( لاَ يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم ). (1) تفسير الآيات « الحصن » : جمعه حصون ، والقرى المحصنة التي تحيطها القلاع المنيعة التي تمنع من دخول الاَعداء. البأس والبأساء : الشدة. الوبال : الاَمر الذي يخاف ضرره. الآية تصف حال بني النضير من اليهود الذين أجلاهم الرسول وقد تآمروا على قتله ، وكيفية الموَامرة مذكورة في كتب التاريخ ، فأمرهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالجلاء وترك الاَموال و قد كانوا امتنعوا من تنفيذ أمر الرسول ، و كان المنافقون يصرّون عليهم بعدم الجلاء وانّهم يناصرونهم عند نشوب حرب بينهم وبين المسلمين ، فبقي بنو النضير أياماً قلائل في قلاعهم لا يجلون عنها بغية وصول إمدادات تعزّز قواهم.
1 ـ الحشر : 14 ـ 15.
(262)
فالآيات تشرح حالهم بإمعان وتخبر بأنّهم « لا يقاتلونكم » معاشر الموَمنين جميعاً إلاّ في قرى محصنة ، أي لا يبرزون لحربكم خوفاً منكم ، وإنّما يقاتلونكم متدرّعين بحصونهم ، أو « من وراء جدر » ، أي يرمونكم من وراء الجدر بالنبل والحجر. ( بأسهم بينهم شديد ) ، والمراد من البأس هو العداء ، أي عداوة بعضهم لبعض شديدة ، فليسوا متّفقي القلوب ، ولذلك يعقبه بقوله : ( وقلوبهم شتى ) ، ثمّ يعلل ذلك بقوله : ( ذلك بأنّهم لا يعقلون ). ثمّ يمثّل لهم مثلاً ، فيقول : إنّ مثلهم في اغترارهم بعددهم وعدّتهم وقوتهم ( كمثل الذين من قبلهم ) ، و المراد مشركو قريش الذين قتلوا ببدر قبل جلاء بني النضير بستة أشهر ، ويحتمل أن يكون المراد قبيلة بني قينقاع حيث نقضوا العهد فأجلاهم رسول الله بعد رجوعه من بدر. فهوَلاء ( ذاقوا وبال أمرهم ) ، أي عقوبة كفرهم ولهم عذاب أليم.
( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للاِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ). (1) تفسير الآية هذه الآية أيضاً ناظرة إلى قصة بني النضير ، فلمّا تآمروا على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالجلاء ، ولكنّ المنافقين وعدوهم بالنصر ، فقالوا لهم : ( لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً وإن قوتلتم لننصرنكم ). ولكن كان ذلك الوعد كاذباً ، ولذلك يقول سبحانه : ( والله يشهد انّهم لكاذبون ) وآية كذبهم : ( لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاََدْبارَ ثُمَّ لاَ يُنْصَرُون ). (2) ولقد صدق الخبر الخبر ، فأجلاهم الرسول بقوة وشدة ، فما ظهر منهم أي نصر وموَازرة و دعم ، فكان وعدهم كوعد الشيطان ، إذ قال للاِنسان أكفر فلمّا كفر قال إنّي بريء منك إنّي أخاف الله ربّ العالمين ، بمعنى انّه أمره بالكفر ولكنّه تبرّأ منه في النهاية. وهل المخاطب في قوله : « اكفر » مطلق الاِنسان الذي ينخدع بأحابيل
1 ـ الحشر : 16. 2 ـ الحشر : 12.
(264)
الشيطان و وعوده الكاذبة ثمّ يتركه و يتبرّأ منه ، أو المراد شخص معين؟ وجهان. فلو قلنا بالثاني ، فقد وعد الشيطان قريشاً بالنصر في غزوة بدر ، كما يحكي عنه سبحانه ، و يقول ( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لاَ غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنّي بَرِىءٌ مِنْكُمْ إِنّي أَرى ما لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ العِقابِ ). (1) وهناك قول ثالث ، و هو انّ الشيطان وعد عابداً من بني إسرائيل اسمه برصيصا حيث انخدع بالشيطان و كفر ، وفي اللحظات الحاسمة تبرّأ الشيطان منه. ذكر المفسرون انّ برصيصا عبد الله زماناً من الدهر حتى كان يوَتى بالمجانين يداويهم و يعوّذهم فيبرأون على يده ، و انّه أُتِي بامرأة في شرف قد جنّت و كان لها إخوة فأتوه بها ، فكانت عنده ، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتى وقع عليها ، فحملت ، فلمّا استبان حملها قتلها ودفنها ، فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتى لقي أحد إخوتها ، فأخبره بالذي فعل الراهب و انّه دفنها في مكان كذا ، ثمّ أتى بقية إخوتها رجلاً رجلاً فذكر ذلك له ، فجعل الرجل يلقى أخاه ، فيقول : والله لقد أتاني آت فذكر لي شيئاً يكبر عليّ ذكره ، فذكر بعضهم لبعض حتى بلغ ذلك ملكهم ، فسار الملك والناس فاستنزلوه فأقرّ لهم بالذي فعل ، فأمر به فصلب ، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان ، فقال : أنا الذي ألقيتك في هذا ، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك ، أُخلصك مما أنت فيه؟ قال : نعم ، قال : اسجد لي سجدة واحدة ، فقال : كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة ، فقال : اكتفي منك بالاِيماء فأُوحى له بالسجود ، فكفر بالله ، وقتل الرجل. (2)
1 ـ الاَنفال : 48. 2 ـ مجمع البيان : 5/265.
( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القُرآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدّعاً مِنْ خَشْيَةِ الله وَتِلْكَ الاََمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ). (1) تفسير الآية « الخشوع » : الضراعة ، وأكثر ما يستعمل الخشوع فيما يوجد على الجوارح على عكس الضراعة ، فانّ أكثر ما تستعمل فيما يوجد في القلب ، وقد روي إذا ضرع القلب خشعت الجوارح. ويوَيد ما ذكره انّه سبحانه ينسب الخشوع إلى الاَصوات و الاَبصار ، و يقول : ( وخشعت الاَصوات ) ، ( خاشعة أبصارهم ) ، ( أبصارهم خاشعة ). ولو أردنا أن نُعرّفه ، فنقول : هو عبارة عن السكينة الحاكمة على الجوارح مستشعراً بعظمة الخالق. و « التصدع » : التفرق بعد التلاوَم. إنّ للمفسرين في تفسير الآية رأيين : أحدهما : انّه لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ، مع ما له من الغلظة والقسوة
1 ـ الحشر : 21.
(266)
وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل ، لتأثّر وتصدّع من خشية الله ، فإذا كان هذا حال الجبل ، فالاِنسان أحقّ بأن يخشع لله إذا تلا آياته. فما أقسى قلوب هوَلاء الكفّار وأغلظ طباعهم حيث لا يتأثرون بسماع القرآن واستماعه وتلاوته. ثانيهما : انّ كلّ من له حظّ في الوجود فله حظ من العلم والشعور ، و من جملتها الجبال فلها نوع من الاِدراك والشعور ، كما قال سبحانه : ( وَإِنَّ مِنَ الحِجارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الاََنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْها لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ). (1) فعلى هذا ، فمعنى الآية انّ هذا القرآن لو نزل على جبل لتلاشى و تصدّع من خشية الله ، غير انّه لم ينزل عليه. وعلى كلا المعنيين ، فليست الآية من قبيل التمثيل أي تشبيه شيء بشىء ، بل من قبيل وصف القرآن و بيان عظمته بما يحتوى من الحقائق والاَُصول ، وإنّها على الوصف التالي : « لو أنزلناه على جبل لصار كذا و كذا ». نعم يمكن أن يعد لازم معنى الآية من قبيل التشبيه ، وهو انّه سبحانه يشبّه قلوب الكفّار والعصاة الذين لا يتأثرون بالقرآن بالجبل والحجارة ، وانّ قلوبهم كالحجارة لو لم تكن أكثر صلابة ، بشهادة انّ الحجارة يتفجر منها الاَنهار أو تهبط من خشية الله ، فلاَجل ذلك جعلنا الآية من قبيل التمثيل وإن كان بلحاظ المعنى الالتزامي لها.
1 ـ البقرة : 74.
( مَثَلُ الّذينَ حُمّلُوا التُّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَومَ الظّالِمِين ). (1) تفسير الآية « الاَسفار » : السَّفر : كشف الغطاء ، ويختص ذلك بالاَعيان نحو سَفَرَ العمامة عن الرأس ، و الخمار عن الوجه ، إلى أن قال : والسّفْر الكتاب الذي يسفر عن الحقائق و جمعه أسفار. (2) ذكر المفسرون انّه سبحانه لما قال : إنّه بعثه إلى الاَُميّين أخذت اليهود الآية ذريعة لاِنكار سعة رسالته ، وقالوا : إنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث إلى العرب خاصة ولم يبعث إليهم ، فعند ذلك نزلت الآية و شبّهتهم بالحمار الذي يحمل أسفاراً لا ينتفع منها ، إذ جاء في التوراة نعت الرسول والبشارة بمقدمه والدخول في دينه. مضافاً إلى أنّه يمثل حال من يفهم معاني القرآن ولا يعمل به ويعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ، و المراد من قوله ( حُمّلُوا ) أي كلّفوا بالقيام بها ، و قيل :
1 ـ الجمعة : 5. 2 ـ مفردات الراغب : مادة « سفر ».
(268)
ليس هو من الحمل على الظهر ، وإنّما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان ، ولذا قيل للكفيل : الحميل ، والمراد والذين ضمنوا أحكام التوراة ، ثمّ لم يحملوها ، أي لم يأدّوا حقها ولم يحملوها حق حملها ، فهوَلاء أشبه بالحمار ، كما قال : ( كَمَثَلِ الحِمار يَحْمِلُ أَسْفاراً ). وانتخب الحمار من بين سائر الحيوانات لما فيه من الذل و الحقارة ما ليس في غيره بل والجهل و البلادة ، مضافاً إلى المناسبة اللفظية الموجودة بين لفظ الاَسفار والحمار. فعلى كلّ تقدير فالآية تندّد باليهود ، وفي الوقت نفسه تحذر عامة المسلمين في أن لا يكون حالهم حال اليهود ، في عدم الانتفاع بالكتاب المنزل الذي فيه دواء كلّ داء وشفاء لما في الصدور. وللاَسف الشديد أصبح القرآن بين المسلمين مهجوراً ، إذ يتبرك به في العرائس ، أو يجعل تعاويذ للاَطفال ، أو زينة الرفوف ، أو يقرأ في القبور إلى غير ذلك ممّا أبعد المسلمين عن النظر في القرآن بتدبّر. ثمّ إنّه سبحانه يصف اليهود المكذبة للقرآن و آياته ، بقوله : ( بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوم الظالِمين ).
( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوط كانَتا تَحْتَ عَبْدَينِ مِنْ عِبادِنا صالِحَينِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيئاً وَقيلَ ادْخُلا النّارَ مَعَ الدّاخِلين ). (1) تفسير الآية إنّ إحدى الاَساليب التربوية هي عرض نماذج واقعية لمن بلغ القمة في مكارم الاَخلاق وجلائلها أو سقط في حضيض مساوىَ الاَخلاق ، والقرآن في هذه الآية يعرض زوجتين من زوجات الاَنبياء ابتليتا بالنفاق والخيانة ولم ينفعهما قربهما من أنبياء الله. ثمّ إنّ الحافز لهذا التمثيل هو التنديد بزوجتي الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اللّتين اشتركتا في إفشاء سره ، والغرض هو إيقافهما على أنّهما لا تنجوان من العذاب لمجرد مكانتهما من الرسول كما لم ينفع زوجة نوح و لوط ، فواجهتا العذاب الاَليم. يذكر سبحانه في هذه الصورة قصة إفشاء سرّ النبي بواسطة بعض أزواجه يقول : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَديثاً فَلَمّ ـ ا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ
1 ـ التحريم : 10.
(270)
عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الخَبير ). (1) وهذه الآية على اختصارها تشتمل على مطالب : 1. انّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أسرّ إلى بعض أزواجه حديثاً ، كما يقول سبحانه : ( وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ) ، وأمّا ما هو السر الذي أسرّه إليها فغير واضح ، ولا يمكن الاعتماد بما ورد في التفاسير من تحريم العسل على نفسه و غيره. 2. انّ هذه المرأة التي أسرّ إليها النبي لم تحتفظ بسره وأفشته ، فحدّثت به زوجة أُخرى ، كما يقول سبحانه : ( فلمّا نبّأت به ) ، و المفسرون اتفقوا على أنّ الاَُولى منهما هي حفصة و الثانية هي عائشة. وبذلك أساءت الصحبة وأفشت سر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، مع أنّ واجبها كان كتم هذا السر. 3. انّه سبحانه أخبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) به ، كما يقول سبحانه : ( وأظهره الله عليه ) أي أطلعه الله عليه. 4. انّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عرّف حفصة ببعض ما ذكرت وأعرض عن ذكر كلّ ما أفشت ، و كان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد علم جميع ذلك و لكنّه أخذ بمكارم الاَخلاق ، فلم يذكر لها جميع ما صدر منها ، والتغافل من خلق الكرام ، و قد ورد في المثل : « مااستقصى كريم قط ». 5. لما أخبر رسول الله حفصة بما أظهره الله عليه سألت ، وقالت : من أخبرك بهذا ؟ فأجاب الرسول : نبّأني العليم الخبير ، كما يقول سبحانه : ( فلمّا
1 ـ التحريم : 3.