بالدعوة إلى المعاصي ، قال سبحانه : ( وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَياطِينَ الاِِنْسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بعضٍ زُخْرُفَ الْقَولِ غُرُوراً ). (1)
والتاليات : هن اللواتي يتلون الوحي على النبي الموحى إليه.
فالمراد من الجميع الملائكة ، وثمة احتمال آخر وهو انّ المراد من الصفات
الثلاث هم العلماء ، فانّهم هم الجماعة الصافة أقدامها بالتهجد وسائر الصلوات ،
وهم الجماعة الزاجرة بالمواعظ والنصائح ، كما أنّهم الجماعة التالية لآيات اللّه
والدارسة شرائعه.
كما أنّ ثمة احتمالاً ثالثاً وهو : انّ المراد هم الغزاة في سبيل اللّه الذين يصفّون
أقدامهم ، ويزجرون الخيل إلى الجهاد ، ويتلون الذكر ، ومع ذلك لا يشغلهم تلك
الشواغل عن الجهاد.
وأمّا المقسم عليه : فهو قوله سبحانه : ( إِنَّ إِلهكم لَواحد ).
والصلة بين المقسم به والمقسم عليه : هو أنّ الملائكة أو العلماء أو
المجاهدين الذين وصفوا بصفات ثلاث هم دعاة التوحيد وروّاده وأبرز مصاديق
من دعا إلى التوحيد على وجه الاِطلاق وفي العبادة خاصة.
1 ـ الأنعام : 112.
لقد حلف سبحانه بأُمور أربعة متتابعة وقال :
( وَالذّارِياتِ ذَرْواً ).
( فَالحامِلاتِ وِقْراً ).
( فَالجارِياتِ يُسْراً ).
( فَالمُقسِّمات أمراً * إِنّما تُوعدونَ لصادِقٌ * وإنَّ الدِّينَ لَواقِع ). (1)
ثمّ حلف بخامس فرداً أي قوله : ( وَالسَّماءِ ذاتِ الحُبُك ).
أمّا الأوّل أعني : ( والذارِيات ذَرواً ) فهي جمع ذارية ، ومعناها الريح التي
تُنشر شيئاً في الفضاء ، يقول سبحانه : ( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأَرضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً
تَذَرُوهُ الرِّياح ). (2) ولعلّ هذه قرينة على أنّ المراد من الذاريات هي الرياح.
وأمّا الحاملات ، فهي ، من الحمل ، والوقر ـ على زنة الفكر ـ ذو الوزن الثقيل.
والمراد منه السحب ، يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذي يُريكُمُ البَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً
وَيُنشىَُ السَّحابَ الثِّقال ) (3) وقال سبحانه : ( حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ1 ـ الذاريات : 1 ـ 6. 2 ـ الكهف : 45. 3 ـ الرعد : 12.
(93)
مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الماء ). (1)
وأمّا الجاريات ، فهي جمع جارية ، والمراد بها السفن ، بشهادة قوله سبحانه :
( حَتّى إِذا كُنْتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَة ) (2) وقال : ( وَالفُلْكِ الّتي تَجْري
فِي البَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاس ) (3) وقال سبحانه : ( إِنّا لَمّا طَغا الماءُ حَمَلْناكُمْ في الجارِيَة ). (4)
وأمّا المقسِّمات ، فالمراد الملائكة التي تقسم الأرزاق بواسطتها التي ينتهي
إليه التقسيم.
يقول العلاّمة الطباطبائي : وإقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه
باختلاف مقاماتهم ، فانّ أمر ذي العرش بالخلق والتدبير واحد ، فإذا حمله طائفة
من الملائكة على اختلاف أعمالهم انشعب الأمر وتقسم بتقسمهم ، ثمّ إذا حمله
طائفة هي دون الطائفة الأُولى تقسم ثانياً بتقسمهم وهكذا ، حتى ينتهي إلى
الملائكة المباشرين للحوادث الكونية الجزئية فينقسم بانقسامها ويتكثر بتكثرها.
والآيات الأربع تشير إلى عامة التدبير حيث ذكرت انموذجاً ممّا يدبّر به
الأمر في البر وهو الذاريات ذرواً ، وانموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البحر وهو
الجاريات يسراً ، وانموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في الجو وهو الحاملات وقراً ، وتمم
الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير ، وهم المقسِّمات أمراً.
فالآيات في معنى أن يقال : أُقسم بعامة الأسباب التي يتمم بها أمر التدبير في
1 ـ الأعراف : 57. 2 ـ يونس : 22. 3 ـ البقرة : 164. 4 ـ الحاقة : 11.
(94)
العالم ان كذا كذا ، وقد ورد من طرق الخاصة والعامة عن علي ( عليه السلام ) تفسير
الآيات الأربع. (1)
وبذلك يعلم قيمة ما روي عن الاِمام أمير الموَمنين ( عليه السلام ) في تفسير
الآية عندما سأله ابن الكوا عن هذه الأقسام الأربعة ـ وهو يخطب على المنبر ـ
فقال :
قال : ما الذاريات ذرواً؟ قال ( عليه السلام ) : الرياح.
قال : فالحاملات وقراً؟ قال ( عليه السلام ) : السحاب.
قال : فالجاريات يسراً؟ قال : السفن.
قال : فالمقسِّمات أمراً ؟ قال : الملائكة.
ثمّ إنّه سبحانه حلف بالذاريات بواو القسم ، وحلف بالثلاثة بعطفها على
الذاريات بالفاء فيحمل المعطوف معنى القسم أيضاً.
هذا كلّه حول المقسم به.
وأمّا المقسم عليه : هو قوله : ( إِنّما تُوعَدُونَ لَصادِق * وَإِنَّ الدِّين لواقع ) أي إنّما توعدون من الثواب و العقاب والجنة والنار لصادق ، أي صدق لابدّ من كونه
فهو اسم الفاعل ، موضع المصدر ، وانّ الدين أي الجزاء لواقع والحساب لكائن
يوم القيامة.
وعلى ذلك ( إِنَّما تُوعَدونَ لَصادق ) جواب القسم ، وقوله : ( انّ الدين لواقع ) معطوف عليه بمنزلة التفسير ، والمعنى أقسم بكذا وكذا ، انّ الذي توعدونه
من يوم البعث وانّ اللّه سيجزيهم فيه بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر لصادق
وانّ الجزاء لواقع. (2)1 ـ الميزان : 18/365. 2 ـ الميزان : 18/366.
(95)
وأمّا وجه الصلة بين المقسم به والمقسم عليه هو انّه سبحانه أقسم بعامة
الأسباب التي يتم بها أمر التدبير في العالم ، لغاية أنّ هذا التدبير ليس سدى وبلا
غاية ، والغاية هي يوم الدين والجزاء وعود الاِنسان إلى المعاد ، إذ لولا الغاية
لأصبح تدبير الأمر في البر والبحر والجو وتدبير الملائكة شيئاً عبثاً بلا غاية ، فهو
سبحانه يحاول أن يبين أنّما يقوم به من أمر التدبير لغاية البعث وانتقال الاِنسان
من هذه الدار إلى دار أُخرى هو أكمل.
وفي ختام البحث نود أن ننقل شيئاً عن عظمة الرياح والسحاب والتي
كشف عنها العلم الحديث.
فالرياح هي حركة الهواء الموجود في الطبقات السفلى من الجو ، إذا سارت
متوازية مع سطح الأرض ، وتختلف سرعة الرياح حتى تصل إلى مائة كيلومتر في
الساعة فتسمى زوبعة ، وإذا زادت على مائة سمّيت إعصاراً ، وقد تصل سرعة
الأعصار إلى 240 كيلومتراً في الساعة ، والرياح هي العامل المهم في نقل بخار
الماء وتوزيعه ، ومن تكاثف هذا البخار في الهواء بالتبريد ، بعد أن تصل حالته إلى
ما فوق التشبع تتكون السحب. ويختلف ارتفاع السحب على حسب نوعها ، فمنها
ما يكون على سطح الأرض كالضباب ، ومنها ما يكون ارتفاعه بعيداً إلى أكثر من 12
كيلومتراً. كسحاب السيرس الرقيق.
وعندما تكون سرعة الرياح الصاعدة أكثر من ثلاثين كيلومتراً في الساعة ، لا
يمكن نزول قطرات المطر المتكون ، وذلك بالنسبة لمقاومة هذا الريح لها ، ورفعها
معه إلى أعلى ، حيث ينموحجمها ، ويزداد قطرها. ومتى بلغت أقطار النقط نصف
سنتيمتر ، تتناثر إلى نقط صغيرة لا تلبث أن تكبر بدورها ، ثمّ تتجزأ بالطريقة السابقة
وهكذا ... وكلما تناثرت هذه النقط ، تشحن بالكهرباء الموجبة وتنفصل الكهرباء
(96)
السالبة التي تحمل الرياح ... وبعد مدة تصير السحب مشحونة شحناً وافراً
بالكهرباء. فعندما تقترب الشحنتان بعضهما من بعض بواسطة الرياح كذلك يتم
التفريغ الكهربائي وذلك بمرور شرارة بينهما ، ويستغرق وميض البرق لحظة
قصيرة وبعده يسمع الرعد ، و هو عبارة عن الموجات الصوتية التي يحدثها
الهواء ، وما هي إلاّبرهة حتى تخيّم على السماء سحابة المطر القاتمة اللون ، ثمّ
تظهر نقط كبيرة من الماء تسقط على الأرض ، وفجأة يشتد المطر ويستمر حتى
تأخذ الأرض ما قدر اللّه لها من الماء. (1)1 ـ اللّه والعلم الحديث : 135 ـ 136.
حلف سبحانه في سورة الطور بأُمور ستة ، وقال :
( وَالطُّور * وَكِتابٍ مَسْطُور * في رقٍّ مَنْشُور * وَالْبَيتِ المَعْمُور * وَالسَّقْفِ المَرْفُوع * وَالْبَحْرِ المَسْجُور * إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِع * ما لَهُ مِنْ دافِع ). (1)
تفسير الآيات
الطور : اسم جبل خاص ، بل اسم لكلّ جبل ، ولو قلنا بصحّة الاِطلاق الثاني ،
فالمراد الجبل المخصوص بهذه التسمية لا كلّ جبل بشهادة كونه مقروناً بالألف
واللام.
ومسطور : من السطر وهو الصف من الكتابة ، يقال : سطَّر فلان كذا ، أي كتب
سطراً سطراً.
والظاهر انّ المراد من « مسطور » هنا هو المثبّت بالكتابة ، قال سبحانه
( كانَ ذلِكَ في الكِتابِ مَسْطُوراً ) ( أي مثبّتاً ومحفوظاً ).
و رقّ : ما يكتب فيه شبه الكاغد.
1 ـ الطور : 1 ـ 8.
(98)
ومنشور : من النشر ، وهو البسط والتفريق ، يقال : نشر الثوب والصحيفة
وبسطهما ، يقال : ( وَإِذا الصُّحُف نُشرت ) وقال سبحانه : ( وَإِلَيْهِ النُّشور ).
والمسجور : من السجر وهي تهييج النار ، يقال : سجرت التنور ، ومنه البحر
المسجور ، وقوله : ( وإِذَا البِحارُ سُجِّرت ) وربما يفسر المسجور بالمملوء.
والمراد من الطور ـ كما تشهد به القرائن ـ : هو الجبل المعروف الذي كلّم
اللّه فيه موسى ( عليه السلام ) ، ولعلّه هو جبل طور سينين ، قال سبحانه : ( وَطُورِ
سِينِين ). (1)
وقال سبحانه : ( وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الأَيْمَن ) (2) وقال في خطابه لموسى ( عليه السلام ) : ( فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالواد المُقدَّس طُوىً ). (3)
وقال سبحانه : ( نُودي مِنْ شاطىَ الوادِ الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبارَكةِ مِنَ
الشَّجَرة ). (4) حك وهذه الآيات تثبت انّ المقسم به جبل معين ، ومع الوصف يحتمل
أن يراد مطلق الجبل لما اودع فيه من أنواع نعمه ، قال تعالى : ( وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ
مِنْ فَوقِها وَبارَك فِيها ). (5)
والمراد من كتاب مسطور : هو القرآن الكريم الذي كان يكتب في الورق
المأخوذ من الجلد.
وأمّا وصفه بكونه منشوراً مع أنّ عظمة الكتاب بلفظه ومعناه لا بخطه
وورقه ، هو الاِشارة إلى الوضوح ، لأنّ الكتاب المطوي لا يعلم ما فيه ، فقال هو في
1 ـ التين : 2. 2 ـ مريم : 52. 3 ـ طه : 12. 4 ـ القصص : 30. 5 ـ فصلت : 10.
(99)
رق منشور وليس كالكتب المطوية ، ومع ذلك يحتمل أن يراد منه صحائف
الأعمال ، وقد وصفه سبحانه بكونه منشوراً ، وقال : ( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتاباً يَلقاهُ مَنْشُوراً ) (1) كما يحتمل أن يراد منه اللوح المحفوظ الذي كتب اللّه فيه ما كان وما يكون و ما هو كائن تقرأه ملائكة السماء.
وهناك احتمال رابع ، وهو انّ المراد هو التوراة ، وكانت تكتب بالرق وتنشر
للقراءة ، ويوَيده اقترانه بالحلف بالطور.
وامّا البيت المعمور : فيحتمل أن يراد منه الكعبة المشرفة ، فانّها أوّل بيت
وضع للناس ، ولم يزل معموراً منذ أن وضع إلى يومنا هذا ، قال تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ
بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذي بِبَكَّة مُباركاً وَهُدى لِلْعالَمين ). (2)
ولعل وصفه بالعمارة لكونه معموراً بالحجاج الطائفين به والعاكفين حوله.
وقد فسر في الروايات ببيت في السماء إزاء الكعبة تزوره الملائكة ، فوصفه
بالعمارة لكثرة الطائفين به.
والسقف المرفوع : والمراد منه هو السماء ، قال سبحانه : ( والسَّماءَ رَفَعَها
وَوَضَعََ الْمِيزان ). (3)
وقال : ( اللّهُ الّذي رَفَعَ السَّمواتِ بِغَيْر عَمَدٍ تَرَونَها ). (4)
قال سبحانه : ( وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعرِضُون ) (5)
ولعلّ المراد هو البحر المحيط بالأرض الذي سيلتهب قبل يوم القيامة ثمّ ينفجر ،
1 ـ الاِسراء : 13. 2 ـ آل عمران : 96. 3 ـ الرحمن : 7. 4 ـ الرعد : 2. 5 ـ الأنبياء : 32.
(100)
قال سبحانه : ( وَإِذَا البِحارُ سُجِّرَت (1)) ، وقال تعالى : ( وَإِذَا البِحارُ فُجِّرَت ). (2)
ثمّ إنّ هذه الأقسام الثلاثة الأُولى يجمعها شيء واحد وهو صلتها بالوحي
وخصوصياته ، حيث إنّ الطور هو محل نزول الوحي ، والكتاب المسطور هو
القرآن أو التوراة ، والبيت المعمور هو الكعبة أو البيت الذي يطوف به الملائكة
الذين هم رسل اللّه.
وأمّا الاثنان الآخران ، أعني : السقف المرفوع والبحر المسجور ، فهما من
الآيات الكونية ومن دلائل توحيده ووجوده وصفاته.
لكن الرازي ذهب إلى أنّ الأقسام الثلاثة التي بينها صلة خاصة ، هي الطور
والبيت المعمور والبحر المسجور ، وإنّما جمعها في الحلف بها لأنّها أماكن لثلاثة
أنبياء ينفردون بها للخلوة بربهم والخلاص من الخلق والخطاب مع اللّه. أمّا الطور
فانتقل إليه موسى ، والبيت محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والبحر المسجور
يونس ( عليه السلام ) ، وكل خاطب اللّه هناك ، فقال موسى : ( أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ
السُّفَهاء ُمِنّا إِنْ هِيَ إِلاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاء ) (3) وقال أيضاً : (
أرني أنظر إليك ) ، واما نبيّنا محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فقال : « السلام
علينا وعلى عباد اللّه الصالحين لا أحصي ثناء عليك كما أثنيت على نفسك » ، وأمّا
يونس فقال : ( لاإِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمين ) (4) فصارت الأماكن
شريفة بهذه الأسباب وحلف اللّه تعالى بها.
1 ـ التكوير : 6. 2 ـ الانفطار : 3. 3 ـ الأعراف : 155. 4 ـ الأنبياء : 87.