( وتثبيتاً من أنفسهم ... ) (1) فيها من الدلالة الإيحائية ، الانتقال بمشاعر الإنسان في الغبطة والسرور إلى عالم روحي محض يحمل بين برديه جميع مقومات الرضا من الله ، والعناية بالنفس المطمئنة ، التي لا تأمل إلا التثبيت والاستقامة .
    
ثانياً : والكلمة « ربوة » في قوله تعالى :
    
( كمثل جنة بربوة أصابها وابل ... ) (2)
    
تحمل صورة فريدة في تخيل الجنان تتساقط عليها الأمطار فتمسح سطحها ، وهي سامقة شامخة فتزيل القذى عن أشجارها ، وتثبت جذورها ، وتمنحها القوة والحياة والاستمرار ، وهي على نشز من الأرض تباكرها هذه الهبات ، وما يوحي ذلك من مناخ نفسي يسكن إليه الضمير .
    
ثالثاً : والكلمة « بصير » في قوله تعالى :
    
( والله بما تعملون بصير (265) ) (3) توحي هنا بدقة الملاحظة وشدة الرقابة والإحاطة الشاملة بجزئيات الأمور كلياتها ، وحيثيات الإنسان وتصرفاته ، فعمله منظور لا يغفل عنه ، ووجوده في رصد لا يترك ، وأعماله في سبر وإحصاء . وهذا الإيحاء نفسه يوحي بإيحاء آخر هو :
    
إن الله بصير لا بالعين الناظرة ، لأن العين لها ما شاهدت والله يرصد ما يشاهد ما يخفى وما تجن الصدور .
    
إن هذه الإيحائية تحتمها دلالة اللفظ .
    
رابعاً : واختيار كلمة « تراب » بدلاً من « طين » في قوله تعالى :
    
( إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ... (59)) (4) ذو طبيعة إيحائية تضفي على اللفظ أكثر من المعنى الظاهر الذي يتبادر له الذهن ، فقد أريد بها هنا أن الإنسان خلق من أدنى القسيمين الطين
____________
(1) (2) (3) البقرة : 265 .
(4) آل عمران : 59 .
( 57 )
والتراب . فاختار التراب ليومي إلى هذه الدلالة . وقد اعتبرها الزركشي ( ت 794 هـ ) من مشاكلة اللفظ للمعنى ، ومتى كان اللفظ جزلاً كان المعنى كذلك ، وتابع في تعليله ابن أبي الاصبع فيما تقدم (1) .
    
قال الزركشي « إنما عدل عن الطين الذي هو مجموع الماء والتراب إلى ذكر مجرد التراب لمعنى لطيف ، وذلك أنه أدنى العنصرين وأكثفهما ، لما كان المقصود مقابلة من ادعى في المسيح الإلهية بما يصغر خلقه عند من ادعى ذلك ، فلهذا كان الاتيان بلفظ التراب أمس في المعنى من غيره من العناصر » (2) .
    
خامساً : والكلمة « فجرنا » في قوله تعالى :
    
( وفجرنا خلالهما نهراً ) (3) توحي زيادة على الوقع الهائل في تصور التفجير وما يصاحبه من صخب وتموج ـ بعدم المعاناة في السقي ، والإجهاد في الإرواء ، فالمياه متسلطة ، والأنهار جارية ، دون مشقة أو عناء ، فلا كراء مرير ، ولا توجيه لمجاري المياه ولا انتظار لهطول الأمطار ، فالتفجير حاصل متيقن ، وحاصله المياه الغزيرة .
    
سادساً : وفي تكرار الكلمة نفسها ، واللفظ في صيغ معينة له دلالته على المعاني الموحية ففي الآيات ( 13 ، 14 ، 16 ، 20 ) من سورة ياسين ، تكرار لكلمة « المرسلين » ففي الآية الأولى أخبار عن مجيئهم ، وفي الثانية تأكيد لإرسالهم بـ« انا » وفي الثالثة تأكيد مضاعف « بانا » واللام ، وفي الرابعة تحلية بالألف واللام الهدية .. وفي هذا التوسع بذكر المرسلين وتفاوت التأكد تدريجياً بين الشدة والضعف ، تثبت بالاستدلال على صحة إرسالهم ، فالأولى ضمن جملة خبرية ، والثانية مؤكدة من قبلهم برسول ثالث ، والثالثة تؤكد بإصرار وحزم بعد تكذيبهم من قبل أممهم ، وفي الرابعة يرسل الرجل المؤمن رسالتهم إرسال المسلمات ، فيتحلى اللفظ بالألف واللام للعهد القديم المؤكد ، وكل هذا يوحي بصدق دعواهم ،
____________
(1) ظ : فيما تقدم : القيمة اللفظية من هذا الفصل .
(2) الزركشي ، البرهان : 3|378 .
(3) الكهف : 33 .
( 58 )
وصحة رسالتهم . ومن خلال هذه الصيغ المتدرجة عرفنا أن في هذا التأكيد بهذه الصيغ في « أن » مؤكدة لضمير المتكلم المعظم نفسه ، أو جماعة المتكلمين ، واللام المؤكدة على الخبر بالإرسال ، جمالاً في المعنى الإيحائي لا يتأتى بإهمال هذه الحروف عند هذه الصيغ ، لأن أهل الطباع يجدون من زيادة الحرف معنى لا يجدونه بإسقاطه » (1) .
    
فإذا أضفنا إلى ذلك أن اجتماعهما قد كان : بمنزلة تكرير الجملة ثلاث مرات ، لأن إفادة التكرير مرتين ، فإذا دخلت اللام صارت ثلاثاً .
    
وعن الكسائي : أن اللام لتوكيد الخبر ، وأن لتوكيد الاسم .. وأن التوكيد للنسبة (2) أي النسبة القائمة بين الاسم والخبر .. علمنا مدى انطباق الدلالة الإيحائية على هذا التأكيد من جهة ، وعلى تكرار كلمة « المرسلين » من جهة أخرى .
    
سابعاً : والحق أن بهذا المثل زيادة على ما تقدم عدة كلمات ذات إيحائية خاصة نشير إلى بعضها بما يلي :
    
أ ـ الكلمة « تطيرنا » في قوله تعالى :
    
( قالوا إنا تطيرنا بكم ... ) (3) لها إيحاء نفسي مرير يخالج القوم بالتطير ، وما يضفيه مناخ التشاؤم من تثاقل وغم ، وما يعنيه من إيمانهم بالخرافات والاساطير التي تحاك حول ذلك ، ليصور مدى ضيق القوم بهؤلاء المرسلين حتى أصبح وجودهم بين ظهرانيهم مثاراً للمخاوف والهواجس .
    
ب ـ والكلمة « صيحة » في قوله تعالى :
    
( إن كانت إلا صيحة واحدة ... ) (4) فإنها توحي بهول الصدمة ، وعظم الهدة ، وتعني إخماد الأنفاس ، وشل الحركة ، وانهيار الحياة ، وقيام الساعة .
____________
(1) السيوطي ، الاتقان : 3|196 .
(2) المصدر نفسه : 3|195 .
(3) يس : 18 .
(4) يس : 29 .
( 59 )
    
جـ ـ والكلمة « ادخل »
في قوله تعالى :
    
( قيل ادخل الجنة ... ) (1) فإنها تحمل نداء الرب إلى العبد ، وحديث القلب للقلب ، فالدخول متحقق من أوسع أبوابه ، وفيها إيحاء خاص بأن المؤمن المستقيم سوف يتمتع بثمرة أتعابه ، وينعم ببركة إيمانه ، فما بعد هذا الدخول من خروج .
    
ثامناً : وقد عد السيد المرتضى ( ت 436 هـ ) كلمتي « خاشعاً » و « متصدعاً » في قوله تعالى :
    
( لو أنزلنا هذا القرءان على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ) (2) من صيغ الإيحاء في الدلالة على المبالغة التي تدعو إلى تعظيم القرآن في مقام الأخبار عن جلالة خطره ، وعظم قدره فقال : « إننا لو أنزلنا القرآن على جبل ، وكان الجبل مما يتصدع إشفاقاً من شيء أو خشية لامر ، لتصدع مع صلابته وقوته ، فكيف بكم يا معاشر المكلفين مع ضعفكم وقلتكم وأنتم أولى بالخشية والإشفاق » (3) .
    
وهذا يعني أن وراء اللفظ معنى آخر يوحيه بدلالته : وهو صيغة الانفعال عند الإنسان ، فليس المقصود خشية الجيل وتصدعه ، بل المقصود خشية الإنسان وخشوعه ، إذ ليس من شأن الجيل أن يخشع والخشوع والخشية ، كلاهما من أفعال القلوب التي لا تصدر عن جماد ، إلا أن يكون ذلك من صنع البيان إذ يبث الحياة في الصخر الأصم (4) .
    
تاسعاً : والجانب الإشاري في الألفاظ يوحي بالتعبير عن الصورة الفنية للشكل ، بما يستنبط من اللفظ من معنى جديد ، من خلال تركيب النص ، يوحي ذلك المعنى بأكثر من إرادة ظاهر اللفظ ، ويتمثل هذا الجانب ببعض النماذج التالية :
____________
(1) يس : 26 .
(2) الحشر : 21 .
(3) المرتضى : 1|428 وما بعدها .
(4) بنت الشاطي ، الإعجاز البياني للقرآن : 209 .
( 60 )
    
أ ـ الكلمتان « يذهب » و « يمكث » في قوله تعالى :
    
( فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ... ) (1) لا يراد بهما مجرد الذهاب أو الاستقرار والإقامة فحسب ، وهو المتناول اللغوي من ظاهر الكلمتين بل فيهما إشارة بالكناية توحي : بأن الأشرار قد يظهرون على الأبرار ، وأن الأخيار قد يلفهم التيار ، ولكن هذا لا يعني تلاشي الحق وضياع الواقع ، إذ لا بد للحقيقة أن تتزين بأبهى حللها ولو بعد حين ، وإذا بالمعدن الأصيل ثابت شامخ ، وإذا بالأوضار منفية ذائبة ، وإذا بالأول « يمكث » في الأرض رسوخاً ، وإذا بالثاني « يذهب » غائراً في خضم الأحداث .
    
ب ـ الكلمة « أشداء » في قوله تعالى :
    
( أشداء على الكفار ... ) (2) تحمل إلى الذهن كل معاني الغلظة والثبات والمجاهدة وتوحي بأبعاد الصبر واليقظة والحذر ، لا الشدة في مقابل الضعف فحسب ، بل تذهب إلى أكثر من هذا فتشير إيحائياً ـ لتحرك النفوس وتهز الضمائر ـ إلى التفاني في ذات الله ، وإلى التشدد بأحكام الله ، وإلى التنفيذ لأوامر الله ، فلا لومة لائم ، ولا غضب عاتب .
    
جـ ـ والكلمة « القانتين » في قوله تعالى :
    
( وكانت من القانتين ) (3) استفاد منها الزركشي ( ت 794 هـ ) دلالة إيحائية برفع مستوى مريم فيها إلى مصاف الرجال ممن وصفوا بالجد والصبر والمثابرة على أسمى مراتب العبادة « أذاناً بأن وضعها في العباد جداً واجتهاداً ، وعلماً وتبصراً ، ورفعة من الله لدرجتها في أوصاف الرجال القانتين وطريقهم » (4) .
    
والمستفاد هنا لا وصفها بالعبادة فحسب ، بل رفع درجتها إلى مصاف الرجال الموصوفين بذلك إشارة لتمخضها في العبادة .
____________
(1) الرعد : 17 .
(2) الفتح : 29 .
(3) التحريم : 12 .
(4) الزركشي ، البرهان : 3|302 .
( 61 )
4 ـ الدلالة الهامشية :
    
وهي أوسع الدلالات مجالا ، لأنها تعتمد على تعدد التخصص في الاستنتاج ، فهي تبع لنوعية ثقافة المفسر ، ودقة نظره ، وزاوية إفادته ، على مختلف الاتجاهات والثقافات عند المفسرين ، فقد تجد في سياق العبارات من الألفاظ أثراً للمطابقة والمقابلة في مجانسة الأضداد والجمع بين المتقابلين ، والتفريق بين المتجانسين مما يلحظه البلاغي بحسب ذائقته الفنية ، بينما يلحظ فيها النحوي مجالاً آخر في الاستفادة من تخريج اللفظ على الوجه النحوي في الاستعمال القياسي أو السماعي ، حتى لا يهم اللغوي منه هذا الفهم أو ذاك بل يبحث عن ضالته في تكثيف معجمه اللغوي بما يفيده هذا اللفظ أو ذاك .
    
وهكذا نجد الدلالة الهامشية مجالاً خصباً لمختلف الاجتهادات ، إلا أننا نجدها هنا أكثر تحكماً من قبل البلاغي ، لاستخراجه لها من عدة وجوه واحتمالات ، أي أنه ـ نتيجة لعلاقة تحمسه بالألفاظ أقدر من غيره على توجيه هذه الدلالة تجاه مساره البلاغي .
    
وسنلقي ضوءا ـ فيما يلي ـ على الفهم المتفاوت لنصوص الالفاظ ، بحسب تخصص المتلقي على الوجه التالي :
    
أ ـ اللغوي لا يرى بأساً بأن يجد بألفاظ أية واحدة من آيات المثل القرآني حروف المعجم العربي قاطبة ، فيحقق بذلك بغيته في التأكيد على هذا الجانب من الألفاظ ، والآية هي :
    
( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطه فازره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزّرّاع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين ءامنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما (29)) (1) .
    
فهو ينظر إلى هذا النص نظرة جانبية ، ويدور معه حول هامشه غير
____________
(1) الفتح : 29 .
( 62 )
ناظر إلا لحروف الالفاظ ، وكيف قد كونت حروف الهجاء .
    
ب ـ والنحوي ينظر إلى اللفظ من زاويته من زاويته الخاصة ، فاستعمال ( الذي ) بدل ( الذين ) في قوله تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ) (1) يقوم بتوجيه الفراء نحوياً فيقول :
    
« إنما ضرب المثل للفعل ، لا لأعيان القوم ، وإنما هو مثل للنفاق ، فقال : مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ، ولم يقل : الذين استوقدوا » (2) فالفراء قد افاد من اللفظ ما يفيده النحوي في التخريجات ووجه علة تصحيح النصوص أداء ، فحمل صيغة العدول عن الجمع إلى المفرد ، على العدول من أعيان المنافقين وهم جمع ، إلى النفاق وهو مفرد ، لأن الحديث منصب على النفاق لا الأشخاص ، أما حينما أراد المثل الحديث عن المنافقين بالذات وهم جمع أشار إليهم بالجمع فقال ( ذهب الله بنورهم ) (3) .
    
جـ ـ والمنطقي كسابقيه اللغوي والنحوي ، إنما ينظر إلى اللفظ من وجهة نظره المحدد بين التصور والتصديق ، فيستفيد من كلمة « حبة » مضمومة إلى كيفيتها في الإنبات بقوله تعالى :
    
( كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ... ) (4) بأنه « لا يلزم أن توجد حبة بهذه الصفة . إنما المقصود تصوير زيادة الأجر لا غير ، فإن وجدت صورة توافق المذكور في أكثر الخصوصيات أو كلها كان من قبيل لزوم ما لا يلزم » (5) وقد عقب الطبرسي على السنبلة من نفس الآية ، وعلل تصورها بالفهم نفسه فقال :
    
« متى قيل : هل رؤي في سنبلة مئة حبة حتى يضرب المثل بها ، فجوابه أن ذلك متصور وإن لم ير ، كقول امرئ القيس :
____________
(1) البقرة : 17 .
(2) ابن ناقيا ، الاجمال في تشبيهات القرآن : 56 .
(3) البقرة : 17 .
(4) البقرة : 261 .
(5) الهلوي ، الفوز الكبير في أصول التفسير : 29 .
( 63 )
    
ومسنونة زرق كأنياب أغوال (*)
    
وقوله تعالى : ( طلعها كأنه رءوس الشيطين ) (1) (2) .
    
د ـ والبلاغي حينما ينظر إلى اللفظ يستطيع بشكل وآخر أن يؤول هذا اللفظ بعدة اعتبارات يغوص بعضها في الأعماق ويطفو بعضها على السطح ، وزايدة على تمرسه باستخراج الصور البلاغية الأصيلة كالمجاز والتشبيه والاستعارة ، فإن فهمه الخاص يقوده إلى استنباط جمال اللفظ بوجوه مختلفة ، نجمل بعضها بما يلي :
    
في ملاءمة الالفاظ لما يجاورها يجد البلاغي دلالة هامشية في مقابلة هذه الألفاظ وألفاظ آخر من نسخها فيستنتج من ذلك جمال تلك الألفاظ ، وضرورة استعمالها دون سواها ، لتحقيق هذا الغرض الهامشي ، ويتمثل هذا بالتخريجات التالية :
    
آ ـ الآيتان ( إن الله لا يستحى أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين ءامنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا اراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيرا ويدى به كثيرا وما يضل به إلا الفسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27) ) (3) .
    
استخرج منها السيوطي عدة مقابلات في الألفاظ ، أجملها بأن الله تعالى قد « قابل بين 0 بعوضة فما فوقها ) ، وبين ( فأما الذين آمنوا ) و ( أما الذين كفروا ) ، وبين ( يضل ) و ( يهدي ) ، وبين ( ينقضون ) و ( ميثاقه ) وبين ( يقطعون ) و ( أن يوصل ) » (4) .
وما أفاده السيوطي واستخرجه من مقابلة هذه الألفاظ عبارة عن منحنى جانبي يتعلق بالألفاظ ، هذا المنحنى الجانبي هو المعبر عنه بالدلالة الهامشية ، لأنه بحث موقع لفظ من لفظ .
____________
(*) البيت لامرئ القيس وصدره : أيقتلني والمشرقي مضاجعي ، ديوان امرئ القيس : 33 ، تحـ : محمد أبو الفضل ابراهيم ، دار المعارف بمصر .
(1) الصافات : 65 .
(2) الطبرسي ، مجمع البيان : 1|374 .
(3) البقرة : 26 ـ 27 .
(4) السيوطي ، الاتقان : 3|286 .
( 64 )
    
ب ـ قوله تعالى : ( كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ) (1) (2) فإن هذا الجزء من الآية لعجيب حقاً في مقابلاته ، فهو مركب من تسع كلمات تقابلت كلها باستثناء « فيه » :
    
( كلما ـ إذا و ( أضاء ـ أظلم ) و ( لهم ـ عليهم ) و ( مشوا ـ قاموا ) ، وأن تأتي هذه المقابلة متجانسة وضعاً وتسلسلاً وصياغة وقد عرض لجزء من فنون هذا الجزء الزمخشري بتعليقه :
    
فإن قلت كيف قيل مع الإضاءة ( كلما ) ومع الأضلام ( إذا )
    
قلت : لأنهم حراص على وجود ما همهم به معقود من إمكان المشي وتأتيه فكلما صادفوا منه فرص انتهزوها ، وليس كذلك التوقف والتحبس (3) بينما لم يشر إلى ملاءمة أضاء لأظلم ، ولهم لعليهم ، ومشوا لقاموا فيما تعطي من وجود التركيب وعظيم الدلالة .
    
جـ ـ « وقد يجيء نظم الكلام على غير صورة المقابلة في الظاهر ، إذا تؤمل كان من أكمل المقابلات » (4) ونموذج هذا الرأي قوله تعالى : ( مثل الفريقين كالأعمى والاصم والبصير والسميع ... ) (5) « فإنه يتبادر فيه سؤال ، وهم لم لا قيل : مثل الفريقين كالأعمى والبصير ، والأصم والسميع ، لتكون المقابلة في لفظ الأعمى وضده بالبصير ، وفي لفظ الأصم وضده بالسمع » .
    
د ـ ومن المقابلات ذات الدلالة الهامشية قوله تعالى :
    
( وما يستوي الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوي الأحياء ولا الأموت إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور (22) ) (6) فجعل الأعمى في مقابل البصير وهو الامر الطبيعي في مقابلة الأضداد ، وكذلك جعل الظلمات في مقابل النور ،
____________
(1) البقرة : 20 .
(2) الزمخشري ، الكشاف : 1|86 .
(3) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن ، 3|465 .
(4) هود : 24 .
(5) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن ، 3|466 .
(6) فاطر : 19 ـ 22 .
( 65 )
والظل إزاء الحرور ، والأحياء قبل الأموات ، وإن الله يسمع من يشاء مقابل وما أنت بمسمع من في القبور .
    
وقد اعتبر ابن الزملكاني الجزء الأخير منه في الإفراط في التنزيل والغاية في التحقير (1) .
    
ثانياً : في استعمال اللفظ للتعريض وفي الكناية خرج البلاغي دلالة هامشية بمثل هذه التخريجات .
    
آ ـ الكلمة « قرية » في قوله تعالى :
    
( وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة ... ) (2) وقد استعمل فيها اللحن وهو « التعريض بالشيء من غير تصريح ، أو الكناية عنه بغيره » (3) .
فقد عرض الله بأهل مكة وما يصيبهم من العذاب شأن الأمم السابقة ، ولم يصرح بذلك كما هي عادته في هذا المجال ، وإنما يشير إلى ذلك لحناً صوراً وبالرمز صور أخر ، كما عرض بالمنافقين وذكر أوصافهم في ألفاظ مخصوصة بهم ، ولكنه أمسك عن ذكر أسمائهم إبقاء عليهم وتألفا لقلوبهم .
    
ب ـ وفي استعمال الكلمة « امرأة » بالنسبة لامرأة نوح وامرأة لوط في قوله تعالى :
    
( ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط ... ) (4) دلالة هامشية حملها الزمخشري على التعريض بقوله :
    
وفي طي هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين المذكورتين في أول السورة ( عائشة وحفصة ) وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله (ص) بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده .... وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله ، فإن ذلك الفضل لا ينقصهما إلا مع كونهما مخلصتين . وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من الطف الخفاء حداً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره » (5) .
____________
(1) ابن الزملكاني ، البرهان : 310 .
(2) النحل : 112 .
(3) قدامة بن جعفر ، نقد النثر : 50 .
(4) التحريم : 10 .
(5) الزمخشري ، الكشاف : 4|571 .
( 66 )
    
جـ ـ والكلمتان « يخرج » و « خبث » في قوله تعالى : ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ) (1) فيهما دلالة هامشية يعتمدها البلاغي بالكناية : على أن المؤمن يؤمل منه الخير ، ويؤثر عنه الهدى ، ويرجى فيه الصلاح ، وأن الكافر لا يؤمل خيره ، ولا يحتمل نفعه ، ولا يؤتمن شره .
    
د ـ الكلمة « ثابت » في قوله تعالى :
    
( أصلها ثابت وفرعها في السماء ... ) (2) فيها دلالة هامشية بالكناية عن علو الشجرة ورفعتها وسموها ، وتأكيد لرسوخ الأصل ، لأن الأصل إذا رسخ ارتفع الفرع .
    
هـ ـ وكلمة « الكفار » في قوله تعالى :
    
( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ... ) (3) فيها إشارة دقيقة تصور لنا الكافر متعلقاً ومعجباً بالحياة الدنيا ، وإن هذا الإعجاب شديد .
    
ثالثاً : في مجال الظهور والإبانة يؤول البلاغي اللفظ بحسب ذائقته على الوجه التالي :
    
أ ـ الكلمة « انسلخ » في قوله تعالى :
    
( واتل عليهم نبأ الذي ءاتينه ءايتنا فانسلخ منها ... ) (4) تحقق لنا في مقام الإبانة عن الجانب الآخر للفظ : شدة النزع وعظم الانسلاخ تدريجياً دون مطاوعة واتساق فيما يبدو لنا من الظهور العرفي لمفهوم سلخ الشاة وإضرابها .
    
ب ـ الكلمة « عبادنا » في قوله تعالى :
    
( كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين (10)) (5)
    
أفاد منها الزمخشري دلالة هامشية تعني بحقيقة الصلاح بصفة العبد ،
____________
(1) الاعراف : 58 .
(2) إبراهيم : 24 .
(3) الحديد : 20 .
(4) الأعراف : 175 .
(5) التحريم : 10 .
( 67 )
والتي تنظر ـ وحدها ـ من قبل الله تعالى .
    
قال الزمخشري « فإن قلت : ما فائدة قوله ( من عبادنا ) ؟ قلت : لما كان مبنى التمثيل على وجود الصلاح في الإنسان كائناً من كان ، وأنه وحده هو الذي يبلغ به الفوز وينال ما عند الله . قال : عبدين من عبادنا صالحين ، فذكر النبيين المشهورين العلمين بأنهما ( عبدان ) لم يكونا كسائر عبادنا ، من غير تفاوت بينهما وبينهم إلا بالصلاح لا غير ، وإن ما سواه مما يرجع به الناس ليس بسبب للرجحان عنده » (1) .
    
جـ ـ والكلمة « تسعى » في قوله تعالى :
    
( وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى ... ) (2)
    
فيها رصد هامشي لبعد السعي في دلالته على الجدية والحث والمواظبة لا المشي والسير بسرعة فحسب ، بل هو اشتراك فعال في حسم النزاع ، وفض الخصومة ، والدعوة إلى الإصلاح ، بجنان ثابت ، متواصل ، وجهد ملموس ، حتى عد الرجل ساعياً ، لتحقق الدلالة في أنه « يسعى » .
    
ويبدو مما تقدم أن دلالة الألفاظ في مجالاتها المتنوعة الفسيحة قد أضفت برداً فضفاضاً من الأحاسيس التي يتأملها الإنسان فيقف خاشعاً متطلعاً إلى فلسفة هذا الاختيار في لفظ دون لفظ ، وكلمة بدل كلمة ، مما يحقق في جزء كبير منه معنى الإعجاز ، حتى في حدود الكلمة المفردة ، وإلا فلا أقل من تحقيق جزء من عناصر الصورة الفنية .
____________
(1) الزمخشري ، الكشاف : 4|752 .
(2) يس : 20 .
( 68 )
( 69 )
خاتمة المطاف
    
بعد هذه الجولة الموجزة بأبعاد النقد الأدبي المقارن بين العرب والأوروبيين يمكننا الإشارة إلى أهم ما توصلنا إليه من نتائح :
1 ـ تحدثنا في الفصل الأول عن أهمية الصورة الفنية في التراث النقدي العربي والإسلامي ، وانتهينا إلى صيغة نهائية في تحديد المصطلح النقدي للصورة من خلال مقارنة مفهومها بين النقاد العرب القدامى والمحدثين ، والمفكرين الغربيين ، وأرجعنا أصولها في استيعاب الشكل والمضمون إلى الفكر النقدي العربي الإسلامي في القرون العربية الهجرية : الثالث والرابع والخامس : وأكدنا على اعتبار ما أبداه عبد القاهر الجرجاني ( ت 471 هـ ) نواة بل ركناً قويماً لما استقر عليه المصطلح النقدي الحديث للصورة .
2 ـ انتهينا في الفصل الثاني إلى وحدة اللفظ والمعنى في تقويم النص الأدبي ، بعد أن أفضنا بالحديث عن المعركة النقدية حول الموضوع وانشطارها إلى أربعة فرقاء ، قومنا جهد كل فريق ، وعقبنا عليه ، واخترنا رأينا في الموضوع لعدم إمكان فصل الألفاظ عن المعاني في أي نص أدبي .
3 ـ وقد تم في الفصل الثالث التأكيد على قيمة الألفاظ مقترنة بالمعاني في دلالتها النقدية والتصويرية ، ووقفنا عند ألفاظ القرآن الكريم وعند أمثاله بخاصة ، فوجدناها ذات دلالات متعددة نحصرها بما يلي :
أ ـ استقلال اللفظ بحروف معينة يكسبها ذائقة سمعية مؤثرة في النفس ، وقد تطلعنا على ذلك اسم الدلالة الصوتية التي تصافح السمع حيناً ، وتهيىء النفس حيناً آخر .
( 70 )
ب ـ المتبادر العام في العرف العربي بما يعطي للكلمة من دلالة معينة في الاستعمال اللغوي ، وقد اطلعنا على ذلك اسم الدلالة الاجتماعية التي تحصر معنى اللفظ ، به ، بالكشف عن كوكبة من الألفاظ التي استعملها القرآن الكريم ، ولا غنى عنها بألفاظ قد يبتدعها أهل اللغة .
جـ ـ الكلمات المؤثرة ، والألفاظ التي توحي بأكثر من المعنى الظاهر ، وتحمل في تضاعيفها صوراً مدخرة زيادة على المعنى الساذج ، أطلقنا عليها اسم الدلالة الإيحائية التي يتأثر بها اللفظ في قيمته الفنية .
د ـ تلوين الثقافة ، وتعدد التخصص ، ونوعية المفسر للنص الأدبي ، أبعاد موضوعية لإفادة الدلالة الهامشية التي يستفيدها كل حسب تخصصه بما لديه من خبرات ومجالات ، وقد كانت مجالاً رحباً لما يستفيده اللغوي والنحوي والمنطقي والبلاغي من ألفاظ القرآن وأمثاله في هذا المضمار .
    
هذه أهم النتائح التي توصل إليها هذا البحث عسى أن ينتفع به الناس وانتفع ( يوم لا ينفع مال ولا بنون
(88) إلا من أتى الله بقلب سليم (89)
)
    
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .