر و يحطم في يبس النبات ، و « الذر » و التذرية : تطيير الريح الاَشياء الخفيفة في كلّ جهة. تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولاَجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الاَراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدىَ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الاِنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالاَعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الاَطراف ، فهذا النوع من
1 ـ الكهف : 45.
(199)
الحياة والموت يتكرر على طول السنة ويشاهده الاِنسان بأُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لاَجله التمثيل. يقول سبحانه : ( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الاَرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الاِنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله : ( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات ( و كان الله على كلّ شيء مقتدراً ). ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والاَزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الاَموال والبنون. وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الاَصل موَقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الاَمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه : ( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ). نعم ، الخلود للاَعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الاَُخروية ، قال سبحانه : ( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ). (1) ثمّ إنّه سبحانه يوَكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية. (2 )
1 ـ مريم : 76. 2 ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس 25 ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية 20.
(200)
ايقاظ ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله : ( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الاِنسان أكثر شيء جدلاً ). (1) والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يوَكد على ذكر نماذج من الاَمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر. ومعنى قوله : ( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لاَجل الاِشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الاِنسان من جهات مختلفة و مع ذلك ( وَكانَ الاِنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شىء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.
1 ـ الكهف : 54.