نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: 196 ـ 210
(196)
في الصدر الأول وغفلتهم عن دخل مثل دعوة الامر في عبادية الشيء ، فإنه في مثله يكون طريق العلم بدخل داعي الامر هو أمر الشارع دون غيره ، كما هو واضح ، فعلى هذا فلا بأس بدعوى تقيد المأمور به بداعي الامر بالالتزام بأمرين طوليين : أحدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الامر الأول باتيانها بداعي الامر المتعلق بها ، كما هو واضح.
    ثم إن لنا تقريبا آخر لتصحيح امكان تقيد المأمور به بالقرب الناشي عن دعوة الامر ولو مع وحدة الانشاء والامر ، لا مع تعددهما كي يرد عليه اشكال الكفاية أخيرا : بأنه من المقطوع بأنه ليس في العبادات الا امر واحد ، وبيانه انما هو بدعوى انه في مقام الامر يكون ما هو المنشأ بهذا الانشاء الشخصي في قوله : صل أو يجب الصلاة ، عبارة عن طبيعة الوجوب والطلب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب : أحدهما متعلق بذات العبادة والاخر في طول الامر الأول بعنوان داعي الامر ، كما نظيره في مثل قوله عليه السلام ( إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ) فان من المعلوم بداهة ان المستعمل فيه في قوله ( وجب ) ليس هو شخص الوجوب والطلب بل وانما هو عبارة عن طبيعة الوجوب الساري في ضمن فردين من الوجوب متعلقين بموضوعين طوليين : أحدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والاخر الوجوب الغيري المقدمي المتعلق بالطهور.
    ونظيره أيضا في مسألة حجية الاخبار مع الواسطة ، حيث نقول فيها أيضا : بان الأثر الذي هو مأخوذ في موضوع وجوب التصديق انما هو عبارة عن طبيعة الأثر بنحو قابل للسريان في ضمن أفراد متعددة طولية لا انه عبارة عن شخص الأثر ، كيف وانه على هذا المعنى يبقى الاشكال المعروف في شمول دليل الحجية للاخبار مع الواسطة على حاله إلى أبد الدهر إذ يقال حينئذ في تقريب ذلك الاشكال : بان شمول الحجية لمثل خبر زرارة الذي ينقل عن محمد بن مسلم عن الصفار عن الإمام عليه السلام انما يكون في ظرف يكون مؤداه الذي هو خبر ابن مسلم ذا اثر شرعي ، لان معنى حجيته انما هو عبارة عن وجوب ترتيب اثر المؤدى ، وصيرورة مؤداه ذا اثر شرعي انما تكون في فرض شمول دليل التعبد لخبر ابن مسلم ، والا فمع عدم شمول دليل التعبد بالأثر لخبر ابن مسلم لايصير مؤدى خبر زرارة ذا اثر شرعي. وعليه فإذا كان الأثر المفروض عبارة عن نفس وجوب التصديق مثلا وكان ذلك وجوبا واحدا شخصيا يتوجه الاشكال : بأنه كيف يمكن شمول دليل وجوب التصديق لمثل خبر زرارة الذي منشأ صيرورته ذا اثر شرعي من قبل


(197)
شمول هذا الوجوب لخبر ابن مسلم ؟ ومن المعلوم حينئذ انه لا يجدي في دفع الاشكال حينئذ مجرد اعتبار الموضوع بنحو القضية الطبيعية ، إذ نقول : بأنه بعد ما كان مثل هذا الفرد من الموضوع مترتبا على هذا الأثر وفي رتبة متأخرة عنه فقهرا في هذا اللحاظ يرى ضيق في دائرة الطبيعي المزبور بحد موجب لخروج هذا الفرد عنها بنحو يستحيل انطباقه عليه ، ومن ذلك تريهم ملجئين في التفصي عن هذا الاشكال بمصيرهم إلى دعوى تنقيح المناط. وهذا بخلافه على ما ذكرنا من أخذ الأثر عبارة عن طبيعة الأثر وطبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن افراد متعددة ، إذ عليه لا محالة ينحل ذلك بحسب تعدد الموضوعات إلى آثار متعددة ووجوبات عديدة متعلقة بموضوعات متعددة طولية بعضها في رتبة متأخرة عن شمول الأثر لموضوع آخر ، حيث إنه من شمول الأثر لموضوع يتولد موضوع آخر لاثر آخر وهكذا ، وعليه يرتفع أصل الاشكال المزبور من رأسه.
    وعلى ذلك نقول : بأنه بعد أن كان مناط الاشكال في المقام بعينه هو مناط الاشكال في ذلك المقام ، فبعين ذلك التقريب أيضا نجيب في المقام ونقول : بأنه بعد امكان تعدد الإرادة بحسب اللب ففي مقام الامر أيضا يمكن ان نجعل ما هو المنشأ بالانشاء طبيعة الطلب والوجوب بنحو قابل للسريان في ضمن فردين من الطلب : متعلق أحدهما بنفس ذات العبادة والآخر في طول الأول باتيانها بداعي أمرها. واما توهم عدم تحمل انشاء واحد شخصي إلا لوجوب واحد شخصي فيدفعه مثل قوله عليه السلام : اغتسل للجمعة والجنابة ومس الميت ، وقوله عليه السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة ، من جهة وضوح ان ما هو المنشأ في قوله وجب الطهور والصلاة ليس هو شخص الوجوب بل هو طبيعة الوجوب بنحو السريان في ضمن فردين : أحدهما الوجوب النفسي المتعلق بالصلاة والآخر الوجوب الغيري المتعلق بالطهور. وحينئذ فبعد ما أمكن ان يكون المنشأ هو طبيعة الوجوب بنحو قابل للانحلال إلى وجوبين ، كما في قوله : وجب الطهور والصلاة فلا جرم يترتب عليه ارتفاع المحذور المزبور وصحة تقيد المأمور به بالقرب الناشي عن دعوة الامر في امر واحد وانشاء فارد. وعليه أيضا يسلم عما أورده المحقق الخراساني ( قدس سره ) في كفايته من دعوى القطع بأنه لايكون في العبادات الا امر واحد ، إذ ذلك انما يرد بناء ، على القول بالاحتياج إلى تعدد الامر في الخارج ، والا فبناء على ما ذكرنا من التعدد بحسب الانحلال فلا يرد هذا المحذور ، إذ ما في الخارج حينئذ لايكون الا انشاء


(198)
واحدا وامرا واحدا ، فتدبر.
    وكيف كان فبعد ان ظهر لك امكان اخذ القربة قيدا في المأمور به بالبيان الذي ذكرناه ، فلنرجع إلى أصل المسألة من أن ظواهر الأوامر هل تقتضي تعين التعبدية أو التوصلية أم لاتقتضي شيئا منهما وانه على الأخير فمقتضى الأصول العملية أي شيء منهما.
    فنقول : بعد البناء على امكان تقيد المأمور به ولو بالقرب الناشي عن دعوة امره فضلا عن التقيد بمطلق القرب كما تقدم بيانه بما لا مزيد عليه اما بالالتزام بتعدد الامر والطلب خارجا أو بتعدده انحلالا ، ففي فرض كون الخطاب مسوفا في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال لا مانع من التمسك باطلاق الخطاب والامر ولو من جهة كشفه عن الإرادة لا ثبات توصلية الواجب واستكشاف قيام المصلحة والغرض بذات العمل المجرد عن حيث دعوة الامر. وحينئذ فإذا ورد خطاب من الشارع تعلق بعنوان مثل عنوان الخمس أو الجماعة في الصلاة وشك في توصليته أو تعبديته فيؤخذ باطلاق الخطاب في فرض كونه في مقام البيان ويثبت به اطلاق متعلق الإرادة وقيام المصلحة بوجوده بقول مطلق ولو مع خلوه عن نشو كونه عن داعي الامر والإرادة والا لكان الواجب على المولى إقامة البيان على التقيد.
    نعم مثل هذا التقريب لا يجري بالنسبة إلى عنوان المأمور به بما هو كذلك نظرا إلى ما تقدم منا من عدم اطلاق فيه حتى في التوصليات يشمل غير صورة داعوية الامر إذ عليه نقطع بعدم اطلاق دائرة المأمور به حتى في التوصليات وتخصيصه بالذات المقرونة بداعي الامر ، كما هو واضح. ومن ذلك نقول أيضا : بان التمسك باطلاق الامر واطلاق الخطاب في الجهة الأولى انما هو باعتبار جهة كشف الخطاب عن الإرادة ، والا فباعتبار نفسه وجهة عليته لحكم العقل بوجوب الإطاعة والامتثال وانتزاع عناوين الوجوب واللزوم لايكاد يكون له اطلاق كي يمكن التمسك به ، كما هو واضح ، ولكن الذي يسهل الخطب هو كفاية اطلاق الامر من الجهة الأولى أي جهة كشفه عن الإرادة لا ثبات التوصلية وكشف قيام المصلحة والغرض بمطلق وجود المتعلق لعدم استلزام تضيق دائرة المأمور به وعدم شموله لغير صورة داعوية الامر لتضيق دائرة المراد والمصلحة كما في التوصليات حيث كان دائرة المصلحة ودائرة المصلحة ودائرة المراد فيها أوسع من دائرة المأمور به ، وحينئذ فلا باس بالتمسك باطلاق الخطاب من تلك الجهة لا ثبات التوصلية من دون احتياج إلى قضية


(199)
الاطلاق المقامي كي يحتاج إلى كلفة اثبات كون القيد من القيود المغفول عنها عند عامة الناس ، وان كان ذلك أيضا تاما في نفسه من جهة امكان اثبات كون مثل الدعوة مما يغفل عنها عامة الناس ، كما هو الشأن أيضا في مثل قصد الوجه والتميز ، إذ مجرد ارتكازية داعوية الامر ومحركيته للاتيان بالمأمور به لايقتضي ارتكازية دخلها في مقام المصلحة ومرحلة لب الإرادة حتى لا يلزم من عدم بيانه اخلال بغرضه كما هو واضح.
    ثم إن ذلك كله بناء على ما اخترناه من امكان اخذ داعي الامر والإرادة قيدا في المأمور به بالالتزام بتعدد لب الإرادة ، واما بناء على القول بعدم امكانه واستحالته ولو من جهة عدم تصور الطبيعي الساري في الامر لتوهم عدم تكفل الانشاء الشخصي الا لأمر واحد شخصي ، فقد يقال حينئذ بعدم اقتضاء اطلاق الخطابات ولو بموادها شيئا لأنه فرع امكان التقيد ، فمع امتناعه كما هو المفروض لا مجال للتشبث بها لا ثبات التوصلية كما هو واضح. لكن فيه ان مجرد عدم التمكن من اخذه قيدا في المأمور به لايمنع عن اطلاقه حتى في فرض تمكنه من الاتيان بأمر مستقل متصل بالكلام ، كيف وان للمولى حينئذ بيان مثل هذه القيود التي لها الدخل في تحقق غرضه ومرامه خصوصا على مبني مرجعية البراءة العقلية في مثلها إذ في مثله يجب على المولى لو فرض دخل القرب في تحقق غرضه واقعا بيانه ولولا بنحو التقيد بل بأمر آخر متصل بالكلام ، والا لتحقق الاخلال منه بغرضه. وحينئذ فإذا لم يكن إشكال في جهة كون الخطابات في مقام البيان لا بأس بالتمسك باطلاقها لكشف قيام الغرض والمصلحة بمطلق وجود المتعلق ولو لم يكن نشوه عن داع قربى من جهة ما تقدم من تمكن المولى حينئذ من بيان ماله الدخل في غرضه ومرامه حينئذ ولو بأمر آخر بالقيد المزبور متصلا بكلامه. واما توهم لغوية الامر الثاني حينئذ ، فمدفوع بما تقدم بأنه كذلك في فرض العلم بعبادية المأمور به من الخارج لا مع الغفلة والشك في عباديته ودخل مثله في تحقق غرضه ومرامه ، مع أنه لو اغمض عن ذلك يكفينا حينئذ الاطلاقات المقامية بناء على كون مثل تلك القيود من القيود المغفول عنها عند عامة الناس ، إذ يستكشف بها أيضا عن عدم دخل داعي القرب في ما هو مرامه وغرضه ، نعم العمدة على ذلك حينئذ هو اثبات هذه الجهة وأن هذا القيد من القيود المغفول عنها عند عامه الناس ، والا فبعد الفراغ عن اثبات هذه الجهة لا اشكال في اقتضاء اطلاق المقام لعدم دخله في تحقق غرضه ومرامه ، فتدبر. هذا كله في المقام الأول.


(200)
    واما المقام الثاني : فالكلام فيه انما هو فيما اقتضته الأصول العملية من البراءة أو الاحتياط فنقول :
    اما العقلية منها فقد يقال كما في الكفاية بالاشتغال ولو مع القول بالبرائة في الأقل والأكثر الارتباطيين ، نظرا إلى رجوع الشك في المقام إلى الشك في الخروج عن عهدة امتثال الامر المتعلق بذات العمل ، فإنه بعد احتمال عبادية المأمور به فلا محالة يشك في مدخلية قصد امتثال أمره في حصول الغرض وسقوط الامر المتعلق به ومعه يشك في الخروج عن العهدة بمجرد الاتيان بذات العمل الغير المقرون بقصد امتثال امره ، وحينئذ فلا بد بحكم العقل الجزمي باقتضاء الاشتغال اليقيني بالشيء للفراغ اليقيني عنه من الاحتياط وتحصيل الجزم بالفراغ ، ولايكون ذلك الا باتيان العمل عن قصد امتثال امره ، دون البراءة لأنها انما تكون في مورد كان الشك في أصل التكليف لا في سقوطه فارغا عن أصل ثبوته وتنجزه على المكلف ، والمقام انما كان من قبيل الثاني حيث كان الشك في سقوط التكليف المتعلق بالعمل والخروج عن عهدة امتثاله باتيانه بدون قصد امتثال امره ، وفي مثله كان المرجع هو الاشتغال دون البراءة كما هو واضح.
    أقول : ولايخفى عليك ان هذا الاشكال بعينه هو الاشكال المعروف في الأقل والأكثر الارتباطيين ، حيث إنه أو رد هذا الاشكال بعينه هناك على القائل بالبرائة وانحلال العلم الاجمالي بتقريب : ان العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر وان انحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقل والشك البدوي في الأكثر وكان الأكثر من تلك الجهة تحت البراءة الا ان لازم اليقين بوجوب الأقل بحكم العقل هو الخروج عن عهدته بتحصيل الجزم بالفراغ عنه وتحصيل هذا الجزم بعد احتمال وجوب الأكثر مع فرض ارتباطية الواجب لايكون الا بالاتيان بالأكثر من جهة انه معه الاقتصار بالأقل حينئذ لايعلم بالخروج عن عهدته نظرا إلى احتمال وجوب الأكثر في الواقع وحينئذ فلابد من الاحتياط باتيان الأكثر مقدمة لتحصيل الجزم بالفراغ عن عهدة التكليف الثابت المعلوم تعلقه بالأقل ، وعلى ذلك فكان هذا الاشكال مشترك الورود بين المقام وبين تلك المسألة ولا خصيصة له بالمقام حتى يقال باقتضاء الأصل في المقام الاشتغال ولو مع القول بالبرائة في الأقل والأكثر الارتباطيين فلو بنينا حينئذ بان هم العقل بالنسبة إلى ما تم عليه البيان هو الجزم بسقوط التكليف والامر عنه فلابد من الاحتياط في المقامين ، كما أنه لو بنينا


(201)
على أن المهم عند العقل هو تحصيل الفراغ عن تبعات الامر المعلوم المحقق من العقوبة على المخالفة كما هو التحقيق فلازمه هو البراءة العقلية في المقامين.
    وبعد ذلك نقول : بأنه وان كان قد مر منا ما يوضح البراءة في مبحث الأقل والأكثر الا ان الحوالة عليه لما كانت غير خالية عن المحذور ، فلا بأس بالتعرض لدفع الاشكال وايضاح جريان البراءة في المقامين بنحو الاجمال والاختصار ، فنقول : انه بعد الجزم بعدم كون مجرد التكليف بشيء واقعا وفي نفس الامر مع قطع النظر عن تمامية البيان عليه منشأ لاعتبار اشتغال العهدة بثقل التكليف عند العقل بشهادة موارد الشبهات البدوية الوجوبية والتحريمية ، وان تمام المنشأ لاعتبار ثقل التكليف في العهدة الذي هو عبارة عن حكم العقل بالاشتغال انما هو تمامية البيان على التكليف ووصوله إلى المكلف ، نقول بأنه لا شبهة في أن هم العقل في حكمه بالفراغ في فرض ثبوت الاشتغال بالتكليف انما هو تحصيل الجزم بالخروج عن تبعات التكليف المعلوم من العقوبة على المخالفة ، وحينئذ فإذا كان المفروض هو عدم تمامية البيان على التكليف الا بمقدار الأقل نظرا إلى فرض انحلال العلم الاجمالي بوجوب الأقل أو الأكثر بالعلم التفصيلي بوجوب الأقل فلا جرم هذا المقدار من الاشتغال لايقتضي الا الاتيان بذات الأقل ولولا في ضمن الأكثر لأنه باتيانه يحصل الجزم بالخروج عن تبعة ما يترتب على مخالفته من العقوبة ، واما عدم اتصاف المأتى به وهو الأقل حينئذ بكونه مأمورا به وعدم سقوط أمره في فرض وجوب الأكثر واقعا نظرا إلى ارتباطية التكليف فهو لايقتضي أيضا اتيانه في ضمن الأكثر إذ ذلك انما يكون كذلك فيما لو كان قضية عدم سقوط أمره وعدم وقوعه مأمورا به من جهة القصور في المأتي به وهو الأقل ، وهو ممنوع جدا ، بل نقول بان عدم سقوط امره وعدم اتصافه بكونه مأمورا به انما هو من جهة القصور في نفس الامر والتكليف الضمني المتعلق بالأقل عن الشمول لحال وجوده لا في ضمن الأكثر لا من جهة قصور في طرف الأقل المأتى به ، كما هو واضح. وحينئذ فإذا كان الأكثر في نفسه تحت البراءة العقلية لقاعدة قبح العقاب بلا بيان نقول : بأنه لايقتضي قضية الاشتغال بالأقل أيضا بحكم العقل الا الاتيان بما هو متعلقه فرارا عن تبعات ما يترتب من العقوبة على مخالفته وبالاتيان بالأقل يحصل الجزم بالخروج عن العهدة من طرف العقوبة على مخالفة الامر المعلوم وان لم يقطع بوقوعه على صفة الوجوب ولا سقوط الامر عنه واقعا من جهة احتمال وجوب الأكثر


(202)
واقعا ، وذلك لما تقدم من أن هم العقل في نحو ذلك انما هو رفع الشك عن جهة وجود ما هو متصف بالوجوب لا رفع الشك عن جهة الاتصاف أيضا ، فتدبر.
    وعلى ذلك فبعين هذا التقريب نجيب عن الاشكال المزبور في المقام أيضا ونقول بجريان البراءة عن قيد دعوة الامر عند الشك في التعبدية والتوصلية وجواز الاكتفاء في الخروج عن عهدة التكليف بمجرد الاتيان بذات المأمور به ولو منفكا عن قصد دعوة الامر ، وحينئذ فلا فرق في جريان البراءة بين مثل المقام وبين الأقل والأكثر الارتباطيين.
    بل ولئن تأملت ترى امر جريان البراءة في المقام أوضح من جريانها في الأقل والأكثر ، إذ دوران الامر في المقام بعد أن كان بين التكليف الواحد أو التكليفين المستقل المتلازمين ثبوتا وسقوطا فمن الأول يقطع تفصيلا بتعلق تكليف مستقل بذات المأمور به وانما الشك في تعلق تكليف وإرادة أخرى بعنوان دعوة الامر ، فمن هذه الجهة تجرى البراءة بالنسبة إلى التكليف المشكوك من دون علم اجمالي في البين. وهذا بخلافه في الأقل والأكثر الارتباطيين ، إذ فيه لا دوران بين التكليف الواحد أو التكليفين المستقلين ولو متلازمين في مقام الثبوت والسقوط ، فمن هذه الجهة لم يعلم باستقلالية التكليف المعلوم المتعلق بالأقل بل يحتمل فيه الضمنية أيضا ، وفي مثله ربما كان المجال للخدشة في جريان البراءة عن الأكثر من جهة توهم عدم انحلال العلم الاجمالي ، وان كان مثل هذه الدعوى ضعيفة أيضا في نفسها ، كما أوضحنا فسادها في محله بما لا مزيد عليه.
    وكيف كان فهذا كله حال البراءة العقلية ولقد عرفت جريانها في المقام بلا اشكال فيها.
    واما البراءة النقلية كحديث الرفع ونحوه فان بنينا على جريان البراءة عقلا فلا اشكال في جريان البراءة النقلية أيضا ، واما لو بنينا على الاشتغال والاحتياط عقلا نظرا إلى الشبهة المزبورة من لزوم تحصيل القطع بالامتثال والخروج عن عهدة التكليف المعلوم ففي جريان البراءة النقلية حينئذ نحو خفاء ، ولكن الظاهر هو جريان البراءة النقلية في هذا الفرض أيضا نظرا إلى عدم كون حكم العقل بالاحتياط حينئذ حكما تنجزيا كما في موارد العلم الاجمالي حتى ينافيه الترخيص الشرعي ، بل نقول بان حكمه ذلك


(203)
كان حكما تعليقيا بعدم ورود الرخص الشرعي على خلافه ، وحينئذ فبجريان مثل حديث الرفع يرتفع حكمه بالاحتياط ، فتأمل. هذا بناء على أن يكون مفاده رفع مطلق الآثار التي منها المؤاخذة أو خصوص المؤاخذة على الترك ، إذ نقول بان رفعها حينئذ انما هو برفع منشئها الذي هو ايجاب الاحتياط في ظرف الشك أو بجعل الترخيص على خلاف ما يقتضيه حكم العقل بالاحتياط ، إذ لا مانع عنه بعد فرض تعليقية حكم العقل بذلك ، كما هو واضح.
    نعم لو قيل بكون مفاده هو رفع خصوص الآثار الشرعية ففيه اشكال ينشأ من عدم كون دخل مثل دعوة الامر في الغرض من الآثار الشرعية المجعولة كالشرطية والجزئية والمانعية حتى يرفع به ، فيكون اللازم حينئذ التفصيل بين مثل المقام وبين الأقل والأكثر بدعوى عدم جريانها في المقام وجريانها في تلك المسألة ، نعم بناء على ما ذكرنا سابقا من إمكان أخذ دعوة الامر قيدا في المأمور به ولو بالالتزام بتعدد لب الإرادة ربما لا يفرق في جريانها بين المقام وبين الأقل والأكثر ، فتدبر. لكن لايخفى عليك ان الأستاذ لم يتعرض لحال جريان البراءة النقلية في المقام وانما تعرضته لتعرضه دام ظله لها في الدورة السابقة. *
    * قالوا ان التعبدي قد يطلق على ما يعتبر فيه ماشرة المكلف أو صدوره عن ارادته أو اتيانه في مصداق غير محرم ومقابلة التوصلي الذي لا يعتبر فيه شيء من ذلك. وحيث إن المؤلف المقرر لم يعترض لما افاده أستاذه المحقق ( قدس سرهما ) هيهنا وتعرض له العلامة آية الله الآملي دامت بركاته في تقريره لبحث الأستاذ فلذا تأتى بما افاده تتميما للفائدة. ( المصحح )
    قال هنا ما لفظة :
تتميم
    هل اطلاق الخطاب يقتضى صدور الفعل من المأمور مباشرة أو يقتضى الأعم من المباشرة والتسبيب أو لا يقتضى شيئا من ذلك وأيضا هل يقتضى اطلاقه صدور الفعل من اختيار أو لا يقتضى ذلك وأيضا هل يقتضى اطلاقه كون الفعل المأمور به غير محرم حين صدوره من الفاعل أو لا يقتضى ذلك وتوضيح جميع ذلك يتم في ثلاثة مواضع :


(204)
.....................................................................
الموضع الأول
    فالتحقيق يقضي ان اطلاق الخطاب يقتضي صدور الفعل من المكلف مباشرة وعليه لايكفي صدور الفعل بالتسبيب أو الاستنابة به فضلا عن صدوره من غيره بلا تسبيب أو استنابة وبيان ذلك يتوقف على تمهيد ( مقدمة ) وهي ان التخيير مطلقا بين فعلين أو أفعال لابد ان يكون بلحاظ الجامع بين الفعلين أو الافعال الذي يحصل به غرض المكلف فلا محالة تكون خصوصيات الافعال المخير بينها خارجة عن حيز الإرادة ومباديها من المصلحة والحب ونحوهما وعليه يكون كل فعل من الفعلين أو الافعال المخير بينها مخاطبا ومأمورا به حين عدم الآخر لا مقيدا أو مشروطا بعدمه ليلزم الدور ولا مطلقا ليلزم كون الوجوب في كل منهما تعيينيا وان شئت فعبر عن الوجوب المزبور بالإرادة الناقصة أعني بها إرادة الفعل في جميع أحوال الامكان إلا في حال الاتيان بالفعل المعادل له. هذا كله فيما لو كان كل من الفعلين أو الافعال مقدورا للمكلف ، وأما إذا خرج أحدهما عن قدرته وبقى أحدهما مقدورا له أو كان كذلك حين جعل الحكم فالمشهور انه يصير المقدور منهما واجبا تعيينيا لانحصار الخطاب فيه ( ولكن التحقيق ) يقضي ببقاء ذلك الفعل المقدور على وجوبه التخييري كما كان عليه قبل امتناع عدله فيما لو كان كل منهما مقدورا حين الخطاب أو كما لو كان كل منهما مقدورا حين الخطاب فيما لو كان أحدهما ممتنعا حين جعل الحكم وذلك لان الوجوب عبارة عن الإرادة التشريعية التي أظهرها الشارع بما يدل عليها للمكلف ولا ريب في أن الإرادة تتبع في مقام تعلقها بالمراد المصلحة القائمة فيه ولا شبهة أيضا في أن المصلحة الداعية إلى ايجابه تخييرا حين القدرة على كلا الفعلين لا تتغير عما هي عليه حين امتناع أحدهما وإذا كانت لم تتغير عما هي عليه من الخصوصية المقتضية للوجوب التخييري لا يعقل ان يكون مقتضاها حين امتناع أحد الفعلين هو الوجوب التعييني إذ هو سنخ آخر من الوجوب لا ينشأ إلا عن مصلحة أخرى تسانخه.
    ومما ذكرنا في بيان ملاك الوجوب التخييري يتضح لك السر في بعض الواجبات التوصلية بل التعبدية التي يسقط وجوبها عن المكلف بفعل غيره كتطهير ثوب المكلف بالصلاة والقضاء عن الميت على القول بصحة عمل المتبرع فإنه عليه يسقط وجوب القضاء عن الولي كما يسقط وجوب تطهير الثوب عن المكلف بالصلاة وذلك لان ملاك هذا النحو من الوجوب هو حصول الغرض بوجود الفعل في الخارج بلا دخل لخصوصية فاعله فيه غاية الامر ان المورد اقتضى توجيه الخطاب إلى مكلف خاص كما يظهر ذلك


(205)
.....................................................................
من المثالين المزبور وعليه يكون فعل غير المكلف كفعله في تحصيل الغرض الداعي إلى وجوب ذلك الفعل على المكلف به فكما ان ملاك الوجوب التخييري هو حصول الغرض بكل من فعلى المكلف أو أفعاله المقتضي ذلك لتخييره شرعا أو عقلا بينهما كذلك يكون ملاك الوجوب الذي يسقط عن المكلف بفعل غيره توصليا كان أم تعبديا كما أشرنا إليه وبما ان فعل غير المكلف خارج عن قدرة المكلف واختياره لايصح ان يخاطب به بنحو التخيير بين فعله وفعل غيره ولكن لما كان المكلف يعلم أن هذا التكليف يسقط عنه بفعل غيره يخيره العقل بين ان يفعله هو بنفسه وبين ان يتسبب إلى فعل غيره فان فعله سقط عن المكلف التكليف وإلا بقى مخاطبا به لان الخطاب بمثل هذا الفعل متوجه إلى المكلف في حين عدم فعل غيره إياه كما هو الشأن في الواجب التخييري حيث علمت أن الخطاب بكل من الفعلين أو الافعال متوجه إلى المكلف حين عدم الآخر ، ومن هذا البيان ظهر ان خطاب المكلف بالفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره لايكون مشروطا بعدم فعل الغير كما توهم بل هو خطاب توجه إليه في حين عدم فعل الغير كما هو شأن الواجب التخييري كما أشرنا إليه ، كما ظهر ان الخطاب في مثل هذا الواجب لم يتعلق بالجامع بين فعل المكلف وفعل غيره كما يتعلق به في الواجب التخييري وذلك لخروج فعل الغير عن قدرته واختياره ، كما ظهر أيضا ان الخطاب لم يتعلق به بنحو التخيير بينه وبين التسبيب ، إلى فعل غيره لان الجامع الذي يحصل به الغرض ليس مشتركا بين فعل المكلف وبين التسبيب إلى فعل غيره بل بين فعل المكلف وبين نفس فعل الغير كما لايخفى وانما العقل يرشد المكلف إلى ما يسقط به التكليف عنه وهو فعل الغير فيتسبب إليه بما يراه سببا لصدور الفعل من الغير ومما ذكرنا اتضح لك ما في كلام بعض الأعاظم ( قده ) في المقام من الوهن كما هو محرر في تقريراته.
    ( إذا عرفت هذه المقدمة ) تعرف ان اطلاق الخطاب يقتضي كون الوجوب مطلقا في جميع الأحوال وازمان الامكان لا انه قضية حينية اي انه ثابت في حين دون حين وحال دون حال ونتيجة ذلك هو عدم سقوط الوجوب عن المكلف وعدم حصول الغرض بفعل غيره ( ان قلت ) ان مقتضي اطلاق المادة قيام المصلحة والغرض بها وان صدرت من الغير ( ولا يتوهم ) تقييده بتقيد اطلاق الهيئة بخصوص الصادر من المأمور لخروج فعل الغير عن قدرته ( لان ذلك ) بسبب حكم العقل الغير الموجب لانقلاب اطلاقها إلا من جهة الحجية لا في أصل الظهور حتى يسرى إلى المادة ( قلت ) الامر كما ذكر ان فرضنا التمسك بحكم العقل في اختصاص الهيئة ولكن نحن نعتمد على ظاهر توجيه الخطاب والطلب المقتضي لحصرة في فعل المأمور فيمنع عن تمامية اطلاق المادة بحيث يستكشف قيام المصلحة حتى في


(206)
.....................................................................
ما صدر عن الغير لكي يزاحم مع اطلاق الهيأة في مطلوبية فعل المأمور وان صدر من الغير.
    هذا مقتضى الاطلاق ، ومع عدمه فمقتضى الأصل العملي هي البراءة عن التكليف بالفعل المزبور حين صدوره من الغير ولو قلنا بالاحتياط في مقام دوران الامر بين التعيين والتخيير وذلك لان منشأ القول بالاحتياط في مقام الدوران المزبور هو وجود العلم الاجمالي باشتغال ذمة المكلف اما بوجوب صلاة الظهر يوم الجمعة مثلا مطلقا أي ولو مع صلاة الجمعة واما بوجوب الجمعة في حال ترك الظهر ونتيجة هذا العلم هو الاحتياط بفعل ما يحصل به اليقين بفراغ الذمة من التكليف المعلوم وهي صلاة الظهر وهذا العلم الاجمالي غير موجود في محل الكلام لأنه يعلم تفصيلا بأنه مخاطب بهذا الفعل لخروج فعل غيره عن قدرته واختياره فلايكون عدلا لفعله في مقام التكليف ليحتمل كونه مكلفا تخييرا بأحد الامرين وبما ان المكلف يعلم أنه مخاطب بالفعل المزبور في حال ترك غيره له ويشك بوجوبه عليه في حال اتيان الغير به يصح له الرجوع إلى البراءة في مقام الشك المذكور ولا مجال لجريان أصالة الاشتغال بتوهم ان اشتغال الذمة بالتكليف متيقن وانما يشك بسقوطه بفعل الغير والأصل يقتضي عدم كونه مسقطا وذلك لأنه يكون هو بنفسه مجرى لأصالة البراءة فيكون هذا الأصل حاكما على أصل عدم كون فعل الغير مسقطا.
    ( ومن هنا ) يظهر لك الجواب عن توهم بعض الأعاظم ( قده ) في المقام لصحة جريان أصالة الاشتغال في محل الكلام بتقريب ان المكلف يعلم باشتغال ذمته بالتكليف في حال ترك غيره لمتعلق ذلك التكليف وبعد فعل الغير له يشك بسقوط التكليف عنه وحينئذ يصح جريان أصالة الاشتغال أو استصحاب بقاء التكليف بذلك الفعل ( وذلك ) لما قد بينا ان الشك في المقام يكون في طور التكليف هل هو تام أو ناقص ومعه لا مجال للاستصحاب إذ ما هو مقطوع من الأول هو وجوب الاتيان في ظرف عدم صدور الفعل من غيره واما لزوم الاتيان في ظرف صدوره من الغير فيكون مشكوكا من الأول فلا تتم فيه أركان الاستصحاب وحينئذ يصح ان يرجع فيه إلى البراءة ولا مجال للاشتغال ومن هنا يتضح انه لا مجال لتوهم جريان الاستصحاب في القدر الجامع بين الوجوب التام والناقص لحكومة البراءة عليه كما هو الشأن في جميع موارد الشك في الأقل والأكثر.
الموضع الثاني
    في أن اطلاق الخطاب هل يقتضي صدور الفعل عن اختيار أو لايقتضي ذلك وغاية


(207)
.....................................................................
ما يمكن ان يقال هو ان التكليف لما كان مشروطا بالقدرة والاختيار عقلا امتنع الاطلاق في كل من الهيئة والمادة اما الهيئة فلان مفادها على الفرض مشروط بالاختيار عقلا واما المادة فلسراية تقييد الهيئة إليها ومعه لم يبق مجال لتوهم الاطلاق فضلا عن صحة التمسك به إلا أنه يمكن النظر في ذلك بما أشرنا إليه فيما سبق من أنه قد تكون للكلام دلالات وظهورات متعددة فإذا سقط بعضها عن الحجية فلا موجب لسقوط الآخر بل القاعدة تقضي ببقائه على الحجية وما نحن فيه من هذا القبيل فان اطلاق الهيئة ببعض ظهوره وان كان مقيدا عقلا بالاختيار فظهورها في الاطلاق وان سقط عن الحجية للقرينة العقلية إلا ان ظهورها في كون المادة ذات مصلحة ملزمة لا موجب لسقوطه عن الحجية وعليه يكشف اطلاقها عن اطلاق المصلحة القائمة فيها.
    ( ولكن قد يستشكل ) في ذلك بان اطلاق المادة وان كان يقضي بحصول الغرض من الامر وان صدرت من المكلف بلا اختيار ولازم ذلك سقوط التكليف حين صدورها من المكلف بلا اختيار لحصول الغرض الداعي إليه ولكن ذلك ينافي مقتضي اطلاق الهيئة إذ بعد تقييد الهيئة بالقدرة ولو بحكم العقل يكون مفادها لزوم الاتيان بالمادة في حال الاختيار ومقتضي اطلاقها لزوم الاتيان بالمادة في حال الاختيار وان صدرت من المكلف في حال بلا اختيار وعليه يقع التهافت بين اطلاقي الكلام الواحد ( ويمكن الجواب ) عن ذلك بان الخطاب مع قطع النظر عن تقييده عقلا بحال الاختيار مطلق بالإضافة إلى حالتي الاختيار والاضطرار وبعد تقيده عقلا بحال الاختيار يسقط ظهوره في الاطلاق المزبور عن الحجية ولكن لاينعقد للمقيد ظهور في الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان ببعض افراد غير المقيد كما هو الشأن في التقييد بالمنفصل فان التقييد بالمنفصل لايوجب إلا سقوط ظهور المطلق في الاطلاق عن الحجية ولاينعقد معه ظهور للمقيد في التقييد بخلاف التقييد بالمتصل فإنه ينعقد معه للمقيد ظهور في الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان بغير افراده وعدمه وبما ان التقيد بحال الاختيار في المقام انما حصل بدليل منفصل وهو دليل العقل لم ينعقد للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق بالإضافة إلى الاتيان بالفرد الاضطراري.
    ومن هنا يظهر الجواب عن اشكال آخر وهو ان مدلول الهيئة محصور بصورة الاختيار لان الداعي إليه هو البعث واحداث الداعي في نفس المأمور وذلك يختص بصورة صدور الفعل عن اختيار المأمور فيزاحم حينئذ مقتضى اطلاق المادة بل يمنع عن استفادة الاطلاق في ناحية المادة ، وملخص الجواب ان اختصاص الهيئة بما ذكر بحكم العقل الذي هو من التقييد المنفصل فلاينافي ظهور الهيئة في تحقق مبادي الطلب من الإرادة والمصلحة مطلقا وان قيدت


(208)
.....................................................................
حجية الهيئة في فعلية الإرادة بصورة صدور الفعل عن اختيار وعليه يبقى ظهور المادة في الاطلاق بلا معارض فيصح الاخذ به ويكون دليلا على سقوط التكليف حين الاتيان بالفرد الاضطراري.
    وبهذا يتضح لك عدم تمامية ما ذهب إليه بعض الأعاظم في المقام حيث أفاد ان التكليف لابد ان يتعلق بالفعل الاختياري فلو كان الفعل غير الاختياري مسقطا له لكان التكليف مشروطا بقاء بعدم وجود الفعل غير الاختياري وحيث يشك بكونه مسقطا يشك بكون التكليف مطلقا أو مشروطا ومقتضي أصالة الاطلاق هو عدم الاشتراط ومع عدم الاطلاق يكون المرجع استصحاب بقاء التكليف هذا حاصل تحقيقه في محل الكلام ولايخفى ما فيه ، لما عرفت آنفا من أن الخطاب مطلق بالإضافة إلى الفعل الاختياري والاضطراري وتقييده بالدليل المنفصل العقلي لايوجب الا سقوط ظهوره في الاطلاق عن الحجية ولاينعقد معه للمقيد المزبور ظهور في الاطلاق الأحوالي بالإضافة إلى الاتيان بالفرد الاضطراري ، وعدمه ليجعل دليلا على وجوب الاتيان بالفعل الاختياري بعد الاتيان بالفرد الاضطراري ، هذا كله فيما لو كان هناك اطلاق ، وأما إذا لم يكن في المقام اطلاق فالمرجع عند الشك في بقاء التكليف بعد الاتيان بالفرد الاضطراري هي البراءة لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في الأقل والأكثر الاستقلاليين ولا شبهة في أن المرجع في الشك المزبور هي البراءة ومعه لا مجال للرجوع إلى استصحاب التكليف لحكومة أصالة البراءة عليه.
الموضع الثالث
    في أن اطلاق الخطاب هل يقتضي كفاية الامتثال بالفرد المحرم أو لايقتضي ذلك والتحقيق يقتضي بالأول مطلقا سواء كان بين متعلق الامر ومتعلق النهى عموم من وجه أم عموم مطلق وسواء قلنا بجواز الاجتماع أم بامتناعه وذلك لان اطلاق الخطاب يكشف عن وجود المصلحة الملزمة في متعلقة مطلقا ولو كان بعض افراده محرما غاية الامر ان ملاك النهى لغلبته على ملاك الامر يوجب فعلية النهى عن الفرد الذي اجتمعا فيه وتنتفي فعلية الامر وذلك لا يستلزم انتفاء ملاك الامر ومعه يحصل بالفرد المحرم الغرض الداعي إلى أصل الخطاب فيسقط بانتفاء الموضوع لا بالامتثال ، وعند عدم الاطلاق يكون المرجع حين الشك البراءة كما تقدم في الموضع الثاني ، ومما ذكرنا في هذا الموضوع يظهر لك ما في كلام بعض الأعاظم من النظر وقد أشرنا إليه فيما سبق فراجع.


(209)
الجهة الخامسة
    لايخفى عليك ان اطلاق الصيغة يقتضي كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا ، من جهة احتياج غيره من الغيري والتخييري والكفائي إلى مؤنة زائدة غير مناسبة مع قضية الاطلاق ، إذ يحتاج الغيري إلى تقيد وجوبه بتقدير دون تقدير وهو تقدير وجوب أمر آخر ، والتخييري إلى بيان انه واجب على تقدير عدم الاتيان ببدله فيحتاج إلى بيان لفظ ( أو ) مثلا بقوله : يجب هذا أو ذاك ، والكفائي إلى التقيد بصورة عدم اقدام الغير. وهذا بخلافه في النفسي التعييني العيني ، فإنه واجب على كل تقدير ، فكان هذه القيود كلها يدفعها قضية اطلاق الصيغة.
الجهة السادسة
    إذا ورد أمر عقيب الحظر أو توهمه ، فهل هو ظاهر في الوجوب ؟ كما لو لم يكن في البين حظر ولا توهمه ، أو لا ؟ وعلى الثاني فهل هو ظاهر في الاستحباب ؟ أو في الإباحة ؟ كما ينسب إلى المشهور ، أو انه تابع لما قبل النهى لو علق الامر على زوال علة النهى ؟ أو مطلقا ؟ وجوه بل أقوال. والظاهر أن مورد النزاع ومحل الكلام بينهم انما هو في مورد كان متعلق الامر بعينه هو المتعلق للنهي من حيث العموم والخصوص كما في قوله : لاتكرم النحويين ، أو لاتكرم زيدا ، وقوله بعد ذلك : أكرم النحويين ، أو أكرم زيدا ، والا فمع اختلاف متعلق الأمر والنهي من جهة العموم والخصوص كان خارجا عن موضوع هذا النزاع نظير قوله : لاتكرم النحويين ، وقوله : أكرم الكوفيين منهم ، فإنه في مثله لابد من التخصيص أو التقييد الكاشف عن عدم تعلق النهى بالخاص من أول الامر ، كما يشهد لذلك بناء العرف في نحو ذلك بحمل العام والمطلق فيها على الخاص والمقيد.
    وحينئذ فبعد أن اتضح مورد النزاع بينهم ، نقول : بأنه ان بنينا على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد العقلائي فلا شبهة في أن لازمه هو الحمل على الوجوب ما لم يكن


(210)
في البين قرينة قطعية على الخلاف ، حيث إن مجرد وقوعه عقيب الحظر أو توهمه لايمنع عن الحمل على الحقيقة ، وأما لو بنينا على حجيتها من باب الظهور التصديقي كما هو التحقيق ففي ذلك لا مجال للحمل على الوجوب ، لأنه بمحض اقترانه بما تصلح للقرينية ينتفي ظهوره فيما كان ظاهرا فيه ، فلا يبقى له ظهور في الوجوب بل ولا في الاستحباب أيضا بحيث لو قام بعد ذلك دليل على الخلاف يحكم بالمعارضة بينهما ، ضرورة انه بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب لا مقتضي في تعين ظهوره في غيره من الاستحباب أو الإباحة بالمعنى الأخص بل هو يصير حينئذ مجملا من تلك الجهة غير ظاهر في شيء مما ذكر الا مع قيام القرينة في البين على إرادة الندب أو الإباحة أو على حكم ما قبل النهى ، والا فمع خلو المقام عن القرينة لايكون فيه ظهور لا في الوجوب ولا في الندب ولا في الإباحة بالمعنى الأخص ، نعم يستفاد من هذا الامر عدم الحرج في الفعل واباحته بالمعنى الأعم الذي هو جامع بين الوجوب والندب والإباحة بالمعنى الأخص ، ومن ذلك يحتاج في تعيين إحدى الخصوصيات إلى ملاحظة خصوصيات الموارد وقيام القرينة على التعيين. نعم يمكن ان يقال باستفادة الاستحباب في خصوص العبادات نظرا إلى إلى اقتضاء الامر فيها لمحبوبية المتعلق ورجحانه ، إذ حينئذ بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب من جهة وقوعه عقيب الحظر أو توهمه يمكن الحكم باستحبابه نظرا إلى قضية ظهوره في محبوبية المتعلق ورجحانه ، ففي الحقيقة استفادة الاستحباب حينئذ في العبادات انما هو لمناسبة خصوصية المورد لا من جهة ظهور الامر في الاستحباب بعد ارتفاع ظهوره في الوجوب ، كما هو واضح.
    ثم انه مما ذكرنا ظهر لك حال النهى الواقع عقيب الوجوب أو توهمه ، حيث نقول فيه أيضا بعدم ظهوره لا في الحرمة ولا في الكراهة.
الجهة السابعة :
    هل الصيغة تقتضي المرة أو التكرار أو لاتقتضي الا صرف وجود الطبيعي الذي يتحقق بأول وجوده ؟ فيه وجوه وأقوال : أقواها الأخير كما ستعرف.
    وقبل الخوض في المرام ينبغي تعيين المراد من القول بالمرة والتكرار ، حيث إن فيها وجوها ثلاثة :
نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس